جدو سامى
كاتب وباحث وروائى متنور ومؤمن بالحريات الجنسيةوالدينية والابداعية والفكرية كاملة
الحوار المتمدن-العدد: 7836 - 2023 / 12 / 25 - 11:25
المحور:
الادب والفن
,
, تم إخبار العمال بماعليهم أن يفعلوه، وبدوا مرتاحين كثيرا لهذه الخطوة ..
,
, شرح لهم مرزوق ما قصته العجوز بالبلدة عن صاحبة الجثة شمس الشموس ..وتكفل الدكتور أنيس بإقناع الدكتور فهمي بتلك الخطوة .. أما عن الشرطة فقد كان من غير المنطقي أن يخبرهم أحد بالسبب الحقيقي في التخلص من هذه الجثة ،وإعادة دفنها ..لهذا أخرجوا الجثة من المشرحة أمام أعين عساكر الشرطة على أنها جثة تالفة يتم دفنها..وبالتأكيد لن يشك أحد ما في الجثث، ولن يربط بينها، وبين حوادث القتل التي حدثت بالمشرحة.
,
, بعد أقل من ساعة كانوا قد وصلوا إلى المقابر.. كان هناك اللحاد الشاب بانتظارهم برفقة حسن الذى سبقهم إلى المقابر؛ ليخبر اللحاد أن يفتح إحدى المقابر ،ويعدها لدفن الجثة ..تعاونوا معاً ،وأنزلوا جسدها المكفن من السيارة ،ثم سجوها على التراب بداخل القبر المفتوح..قام اللحاد بعمله فأغلق القبر ووضع كمية لابأس بها من الجير على بابه.. وعادوا إلى دورهم بعد ذلك، وقد غمرهم شعور رائع بالراحة..فقد تخلصوا من هذا الكابوس...
,
, لكن الصباح أتى حاملاً مفاجأة لهم ..
,
, دخلوا المشرحة، فوجدوا الجثة راقدة على منضدتها كما كانت من قبل ..امتلأت نفوسهم بالرعب والفزع..بدا الأمر ،وكأن الجثة ترفض أن تتركهم ،وأنها مصرّة على أن تبقى بالمشرحة .. ما الذي يعنيه هذا ؟.. لا أحد يعلم؟
,
, إلتفوا حول جثمانها من بعيد ،وأخذوا يتطلعون إليها بعصبية وخوف ،وقد خشى أي منهم أن يقترب منها كأنها الطاعون.. ولم يتمالك حسن نفسه وصاح بهستريا بصوت أقرب للبكاء:
,
, -انظروا..إنها هي ..لقد عادت ثانية ..ألم ندفنها بالأمس ..ألم نفعل جميعاً؟
,
, أجابه عبد الوهاب بحيرة وعيناها ترتجفان في محجريهما:
,
, -بلى ..ولقد فعلنا هذا سوياً ..
,
, عاد حسن ليصيح ،وهو يشير إليها:
,
, -كيف عادت إذا ؟..ليخبرني أحدكم أنه يمزح معنا، وأنه من أعادها إلى هنا؟..من منكم قد فعلها يارجال ؟..من فعلها؟..
,
, لم يردوا عليه، وساد عليهم الوجوم دون أن يدروا ماعليهم أن يفعلوه ..وتجاهلوا حسن الذي عاد مرة أخرى يكرر بهستريا:
,
, -أخبروني بامونرع واسرته عليكم من فعلها ؟!...
,
, هنا صاح مرزوق بعصبية زاجراً إياه بخشونة وهو لايحتمل عوائه هذا وولولته:
,
, -اصمت يا أحمق قليلاً ،ولا تولول هكذا كالنساء ..لا أحد منا فعلها وأنت تعلم هذا ..إنك تثير أعصابنا بصراخك هذا.
,
, كان يشعر بشعور الفأر الذى يطارده قط ماكر نجح في أن يحاصره في ركن صغير ،ثم أخذ يستمتع برؤيته، وهو يحاول يائساً أن يجد وسيلة ما للفرار ..كان يشعر بالخوف من الجثة ويخشى أن تكرر مافعلته معه من قبل حين اختطفته من بيته وأتت به للمشرحة ..لقد عادت بوسيلة ما ..وسيلة شيطانية من وسائلها التى تجيدها.. فماذا تنوي أن تفعل به ،وبهم هذه المرة؟
,
, ظلوا يتطلعون إليها صامتين لفترة ليست بالقصيرة ،وفى النهاية قال عم فراج، وهو يخرج من جموده مندفعا للخارج:
,
, -سأذهب لأخبر الدكتور أنيس والدكتور فهمي ...يجب أن يعلموا، ويفسروا لنا مايحدث؟..
٣٦
وصل عم فراج إلى مكتب الدكتور فهمي فوجده مغلقاً فانتظر أمام الحجرة حتى يأتي ،بعد نصف الساعة رأى الدكتور فهمي صاعداً الدرج فهرع إليه ، وبادره الدكتور فهمي قائلاً بدهشة حين لاحظ الشحوب الذي يكسو وجهه:
,
, -صباح الخير يا فراج ..لماذا تنتظرني في هذا الوقت المبكر ؟..ولماذا تبدو مرتبكاً هكذا؟..أحدث شيء ما؟
,
, لم يرد عليه التحية من ارتباكه.. لذا تمتم متلعثماً :
,
, -هل تمانع يا دكتور أن تأتي معي إلى المشرحة ؟ هناك شيء أريد أن تراه بنفسك ..
,
, -وماذا هناك بالمشرحة ..هل حدث شيء ما مرة أخرى بها؟
,
, -أعتقد أنه من الأفضل أن ترى بنفسك.
,
, شعر بالدهشة من هذا الأسلوب الغامض الذى يحدثه به فراج ،وحاول تخمين ماذا حدث دون جدوى؟..ألم يدفنوا الجثة بالأمس؛ كما اقترح الدكتور أنيس ؟..ألا يعني هذا أنهم قد انتهوا من المتاعب التي سببتها تلك الجثة للجميع لو كانت هي مصدرها بالفعل كما زعموا جميعاً؟
,
, فماذا حدث إذاً ؟.
,
, رأى أنه من الأفضل ألا يكرر سؤاله على فراج ، لذا قال باستسلام ،وهو يتجه نحو الدرج ليهبط إلى المشرحة:
,
, -حسناً .. لنذهب إلى المشرحة لنرى ماذا هناك.
,
, تبعه عم فراج إلى المشرحة ...وما إن رأهما العمال حتى أفسحوا لهما الطريق نحو جثة الفتاة .لاحظ الدكتور فهمي الجثة التي التفوا حولها، فاتجه إليها على الفور، وكشف الغطاء عن وجهها قبل أن يفلته دون وعي ، ويتراجع بذهول كالملسوع ،وهو يهتف بإستنكار:
,
, -ما هذا العبث؟
٣٧
- لا بد أنكم تمزحون هاهنا مزحة سخيفة ..
,
, قالها الدكتور فهمي بذهول..وأبعد عينيه عن الجثة متحاشياً النظر إليها ، والتفت إلى العمال الواجمين حوله ..وصاح فيهم بغضب وحنق:
,
, -الآن أريد أن أعلم أي لعبة قذرة تمارسونها هنا؟..وماذا تهدفون من ورائها؟.. حدثوني ماذا يجرى هاهنا بالضبط.
,
, لم يجبه أحد، واستمروا في صمتهم ؛فاندفع مرة أخرى صارخاً في وجوههم الممتقعة ،بصوت هادر:
,
, -لماذا عدتم بها دون أن تدفنونها؟..ألم تذهبوا بها بالأمس إلى المقابر ؟.. لماذا لم تفعلوا إذا؟..
,
, أجابه عبد الوهاب بصوت خافت مرتجف:
,
, -لقد دفناها بالفعل يادكتور ،كلنا فعل هذا بالأمس.
,
, -إذن كيف عادت؟.. هل سارت على قدميها حتى جاءت إلى هنا ،أم تراها قد طارت ؟..
,
, هنا فقد حسن تماسكه ،وهتف برعب :
,
, -هذه الجثة ملعونة يادكتور ..هناك شيطان ما يلتصق بها ..لقد دفناها بالأمس..بل لقد أدخلتها القبر بنفسي،لكن هاهي تعود ثانية..ألايعنى هذا أنها ملعونة..إنها جثة شيطاينة بالفعل.
,
, لكن الدكتور فهمي كان منزعجاً للغاية مما يحدث فصاح به:
,
, -كف عن قول هذا الهراء حالاً ..إنكم تمارسون لعبة حقيرة هاهنا وسأكتشفها، وستحاسبون جميعاً عليها.. سوف أبلغ الشرطة عنكم ، وسأدعها تعلم منكم ما المؤامرة الخبيثة التي تدبرونها معا.
,
, اندفع بعدها مغادرا المشرحة بسخط ،فتابعوه بأعينهم حتى خرج من المشرحة تماماً ..ثم قال عبد الوهاب بقلق:
,
, -و الآن ماذا سنفعل ؟..إنه يتهمنا بأننا من يفعل هذا ؟..لا أدرى كيف صور له عقله هذا؟..
,
, أجابه عم فراج، وهو يهز رأسه بحيرة:
,
, -لن نفعل شيئاً.. سننتظر حتى يقرر هو ماعلينا أن نفعله..لكن إياكم والاقتراب من تلك الجثة المعلونة ..اتركوها وشأنها حتى ينتهي هذا الجنون.
,
, أما الدكتور فهمي فقد اندفع إلى مكتبه حانقاً ..قبل أن يغلقه بإحكام خلفه ؛ كأنما يرغب في ألا يراه أحد ..كان متوترا وكان خائفا يرتجف..كان يحاول ببؤس أن يداري ذعره كي لايشعر به أحد..كان يعلم أن هذه الجثة ملعونة، ولايشك في هذا الآن..لم يكن هذا رأيه أبداً حتى الأمس، بالرغم مما حكاه له الدكتور أنيس عن الجثة ،وصاحبتها ،وماحدث مع العمال.. كان عقله على إصراره رافضاً ما يقال عنها، وإن سايرهم في تفكيرهم الذي يرفضه ، ووافق أن يقوموا بدفن الجثة، والتخلص منها..لكن ماحدث له بعد ذلك نسف قناعاته تلك تماماً.
,
, اتجه بخطوات مثقلة الى مرآة صغيرة بأحد أركان الحجرة، وتأمل وجهه فيها ..كانت هناك هالات سوداء كثيفة تلتف وتتكاثف حول مقلتيه، وقد انتفخ جفناه، وصارت عيناه حمراوتين محتقنتين كالدم..كل هذا كان لأنه لم يحظَ بالنوم منذ ليلتين كاملتين ..لم يخبر أحد عن السبب في هذا ،ولا يريد أن يفعل.
,
, كان يعيش بمفرده منذ انفصل عن زوجته التي لم تحتمل عصبيته الشديدة، ومع الطلاق أيقن هو الآخر أنه من المستحيل أن تحتمل طباعه ، وعصبيته هذه امرأة ما فقرر ألا يتزوج ثانية..
,
, بدأ الأمر منذ يومين حين كان بغرفة مكتبة في البيت يقرأ ..وحين ارتفعت دقات الساعة؛ لتعلن تمام العاشرة مساءً.. ترك الكتاب الذى يقرأه ، ومال بجسده نحو الراديو المعلّق على الحائط بجواره ، فأدار بكرة جانبية به، ليظهر صوت المذيع معلنا عن نشرة العاشرة مساءً بالبرنامج العام ..
,
, كان يتابع مسلسلاً إذاعياً مثيراً ، يأتي كل ليلة في العاشرة وخمس دقائق على البرنامج العام ..تابع بلا إكثراث الأخبار التي لم تأت بجديد عليه، ثم راح يصغي لتتابع الموسيقى التصويرية للمسلسل ،فاسترخى على كرسيه ، مغمضاً عينيه، مستمتعاً بالأحداث التي يتابعها بأذنه ،ويصورها له خياله..كان الراديو في هذا الوقت مازال وسيلة الترفيه الأولى ..ولم ينجح التليفزيون في أن يحتل مكانه بعد ..
,
, كان مستغرقاً في تخيل الأحداث حين تناهى لأذنيه صوت خطوات تأتي من الصالة ..ففتح عينه باتساعهما، وهب واقفاً بقلق ،وهو يتطلع إلى الباب الزجاجي الذي يفصله عن الصالة ..أرهف السمع فلم يسمع شيئاً ..جلس مرة أخرى موعزاً الصوت الذي سمعه لإرهاقه، أو ربما يكون إحدى الحشرات الصيفية التي ربما دخلت الشقة من خلال الشباك المفتوح..
,
, طرد الأمر عن عقله ،وإن ظلت عيناه معلقتين بباب الحجرة بشيء من الترقب ..انتهى المسلسل ،وتعالت بعده موسيقى إحدى الأغنيات القصيرة لكارم منصور ، فأخذ يرددها معه حين لاحظت عيناه ذلك الظل السريع الذي مر من خلف الباب الزجاجي .. تأكد هذه المرة أنه لا يتوهم ..لقد رأى ظلاً يتحرك خلف الباب بسرعة من ناحية للأخرى باتجاه حجرة نومه.
,
, هذه المرة شعر بالرعب ..فقد كان بمفرده بالشقة ..فمن يكون هذا؟
,
, أيكون لصا ؟.. ولكنه لو كان لصا فكيف دخل؟.. كان من المستحيل أن يدخل بواسطة باب الشقة ، فهو يغلقه دائماً من الداخل بأكثر من مزلاج .. ومن العسير كذلك أن يدخل من الشباك المفتوح في الصالة ..فالشباك يطل على الشارع الرئيسى، والشارع مازال مكتظاً بالمارة حتى الآن ،ولو حاول أحد ما أن يتلسق البناية ليدخل من الشباك فسيراه المئات بسهولة ..
,
, إذن من هذا؟!.. وكيف دخل؟.
,
, تجمّد في مكانه، وعيناه معلقتان بالباب بتحفز، ودقات قلبه تتصاعد معلنة عن فزعها هي الأخرى..
,
, ماذا يفعل الآن؟..فكر دون أن يهتدي لفعل ما ..
,
, فكر أن يندفع بسرعة نحو باب حجرة المكتب الذى يجلس فيها الآن فيغلقه بالمفتاح ..ثم يصرخ من شباك الحجرة المطل على الشارع طلباً للنجدة من المارة ..لكن باب حجرة المكتب زجاجي ضعيف ..ومن السهل اختراقه ..كما أن من سيهب لنجدته عليه حينها أن يكسر باب الشقة كي ينجده ،وهذا سيستغرق وقتاً ما ..وربما آذاه اللص في هذا الوقت قبل أن تصله النجدة.
,
, الحل الآخر أن يخرج ليرى بنفسه من هناك ،فربما كان واهماً فيما رآه .. طال تفكيره دون أن يصل لحل ؛فقرر أن يخرج ليرى من هناك ..لكنه قبل أن يفعل اتجه إلى المكتب، وهو يحمد امونرع واسرته على أنه يحتفظ بسلاحه الناري المرخص في أحد أدراجه ..
,
, أخرجه، وبيد مرتجفة لاتصدق أنها قد تضطر لاستعماله أمسكه ..وبخطوات مرتعشة وساقين لينتين كأعواد المكرونة سار نحو الباب..
,
, فتح الباب بسرعة ،وقلبه يتواثب بين ضلوعه، وتطلع إلى الصالة يسبقه المسدس المصوب بتحفز نحو عدو وهمي..
,
, بدت الصالة ساكنة ، ولا أحد فيها؛ فشعر ببعض الاطمئنان ..
,
, اتجة بخطوات مترقبة إلى حجرة الصالون، وأضاء مصباحها ..فتنهد بارتياح، وهو يرى المقاعد الفارغة، والحجرة الخالية أمامه..فتش بعدها الحمام والمطبح ،لكنه لم يجد أحداً.
,
, ازداد اطمئنانه ...إنه الإرهاق إذاً ..لم يبق أمامه غير حجرة نومه؛ فاتجه إليها بهدوء ،وفتح بابها الخشبي ،وامتدت يده نحو زر الإضاءة بجوار الحائط ،فضغط عليه..
,
, بدد النور ظلام الحجرة ،فرآها أمامه تجلس على طرف الفراش ،وقد وضعت ساقا فوق ساق ،واستندت بمرفقها الأيمن على الفراش ..كانت تنظر إليه بابتسامة لعوب ..كانت جميلة وفاتنة كما رآها بالمشرحة .. لكن بشرتها - هنا - كانت رائقة حلوة ومثيرة ..
,
, اجتاحه الذعر ..فراح قلبه يتواثب بصورة لم يعهدها من قبل ، كأنما يحتج على مايراه ..آلام الذبحة الصدرية المخيفة بدأت حينها في غزو عظمه القص في صدره مثيرة وجعا لاحدّ له ،ثم تسللت بخبث نحو كتفه الأيسر فخدرته ،وأصابته بالشلل، ومعها بدأت أنفاسه اللاهثة في الاختناق ، وبقعة من الظلام تتسع في مجال بصره معلنة عن اقتراب تسرب الوعي منه ..
,
, عجزت يداه عن حمل السلاح الناري ،فسقط منه دون أن يقدر على منع هذا ..بينما ظلت كما هي جالسة على فراشه تتطلع إلى معاناته باستمتاع .. أراد أن يسألها منْ أنتِ فلم يطاوعه لسانه ..لكنه سمعها تجيبه دون أن يسأل:
,
, -ألاتعرفني حقاً؟..سأغضب حقاً لو كنت نسيتني !.. وصدقني أنت لن ترغب في إغضاب فاتنة مثلي.
,
, نهضت بعدها من الفراش لتسير نحوه.. أراد أن يتراجع مبتعداً عنها، لكن قدمه هي الأخرى خذلته فلم تتحرك ..وتصاعد الألم في صدره معلنا عن رعبه هو الآخر منها ..
,
, صارت أمامه تماماً ..فتصاعدت منها رائحة عطرية مثيرة للغاية..رائحة لم يشم مثل حلاوتها من قبل ...وسمعها تهمس له ،وهي تضع أناملها الرقيقة على قلبه:
,
, -يا لبؤس قلبك الضعيف ..لايبدو أنه سيحتمل فتنتي طويلاً ..
,
, شعر بيدها تلامس صدره باردة كالثلج ،فزال الألم عن صدره مرة واحدة .. لايدرى كيف حدث هذا ولكنه قد حدث ..شعر وكأن أثقلا لاحد لها قد إنزاحت عن صدره فجأة.
,
, مالت على أذنه بعد ذلك، وقالت له هامسة بصوت مثير دافئ ، ويداها الناعمتان تعبثان بوجهه ووشعره الأشيب:
,
, -سأعود إليك مرة أخرى ..فانتظرني ..ألا ترى أنني أنقذت حياتك تواً ..
,
, احتبست أنفاسه من الإثارة ،وعاد قلبه يدق بشدة حين اختفت فجأة من أمامه ..عاد الألم مرة أخرى ،وبالرغم من أنه كان أقل حدة مما سبق..إلا أن سحابة الظلام في عينيه اتسعت مرة أخرى ..وتخاذلت قدماه ..ففقد الوعي..
,
, أفاق على دقات الساعة التي تدوي ،وتخترق ظلام سكون البيت، وتعالى صوت الراديو الذى مازال يعمل معلناً عن نشرة الثالثة فجرا ..ظل في حجرته راقداً على فراشه بوهن دون أن تفارق عيناه باب الحجرة متوقعا أن تدخل منه تلك الفتاة في أي لحظة ..خشى أن يغادر مكمنه فيجدها في مكان ما بالخارج بانتظاره..
,
, أخذ عقله يتساءل في رعب، هل تكون إحدى الجنيات التى كانوا يحكون عنها؟! ... أم تراها شبحاً ما ؟!...
,
, لم يكن - من قبل - ليصدق تلك الأشياء ولايؤمن بها ..لكنه صار الآن قادرا على تصديق أي شيء.
,
, أشعل عدداً لاحصر له من السجائر ؛حتى فرغت جميع العلب التي يحتفظ بها ..وفارق النوم عينيه فلم ينم ..فتح الكتاب الذي بجواره على الكومود المجاور لفراشه ،وأخذ يقرأ منه بصوت خافت في البداية قبل أن يتعالى صوته تدريجياً ؛ كأنما يريد أن يطرد به كل الشياطين التي بالمنزل، ولم يغادر حجرته إ لا حين تسرب ضوء النهار ساطعاً من خلال النافذة .. فتش بعدها الشقة مرة أخرى فلم يجد أحد..فارتدى ملابسه وذهب للكلية ..
,
, فى الكلية قابل الدكتور أنيس الذي قص عليه ماروته العجوز عن صاحبة الجثة ..اقترح الدكتور أنيس التخلُّص من الجثة بدفنها ،فلم يمانع ،وفي نهاية اليوم عاد إلى منزله مرهقاً مكدوداً .. صداع عنيف يكاد يفتك بخلايا مخه ..عقله ينبض بألم حاد من شدة احتياجه للنوم ..
,
, كان مازال قلقاً أن تزوره الفتاة مرة أخرى كالأمس ..أراد أن يطرد رغبته الملحة للنعاس ،فشرب العديد من فناجين القهوة حتى بدأ الحمض في معدته يزأر محذراً من أي فنجان آخر .. في النهاية لم يشعر بنفسه وراح في سبات عميق ..لكنها لم ترحمه حتى في نومه ،كانت هناك بين أحلامه بنفس ابتسامتها العابثة الساخرة ،وقالت له بصوت عميق مخيف ..
,
, -لن يجدى ماتفعله ..إنني معكم للأبد ،وسوف أعود... أفاق فجأة ليكشتف أنه لم ينم أكثر من ساعة ..هذه المرة قرر ألا يقع فريسة للنوم مرة أخرى ..فمكث ساهراً طوال الليل. قرر كذلك ألا يبيت في البيت بمفرده هذه الأيام ..سيذهب إلى أخته غداً ، وسيمكث عندها بضعة أيام ؛ريثما ينتهي الأمر..
,
, وهكذا حين أتى اليوم ،كان في أسوأ حال ..ثار على العمال، وهو يدرك جيداً أنه لاشأن لهم بما يحدث .. مايحدث أكبر منهم ومنه.
,
, لقد عادت إذاً كما أخبرته في حلمه ..كان هذا كابوساً تمنى أن يفيق منه .. لماذا عادت؟.. بل وماذا تريد؟! ..كلها أسئلة بلا أجوبة..
,
, فجأة ألحّ عليه هاجس مُلِح أن يرى الجثة ثانية، فذهب إلى المشرحة مغالباً رهبته..أراد أن يفحص الجثة بنفسه هذه المرة.. أراد أن يرى وجهها ؛ليتأكد أنها هي من هاجمته في شقته ..وأراد أن يفهم كيف تفعل كل هذا، ثم تعود للمشرحة ثانية كجثة بريئة ..
,
, بالداخل قابل حسن فأمره أن يتبعه ..وبلا تردد اتجه نحو الجثة ،وكشف الغطاء عن وجهها ...
,
, كان من المفترض أنهم قد قاموا بحفظها بالفورمالين ..لكن جسدها الآن عاد سليماً ، ولا أثر للفورمالين به ..
,
, فتح جفنيها ،وسلط الكشاف إلى حدقتيها اللامعتين بشدة ..لم تتفاعل عيناها مع الضوء، وإن لم يقو على النظر إليهما طويلاً.
,
, وضع السماعة فوق صدرها مستمعاً إلى قلبها ..كان صدرها صامتا كالقبر.. فحص النبض بكافة الأماكن الممكنة .. كانت أوردتها هامدة ميتة.
,
, ابتعد عنها خطوة وراقبها مفكراً ..كانت جثة مثل أي جثة أخرى بالمكان.. ترى ما الذي تخفيه تحت قناع الموت الزائف هذا الذي ترتديه؟!
,
, تمنى لو يدرى الإجابة.
٣٨
علم الدكتور أنيس أن الجثة قد عادت ثانية للمشرحة ؛فأصابه الذهول هو الأخر والرعب، وراحت مخاوفه تشتعل في صدره ،وعقله يفكر كالمحموم في سبب عودتها ..خشى أن يكون هذا لرغبتها في الانتقام منهم ..كان خاطراً مفزعاً ؛ فارتجف جسده...
,
, شعر أنه بحاجة لأن يتحدث إلى أحد ما، فاتجه إلى قسم الطب الشرعي ، نحو مكتب الدكتور منصور تحديداً ..لم يكن هناك وأخبرته السكرتيرة أنه في مدرج المحاضرات ،حيث يلقي إحدى المحاضرات للطلبة ..
,
, اتجه بخطوات ثابتة إلى مدرج المحاضرات ..ودخله من الباب الخلفي، وجلس في الصف الأخير ..لاحظه الدكتور منصور فأوما برأسه محييا ،واستمر لدقائق أخرى في محاضرته قبل أن ينهيها، فهبط إليه الدكتور أنيس ...حياه بحرارة ،وهو يقول بود:
,
, -أي رياح طيبة جاءت بك اليوم إلى هنا؟..أنت لم تفعل هذا من زمن بعيد.
,
, -أعتقد أنك تعلم السبب...
,
, رمقه الدكتور منصور بصمت ،وقد أدرك هدفه ،ثم تأبط ذراعه، وقال، وهو يسير به نحو مكتبه:
,
, -حسناً لنتحدث عن هذا في مكتبي.
,
, قصّ عليه الدكتور أنيس بعدها كل شيء علمه عن الجثة ،وأخبره كيف قام العمال بدفنها ، ثم كيف عادت للمشرحة ثانية ..واكتفى الدكتور منصور بسماعه دون تعقيب، ولما انتهى زفر الدكتور منصور بقوة ،وظهره يتراجع على الكرسي الجلدي الوثير ،وقال، وهو يعدل من وضع نظارته على أنفه:
,
, -في الواقع كنت أتوقع شيئاً كهذا ..أنت تعلم أنني قمت بتشريح جثة الدكتور كمال، وتلك الطالبة التي ماتت بالمشرحة ..وأستطيع أن أجزم أنهما لم يقتلا بطريقة نعرفها ..
,
, تابعه الدكتور أنيس ببصره، وكامل انتباهه ،فأكمل :
,
, -لقد وجدنا الجثتين خاليتين من الدماء تماماً، وحين أقول تماماً هنا ؛فأنا لا أبالغ ..لقد كانت خاليتين من الدماء تماماً ..
,
, وحين قمنا بتشريحهما لم نجد بأي منهما أي جروح أو إصابات أو حتى نزيف داخلي يفسر لنا أين ذهبت دماؤهما.. لقد امتصّت الدماء منهما تماماً دون أن ندري كيف من الممكن أن يحدث هذا..شيء يشبه مانراه في أفلام مصاصي الدماء لو كنت قد سمعت عنها.
,
, تذكر الدكتور أنيس حديث المرأة العجوز عن جثة الطفل التى وجودها خالية من الدماء ،فقال بصوت مخنوق:
,
, -وماذا عن سبب الوفاة..أعني كيف مات كلاهما ؟
,
, -لا ندري ..
,
, أجابه الدكتور منصور ببساطة ..ثم أكمل، وهو يهز كتفيه :
,
, - ربما يكون السبب أي شيء..صدمة عصبية نتيجة الرعب ..
,
, هبوط حاد مفاجئ في الدورة الدموية ..سكتة دماغية ..أزمة قلبية مفاجئة ..جميع الاحتمالات هنا ممكنة..لكن لاعنف على الإطلاق قد تم مع هذه الجثث.
,
, وصمت للحظة، وهو يتناول من بين أوراقه التي أمامه خطاباً مختوماً بختم دائري أحمر غير مألوف ، ففتحه وأخرج ورقة منه ،وقدمها إلى الدكتور أنيس مستطرداً :
,
, -هذا خطاب من جامعة إكسفورد ..لقد حصلت على درجة الدكتوراة من هناك كما تعلم، وأعرف بصفة شخصية الدكتور" ماكس إدوراد" كبير الأطباء الشرعيين هناك ،وأحد أفضل الأطباء الشرعيين في العالم ..كنت قد قمت بإرسال نتائج تشريح الجثتين إليه، وأرفقت بالتقرير بعض الصور التي التقتطها لهما أثناء التشريح ،ونتائج تحاليل الأنسجة ..
,
, أتدري ما النتيجه ؟..لقد كان الرجل حائراً مثلنا مما يراه ..بل وأرسل إلي هذا الخطاب ؛ليخبرنى بأنه لم ير شيئاً كهذا من قبل.. وأخبرني أنه يود لو وافقت الحكومة المصرية على استدعائه ليعاين الجثتين بنفسه مرة أخرى .. فقد أثارت الجثتان فضوله ،وشغفه العلمي بشدة.
,
, هزّ الدكتور أنيس متفهماً ، وتطلع إلى الخطاب المكتوب بخط منمق ،وأعاده ثانية لصاحبه..ثم نظر إلى عينيه مباشرة ،وقال ببطء:
,
, -وماذا عن رأيك أنت في كل هذا يادكتور منصور ؟.
,
, -أتريد رأيي العلمي أم الشخصي؟!...
,
, - أعتقد أنني جئت من أجل رأيك الشخصي.
,
, - أرى أننا نواجه لعنة ما .. شراً ما ..سحراً ما ..سمّه ماشئت فلا أدري في الواقع ماهو ،ولا ما هو الاسم السليم الذي يجب أن ننعته به .. ولكن آثاره تصطدم بنا بإصرار ،وتجلعنا نتخبط في ظلامنا.
,
, ابتسم الدكتور أنيس ،وقال بارتياح :
,
, -هذا ما أردت سماعه منك، ولهذا أتوقع أن تساعدني في أن نستعين بالوحيد الذي أعتقد أنه يفهم في هذه الأشياء...
,
, تطلع الدكتور منصور إلى عينيه مباشرة ،وقال بهدوء:
,
, -أظنك تعني الدكتور عدلي راغب؟..
,
, أجاب الدكتور أنيس بترقب :
,
, -نعم.. ولهذا جئت إليك الآن ...أنت أحد أصدقائه المقربين كما أعتقد.. أما أنا فلم أتشرف بمعرفته من قبل ،وأخجل أن أطلب مساعدته دون سابق معرفة.
,
, هزّ الدكتور منصور رأسه متفهماً ، وقال:
,
, - في الواقع كنت أنوي أن ألجأ إليه ..فقط كنت أنتظر رد الدكتور "ماكس " قبل أن أحدثه لأطلب معونته.
,
, - وها قد جاءك رد الدكتور" ماكس " ليؤكد شكوكنا ..فمتى تقترح أن نزوره إذا ؟.
,
, -يمكننا أن نزوره اليوم لو أحببت ...سوف أمر عليك بسيارتي في السادسة مساء لو كان هذا يناسبك؟.
,
, - إنه مناسب تماماً .. سأنتظرك إذن في السادسة.
٣٩
الدكتور عدلي راغب ..
,
, هل سمع به أحد منكم من قبل ؟..
,
, أراكم تتهامسون في حيرة، وتتبادلون النظرات محاولين تذكره دون جدوى ..
,
, إذن أستطيع أن أجزم أن الكثيرين لم يسمعوا به ..
,
,
,
حتى قرر العودة إلى مصر ..بالطبع تلقفته كلية الطب؛ لتدريس الطب النفسي الذي تخصص فيه؛ والذي كان طفلاً يحبو في ذلك الوقت في مصر.
,
, بعدها سافر مرة أخرى إلى الخارج ..إلى روسيا هذه المرة .. وظل هناك لثلاثة أعوام حصل فيها على درجة الدكتوراة في علم النفس .. هناك استهوته عوالم ما وراء الطبيعة والخوارق؛ فالتحق بأحد المعاهد المتخصصة فيها .. وقد شغفته الدراسة في هذا المجال بشدة ..
,
, عاد لمصر بعد اعوام آخرى..وافتتح عيادة صغيرة للعلاج النفسي ذاع صيتها مع الوقت ..وبعد أعوام قصار صار رئيساً لقسم الطب النفسي .. إلا أنه ظل منجذباً إلى عوالم ماوراء الطبيعة، فأخذ في كتابة الكتب والمقالات عنها ،وأخذته الحماسة فأخذ ينادى بإنشاء معهد لتدريس هذا العلم الجديد الذي رأى فيه أحد علوم المستقبل ..
,
, بالطبع لاقى الرجل الكثير من السخرية والاستخفاف ، واتهمه الكثيرون بالدجل ..صمد في البداية .. لكنه في النهاية قدّم استقالته من الجامعة، وأغلق عيادته، و سافر إلى الخارج مرة أخرى لعدة أعوام أخذ فيها يبحر في عوالم ماوراء الطبيعة ويتعلم الكثير من خفاياها..وفى النهاية عاد لمصر ثانية
,
, كان يعيش الآن بمفردة في فيلته التى أقامها بعيداً عن الزحام والعيون في هضبة عالية بالمقطم..حيث يواصل قراءاته ودراساته في المجال الذي أحبه ..لم يتزوج ولايدري أحد السبب في عزوفه عن الزواج.
,
, نشر الرجل العديد من الأبحاث المهمة بمجلات متخصصة .. وكتب كتابين عن عوالم ماوراء الطبيعة في التراث العربي .. إلا أنه نشرها بالخارج ؛لأنه ظن أن القارئ العربي لن يتقبل ما يكتبه، وسيقابله بالكثير من الاستخفاف..
,
, وبالرغم من جهل الكثيرين بوجوده ،إلا أنه مشهور بشدة في الأوساط الضيقة التي تهوى الخوارق والغيبات وأحداث ما وراء الطبيعة ..كان هو الأفضل في تلك الأمور ولهذا إستعان به الدكتور منصور والدكتور أنيس ليساعدهما بعلمه ومعرفته في فك طلاسم هذا الامر ..
,
, لكن السؤال الحقيقي ..هل ينجح أم يخذلها ؟..
,
, لا أحد يدري ..
٤٠
في تمام السادسة كانت سيارة الدكتور منصور الصغيرة أمام منزل الدكتور أنيس ،كان الأخير بانتظاره ، فانطلقا على الفور إلى المقطم؛ حيث يسكن الدكتور عدلي راغب ..وفي الطريق تساءل الدكتور أنيس :
,
, -هل يعيش الدكتور عدلي بمفرده في فيلته؟.
,
, -نعم ..فهو لم يتزوج أبداً ..سمعت ما يقال أنه كانت هناك طبيبة إنجليزية أحبها إلا أنهما لم يتفقا في النهاية، وانفصلا ،ولم يفكر بعدها في الارتباط بأخرى..
,
, - إنها إذا عقدة الحب الفاشل التي تظل تلاحقك طوال عمرك .. هذا يعني أنه الطبيب النفسي معرض هو الآخر لأن يسقط فريسة عقدة ما كما يبدو..لكن كيف يقضي وقته إذن ،وقد أغلق عيادته على ما أعلم.
,
, -الرجل يعيش بين كتبه، وأبحاثه ،ولا أظنه يشكو الفراغ ..ستذهل بشدة حين ترى مكتبته ،ومعمله حيث يجري أبحاثه.
,
, نظر إليه الدكتور أنيس بتعجب ،وقال:
,
, -وهل يقوم بأبحاث ما؟..
,
, ابتسم الدكتور منصور مجيباً :
,
, -بالتأكيد ..إن أبحاثه هي التي تقودنا إليه الآن ..إنه يعمل في مجال الخوارق ، وما وراء الطبيعة كما تعلم ..
,
, لم يفهم الدكتور أنيس هذه الأبحاث التي يقوم بها فقال بتعجب:
,
, -وكيف تكون مثل هذه الأبحاث ..هل يقوم مثلاً بتحضير الأرواح والجان مثلاً ؟.. أنا لا أفهم كيف تكون هناك أبحاث في تلك الأمور أطلق الدكتور منصور ضحكة قصيرة قبل أن يجيب:
,
, -ربما يفعل هذا..إن كل شيء ممكن مع الدكتور عدلي راغب..هذا ما ستدركه حتما حين تعامله ..لكني أعتقد أن الأمر أكبر من ذلك ..فهو مثلاً يهتم برصد الأصوات الصادرة من الفضاء ،وتلك الصادرة من المقابر .. لاحظ أن فيلته قريبة من منطقة المقابر، وربما كان هذا أحد أهدافه حين اختار مكانها.. كما أخبرني مرة أنه يقوم برصد الهالات التي تحيط بالإنسان في حالاته المزاجية المختلفة ،ربما تكون تجاربه تلك غريبة حقا .. لكنه يقوم بها بجدية تامة.
,
, صمت الدكتور أنيس مفكراً في الأمر بجدية ..متسائلاً عن الفائدة التي ستعود علينا من هذه العلوم ..إنها علوم هلامية من الصعب أن تعرف بدايتها من نهايتها كما أنه من الصعب أن تستطيع إثبات نتائجها..
,
, كان أمر الدكتور عدلي يحيره ،فالرجل كان كما يعلم ينتظره مستقبل واعد في مجال الطب النفسي ،وعيادته صارت ذا صيت في فترة قصيرة، فكيف من الممكن أن يتجاهل رجل ما كل هذا النجاح ؛لينهمك في دراسة علوم غير مجدية .. بالطبع كان من العسير عليه أن يتفهم هذا إلا أنه أوعزه في النهاية لفضول العلماء للمعرفة الذي لاينتهي مهما كان نوعها.
,
, لم يستغرق الطريق منهما أكثر من نصف الساعة حتى كانوا أمام فيلته الصغيرة ..توقفوا بالسيارة أمام الباب الخارجي للفيلا ،حيث هرع حارس متقدم في السن نحوهما حين رأى السيارة ؛فابتسم الدكتور منصور، وبادره قائلاً :
,
, -كيف حالك ياعم جبريل؟ ..هل أنت بخير ؟..
,
, تعرفه البواب العجوز ؛فتهلل وجهه فرحاً ،وقال مرحبا :
,
, انا سعيد يادكتور ..مرحبا بك..مضى زمن طويل لم تأت فيه إلى هنا.
,
, -إنه العمل أيها العجوز ..لكن أخبرني ..هل الدكتور عدلي بالداخل؟
,
, -نعم يادكتور ..إنه بداخل الفيلا الآن ..تفضل يادكتور..سوف أقودكما للداخل.
,
, قالها، وفتح لهما الباب الحديدي المليء بالزخارف الأنيقة، فمرت سيارة الدكتور منصور عبره للداخل ..
,
, هبطوا من السيارة ،واتجهوا إلى ممر مبطن بالأحجار خصص للسير عليه .. كان جانبي الممر مزينا بأنواع شتى من النباتات والأعشاب والزهور ..وكانت النباتات ترسم بأشكالها وألوانها لوحات فنية بديعة بالرغم من الظلام ،بفضل بعض كشافات الإضاءة التى تم توزيعها بطريقة هندسية رائعة ؛فأشاعت في المكان ظلالاً محببة ..
,
, تأمل الدكتور أنيس منبهراً ، الحديقة المرتبة على شكل أحواض مربعة، ودائرية تحوي أنواعاً لاحصر لها من الشجيرات والورود والأزهار المختلفة ألوانها وأشكالها.. فقال له الدكتور منصور، وهو يلحظ إعجابه، وانبهاره:
,
, -الدكتور عدلي من عشاق النباتات ..هو يرى أنها هي الأخرى تملك طاقات وقدرات نجهلها ..كما أن لها لغات تتحاور بها مثلنا تماماً ..وأظن أن بعض أبحاثه تشمل هذه الناحية.
,
, ثم مال على أذنه ،وقال بصوت خافت بمرح:
,
, -بعض هذه النباتات تساوي ثروة ..فهى نادرة للغاية ،وبعضها تم جلبه خصصياً من أجله من خارج مصر ،كما أن الرجل يهتم بحديقته بنفسه.
,
, كان مرأى النباتات والورد مبهجاً ، وقد انتشر عبقها الطيب في المكان ؛ فأضفى إلى متعة الحديقة البصرية التى تسلب الأبصار متعة الرائحة الطيبة التي تفوح من كل مكان فيها ..ظلت أعينهم معلقة بالحديقة ،وراحت تتنقل بين جنباتها المبهرة، حتى دلفوا إلى داخل الفيلا.
,
, لاحظ الدكتور أنيس على الفور الطراز الكلاسيكي الإنجليزي الذي صبغ كل شيء بالداخل ..لابد أن الدكتور عدلي قد استوحاه من معيشته بإنجلترا ..انتظمت أرضية الفيلا على مستويين يفصلهما عدة درجات من الرخام ، وقد بطنت الأرض بالرخام والجرانيت ،وتوزعت في جوانب الفيلا الكثير من الأعمدة، و التماثيل الحجرية أو البرونزية..
,
, كانت هناك مدفأة حجرية تتوسط البهو ..ذكرت هذه المدفأة الدكتور أنيس بمدافئ البيوت الإنجليزية الريفية التى طالما رآها في القصص المترجمة..
,
, اتجه بصره نحو الحوائط التي زينتها الكثير من اللوحات الفنية والصور الشخصية..كان هناك صورة تمثل باشا لو أن لك أن تتصور شكل الباشاوات بملامح صارمة ،وأنف مستقيم حازم ،وشارب كث طويل ملفوف لأعلى ..لابد أنه المرحوم اسماعيل باشا راغب والد الدكتور عدلي .. لم يسترح الدكتور أنيس لملامحه ،وخاصة عيونه الحادة التى أشعرته بالتوتر .. كانت العينان تحملان نظرة مخيفة توحي بالصرامة والعنجهية والتعالي ،وشيءآخر مرعب ،ومبهم لاتدرى ماهو .. بالتأكيد كانت تجربة التعامل مع شخص كهذا لو كان حياً ماكانت لتكون سارة أو محببة للنفس ..
,
, كان هناك صورة أخرى لسيدة شابة و فاتنة بفستان بسيط أنيق يعود لثلاثينيات القرن الماضي ..كانت تبتسم بود ودفء أضفى لملامحها إحساسا بالألفة والراحة ..خمن الدكتور أنيس أنها لابد أن تكون والدة الدكتور عدلي ..كانت هناك أيضا بعض صور الدكتور عدلي ،عرفها الدكتور أنيس على الفور ، فهو قد رآه من قبل، وإن لم يتبادلا التعارف أو الحديث ألا لماما - اللِّمَامُ : اللِّقاءُ اليسير - ..
,
, اتجها إلى الصالون ؛حيث جلسا فيه على أرائك مذهبة ؛لابد أنها تعود لأحد نبلاء العصور الوسطى ..هكذا خمن الدكتور أنيس، وهو يتحسسها بتعجب وانبهار، بينما انسحب البواب العجوز بعد أن أخبرهم أن الدكتور قادم إليهم على الفور.
,
, تطلعا بانبهار إلى اللوحات الكثيرة المتنوعة، و المنتشرة على الجدران حولهم مانحة للفيلا طابعاً محبباً من الرقي الممتزج بالذوق الرفيع ..مما دفع الدكتور أنيس لإطلاق صفير خافت منبهر وقال:
,
, -الفيلا بأثاثها ولوحاتها وتصميمها وحديقتها تحفة فنية حقاً .. إنني أحسد هذا الرجل من كل قلبي عليها.. أن يعيش المرء هاهنا يشبه العيش بالجنان.
,
, ضحك الدكتور منصور ،وهو يلاحظ انبهار الدكتور أنيس بكل شيء ..هو نفسه كان منبهراً مثله تماما حين أتى للمكان لأول مرة..لذا قال :
,
, -من حسن حظك أن الدكتور عدلي لايتطير،ولايخاف من الحسد .. بل سيدهشك أنه سيطرب لمديحك هذا ..
,
, ارتفع في المكان صوت خطوات قادمة من أعلى الدرج الخشبي، فانتبها إلى الدكتور عدلي القادم نحوهم بقامته المتوسطة وملامحه الأرستقراطية التي تحمل ملامح والده، وإن أذابتها ابتسامته الدافئة...
,
, كان يرتدي ملابسه كاملة ، ويحمل غليوناً بجانب فمه كما يفعل الرجال الجنتل مان الإنجليز ..رحب بهما بود كامل، وأشار إليهما بالجلوس ..
,
, كان قد التقى بالدكتور أنيس من قبل؛ فلم يحْتج لأن يقدمه الدكتور منصور له ..وقال له محاولاً إشعاره بالود والترحيب:
,
, -هل أعجبتك فيلاتي الصغيرة هذه ؟.
,
, -في الواقع لم أرَ شيئاً مبهراً مثلها من قبل ..كل شيء بها هو قطعة فنية لاتوصف ..إنها تصلح بكل ثقة أن تكون متحفاً للفنون.
,
, أطربت كلماته الدكتور عدلي ؛فقال بأسى حقيقي :
,
, -أنت لم تر قصر والدي قبل أن تأممه الثورة، وينهبه لصوصها..كان شيئاً رائعاً من الصعب أن تقارنه بهذه الفيلا الصغيرة.
,
, واكتسى صوته رنة ألم ،وهو يضيف:
,
, -للأسف تم نهبه تماماً ..مايحزننى أن أمي قد تعبت كثيراً في تنسيقه، وجلب الكثير من التحف ،واللوحات الأصلية له من الكثير من أنحاء العالم ليبددها العسكر واللصوص بلا وعي لقيمتها الحقيقية..بالمناسبة إن والدتي نفسها كانت فنانة لها الكثير من اللوحات الرائعة.
,
, وأشار بيده إلى بعض اللوحات المعلقة على ركن من أركان الفيلا، وأكمل :
,
, -هذه اللوحات كلها بريشتها هي ..أعتقد أن بها بعض الأصالة والموهبة ؛ كما ترون .
,
, تطلعا إلى اللوحات التى أشار اليها..كانت تصور الطبيعة في صور مختلفة ..كان هناك لوحة تصور البحر وقت الغروب، وأخرى كانت تصور شجرة في مقتبل غابة ،وقد حل قت الطيور فوقها ،وثالثة صورت وردة حملت أوراقها ألوانا مختلفة ..عبقت اللوحات بالموهبة ،والحساسية الشديدة في اختيار الألوان ..
,
, فى نفس اللحظة ظهرت لهم سيدة متوسطة العمر ذات ملامح جميلة لكنها صارمة ،رمقتهم بنظرة متشككة غير مريحة ..فسألهم الدكتور عدلي عمّا يرغبان في تناوله، فطلب الاثنان قهوة ،فطلب منها بلطف أن تحضر القهوة لهم جميعا .
,
, انصرفت بعد أن رمتهم بنظرة أخرى متفحصة ..فمال الدكتور منصور نحوه ،وقال بمكر :
,
, -أمازلت محتفظاً بمديرة بيتك هذه ..أنا لا أدري كيف تحتمل نظراتها الصارمة تلك ،والتي لاتفارق وجهها أبداً ..أحيانا أشعر أنك تخشاها ..ألا تفعل يارجل؟.
,
, أطلق الدكتور عدلي ضحكة صاخبة ، وقد راقت له الدعابة وقال:
,
, -لن تصدقني لو قلت لك إنني أخشاها أحيانا ..لكنها، والحق يقال نظيفة ،وتقوم بأعمال المنزل بمهارة وتفان..أظن أنني قد اعتدت عليها ،ولم أعد أستطيع أن أدبر أمري بدونها.
,
, خيّم بعدها الصمت للحظة، ثم قال الدكتور عدلي ،وقد وضع غليونه في فمه ورفع ساقاً فوق ساق:
,
, -والآن ماذا تنتظران من الساحر أن يقدم لكم ؟.
,
, أدرك الدكتور منصور مايعنيه بقوله هذا فأجاب على الفور :
,
, - في الواقع إننا في ورطة .. وقد جئنا طلباً لمساعدتك.
٤١
كان هناك الشيخ عبد الرحيم ...
,
, كان أحد أشهر الدجالين في ذلك الوقت ..اشتهر في البداية في المناطق الشعبية كالقلعة والسيدة وغيرها..وبعد فترة ذاع صيته واشتهر ؛ حتى يقال إن بعض الفنانات والمشاهير صاروا لايقدمون على شيء إلا بعد مشورته..
,
, كتب البعض عنه مقالات ببعض الصحف والمجلات الأسبوعية تمدح كراماته، وتعددها أحياناً ..وتتهمه بالدجل والنصب أحياناً أخرى، إلا أنه مات فجأة في ظروف غامضة ،تناثرت حولها الكثير من الحكايات، والأقاويل وإن لم يعرف أحد الحقيقة فيها..
,
, لكننا نعرف .. أخبرت صفية زوجة مرزوق جارتها أم مصطفى بما حدث لزوجها فأخبرتها انه لن يحل لها هذه المشكلة، إلا الشيخ عبد الرحيم.. فالرجل سره باتع ،و يخشاه كل الجان وأعوانهم ؛لأنه يسخر ملوكهم .. ثم راحت تعدد لها الكثير من كرامته التي شهدتها بنفسها .ألم تكن كريمة زوجة محروس العجلاتي عقيماً ، وبعد زيارته حدث لها الحمل؟ ..ألم يرغب أحد الجان في الزواج بسناء ابنة الحاج محمود صادق ،وأصابها بالمرض ،ودار بها أبوها بكافة الأطباء والمشايخ ،ولم يخلصها من هذا الجان إلا الشيخ عبد الرحيم..
,
, ألم يسرق ذهب سيدة الوكيل جارتهم، وبعد أن يئست من معرفة السارق ،وكادت أن تموت كمداً ،ذهبت إليه فاستطاع معرفة السارق .. كان هناك الكثير من الحكايات الأخرى ..وكالعادة لا أحد يدري ما الحقيقة ولا الضلال فيها.. ولكنها الفطرة المتوارثة في نفوس الكثير من المصريين الذين يثقون في الشيوخ والأولياء ..ويتكفل دوماً خيالهم بصنع كرامات لهم عن حق كانت أو باطل ..ولذا نجد أن صفية لم تكذب خبراً ، وقررت أن تزوره فربما يحل مشكلة زوجها مع تلك الجثة اللعينة في المشرحة ،والذي كان قد قصّ عليها كل مافعلته بهم ، وكل ماقيل عنها ؛ فصارت لاتنام من الفزع خشية أن تصحو ؛فتجد نفسها بين الجثث كما حدث لزوجها.
,
, تطوعت أم مصطفى ،وأخبرتها أنها ستصحبها إليه، وهمست إليها:
,
, - إن الرجل أتعابه عالية بعض الشيء ...لكنه مضمون .
,
, وبالطبع مادام الأمر يتعلق بالنقود ؛فقد وافق مرزوق على مضض دفعه إليه خوفه.
,
, بعد العصر اتجهوا إليه حيث مقره بالقلعة..وفي شقة بالدور الأرضي في عمارة قديمة كان يقيم.. دخلوا الشقة ففوجئوا بسيدة بدينة ترتدي جلباباً زاخراً بالألوان الصاخبة تستقبلهم، ثم طلبت منهم أن ينتظروا دورهم في مقابلته ..كان المكان يعجُّ بالكثيرين ممن أتوا للشيخ بحثاً عن كراماته ..فمالت أم مصطفى على أذن صفية قائلة بفرح:
,
, -انظري كم واحد هنا قادم للشيخ ..ألم أقل لك إنه ذو سر باتع ، وسوف يحل مشكلتك إن شاء امونرع واسرته.
,
, غمغمت صفية بأمل :
,
, - يارب يا أم مصطفى ..يارب تشاغلا بمتابعة الكثير من رواد المكان القادمين بمختلف أنواع المشاكل.. هذه هجرها زوجها لأفعى أخرى ،وتلك ممسوسة ، وهذا قد صنع له أحدهم عملاً فصار لا ينجب وآخرون بمشاكل شتى ..ظلتا هكذا إلى أن حان دورهما، فنادتهم المرأة البدينة ،فنهضتا بسرعة ،واتجهتا إلى حجرته ،وقالت صفية لها هامسة قبل أن يصلا لبابه :
,
, - هل سندفع النقود الآن؟.
,
, أسرعت المرأة البدينة تصيح بصوت عالٍ صارم ،تعمدت أن يسمعه الجميع:
,
, -الشيخ لايتقاضى نقودا ..إنها طلبات ملوك الجان، يحددها الأسياد له.. فيخبرك بها بعد معرفة مشكلتك.. لو أراد الشيخ اموالاً لفتح له ملوك الجان خزائنهم وكنوزهم.
,
, دخلتا الحجرة المظلمة بارتباك..كان هناك الكثير من الدخان ورائحة بخور زيتي خانق تفعم المكان، و قد امتزجت برائحة عضوية غامضة .. في منتصف الحجرة كان يجلس الشيخ عبد الرحيم بلحيته الشعثاء ،ونظرة ماكرة خبيثة من السهل إدراكها تملأ وجهه .. كان هناك أمامه موقد فخاري كبير توهجت فيه أحجار الفحم المشتعلة ،وبجواره كانت هناك بلورة زرقاء معتمة تغوص في حامل خشبى ..
,
, وفي الجوانب، وعلى الحائط كان هناك الكثير من التماثيل المرعبة،والأقنعة البشعة .. في الواقع ،وكي لانظلم الرجل .. فإنه قد فعل كل مابوسعه كي يبدو نصاباً ، ولكنهم كانوا حمقى فلم يدركوا هذا.
,
, شعرت صفية بالخوف من هذا الجو المظلم الخانق ، بينما كانت أم مصطفى أكثر جرأة وهي تحيه :
,
, - السلام عليكم يامولانا.
,
, أجابها الرجل بصوت خشن ،وفمه لايكف عن الهمهمة بأشياء غامضة :
,
, - السلام على من اتبع امونرع وزوجته واولادهما البنين والبنات الكرام، وقبلهم السلام على عشتروش وشمهورش ملوك الجان متبعي بني علمان.
,
, ألقى ببخوره في الموقد المشتعل ؛فوجلت صفية ،والدخان يتصاعد من النار ..وأكمل بصوت تعمد أن يكون مخيفا بارداً:
,
, -ملوك الجان هاهنا حاضرون ،فتأدبوا في الحديث ..أوجزا واحكيا لهم مشكلتكما ،ولديهم الحل بإذن امونرع واسرته لم تستطع صفية التحدث من الخوف ،فجف ريقها ،وصمتت، فاندفعت أم مصطفى تقص عليه كل شيء أخبرتها صفية به، و استمع إليها ،وفمه مستمراً في همهمته الغامضة، وحين انتهت من كلامها؛ صاح فجأة بصوت جهوري مخيف:
,
, أعوذ بامونرع واسرته ..الغوث الغوث ..العون العون ..النجدة يا ملوك البحار السبعة وأمراء الجزائر ..
,
, أسرعت أم مصطفى تقول، وقد لاحظت امتقاع وجه صفية التي لم تتفوه بكلمة واحدة ،وراحت تتنفس بسرعة مضطربة:
,
, - ماذا هناك يامولانا ؟.
,
, ألقى الرجل بالمزيد من البخور قبل أن يقول:
,
, - هذه أعمال سفلية شريرة وقديمة..أعمال مخيفة لايقوم بها إلا الجان الاخوانوسلفي الأحمر ..عشتروش يقول إن ملك الجان الاخوانوسلفي الأحمر بنفسه يشرف عليها ..ياحفيظ ارحمنا برحمتك.
,
, فوجئت صفية بنفسها تهتف برعب :
,
, - ومن صنع هذا العمل لزوجي ..
,
, - هذا ما لايجوز الإجابة عنه ..إنها أسرار ملوك الجان ،ولايحق لأحد معرفتها ،أو السؤال عنها.
,
, هنا قالت أم مصطفى بتوتر:
,
, -والحل ياشيخ عبد الرحيم؟!
,
, لم يرد عليها، وألقى المزيد من البخور على النيران التي أمامه، فتوهجت ، واندفعت سحب البخور الكثيفة نحوهما حتى شعرتا بالاختناق، بينما استمر هو في همهمته المبهمه ،وهو يرجع رأسه للخلف ؛كأنما يحادث أشخاصا خفية ، قبل أن يعلوا حاجبه الأيسر، ويصيح بفرح مصطنع :
,
, -أبشروا..لقد أتى الفرج ..إن عشتروش سوف يبطل العمل ...لقد وافق الآن على مواجهة ملك الجان الاخوانوسلفي الأحمر، وإبطال سحره..لكنه يطلب الكثير.
,
, أجابت عليه أم مصطفى على الفور:
,
, -أخبره أن طلباته كلها مجابة ..كل شيء يريده سوف نلبيه.
,
, ارتسمت ابتسامة لزجة على ملامحه قبل أن يقول :
,
, -عشرة جنيهات تدفعونها الآن ،وخمسة أخرى مع ديكين يافعين بعد قضاء الحاجة ..ماردكم؟
,
, غمزت أم مصطفى لصفية بكوعها، فأسرعت بإخراج ورقة بعشرة جنيهات من كيس تضعه بصدرها ،وناولته إياه وهي لاتصدق أنها ستدفع له مبلغاً كهذا، فتناولها من يديها بلهفة، ووضعها في جراب أحمر من القماش بجانبه.. قبل أن يخرج ورقة صفراء مطويه من كيس قماشي كان يجلس عليه مليئة بشخبطات، وحروف غير مفهومة بلون أحمر ، وقال ،وهو يناولها إياها:
,
, -خذي هذا الحجـاب وسمّى باسم امونرع وزوجته واولادهما البنين والبنات ..أعطيه لزوجك، وأخبريه أن يضعها خلسة في فم هذه الجثة دون أن يلحظه أحد أو يراه، ولاتنسِ أن تجبريه أن يضع عليها بعض بوله عليه قبل وضعه في فمها، فهذا سيحميه من شرها، ويبطل السحر ..وسينتهى هذا العمل الخبيث إن شاء امونرع واسرته.
,
, تناولتها منه بلهفة، وهى تدعو له بالستر ..لكنه لم يرد ، ففهمتا أن المقابلة انتهت .. فنهضتا للانصراف .. تابعهما بعينيه اللزجتين متفحصاً تضاريس جسديهما البادية خلال عباءتاهما، حتى انصرفتا ،وابتسامة لزجة تزين وجهه.. كان الرجل قميء بالفعل ..
,
, هل ينكر أحد ما هذا ؟..
٤٢
في الصباح كان مرزوق في المشرحة، وفى جيبه الحجـاب .. وبالرغم من خوفه وتردده ، فقد قرر أن يكون آخر من يخرج من المشرحة، حتى يضع حجـاب الشيخ عبد الرحيم دون أن يراه أحد، وبمجرد أن صار بمفرده بالمشرحة اتجه إلى قاعة التشريح؛ ليضع الحجـاب في فم الجثة ..
,
, تذكر أنه لم يتبول عليه كما أمر الشيخ عبد الرحيم ،فانتحى في أحد الأحواض المنتشرة بجوانب المشرحة، وتبول على الحجـاب، وتقدّم به بعدها نحو الجثة ..كان يشعر بالرعب منها إلا أنه تماسك، وكشف عن وجهها، وبيد مرتجفة فتح فكها السفلي؛ فاستجاب له بيسر، فوضع الحجـاب في فمها بسرعة ،وأغلقه مرة أخرى ، قبل أن يعيد تغطيتها ،ويندفع بعدها نحو باب المشرحة مهرولاً ولاهثاً من فرط الإثارة ..كان يتوقع أن يحدث منها رد فعل ما ،ولكن لحسن الحظ مضى كل شيء على مايرام.. فشعر ببعض الراحة.
,
, الآن المشكلة قد حلت كما وعد الشيخ عبد الرحيم.. فهل ينتهي شر الجثة؟..
,
, هذا ما لم يكن بإمكانه أن يعلمه الآن..
٤٣
باهتمام بالغ تابع الدكتور عدلي راغب مايقصه الدكتور منصور، والدكتور أنيس عن الأحداث الغريبة بالمشرحة .. لم يقاطعهما، وتركهما يفرغان في أذنيه كل مايعرفونه .. في النهاية سحب نفساً عميقاً من غليونه الموضوع على جانب فمه الأيسر، وأخرج من فمه دخانه الرمادي ببطء، وتراجع برأسه للخلف مفكراً بصمت ..تطلّع إليه كلاهما بلهفة منتظرين أن يفيدهما كما تمنياً.
,
, ظهرت قطة مشمشية اللون في هذه اللحظة، وتحركت بتؤده بينهم ورأسها ينظر إليهما ببطء كأنما تتفحصهما ،قبل أن تتقدم نحو الدكتور عدلي راغب الذي ابتسم لها ،ومد يده نحوها ؛فقفزت لتجلس على قدمه مستكينة لأصابعه التي راحت تربت على فرائها بلطف وقال مبتسماً :
,
, - دعوني أقدّم لكم عزيزتي ددي .. ابتسم كلاهما، والدكتور عدلي يشير نحوهما مكملاً :
,
, - هذا هو الدكتور منصور ،والآخر هو الدكتور أنيس ..إنهم أمام أحداث غامضة ،وقد جاءوا طلباً للمساعدة.
,
, قال الدكتور أنيس، وهو يرمق القطة الجميلة التي أطلقت مواءاً خافتاً :
,
, - إن لها اسماً غريباً ..كما أنني أعتقد أنه لن يهمها ما نواجهه.
,
, - سيدهشك أن تعلم ماتهتم به حقاً ،وما يمكنها أن تفعله.
,
, قالها الدكتور عدلي بغموض ،ثم استطرد:
,
, - أما اسمها فهو اسم ساحر مصري قديم ..وأظن أن هذا الاسم يروقها لهذا ادعوها به.
,
, تبادل الدكتور أنيس النظرات الدهشة مع الدكتور منصور ..لكن الدكتور عدلي أراد تجاوز هذه النقطة فقال:
,
, - إن مشكلتكم كما أعتقد أنكم لاتدركون ماتواجهون ..الأمر محير بحق، ولاألومكم على حيرتكم هذه ،فهناك عشرات الاحتمالات لما تواجهونه .
,
, نهض من مقعده ،وأطلق سراح قطته ،واتجه إلى النافذة المطلة على الحديقة، وأخذ يتأملها بشرود قبل أن يقول :
,
, - هل ما يحدث معكم يسببه شبح هذه الفتاة ..أم هل يكون أحد الجان الازهري الخميني أم أنه القرين الاسلامي المنقرض النادر؟ ..قد يكون الامر ايضا لعنة ما أو مس شيطاني اخوانوسلفي قديم ..وكل هذه احتمالات ممكنة .
,
, قال الدكتور منصور بحيرة :
,
, -يا إلهى كل هذا ..كيف يمكننا أن نعرف ماذا تكون إذا؟
,
, التفت إليهم، وتجاهل إجابة سؤاله بلا مبرر، وقال:
,
, - في البداية ماذا تعرفان عن الأشباح ؟!
,
, تطلع الاثنان إلى بعضهما البعض قبل أن يجيب الدكتور منصور:
,
, -ليس الكثير ..البعض يتحدث عن أنها أرواح للموتى تظهر في بعض الأحيان في ظروف معينة، ربما لتخبر عن القاتل لو كانت لقتيل ،أو لتثير الفوضى ..إن الفكرة مشهورة ومنتشرة في الثقافة الغربية أكثر من الثقافة الشرقية.
,
, ابتسم الدكتور عدلي، وسحب نفساً آخر من غليونه، وهو يقول:
,
, - هذا صحيح إلى حد ما .. إن الشبح هو الطيف.. هذا الطيف قد يكون لإنسان أو حيوان أو أي شيءآخر ، لغوياً كلمة شبح تعني الرؤية غير الواضحة لجسم ما.. وشبح الشيء في اللغة هو ظله وخياله .. بالطبع تعد هذه الظاهرة من أهم ظواهر ماوراء الطبيعة .. فالفكرة نفسها قديمة ، وموجودة في كل الثقافات تقريباً ،حتى البدائية منها .. في الغالب يتم تفسير ظاهرة الأشباح على أنها أرواح الموتى أو أرواح القتلى، لكن هناك تفسيرات أخرى.. فالبعض يرى أن الأشباح هى الجان الخمينية الازهرية أو الملائكة العلمانية التنويرية أو الشياطين الاخوانوسلفية، وهؤلاء يرون أن الأشباح الطيبة هي إحدى صور الملائكة العلمانية التنويرية الحرياتية الاشتراكية، والشريرة هي أشباح لجان راسمالية خمينية ازهرية أو شياطين سعودية اخوانوسلفية خلايجية ..
,
, صمت للحظة فقال الدكتور منصور معقباً:
,
, - أعتقد أنني أميل إلى التفسير الأخير .. ولهذا لا أميل إلى القول بأنها ارواح موتى .. أجابه الدكتور عدلي مبتسماً :
,
, -.. إنني مثلك أرفض فكرة الروح ..لكن أرفض أيضاً اعتبار الأشباح الطيبة ملائكة، والشريرة شياطين ..فكما سنرى حالاً فالأمر شائك بشدة .
,
, غمغم الدكتور أنيس بصوت خافت متسائلاً:
,
, -أرى أن هناك مبالغة ما في موضوع الأشباح هذه، ولا أعتقد أنها تهم الكثيرين حقاً ؟.. إن رجل الشارع العادي لن يقابل اشباحاً في كل لحظة ،ولن يهتم بها كثيراً كما أعتقد.
,
, إنها لن تهم في العادة غير المتخصصين في تلك الأمور ،وعشاق الإثارة والغموض من الشباب.
,
, أجابه الدكتور عدلي، وهو يهز رأسه :
,
, - لن تتخيل أبدا عدد الجمعيات، والأفراد المهتمين بالأشباح حول العالم ..مئات الألوف بلا أي مبالغة .. بالطبع في المقابل هناك أيضا مئات الألوف من الأشخاص الذين يرفضونها أيضاً وبشدة ..وكلُّ له أدلته القوية وبراهينه.
,
, قال الدكتور أنيس بإحراج :
,
, - أعتقد أنني حتى وقت قريب كنت أنتمي للمعسكر الرافض .. فمشكلة تلك الأمور الخارقة الغامضة أنك لاتدري أبداً الحقيقة فيها من التدليس.
,
, - هذا أمر متوقع بالطبع ..فمشكلة الأشباح مثلاً أنك تواجه شيء من المستحيل أن تثبته بالدليل القاطع ..أنت تتعامل مع شيء تؤمن به ،أو ترفضه بحسب معتقداتك ،أو ثقافتك ،أو موروثاتك .. ومن المحبط أنه بالرغم من توافر العشرات من وسائل البحث ،والاستدلال لإثبات هذه الظاهرة ،إلا أن مستوى معرفتنا بها لم يتعد معرفة القدماء كثيراً .. إن مانجهله عنها أكثر بكثير مما نجهله .. قالها ورمق قطته التي إرتكزت على قائميها الخلفيين ورفعت رأسها نحوه كأنما تتابع ما يقوله ،وإستطرد:
,
, في الغرب هناك الكثير من المحاولات الجادة من عشرات الجمعيات المهتمة بهذه الظاهرة لمحاولة رصدها بأدلة مادية؛ مثل تصويرها بكاميرات عادية ،أو خاصة مع تجميع أكبر قدر ممكن من روايات الشهود إنهم يستخدمون التصوير التلفزيوني، وأجهزة لرصد بعض التأثيرات المادية المصاحبة لظهور الأشباح كالأضواء التي تضيء، أو تطفئ بمفردها، أو تحريك بعض الأغراض وغيرها.. وهناك أيضا محاولات لتسجيل الأصوات التي قد تكون مصاحبة لها ..كل هذا قد يفيد أحياناً في إثباتها، ولكن دوماً تصطدم كل تلك البراهين بحجج المنتقدين للفكرة، مثل إمكانية التزوير مثلاً ..
,
, غمغم الدكتور أنيس بانتصار:
,
, -بالضبط ..من السهل اللجوء للتزوير لإثبات وجود وهمي لها .. إن الخرافات مرعى خصب للأفاقين والنصابين ؛ولهذا من الصعب أن يتقبل العلم أشياء مثل هذه.
,
, هنا رد عليه الدكتور منصور بسرعة:
,
, -رويدك يادكتور أنيس ..فالأمر لايخلو أبداً من حوادث موثقة كان شهودها أناس لاغبار عليهم ..أليس كذلك يادكتور عدلي؟
,
, ظل الدكتور عدلي مبتسماً ، وهو يستمع لكليهما ،وهزّ رأسه موافقا على ما قاله الدكتور منصور ،وأكمل:
,
, -بالطبع هناك العديد من الحوادث الموثقة في هذا الشان كما ذكرت يادكتور منصور ..لكن مصادرنا هنا غربية.
,
, فكما أخبرتكم لاتوجد أى دراسات جادة عربية حتى الآن في هذا الشان..فهناك مثلاً شبح الرئيس الأمريكى الأشهر " إبراهام لنكولن " الذي رآه الرئيس الأمريكى " تيودور روزفلت" يتجول في ردهات البيت الأبيض ،وهناك قصة القس الروسي" ديمتري " التي ظلت مثالاً حياً لوجود هذه الظاهرة لفترة طويلة، ففي عام 1911م وفي ليلة من ليالي الشتاء شاهد القس " ديمتري " المشهور بصدقهِ امرأة جميلة شابة طلبت منه أن يدلها على الطريق ،وسرعان ما فعل ذلك، ولكن الصدمة عندما انتبه إلى أن رقبة المرأة تنزف دماً ، وتأكد بعد فترة بأنه في الليلة السابقة ،قد قُتلت فتاة شابة من النبلاء تحمل نفس صفات الفتاة التي شاهدها ،وقد قُطع رأسها بالكامل عن جسدها..
,
, هنا يرى الباحثون المؤيدون لظاهرة الأشباح أن هذه الحوادث أكبر دليل على وجود الأشباح ؛فما الذي يجعل من قس مثل "ديمتري " يدعي هذه المشاهدات التي قد تفقده مصداقيته.
,
, صمت الدكتور عدلي ،وعاد ليجلس بعدها على معقده، فتبعته القطة على الفور ؛كأنما كانت تنتظره ،وتابعه الاثنان بأعينهما فاستطرد قائلاً:
,
, -لاحظا أيضا أن ظاهرة الأشباح ترتبط عادة ببقعة معينة كالمنازل ،أو السفن ،أو المناطق المهجورة ،أوغيرها .. فقد اشتهرت العديد من المناطق ،أو البقع بظهور الأشباح ،وكثرت فيها الحوادث بصورة لا يمكن أن يتجاهلها أي متابع لتلك الظاهرة ..ومن أشهر تلك البقع قصر "كليمز" التاريخي والموجود في مدينة "ستراثمور الإسكتلندية "،حيث يعتبر هذا المكان من أشهر الأماكن المسكونة بالاشباح في العالم ..ربما يكون سبب هذا الخلفية التاريخية الرهيبة ،والمرعبة الأشبه بالأساطير لهذا القصر ..ففي عام 1034 مقتِل الملك "مالكولم" في هذا القصر على أيدي بعض المتمردين المسلحين، وبعدها أُحرِقت سيدة القصر" جانيت دوجلاس" بتهمة الشعوذة، ولكن بعد فترة من الزمن ثبتت برائتها من التهمة المنسوبة إليها، ومنذ ذلك الحين ترددت الكثير من الأقاويل حول ظهور شبح السيدة "جانيت" يحوم في ممرات القلعة ..وانتشرت بعدها عشرات الروايات التي تؤكد أن القصر صار ملعوناً .. إن كل هذه حوادث موثقة لاغبار عليها لو شئت رأيي.
,
, قاطعه الدكتور منصور قائلا وهو يتذكر امراً ما:
,
, -إنني أتذكر شيئاً قد قرأته من قبل عن تفسير علمي لظاهرة الأشباح ..شيء يتعلق بالمجاري المائية أو الكهرباء الإستاتيكية ..أظن أنه كان شيئاً من هذا القبيل.
,
, أجابه الدكتور عدلي راغب على الفور:
,
, -لابد أنك تشير إلى الأبحاث التي قام بها الباحثون في بريطانيا ..فقد قاموا بإجراء سلسلة طويلة من الدراسات حول معظم البيوت المسكونة بالأشباح، وتبينوا أن غالبية هذه المنازل تحتوي على مجارٍ مائية تمر على صخور الجرانيت ،وبسبب احتكاك الماء بهذه الصخور تتولد طاقة كهرومغناطيسية تؤثر على عقول ساكني تلك المنزل الأمر الذي يجعلهم في حالة أشبه إلى الهلوسة ؛فيخيل لهم أنهم يرون أشكالاً هلامية ،وأشباحاً قد لا يكون لها وجود.
,
, هنا قال الدكتور أنيس :
,
, - أعتقد أن هذا قد يكون يكون تفسيراً معقولاً ..ولو قام المهتمون بتلك الظاهرة في الآماكن الأخرى من العالم بأبحاث مماثلة؛ فربما توصلوا لنفس النتيجة.
,
, هز الدكتور عدلي رأسه بالنفي ،وقال بهدوء:
,
, -يادكتور أنيس ..الأمر ليس يسيراً كما تعتقد.. فالأشباح لاتكتفي بالظهور في البيوت فقط ..بل تم رصدها في كل مكان وكل حين ،ومثل هذا التفسير لايفسر حوداث الأشباح التي تم رصدها في السفن ،وفي الصحارى،أو حتى في الطائرات ..
,
, -إن كلامك يوحي أنك تؤمن حقاً بوجود الأشباح، وأنك لاتؤمن بالتفسيرات المادية لحدوثها، كتفسير التيار الكهرومغناطيسي الذي ذكرته منذ قليل.
,
, -لو رأيت ما رأيته ..لكنت أكثر حذراً في رفض الفكرة .. صدقني إنهم موجودون بالفعل، ومنتشرون في كل مكان بصورة قد لاتصدقها..ربما يأتي وقت أبرهن فيه لك على ما أزعمه الآن، قال الدكتور منصور مقاطعاً مناقشتهما:
,
, -ولكن هل تعتقد أن مايحدث في المشرحة هو تأثير أشباح مثلا ؟
,
, هزّ الدكتور عدلي راغب رأسه بنفي، وهو يجيب:
,
, -إنني أميل قليلا لهذا التفسير ..لكن هناك شيئاً ما يبعدني عن القول أن هناك شبح ما بالمشرحة ..ففي معظم قصص الأشباح لايعدو الأمر أكثر من رؤية مفزعة ،أو أصوات مخيفة ..أو على الأكثر بعض المشاغبات كتحريك قطع الأثاث وغيرها .. لكننا هنا نتحدث عن جريمتي قتل، وعامل مشرحة فوجئ بانتقاله بوسيلة ما من منزله ليلاً إلى المشرحة .. و لا أظن أنه تم تسجيل أحداث مشابهة فعلتها الأشباح.
,
, خيّم الصمت بعدها عليهم، فأفرغ الدكتور عدلي غليونه في مطفأة سجائر ، وأعاد حشوه بالتبغ ،ثم أشعله، وأخذ يدخنه ببطء بينما راح الدكتور أنيس يراقب القط ،ويلاحظ عينيه العسليتين ..شعر بشيء من الغرابة فيهما ..لاحظه القط فمد رأسه نحوه، و ارتسم على فمه مايشبه ابتسامة ساخرة؛ فوجل الدكتور أنيس ،وأبعد عينيه عنه على الفور .
,
, بعدها غمغم الدكتور منصور بحيرة :
,
, وماذا عن الإحتمالات الأخرى يادكتور عدلي؟..
,
, - أعتقد أن أقرب الاحتمالات هو أنكم تواجهون أحد الجان .. إن الحوادث التى يحتك فيها البشر مع الجان منتشرة للغاية في الأرياف والمناطق الشعبية ، وأنا بنفسي شهدت الكثير من حوادثها .. هنا نجد الكثير من حوادث الاختفاء الفجائي.. التشنجات، ونوبات الصرع..تدمير الأثاث ،أو إشعال الحرائق بالمكان ،أو حتى سماع أصوات مخيفة..
,
, في الغالبية العظمى من هذه الحالات، هناك مرض نفسي ما عند الضحية يفسر الأمر كله ؛ولكن في بعض الحوادث يكون المريض سليماً تماماً ، ولامرض هنالك يفسر مايحدث ..هنا نحن أمام حوادث حقيقية لازيف فيها .. لاحظا أنني طبيب نفسي محترف ،وأستطيع أن أحكم بيسر على الحالة النفسية لأي مريض أو مدعي .. وصمت شارداً للحظة وأردف :
,
, - ربما يكون الجان الاخوانوسلفي الراسمالي السعودي الاردوغاني الاسلامي الخميني أو المس تفسيراً معقولاً و مقبولاً .. و معنى هذا أننا أمام جثة غير بشرية لأحد الجان.
,
, سرت قشعريرة باردة في جسد الدكتور أنيس من هول الاحتمال ،وشاركه الدكتور منصور في التوتر ،وقال:
,
, -لكن منذ متى يتجسد الجان ..أنا لم أسمع عن هذا إلا في قصص ألف ليلة وليلة.
,
, ألقى الدكتور عدلي بنظرة ناحية القطة ؛فحركت رأسها بعيداً عن عينيه، وقال بلهجة ذات معنى :
,
, - إنهم يتجسدون طوال الوقت ..صدقني لو أخبرتك أنهم يملئون شوارعنا بل، ويعيش بعضهم بيننا دون أن نعلم حقيقته. وقد مسوا الناس بمصر والجمهوريات العربية منذ 1971 حتى زوال الاخوانية والسلفية منذ ستين عاما فقط في عام 2163.
,
, بدا الاحتمال مقلقاً ومخيفاً ..إن العبث مع الجان له نتائج مخيفة كما اعتادوا أن يسمعوا من عشرات الحكايات القديمة التي طالما قصتها الجدات ،أو حتى القصص الشعبية التي تناولت أمر الجان الاخوانوسلفي الازهري التكفيري الاسلامي الخميني خاصة بعد الكشف عن مخطوطة ألف ليلة وليلة الحقيقية بدون التحريف العباسي والراشدي والعربي لها حيث كانت تحذر دوما من الغزو العربي بالقرن السابع ومن الربيع العربي المزعوم ونكبة الخميني وطالبان وغيرها بالقرن العشرين والحادي والعشرين.. شعر الاثنان بأن هذا الاحتمال مقبول ، وقد يكون أقرب الاحتمالات للصواب ..
,
, فقال الدكتور منصور بعدها بصوت مرتعش:
,
, - وهل هناك احتمال ما أن يكون مانواجهه شيئاً آخر.
,
, أغمض الدكتور عدلي عينيه مفكراً ، ومازال يدخن غليونه وعينا الاثنين معلقتان به ..ثم قال ببطء:
,
, - إنني أتذكر حادثة مشابهة لما تواجهون ، تلك الحادثة وقعت في بدايات القرن العشرين ..كانت هناك جثة، وكان هناك قتلى، وأحداث غامضة ..لكن الجثة هاهنا كانت مومياء فرعونية.
,
, لم يفهم الدكتور أنيس ماعلاقة مومياء فرعونية بما يواجهونه الآن فغمغم :
,
, - هل تعني أن تلك الجثة الفرعونية قد أثارت من الأحداث ما هو مشابه لما نلاقيه من جثتنا ؟
,
, -ليس تماماً في الواقع .. ففي عام 1910م فوجئ عالم الدراسات المصرية "دوغلاس موراي" بأحد الأمريكيين يعرض عليه أثمن أثر عرض له أثناء مزاولته لمهنته .. عرض عليه صندوق مومياء لأميرة كبيرة في معبد آمون - رع - يعتقد أنها عاشت في طيبة حوالي 1600ق.م .. كانت صورتها محفورة على الصندوق المزخرف بالعاج، و الذي كان محفوظا بحاله ممتازة وبالطبع لم يستطع "موراي" أن يقاوم الإغراء ؛فاشترى المومياء،و بدأ بترتيب الأمور لنقل الصندوق إلى منزله في لندن.
,
, كانت الأميرة ذات منصب رفيع في كهانة الموت ،و قد ذكر على جدران قبرها أنها ستترك إرثاً من النحس، و الرعب لكل من يزعج مكان راحتها الأبدية.
,
, بالطبع سخر "موراي" من هذه الخرافات، و لكن بعد ثلاثة أيام، بينما كان في رحلة صيد إلى أعالي النيل انفجرت البندقية في يديه بدون سبب، و بعد أسابيع من العذاب في المستشفى كان لابد من قطع ذراعه فوق المرفق ، و أثناء رحلة العودة مات اثنان من أصدقائه بأسباب غير معروفة ، كما مات اثنان من الخدم المصريين الذين حملوا الصندوق خلال سنة ، و عندما وصل الى لندن وجد أن الصندوق قد سبقه إليها ،و عندما نظر إلى صورة وجه الأميرة المحفور عليها بدا و كأنه أصبح حياً، و نظراته تجمد الدم في العروق ،فقرر أن يتخلص من الصندوق،
,
, و لكن صديقة له أقنعته أن يتنازل عنه لها ،و خلال أسابيع ماتت والدتها ،و تخلى عنها حبيبها ،و أصيبت بهزال شديد لم يعرف سببه، و عندما كانت تملي وصيتها على محاميها أصرّت على إعادة الصندوق "لموراي"، و لكن "موراي" خشى المومياء ،فأعطاها للمتحف البريطاني ، و لكن صندوق المومياء لم يوقف شروره حتى في تلك المؤسسة العلمية ، فقد سقط أحد المصوريين ميتاً فجأة ،و مات عالم الآثار، و المسئول عن المعروضات في فراشه ،انزعج بعدها أعضاء مجلس المتحف من القصص التي تناقلتها الصحف؛ فاجتمعوا سراً ، و اتفقوا بالإجماع على إرسال الصندوق إلى متحف نيويورك الذي وافق على قبول الهدية إذا سلِمت سراً و بأكثر الطرق أماناً ،و وضِع الصندوق على السفينه العظيمة التي كانت تقوم برحلتها الأولى من "ساوثامبتون"إلى" نيويورك" في ذلك الشهر ،و لكن صندوق المومياء لم يصل إلى نيويورك أبدا ؛ لأنه كان في مخزن الشحن لسفينه "التيتانك" عندما اصطدمت بجبل جليدي ،و غرقت ومعها 1498 راكبا من ركابها في 15 آيار..لقد حمل البعض تلك المومياء ماحدث لتلك السفينة من غرق.
,
, بدا واضحا ثقافة الدكتور عدلي الموسوعية في تلك الحوادث الغريبة ..لكن الأمر بالرغم من مشابهته في بعض أحداثه كان مختلفاً .. لذا قال الدكتور منصور معترضاً :
,
, -لكننا هنا لانواجه مومياء فرعونية ..إنها جثة عادية.. ولو صدقنا الحكايات التي قيلت عنها ،فهي قد عاشت منذ قرنين على الأكثر، وليست منذ عهد الفراعنة.
,
, هز الدكتور عدلي رأسه بشرود ،وعاد لينهض ،وغمغم:
,
, - إنني أعلم ماتقوله ،وأتفهمه ..إنني فقط أحاول تنشيط ذاكرتي بتذكر تلك الحوادث التي أراها مشابه لما يحدث لكم، وأحاول أن أبحث عن رابط ما قد يفيدنا في معرفة الحقيقة .
,
, صمت بعدها ..وفجأة ارتفع جاجباه، واتسعت عيناه ؛كأنما هبط على عقله هاجس ما أزعجه فأخرج غليونه من فمه وسعل ، ثم قال ببطء دون أن ينظر لأعينهم:
,
, -هناك تفسير فكرت به الآن.. لكني أفضل أن أحتفظ به الأن دون أن أصرح به ؛ فهو مخيف فعلاً ،وأتمنى ألا يكون صحيحاً.
,
, تطلع إليه الاثنان بقلق ،وقال الدكتور منصور:
,
, -أي تفسير هذا ..أخبرنا به يادكتور عدلي من فضلك..لقد أقلقتنا.
,
, إلا أن الدكتور عدلي كان مصرّاً فقال:
,
, -لن أخبركم به قبل أن أرى تلك الجثة بنفسي، وأتاكد إن كانت شكوكي صادقة أم أنني أبالغ ..أرجو ألا يضايقككم هذا ..لكن أخبراني هل من الممكن أن نذهب سوياً الآن للمشرحة لرؤية تلك الجثة.
,
, كان طلباً غريباً لم يتوقعاه ،فالليل قد هبط منذ فترة،وليس هذا هو الوقت المناسب للذهاب للكلية ،فلماذا لا يؤجلون هذا الأمر للصباح ؛كي لايثيروا الريبة والشك ..لذا قال الدكتور أنيس بإحراج:
,
, -ألا يمكن تأجيل هذا الأمر للصباح ..إن الجثة بالمشرحة، ولن تغادرها حتماً.
,
, أجابه الدكتور عدلي بسرعة:
,
, - في الواقع لديّ شكوك ما ، واعتقد أن رؤيتي للجثة الآن ستؤكدها أو تنفيها ..كما أن الوقت الحالي هو الأنسب لو شئت رأيي ؛فلا طلاب أو أساتذة هناك الآن ،وبالتالى لن نقابل بنظرات الفضول من أحد ما.
,
, تطلع الدكتور أنيس إلى الدكتور منصور؛ كأنما يسأله بصمت عن رأيه، فهزّ الأخير رأسه ببطء موافقاً ،فقال الدكتور أنيس متنهدا :
,
, -حسناً ..كما تشاء يادكتور عدلي ..لنذهب الآن إلى المشرحة.
٤٤
كانت الشوارع خالية ،وغير مزدحمة فلم تمض ثلث الساعة عليهم إلا وكانوا أمام باب الكلية .. اتجهوا مباشرة إلى المشرحة ،وهناك أدركوا أنهم نسوا شيئاً مهماً ..كان الباب الخارجي لها مغلقاً بقفل كبير وليس معهم مفتاحه..فكيف يدخلون؟
,
, وقال الدكتور منصور بضيق، وقد أدرك تسرعهم:
,
, - يبدو أننا تسرعنا حين جئنا إلى هنا دون أن نفكر جيداً ..كان علينا أن نتوقع أنها مغلقة الآن مادام لا أحد يبيت بها.
,
, لم يُعقب الدكتور أنيس، وعقله يفكر في حل، أما الدكتور عدلي فقد قال بدهشة:
,
, -ولكن منذ متى تغلقون باب المشرحة .. فيما مضى لم يكن هذا يحدث كما أتذكر.. فما الذي تحويه المشرحة غير الجثث كي تخشوا عليه ..لا أظن الجثث المحنطة قد تغري أحدا بسرقتها.
,
, أجابه الدكتور أنيس مبتسماً :
,
, - للأسف إن هذا ما حدث بالفعل ،فمنذ أعوام تكررت سرقة بعض أجزاء الجثث ،والعظام من المشرحة..إنني أعتقد أن الأمر لا يعدو بعض الطلاب المتحمسين للعلم ، ولهذا صار إغلاق الباب فرضاً علينا ،بل وحتى الفترة الماضية كان يجب على أحد عمال المشرحة أن يبيت بها.
,
, ابتسم الدكتور عدلي لطرافة الأمر ..طالب يسرق جثة من مشرحة الكلية ليتعلم عليها .. فقال ساخراً :
,
, - يبدو أن طلبة الطب هذه الأيام صاروا أكثر حماساً مما كنّا .. ففي أيامنا كنا نتحاشى المشرحة.
,
, ابتسم الجميع، قبل أن يقول الدكتور منصور :
,
, -المهم الآن كيف سنفتح هذا الباب ..سيكون سخيفاً أن نصل المشرحة الآن، ولاندخل بسبب هذا الباب السخيف!
,
, لاحَ حَلٌّ ما لعقل الدكتور أنيس ؛فقال وعيناه تلمعان:
,
, - أظن أنني أعلم أين سأجد نسخة من مفتاح هذا الباب ، انتظراني للحظة واحدة.
,
, كان يدرك بحكم منصبه السابق كرئيس للقسم أن نسخة من مفتاح باب المشرحة يكون دوماً بحوزة رئيس القسم تحسباً لطارئ ما .. وقد اعتاد هو ومن سبقوه من رؤساء القسم على الاحتفاظ بتلك النسخة الاحتياطة في مسمار بالحائط خلف باب حجرة رئيس القسم.. لهذا صعد إلى غرفة الدكتور فهمي بحثاً عنه.
,
, وجده بالفعل في مكانه ،فعاد إليهم باسماً ،وهو يفتح باب المشرحة به ،ثم دخلوا على الفور ..أضاء المصابيح البيضاء للمشرحة، ثم ساروا نحو قاعة التشريح ..أنارها هي الأخرى ..وتسمروا حينئذٍ بفزع لمارأوه بها.
,
, فأمام أعينهم سبحت في الفراغ أربع جثث عارية معلقة من أرجلها لأعلى ورؤسها لأسفل ،وقد تقاطعت أذرعها على صدورها في وضع المومياءت الفرعونيه المميز .. صنعت الجثث نفس الوضع التي رآه عبد الوهاب من قبل.
,
, هذه المرة لم تكن الجثث ساكنه في الفراغ ..بل راحت تدور ببطء كأنما تحركها خيوط خفية ، ورقدت في المنتصف جثة الفتاة بلاغطاء، عارية تماماً هى الأخرى تماماً .. كان المنظر مفزعاً للغاية ومرعباً ..لذا تراجع الثلاثة للخلف بإضطراب، وقال الدكتور منصور بصوت مرتعش:
,
, -أعوذ بامونرع واسرته من الشيطان الاخوانوسلفي الازهري الخميني الاردوغاني الخليجي الرجيم..لقد كان العمال على حق ..إنها تسبح في الفراغ بالفعل ؟!
,
, بينما همهم الدكتور أنيس بذعر:
,
, - أيفهم أحدكم ما يحدث هاهنا ؟..
,
, لم يجبه أحدهم ،فارتفع صوته فجأة، وهو يقرأ هدهدة طفولية للتهدئة والطمأنينة ..وبدا صوته مرتجفا متقطعاً من الإثارة والفزع.
,
, صمت الدكتور عدلي راغب متأملاً ما يحدث..كانت هذه أول مرة يرى فيها شيئاً كهذا ..لم يكن هذا بالتأكيد من عمل الأشباح أو حتى العفاريت أو الجان.. إن مايدور الأن ضرباً من ضروب السحر القوي للغايه ،سحر لا يقوى عليه إلا القليلون ..إن ما يراه هو شيء أكثر خطورة وقدماً .. شيء قرأ عنه من قبل ،ولا يتمنى أبداً أن يواجهه أو يلقاه .. أخذ الدكتور عدلي يفكر في ماعليه أن يفعله ،وهو يغالب شعوراً بالانقباض يضيق به صدره.. وقال الدكتور منصور مضطرباً ، وقد لاحظ تجمدهما جميعاً :
,
, -ألن نفعل شيئاً ما ؟..
,
, التفت نحوه الدكتور عدلي ،وغمغم بقلق :
,
, -وهل لديك فكرة ما ؟
,
, -لا أدري ..ربما علينا أن ننزل هذه الجثث.
,
, تأملوا الجثث المعلقة في الهواء بصورة تجمد الدم في العروق، فهز الدكتور عدلي رأسه رافضاً الفكرة، وقال، وهو يشير لجثة الفتاة :
,
, -أعتقد أن علينا أن نترك كل شيء كما هو ..لا ندري ماذا سيحدث لو تدخلنا ، وقمنا بأي شيء قد يغضبها .. وسرت رعدة في جسد الدكتور منصور ،وهو يتخيل أن يحدث شيء ما من الجثث أثناء إنزالها ،أو أن تنهض جثة الفتاة فجأة لتعاقبهم .. فوجئوا في نفس اللحظة بالجثث ،وهى تهبط ببطء إلى طاولتها لترقد عليها برفق كأنما تعتني بها أيد حانية خفية ،قبل أن يهدأ كل شيء .. حبست الأنفاس، والأصوات ،وكف الدكتور أنيس عن القراءة.. وتسمروا جامدين بصمت وترقب ، قبل أن يقول الدكتور أنيس باضطراب:
,
, -والآن ماذا سنفعل ؟
,
, تطلع إليه الدكتور عدلي في تردد قبل أن يحسم أمره، ويتحرك بخطوات تنقصها الشجاعة نحو جثة الفتاة قائلاً :
,
, -سأفحص جثتها بنفسي.
,
, بدا رده مفاجئاً أذهلهما ..أيرغب في فحص جثة تلك الفتاة بعد كل ماحدث ..لا يتخيلان أبداً أن يقدما على شئ مثل هذا، وخاصة في تلك اللحظة ..هذا شيء يحتاج لشجاعة عظيمة أو حماقة لاحد لها ..وأخذا يتابعان مايفعله بترقب ، وكل منهما يتمنى لو امتلك شجاعة الهرب الآن من هنا .. فتح الدكتور عدلي جفني الفتاة ،وتأمل عينيها البراقتين الجامدتين قبل أن يخرج مصباحاً صغيراً من جيبه، ويوجه شعاعه الرفيع إلى مقلتيها، تأملهما للحظة ثم أغلقهما ..
,
, وقال له الدكتور أنيس مقاطعا بتوتر:
,
, -لقد فحصتها بنفسي يادكتور كما أخبرتك من قبل..إنها بالرغم من كل مايحدث تبدو جثة لا حياة فيها.
,
, صاح فيه الدكتور عدلي بحزم وعصبية ،وهو يغالب توتره :
,
, -اصمت من فضلك.
,
, وصمت الدكتور أنيس على الفور شاعراً بالخجل.. ورأى الدكتور عدلي يخرج محقناً صغيراً من جيبه، وأقحمه في ذراعها ،ثم سحب المحقن ..كانت هناك دماء قانية تملأه ، فاحتقن وجهه بشدة، وهو يقول باضطراب، وهو يقرب المحقن من أعينهم :
,
, -انظروا ..إنها دماء طازجة..هل تتخيلون هذا ؟!
,
, تطلع الاثنان بدهشة للمحقن الممتلئ بالدم، وهتف الدكتور منصور باستنكار، وهو يضع يده خلف رأسه :
,
, -دماء طازجة في عروقها ،هذا ليس حقيقاً بلا شك، هذا مستحيل!.
,
, لم يعقب الدكتور أنيس ،وكذلك الدكتور عدلي الذي إلتفت إلى أحواض الماء الرخاميه الموجودة بحوائط المشرحة ،واتجه إلى إحداها، وفتح الصنبور، ثم ملأ كفه ببضع قطرات من الماء، و اتجة ثانية للجثة، وصب تلك القطرات على كف يديها .. لدهشتهم تصاعد بخار رمادي من الذراع؛ كأنما تتفاعل تلك المياه مع جلدها .. هنا تراجع الدكتور عدلي في فزع ، فغطى الجثة بسرعة، وهو يقول بلهجة خائفة لم يسمعوها منه من قبل :
,
, -إن هذا ماكنت أخشاه.. رحماك يا إلهى!..
,
, قالها، ثم صاح بهما ،وهو يهرول مندفعاً للخارج:
,
, -دعونا نخرج من هذا المكان بسرعة.. هيا تحركوا.
,
, هرول للخارج فأسرعا خلفه يتبعونه بذعر ،وهم لايفهمون مايعنيه ،وهتف الدكتور أنيس به:
,
, -ماذا اكتشفت يادكتور عدلي ؟ ولماذا تهرول هكذا ؟
,
, كانوا قد تجاوزوا باب المشرحة في تلك اللحظة ،دون أن يهتم أحدهم بإغلاقها ،ولاحظوا وجه الدكتور عدلي المحتقن ..وسمعوه يردد بذعر:
,
, -لقد عبثتم بشيء خطير للغاية .. فحتى الشياطين تخشى ما تواجهونه .. يالكم من تعساء ..بل يالنا جميعاً من تعساء.
,
, تصاعد الجزع في أعماقهم ،وزادت كلماته من توترهم، فقال الدكتور منصور ،وهو يلهث كي يلحقه:
,
, -ماذا هناك يادكتور عدلي.. توقف من فضلك لثانية ،وأخبرنا ماهذا الذى تقوله ..لقد أفزعتنا.
,
, كانوا قد ابتعدوا عن المشرحة وتجاوزا مبناها كله وصاروا في فناء الكلية الآن، فتوقف الدكتور عدلي في مكانه، والتفت إليهم قبل أن يقول بصوت غريب، وعيون جاحظة:
,
, -إنها أحد القدماء..أحد الكيانات القديمة تحديداً ..ألم تدركوا هذا؟
,
, إنها شر حقيقي لا قبل لأحد به على الإطلاق.. إن هلاكنا هذه المرة مؤكداً .. هل أدركتم لماذا ذعرت ؟..
,
, كانت كلماته مخيفة صاعقة .. قالها وعاد لخطواته السريعة متجها للخارج .. وأسرعوا خلفه واجمين ..
٤٥
اشتعلت عقولهم بالتفكير ،وشابت نفوسهم الكثير من المشاعر المتشابكة مابين الرهبة والخوف؛ مما قد يحدث لهم من خطر، وما بين الحيرة الممتزجة بالإثارة لما رأوه منذ قليل،وما أخبرهم به الدكتور عدلي، فجلسوا في السيارة واجميين طوال طريق عودتهم مرة أخرى إلى فيلا الدكتور عدلي بالمقطم .. وراح الدكتور أنيس يقودها بشرود، حتى كاد أن يصطدم بها بالرصيف غير مرة.
,
, أخبرهم الدكتور عدلي أنه سيفسر لهم الأمر بالفيلا، إلا أن فضولهم اشتعل وتأجج .. وبالكاد كتموا بداخلهم أسئلتهم.
,
, ماهذه الكيانات القديمة التى قالها لهم؟.. وما ماهيتها؟.. ولماذا يخشاها الدكتور عدلي هكذا ..
,
, إن أحداً منهم لم يسمع عنها شيئاً من قبل..أتكون خلقاً كالشياطين والجان ،أم تكون شيئا آخر لا يتخيلونه.. ودوا لو يحدثهم الدكتور عدلي، ويخبرهم بأمرها الآن، قتلاً لفضولهم ، وتهدئة لأذهانهم المتوقدة .. لكنه استمر في صمته، فتمنوا لو يعلمون مايدور بعقله الآن ، لكن ملامحه الجامدة حجبت عنهم ما يدور بخلده؛ فصمتوا ،ولم يعد أمامهم إلا أن ينتظروا وصولهم لفيلته ؛كي يبوح لهم بما يعرفه كما وعدهم.. ظل الدكتور عدلي صامتاً في وجوم دون رغبة حقيقة في الحديث ..لو يعلم أن هذا ما يواجهه في البداية ما اشترك في الأمر أبداً ..لقد شاهد الكثير ،وتعلم الكثير في حياته..وتعلم درسا مهماً للغاية.. هناك أشياء في هذا العالم إياك أن تعبث معها ،أو تقربها ..فالعبث معها قد يساوي ماهو أكثر من حياتك نفسها .. وهاهو قد تورط في أبشع تلك الأشياء الخطيرة، ولم يعد أمامه إلا أن يدعو امونرع واسرته أن يرحمهم جميعا.
,
, وصلوا الفيلا فدخلوها واجمين ،واتجهوا مباشرة إلى الصالون؛ حيث جلس الدكتور منصور والدكتور أنيس ..أما الدكتور عدلي فقد اتجه إلى المكتبة، قبل أن يعود بمجلد جلدي ضخم قديم ..وضعه أمامهم على طاولة خشبية تتوسطهم ..لاحظوا أنه مكتوب بخط اليد بلغة خمنوا أنها لابد أن تكون اللاتينية .. قرأوا العنوان المدون عليه فلم يفهموا شيئاً ..
,
, Pluralitas ad senem
, Historiasive maledictio
,
, التفت الدكتور أنيس إلى الدكتور عدلي، وأشار للعنوان وقال:
,
, -ما الذي يعنيه هذا ؟!...
,
, نطق الدكتور عدلي الكلمات المكتوبة، ثم ترجمها قائلاً :
,
, -إنها تعنى الكيانات القديمة ..تاريخ لعنتهم ..إن هذا هو العنوان الأصلى لهذا الكتاب..لكنه اشتهر فيما بعد ب«كتاب اللعنات» .
,
, تأمل الدكتور أنيس الكتاب البني المدبوغ البادي الأصالة والقدم بإعجاب ،وقال :
,
, - أعتقد أنه نسخة أصلية ؟.
,
, - هذا صحيح ..إنه نسخة أصلية بالفعل.. بل و لايوجد في العالم أجمع إلا نسخة أخرى غير هذه ..لكن لا أحد يدرى بالتحديد أين تكون النسخه الأخرى تلك.. وصمت للحظة ليتركهم ، وتأملاتهم في الكتاب ،ثم أكمل :
,
, -لقد كلفني هذا الكتاب ثروة حتى استطعت أن أجلبه إلى هنا .. إنه كتاب خطير للغاية ،وهناك من قد يفعل أي شيء للحصول عليه .. قالها، وابتسم ،وهو يلاحظ القطة التى غادرت الغرفة ما إن أخرج الكتاب من مكمنه، وسمع الدكتور منصور يقول له :
,
, - ولماذا تحتفظ به مادام خطيراً ، وما دام هناك من قد يتعقبه.
,
, -لأنني لا أقدر على التخلص منه ..فما به يستحق أن أجازف باقتنائه .. وأيضا لا أستطيع أن أئتمن عليه أحدا ما لأهبه إياه..هذا كتاب لا يستطيع المرء أن يتخلص منه ببساطة.
,
, ثم تراجع على كرسيه، والتقط غليونه من فوق المنضدة المجاورة لمقعده، وقال:
,
, - إنَّ لهذا الكتاب قصة مثيرة ،وكذلك حصلت عليه بقصة مثيرة أخرى.. لقد كان دوماً كتاب اللعنات، والدم بالفعل.
,
, غمغم الدكتور أنيس ،وعيناه تنتقل بين الدكتور عدلي وبين الكتاب:
,
, - وهل هو كتاب للسحر مثلاً ؟..أم أنه يحتوي على قوى خفية ما ؟
,
, - لاهذا ولاذاك على الإطلاق؛ فبالرغم من أنه يحوي الكثير من الطقوس السحرية؛ فإنه لا يختص بالسحر أبداً .. إنه كتاب عنهم.. كتاب عن القدماء!.
,
, شعروا بالدهشة من لهجته الغامضة؛ فنظروا إليه بترقب ،فأكمل بعد أن أشعل غليونه ونفث من فمه بعض دخانه:
,
, -إن عمر هذا الكتاب كبير للغاية ، فقد وضِع في القرن الثامن الميلادي،كتبه راهب روماني يدعى "ارتيماتسوس كالاميتاسيس".. يقولون إن هذا الراهب كان معنياً بكائنات الظلام والشياطين الاسلامية الاخوانوسلفية والعباسية والايوبية والراشدية والكائنات المضادة لها.. ويبدو أنه كان أحد القليلين الذين تعاملوا مع الكيانات القديمة .. قام هذا الراهب بكتابة أربع نسخ من الكتاب بخط يده ،لكنها اختفت جميعاً فور كتابتها.. بل ووجدوا الراهب نفسه بعد أن فرغ من كتابتها مصلوباً محروقاً ومشوهاً فوق أحد أبراج كنيسته التى عاش فيها، الغريب أن الراهب بالرغم من إصاباته المميتة ظل حياً بعدها لأيام يغالب آلاماً لا حد لها، ويعاني عذاباً لا يحتمله أي مخلوق، دون أن يقدر أحد على نجدته، إلى أن مات فالتهمته الجوارح.. يبدو أن موته هكذا كان عقاباً شنيعاً له عن تدوينه لهذا الكتاب.
,
, لم يعلم أحد من فعل هذا به.. وكيف رفعه هكذا فوق البرج العالى في موضع من المستحيل أن يصل إليه أحد.. اختفى الكتاب بعدها تماماً ،ومنع الرهبان محاولة البحث عنه ،أو تداوله لما زعموه عن حياة ذلك الراهب الذي كتبه ،والذي اتهم سرا بممارسة السحر والهرطقة، والاتصال مع الشياطين .. مع الوقت نسى الكثيرون الكتاب ،حتى عّد ه البعض من الأساطير والاختلاقات.. لكن كان هناك دوماً من علم بأمره وحازه طوال الوقت.. إن بعضهم حتى الآن مازال يعلم بأمره ،ولابد أنه يبحث عنه الآن محموماً.
,
, شعر الدكتور أنيس ببعض المبالغة في تلك القصة ؛فقال معترضاً :
,
, - أعتقد أن هناك بعض المبالغات في أهمية هذا الكتاب، أو ظروف نشأته .. بالطبع لا أتهمك يادكتور عدلي باختلاق ماذكرته ..لكنني أعلم أن العصر الذي كتب فيه الكتاب كان مليئاً بالخرافات ،والاتهامات الباطلة ، وكان أشهرها اتهام أي أحد ما مختلفاً أو غريباً بالهرطقة ،وممارسة السحر بل وقتله من أجل هذا.
,
, أجابه الدكتور عدلي بثقة :
,
, -لكن هذا الكتاب مختلف بحق ..لقد قرأته مراراً ، وأجزم أنه بعيد كل البعد عن الاختلاق والتزييف..
,
, - وكيف وصل إليك الكتاب إذا مادام قد إختفى لقرون كما تقول؟.
,
, سأله الدكتور منصور ،فأغمض عينيه كأنما يتذكر، وقال:
,
, -لقد علمت وجوده للمرة الأولى من خلال أحد أستاذة علوم ما وراء الطبيعة الروس ..يبدو أنه قد توصل بوسيلة ما إلى معرفة مكان إحدى نسخه في أحد الأديرة المجهورة «بسيبريا»؛ فاحتال حتى يحصل عليه ، كنت أدرس في ذلك الوقت بموسكو ..وفوجئت به ذات ليلة في مسكني ، ومعه الكتاب .. كان فزعاً مضطرباً ، وأخبرني باقتضاب أن أحتفظ به ،وأن أخفيه تماماً عن الأعين ،وألا أخبر أي مخلوق عنه ..طلب مني كذلك أن أعود به إلى مصر في أقرب وقت ممكن مؤكداً أنه سوف يستعيده مني حينها بوسيلة ما لو لم يصلوا إليه ..قالها وانصرف في عجالة دون أن يفهمني من هم الذين يطاردونه ومما يخاف بالضبط.. بالطبع شعرت أنه مطارد وخشيت أن يكون قد تورط في جريمة ما مع السلطات الروسية ،ولم أكن أرغب بالطبع في التورط أنا الآخر معهم لأي سبب كان ،إن الروس ليسوا لطفاء أبدا مع من يختلف معهم لو عايشتهم .. إلا إنني بالرغم من هذا لم أملك أن أرفض الكتاب..
,
, بعدها بيومين علمت أنهم قبضوا عليه، وأرسلوه إلى "سيبيريا"، كما اعتاد الروس أن يفعلوا مع المعارضين ..شعرت بالخطر حينها وفكرت في التخلص من الكتاب كي لا يعثروا عليه معي لو عملوا منه أنه قد أعطاه لي ؛ لكنني تذكرت تحذيره لي من فقد الكتاب ووصيته بالحفاظ عليه، فقررت حينها العودة إلى مصر، ولا أخفي عليكم كيف استطعت بمعجزة تهريب هذا الكتاب من روسيا عبر الحدود، وكم دفعت من أجله..لكن بعدما قرأت هذا الكتاب وطالعت مابه أستطيع أن أجزم أنه يستحق ما عانيته في جلبه إلى هنا.
,
, تطلعا بدهشة للكتاب بلونه البنى المدبوغ ،وتحسساه بأيديهما؛ فشعرا بغرابة الورق المصنوع منه ،فقال الدكتور أنيس وهو يتحسسه مرة أخرى:
,
, -مما صنع ورق هذا الكتاب ؟ لا أظن أنه البردى، أو جلود الحيوانات.
,
, غمغم الدكتور عدلي بغموض:
,
, -خمنا ؟.
,
, تحسساه بتدقيق ،ولكنهما فشلا في التخمين ..فى النهاية قال الدكتور عدلي بهدوء:
,
, - إنه مصنوع من الجلد البشرى ..جلد الموتى تحديداً ،ظننت هذا واضحاً لكم وأنتم تتعاملون مع الجثث طوال الوقت.. يدهشنى أنكم لم تتعرفوه في البداية.
,
, أبعدا يديهما عنه بتقزز، كالملسوعين على الفور، وقد ارتسمت على وجوهم نظرة استنكار ونفور، وهتف الدكتور منصور بتأفف وهو يتأمل يده التي لامست الكتاب؛ كأنما خشى أن يلتصق شيء ما بها:
,
, -ياللبشاعه.. لا أدري كيف تقبل أن تقتني شيئاً مثل هذا ..هذا شيء مبالغ فيه حقاً !...
,
, أجابه الدكتور عدلي ببساطة:
,
, - ألا تعلم يادكتور أن كل كتب السحر المكتوبة باللاتينية في تلك العصور قد كتبت على ورق من الجلد البشرى ..لقد إعتقدوا دوما أن كتابة السحر على جلد الموتى يكسب الطقوس قوة لا حد لها ..
,
, في الماضي كان كافياً أن تحوز كتاب كهذا ؛لأن تعدم بأبشع وسيلة ممكنة دون محاكمة حقيقة.
,
, -أظن إنني قرأت شيئاً كهذا من قبل ..الأمر يتعلق بمحاكم التفتيش على ما أتذكر.
,
, قالها الدكتور منصور ،وهو ينظر إلى الكتاب المفتوح ،فأومأ الدكتور عدلي موافقاً ، وعقّب قائلاً:
,
, -هذا صحيح ..لقد حاربت الكنيسة في ذلك الوقت كل شيء .. العلم والفنون ،وبالطبع السحر بتهمة الهرطقة ،ومحاربة الكنيسة ،والاتصال بالشياطين ..لقد مات الالاف من أجل هذا بالحق حيناً والباطل أحياناً، إن هذا أحد أسباب تسمية تلك العصور بالعصور المظلمة . وهو نفس ما فعله آل سعود وطالبان وداعش والاخوان والسلفيون والخمينيون والاردوغانيون والخليجيون وبوكوحرام الخ من جماعات الاسلاميين خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين بسوريا وليبيا والصومال وافغانستان وباكستان والسودان والعراق وايران واليمن وممالك الخليج الفارسي
,
, وفتح الكتاب بعدها ،وأخذ يبحث بداخله عن صفحة ما ،وقال :
,
, - دعونا من هذا الآن ...فلقد جلبته ؛لأشرح لكم ما نواجهه.
,
, وقلب صفحات الكتاب ثم استقر على صفحتين من الكتاب .. في الشمال كانت هناك الكتابة اللاتينية ،وفى اليمين كان هناك رسم بخطوط سوداء غير ملونة تمثل رجلاً طويلاً يقف فوق تبة مرتفعة قليلاً ومبتسماً ابتسامة مخيفة ، وفى يده اليسرى امتدت سلاسل معدنية تنتهي بقيود لكائنات مخيفة مربوطة بحلقات معدنية حول أعناقها ،كأطواق الكللابب التي نستعملها الآن.
,
, بدا الفزع على هذه الكائنات المقيدة ،وأبصارها شاخصة بفزع نحو الرجل الذى يقيدها .. كان الكائن الأول يمثل رجلاً منحني الظهر نحيل الجسد ،وكان رأسه رأس جدي ينتهي بلحية طويلة، وعلى جانبي رأسه قرنان غير كاملي الاستدارة، بجواره مباشرة قبع مخلوق آخر بملامح بشرية، لكن وجهه كان كبيراً مقارنة بجسمه بعض الشيء، وكان فمه مفتوح عن آخره، واسعاً مظلماً كالمغارات ،وقد سالت بعض الدماء من جانب فمه.. أما الكائن الثالث، فكان في هيئة امرأة طويلة، بشعر طويل للغاية، ولكن مقلتيها كانتا سوداوين تماماً بلا ألوان أخرى، وفي آخر اللوحة كان هناك رجل ضئيل للغاية منحنٍ حول نفسه في وضع جنيني برعب .
,
, صورة مخيفة للغاية ،ودقيقة جداً، رسمتها أنامل بارعة ،نجحت في أن تنقل إليهم شعوراً مبهماً بالفزع ،وقال الدكتور عدلي ،وهو يشير إليها شارحاً :
,
, -هكذا تخيلوا القدماء أو الكيانات القديمة فيما مضى .. لقد ظنوهم السادة الحقيقيين على هذا الكوكب ..فكما ترون في هذه الصورة المخيفة، فإن ذلك الرجل المنتصب ذو النظرة الظافرة الصارمة هو أحد القدماء ..لم يكن مسخا أو حيواناً أو حتى شيطاناً .. فقط كان شكله بشرياً تماماً ، وقد راح يتحكم في الكائنات الأخرى ،ويذلها.
,
, إن الرجل الذى ترونه برأس التيس هو الشيطان الاسلامي الاكبر الراشدي العباسي كما تخيلوه ، وتلك المرأة هي الجان المنقبة المحجبة أو الساحرات كما إعتقدوا.. وذلك الرجل الضئيل هو الإنسان الحقيقي الضعيف ..وأخيراً فذلك الكائن ذو الرأس الكبيرة يمثل الوحوش ، أو ربما رمزوا به للغيلان مثلاً ..المهم أنهم هنا يريدون أن يخبرونا أن القدماء ذوي قوة مريعة ،وأن الكل يخشاهم ،وأنهم هم السادة الحقيقون على ظهر هذا الكوكب.
,
, إعتدل بعدها على كرسيه ثم التفت إليهما ،وأخذ نفساً عميقا من غليونه قبل أن يكمل، وهو يترك الكتاب على الطاولة أمامه مفتوحا كما هو :
,
, -في الواقع إن القدماء أو الكيانات القديمة ظلوا دوماً مثار اهتمام الكثيرين طوال الوقت ،ربما لغموضهم ،وربما لكثرة الأساطير المنسوجة حولها ..
,
,
أكمل الدكتور عدلي:
,
, -بالطبع كانت الكيانات القديمة ،أو القدماء مثار اهتمام الباحثين في قوى السحر والخوارق دوما على مر العصور ..البعض تحدث عن كتاب فرعوني قديم يتحدث عنها بصورة تفصيلية .. لكن أين هذا الكتاب، ولماذ اختفى وما اسمه ؟ .. لا أحد يملك الحقيقة.. هتف الدكتور أنيس بحذر:
,
, - في القرون الوسطى شاع ذكرهم في بعض كتب السحر اللاتينة، ولكن كالعادة كانت كلها إشارات مقتضبة لا تغني ولا تثمن من جوع .. إلى أن نأتي إلى أكثر من تحدث عنها، وأكثر من كتب عنها .. المفارقة هنا أنه كان عربياً هذه المرة .. كان يدعى عبدالـله الحظرد.. زعموا أنه كان شاعراً يمنياً قد اشتغل قديماً بالسحر وتعلق بالقوى الخفية.. بالمناسبة هل سمعتم عنه من قبل؟..
,
, تطلعا إليه بدهشة، وتبادلا النظرات ..ثم هزا رأسيهما نفياً ..فأكمل :
,
, -المفترض أنه شاعر عربي ولد في صنعاء ...لقبه البعض بالشاعر المجنون لعجب أفعاله وغرابتها..تعلم السحر ،وادعى إنه اتصل بالكائنات القديمة، ليؤلف بعدها كتاباً شنيعاً عن الكيانات القديمة مؤكداً وجودها ، واصفاً بدقة كيفية استحضارها والاتصال بها .. الكتاب اسمه" العزيف"، وحين تمت ترجمته إلى اللاتينية صار اسمه" نيكرونوميكون "..
,
, بالطبع وقبل أن أتحدث عن الكتاب يجب أن تعلموا أنني لم أحصل على أي إفادة عن حقيقة هذا الشاعر العربي حين حاولت أن أتتبع وجوده في كتب التراث العربي ،فلاذكر له على الإطلاق فى كتب التراث العربي ،ولا آثار شعريه باسمه .. إنه في التراث العربي كأنه العدم.. لم يوجد قط .. الغريب أن أول من ذكر هذا الشاعر كان كاتب الرعب الأمريكي "لافكرافت"..حيث ذكر كتابه في الكثير من قصصه.. هل كان هذا الشاعر من بنات خيال ذلك الكاتب الأمريكي الموهوب ..مرة أخرى نحن نلعب في منطقة لا شيء فيها يقينى.. فكل شيء يحتمل طرفي الحقيقة.
,
, وصمت مرة أخرى .. كانت القهوة أمامه، وقد قدمتها إليهم مديرة المنزل، فارتشف رشفة منها ،وأعاد الغليون لفمه، وسحب نفساً طويلاً ثم أطلقه ببطء، وأكمل :
,
, -هذا عن الكاتب فماذا عن الكتاب .. إن اسمه في اللاتينية يعنى أشياء كثيرة ،مثل كتاب الموتى ..كتاب أسماء الموتى ..كتاب تصنيف الموتى .. أسماء مخيفة كما ترون ..يقولون إن الكتاب تبلغ عدد صفحاتة حوالى 900 صفحة في سبعة أجزاء .. طبعاً التسمية العربية الأصلية "العزيف " تعني في العربية الأصوات التي تصدر ليلاً من الحشرات، والتي كان يعتقد العرب المتخلفون الجهلاء أنها أصوات الجن والشياطين. تمت ترجمة الكتاب إلى الإغريقية بواسطة" ثيودور فيلاتاس"، وأخذت اسم" نيكرونوميكون" من وقتها.. تم إحراق هذه النسخه «بعد محاولات من قبل البعض لعمل أشياء مريعة» بواسطة البطريك "مايكل "الأول في عام 1050 م.
,
, ويذكر "لافكرافت "أن النسخة اللاتينية ظهرت مجدداً في القرن الخامس عشر في ألمانيا ،والقرن السابع عشر في إسبانيا ،وظهرت النسخة الإغريقية في القرن السادس عشر في إيطاليا.
,
, ويعتقد أن الساحر "جون دي" قام بترجمة الكتاب إلى الإنكليزية إلا أن "لافكرافت "قال أن الكتاب لم يطبع أبدا . ويزعم البعض أن هناك نسخة وحيدة متبقية في مكتبة الفاتيكان.
,
, أما النسخة العربية فقد اختفت تماما من الوجود في الوقت الذي منعت فيه النسخة الإغريقية من الكتاب.
,
, حيث بحث عنه"إدريس شاه" في جميع المكتبات العربية والهندية، ولم يجد له أثراً.
,
, ويذكر" لافكرافت "أن النسخة العربية من الكتاب ظهرت في القرن العشرين "بسان فرانسيسكو" إلا أنها أ حرقت فيما بعد.
,
, يقال كذلك بأن الكتاب ترجم إلى العبرية على الأرجح في عام 1664 م بواسطة "ناثان غزة" و سمي "بسيفر هاشاري حاداث" أي كتاب بوابات المعرفة.
,
،وبعض الأساطير القديمة ..كلها تتحدث عن الكائنات القديمة التى سكنت الأرض قبل البشر ..وأنها تعيش وراء هذا العالم ..وأنه يمكن الاتصال بها ،
,
, صمت مرة أخرى وابتلع ريقه ، وهو يترقب تأثيره على نفوسهما قبل أن يقول مبتسماً ، وهو يشير إلى الكتاب المفتوح أمامهم :
,
, - بالطبع يتبقى هذا الكتاب الذى يتحدث عنهم بصورة أكثر تفصيلياً ..هيئتهم ..الاتصال بهم ..أعمارهم ..بل وكيفية مواجهتهم ..من الغريب أن شهرته أقل بكثير من عزيف ،بالرغم من الفرق الجلي في الكتابين ..إن عزيف كتاب شهرته أكبر بكثير من قيمته الحقيقية ،وهذا كتاب قيم بحق لكن بلاشهرة..في الواقع إن هذا أمر رائع ،فلايجب أبداً أن يعلم الكثيون أو يتحدثوا عن هذا الكتاب.
,
, كانت أنفاسهم محبوسة من الإثارة ..وهم يستمعون إلى كم المعلومات الذى ينهال على آذانهم .. هناك أشياء أخرى في العالم يجهلونها بشدة.. ربما كان هذا ؛لأنهم لم يتخيلوا وجودها قط .. كيف ومتى عرف هذا الرجل كل هذه المعلومات الغزيرة، ومن أين استقاها؟..
,
, وغمغم الدكتور أنيس بصوت مبحوح من الإثارة :
,
, -لكنك لم تخبرنا كيف عرفت أن هذه الجثة لأحد هذه الكيانات القديمة كما تسميهم ؟.
,
, -هناك أشياء تميزهم .. إن هيئتهم بشرية تماما ..أعمارهم طويلة للغاية حتى إنها تتجاوز آلاف السنين.. ما أمامكم ليست جثة ميتة .. بل إنها أحدهم ،لكنها في سبات عميق.. شيء يشبه البيات الشتوي الذي تمارسه بعض الحيوانات ..لكنه هنا قد يصل لعدة قرون .. لو لاحظتم فالجثة لم تتحلل على الإطلاق ،ولم يظهر عليها أي عامل من عوامل التحلل .. إنها تبدو كفتاة نائمة لا أكثر..ثم إنكم قد حقنتموها بالفورمالين لحفظها ..وكما رأيتم، فإن جسدها قد لفظ هذا الفورماليين من خلال مسامه،حتى أن عروقها مازال بها دماء كما رأيتم حين سحبت بعضه بالمحقن .. هل لاحظ أحدكم الرائحة الزكية المنبعثة منها ..إنها من مميزاتهم ..أنهم في غاية الرقي ،وليسوا متوحشين بدائين كما قد يتوهم البعض.. كما أن أجسادهم في حاله الثبات تطرد المياه عنها ،وتبخره كي يبقى الجلد جافا دائما ..لقد رأيتم كيف تصاعد البخار منها ؛حين وضعت قطرات الماء عليها.
,
, -هل تعني أنها حية، وتدري بما يحدث حولها.
,
, قالها الدكتور أنيس بحيرة ،فأجابه الدكتور عدلي:
,
, -ليس بصورة كاملة.. إنها مازالت في مرحلة السُبات.. شيء كالنوم أو الخدر عندنا مثلاً.
,
, -ولماذا لم تفق بعد، وتعلن عن نفسها إذا.. هل هي بانتظار شئ ما؟.
,
, -إنها مازالت تحت تأثير بياتها الطويل هذا ..إنه ليس نومنا الذي نألفه، والذي يكفي فيه مؤثر ما، لتستيقظ منه .. إنه طقس سحري قوي ، ولابد من طقس مقابل له كي تفيق ..لكنها بالرغم من ذلك ليست معزولة بالكامل عن العالم الذي يحيط بها ..فهي تتأثر بما يحدث حولها بصورة ما .. وحين الخطر هي قادرة على حماية نفسها بصورة تفوق تخيلكم ..إن مايحدث لها الآن يشبه حلم تحلمه، ولكن نظراً لقواها الخارقة ، فالكثير مما تحلم به تحققه في الواقع .. هل قتلت في حلمها تلك الطالبة ..ربما هذا ماحدث ..وهل قتلت الطبيب الشاب كذلك؟.. احتمال مؤكد .. فهو كما ذكرتم كان يهم بتشريح جثتها، وكان عليها حماية نفسها منه ..لماذا تراءت لعمال المشرحة .. ربما تتسلى بارهابهم أو تحذرهم منها .. لاحظوا أن كل هذا الرعب الذي تعيشونه، وهي لم تفق بعد من سباتها هذا؛ فماذا ستفعل بكم لو كانت يقظة واعية ؟.. إنني أترك هذا لخيالكم! .
,
, كان تفسيراً مخيفاً لما يحدث .. وغمغم الدكتور منصور ،وهو يزدرد لعابه بصعوبة :
,
, -هل تعني أن هناك احتمال لأن تفيق من سباتها كما تقول؟
,
, -إنها في سبيلها لهذا بالفعل ..لقد بدأت منذ البداية في ممارسة طقوس العودة ..إن القدماء اقوياء للغاية وليسوا بحاجة لمن يقوم بعملهم بدلاً منهم ..إنها من قامت بطقس البيات الطويل وهي أيضا من تقوم بإعداد العدة لطقس العودة والمزيد من انتقامها من احفاد الاسلاميين الاخوانوسلفيين الازهريين الخمينيين الذين عذبوها وقتلوها وقمعوها ومن قبلهم قوات الراشدين والامويين والعباسيين والعثمانيين.
,
, وشعر الدكتور منصور بجفاف في حلقه، من هول الفكرة المفزعة، فقال وهو يبتلع ريقه بصعوبة :
,
, -ماذا تعني أنها تمارس طقوس العودة؟.. إن كلماتك تثير الفزع حقا في نفسي.
,
, -وهل يمكنني أن ألومك على فزعك؟! .. ذلك الطقس يسير على قدم وساق منذ البداية ..ألم تلحظ حين قمت يادكتور منصور بتشريح جثتي الفتاة والطبيب أنها خالية من الدماء ..إنها بحاجة لدم بشري .. البعض يتحدث على دماء بشرية لثلاثة بالغين، والبعض يتحدث عن أكثر ، لقد ذكر كتاب اللعنات هذا الأمر وفصله كثيراً..
,
, -ولماذا تحتاج إلى كل هذه الدماء؟.. هل تتغذى عليها مثلاً ؟.
,
, سأل الدكتور منصور ،فصمت للحظة ثم أجاب ببطء:
,
, -ربما.. وربما كانت تحتاجها لتجديد دمائها مثلا .. لقد حصلت بالفعل على دماء بشريين ،ولن يكون عسيراً عليها أن تحصل على دماء ثالث أو أكثر ..أيضا هناك الجثث المحلقة حول جسدها..لو لاحظتم كانت الجثث ترسم أضلاعا خفية لمربع ..هنا هى بحاجة إلى جثتين أخريتين ليكونوا ستة .. وما يستحق الرعب من هذا، هو من سوف تختاره، وتقتله لتكمل طقوس عودتها .. إن كل واحد احتك بها ،أو آذى جسدها هو ضحية محتملة لها ..وكلنا كما ترون قد فعل ..ولهذا قد تختار أحدنا ..فلا أحد يعلم مايجول برأسها ، وفيما تفكر.
,
, وقال الدكتور أنيس هذه المرة بصوت مخنوق:
,
, -ولماذا يجب أن تكون الجثث ست ..بل ولماذا تلك الجثث في الأساس .. لا أعتقد أنها ستتغذى عليهم مثلاً.
,
, ضحك الدكتور عدلي ،وأجاب:
,
, -الطقوس تتطلب جثثاً ستة .. كل واحدة منها في رأس من رؤوس نجمة .. نجمة وهلال لو شئتم الدقة ..أعتقد أن النجمة والهلال، ولاأدري في الواقع لماذا النجمة والهلال وليس النجمة الخماسية وحسب التي تملك قوى سحرية ما، والتي يزعم هذا كل من عمل بالسحر والخوارق.. أما لماذا الجثث فـ لأن الطقوس لا يشهدها الأحياء، لابد من ضحايا وقرابين كي تتم الطقوس بصورة سليمة.
,
, وغمرهم الصمت للحظة قبل أن يقول ثانية :
,
, -بقى شيء أخير.. يجب أن تمر عليها دورة قمرية كاملة ؛كي تتم الطقوس، ولو كانت المواعيد التي أخبرتموني بها دقيقة ،فهذا يعنى أن الطقوس ستكتمل بعد غد مساء ..حينها سوف تفيق ولا أريد في الواقع أن أتخيل ماسيحدث بعدها معنا ؟
,
, رمقوه بوجوم ويأس،وهم يتخيلون الفوضى التى سوف تحدث لو استيقظت هذه الفتاة من سباتها ..وقال الدكتور أنيس بصوت مرتجف:
,
, -لكن ألا يمكن إيقاف هذه الطقوس ،أو تعطيلها مثلاً، أو حتى القضاء على الجثة نفسها بوسيلة ما.. يمكننا أن نحرقها مثلا ،أو نذيبها في الحمض.
,
, عدل الدكتور عدلي من وضع غليونه ، وثَبَت نظره على عينيه وأجاب بهدوء:
,
, -يبدو أنك ياسيدي لم تعى ماذكرته عنهم ..إنهم مختلفون تماما عنا ، ولايمكن القضاء على أحدهم بطرقنا المعهودة، نحن كبشر أضعف من أن نقوم بشيء كهذا ..لاحظ أنهم يمتلكون قوى خارقة حتى بالنسبة للشياطين الاخوانوسلفيين الازهريين الخمينيين الاسلاميين، وكائنات الظلام الأخرى ..كما أن قدراتهم هائلة في الحفاظ على أنفسهم من أي سوء. لا تنتظر أن تؤثر النيران أو الحمض على اجسادهم أو حتى أي شيء أرضي آخر.
,
, و ازداد إحباط الدكتور أنيس ،فتمتم بعجز:
,
, -هذا يعني أنه لا أمل إذا ؟
,
, -أنا لم أقل هذا ..إنني أفكر في طقس مضاد قد ذكر بكتاب اللعنات ، قد يعطل طقس العودة هذا .. لكنني لست متيقناً إن كان هذا الطقس حقيقي أم أنه مجرد هراء ..لسوء حظنا أن الكتاب لم يذكر إن كان أحد قد قام من قبل بهذه الطقوس أم لا .. لهذا فليس أمامنا إلا أن نجرب ،ونتحمل النتيجة كاملة ، حينها ربما ننجح ،أو نهلك لو فشلنا.. ثم أغلق الكتاب ،وتنهد قائلاً بصوت غريب مرتفع:
,
, -والقرار لكم الآن ،وقد أخبرتكم ما أعلمه، ومانواجهه ..فماذا أنتم فاعلون؟
,
, امتقعت وجوههما، وتبادلا النظرات الحائرة ،دون إجابة.
٤٦
في نفس الوقت كانت هناك أشياء مثيرة تجري في المقطم كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل ببضع دقائق.
,
, إنه بيت الشيخ عبد الرحيم .. ولم يكن الرجل بمفرده في المنزل .. كان قد أقنع إحدى زبائنه التي جاءته بضع مرات ؛كي يجد لها حل ما لزوجها الذي هجرها وطلقها ..ليتزوج آخرى، أن تقضي ليلتها ببيته معه .. كان الرجل ارهابيا اخوانوسلفيا خمينيا خليجيا قذراً ، لا يتوانى عن فعل أي من الموبقات الاسلامية مادامت سترضيه، وترضي شهواته .. فالرجل قد بدأ حياته قواداً بشارع الهرم ..ليتحول بعد سجنه إلى لص.. ثم أطلق لحيته بعد أن خرج من السجن مرة أخرى وتحول لمهنة أخرى .. صار نصاباً هذه المرة وقد عمل دجالاً.
,
, سكن في مكان جديد مغيراً اسمه إلى الشيخ عبد الرحيم ،مقنعاً الجميع أنه ببركة الأولياء ،صار قادراً على تسخير ملوك الجان ،وأنه قادر بإذن امونرع واسرته على قضاء كافة الحوائج ،وحل كل المصائب.. كان قد تحول بسهولة من قواد إلى لص ،وأخيراً إلى نصاب ودجال ..لكنه ظلّ كما هو، لايتورع عن فعل أي من الموبقات الاسلامية الاخوانوسلفية الخمينية ولايتناهى عنه .. كانت المرأة البيضاء البدينة بانتظاره داخل حجرته وقد تخففت من الكثير مما تلبسه وإرتدت قميص نوم أحمر فاقع لونه.. بينما كان هو بالخارج جالساً على بساط مفروش بالصالة ،وأمامه لوازم طقوسه التي يقوم بها في كل مرة يكون لديه واجب منزلي؛ كما يحب أن يطلق على السيدات اللاتي يعاشرهن.
,
, الطقوس المعتادة كانت قطعة أفيون مرة يضعها تحت لسانه، ويمتصها ببطء لتصفية دماغه ،كيلو من الكباب والكفتة أو دجاجة مشوية كاملة ، لشحن طاقته .. وزجاجة بيرة لتنشيط دورتة الدموية .. وفى النهاية حجر من الشيشة الممزوجة بالحشيش.
,
, كان جالساً يأكل بتأن، وهو يفكر في اللحظات السعيدة القادمة.. ومن الداخل أتاه صوت المرأة رفيعاً رقيعاً ،مائعاً ومنادية بشبق:
,
, -ألن تأت ياشيخ عبد الرحيم ..لقد تأخرت يا رجل!..
,
, أطلق ضحكة خشنة ، وهو يرد:
,
, -اصبري على رزقك يا امرأه ،ولا تتعجلي.. إنها بضع دقائق فقط وسأتيك ؛ لأعلمك أسرار ملوك الجان كلها.
,
, أجابته بضحكة مائعة ؛ فابتسم برضا عن نفسه ..وأخذ يكمل طعامه.
,
, تحركت عيناه نحو آخر الصالة في منزله، فرأها تختفي في الظل ،وجل قلبه للحظة ،وهو يتساءل منْ هذه ، وكيف دخلت منزله ؟..
,
, هل نسى أن يغلق الباب ؟..
,
, بنعومة وتؤدة تقدمت نحوه ،ليكتشف بعد ثوان بعد أن دخل وجهها دائرة الضوء أنه أمام امرأة فاتنة للغاية ..سبقها لأنفه عطر مثير أخآذ تفاعل مع الأفيون الذي امتص بعضه منذ قليل في خلايا دماغه الرمادية، فاحتقن وجهه باهتياج، وابتسم ببلاهة، ولعابه يسيل ملوثاً جانبى فمه من الإثارة .. لم يسأل نفسه بعدها كيف دخلت إليه ومن هي، ولا ما تريده ؟.. إنها فاتنة جذابة ، وفي منزله الآن بعد منتصف الليل..كان هذا يكفيه منها ليفكر في أمور آخرى .. ظلت الابتسامة البلهاء على وجهه ،وظلت الفاتنة تتطلع إليه بابتسامة مثيرة لعوب ،وقد صارت أمامه الآن ..وارتكنت على الحائط بذراعها ، وبدا أنها تتنظره أن يبادرها بالكلام.
,
, طال الصمت، فقطعه قائلاً بصوت مبحوح من الإثارة:
,
, -أنا الشيخ عبد الرحيم، لو كنت جئت من أجله .. كيف يمكننى أن أخدمك ؟.. اطلبي ماشئت فأمرك مجاب .. أجابت بصوت مثير :
,
, -لقد جئت من أجلك أنت ؟
,
, شعر بالدماء الحارة تندفع إلى رأسه بشدة .. وبح صوته بشدة وهو يردد:
,
, -وأنا في الخدمة.. تعالى إليّ.
,
, لم ترد عليه، ولم تجب يده التى امتدت نحوها ،ومن الداخل جاءه صوت المرأة التي بالداخل، متسائلة بقلق وقد وصلت إلي مسامعها حديثه مع الفاتنة الغريبة :
,
, -مع من تتحدث ياشيخ عبد الرحيم ...هل معك أحد بالشقة؟
,
, شعر بالإزعاج ..ليس هذا وقته أبداً .. وقال مرتبكاً ، وهو يتطلع إلى الحسناء التي أمامه؛ خشية أن تتركه؛ لأن هناك أخرى معه :
,
, -إنها إحدى الزبائن ..وسوف أطردها حالاً .. لاتدعي هذا يزعجك أرجوك.
,
, إلا أن الفاتنة قالت له في غموض وإبتسامتها تتسع:
,
, -لا داعي لهذا يا فتاي ،فأنت من ستأتي معي.
,
, ومدت يدها إليه؛ فمد يده بلهفة ؛كي يلامس أناملها..لكنها قبضت فجأة على يديه بقوة فصرخ ألماً وفزعاً .. وأظلمت الدنيا بعدها في عينيه للحظة ،قبل أن يعود الضوء إليها ثانية .. لكن هذه اللحظة بدلّت كل شيء.. لم يعد بداره ..ولم تعد هناك الفتاة ..كان معلقاً من قدميه في الهواء ورأسه لأسفل ..وبالرغم من الظلام إلا أن بعض خيوط ضوء القمر الفضية استطاعت اختراق النوافذ الزجاجية فرأى مذعوراً ما حوله.. كانت هناك أجسام ساكنة معلقة مثله في الهواء .. أغمض عينيه المحتقنة ،وعاد يفتحهما برعب ليرى إن كان يحلم .. لكنه لم يكن يحلم..كان كل شيء حقيقياً تماماً، وأدرك فجأة الأجساد الساكنة المعلقة حوله .. إنها جثث بلاشك .. أخذ يصرخ بفزع ويصيح طلباً للنجدة، حتى أتاه صوتها مخيفاً من أحد الأركان المظلمة قائلة بغضب:
,
, -الآن قد حان وقت الحساب أيها الغبي ..هل تعتقد أنك بحجابك السخيف ،والبول القذر ستتخلص مني ..ما رأيك لو فعلت الأمر نفسه الآن معك..مارأيك لو جربت البول أنت الآخر؟
,
, هنا فوجئ بصراخه يكتم في حلقه..ووجد نفسه مرغماً على فتح فمه باتساعه .. وراح سائل لزج من مكان خفي يندفع إلى فمه مرغما إياه على أن يبتلعه .. وأخذ يبتلعه رغماً عنه شاعراً بطعمه الحامضي، ورائحته الكريهة المثيرة للغثيان ، وحين تعالت الرائحة أدرك أنه يبتلع بولاً بشرياً .. حاول أن يغلق فمه، وأن يمتنع فلم يقدر.
,
, حاول أن يتحرك فلم يتمكن .. ظل يبتلع، ويبتلع المزيد شاعراً بالاختناق،حتى بدأ السائل ينهمر نحو رئتيه، فكان الألم مريعا وقد أزاح البول الهواء من مسكنه الدائم بالشعيبات الهوائية.
,
, ومع آخر دفقة من وعية ،وقبل أن يفقده للأبد، كانت أمامه تبتسم ساخرة قائلة :
,
, -هل أعجبك البول أيها الأحمق؟..
٤٧
في تمام الثالثة فجراً شعرت صفية بصوت ما خارج حجرة نومها فوجلت ، نهضت وهمست في أذن زوجها النائم بجوارها محاولة اختراق الظلام بعينيها وهي تهز جسده برفق..
,
, -استيقظ يا مرزوق ..أشعر أن هناك أحد ما بالخارج.
,
, انتبه على الفور لما تقوله ؛فجلس بجانبها يلهث ،وأخذ يصغي السمع قبل أن يقول بتوتر، وهو يدعك عينيه:
,
, -إنني لاأسمع شيئاً.
,
, -هناك من كان يسير بالخارج ..أنا متأكدة مما أقوله.
,
, -ربما كان أحد الأولاد ..أو ربما يكون جرذاً يعبث في مكان ما.
,
, إلا أنها لم تشعر بالارتياح لتفسيراته ،فعادت تقول بإصرار:
,
, -إنني أعرف خطوات أبنائي ..ليسوا هم من يتحرك بالخارج.. وبرجاء وخوف أكملت:
,
, -اذهب أرجوك لترى من هناك ..ربما كان لصاً وقد يؤذى الأولاد.
,
, شعر بالخوف على أبنائه فنهض ..أمسك بهراوة خشبية يحتفظ بها أسفل الفراش لمثل هذه الظروف ،واندفع سائراً على أطراف أصابعه نحو باب الحجرة ..فتحه ثم خرج بتردد.. كان الصالة غارقة في الظلام ،فتحسس بيده الحائط باحثا عن مفتاح الإضاءة وهو يحاول عبثا اختراق الظلام بعينيه ..لم يعثر عليه في مكانه المعتاد ..فمد يده موسعاً من دائرة بحثه ، محاولاً الوصول إليه ..
,
, -لن تجده !
,
, دوى هذا الصوت العابث في أذنه فجأة، فأفلتت صرخة منه دون وعي.. بعدها حدث كل شيء سريعاً ..أخذت زوجته تصرخ برعب كما لم تصرخ من قبل حين سمعت صرخاته .. في نفس اللحظة امتدت يد باردة لتمسك بمعصمه بإحكام ،وشعر بقوة هائلة تسحبه إلى مكان بعيد .. مكان آخر وعادت الإضاءة للشقة التي مازالت الزوجة تصرخ فيها ،موقظة للمرة الثانية كل الجيران في منتصف الليل.. وظلت تصرخ بشدة، وتولول حين أدركت أن زوجها لم يعد بالشقة .. لقد اختطفته الجنية مرة أخرى ..راحت تطلم خديها،وتصرخ بيأس.. التف الجيران حولها بحيرة حقيقة، وشفقة ..وراحوا يبحثون عنه في كل مكان .
,
, لكنهم لم يعثروا عليه أبداً .. كان في مكان آخر وبعيد ..كان في المشرحة الأن معلقا وسط الجثث .. حيث انتهى أمره الآن للأبد..
٤٨
كان اليوم التالى هو الخميس ..
,
, كان هذا هو يوم الأجازة بالكلية ..لهذا لم يذهب أحد إلى المشرحة، ولم يدرك أحد أن جثتين جديديتين قد أضيفتا إلى الجثث الموجودة هناك بالفعل ..لقد صاروا ست الآن بخلاف جثة شمس الشموس، أو الكيان القديم بمعنى أدق.
,
, فى اليوم السابق طلب الدكتور عدلي راغب من الدكتور أنيس والدكتور منصور أن يقضيا ليلتهما معه بالفيلا .. فقد رأى أن هذا أكثر أماناً لهم جميعا ، ولأسرهم ،وهم حتما لايرغبون في إثارة فزعهم بأي أحداث غامضة ، أو زيارات غير متوقعة من تلك الفتاة .. لقد حدث هذا من قبل مع عمال المشرحة، وكانت زيارة غير محببة على الإطلاق.. كان متأكداً من أن الفتاة قد شعرت بهم .. وربما أدركت أنهم سيحاولون أن يمنعوها من إتمام طقس عودتها.. وكتاب اللعنات اللاتيني القديم الذي كتبه الراهب، يتحدث طويلاً عن المصير المظلم لمن يحاول هذا، لو أدرك أحد من القدماء بهذا.
,
, لذا قرروا أن يقضوا هاتين الليلتين المتبقيتين سوياً.
,
, جلس الدكتور عدلي راغب بحجرة مكتبه على أحد المقاعد الجلدية ،وراح يدخن غليونه ببطء وشرود ،وعقله يسبح في الكثير من الذكريات .. راح يفكر في حياته العجيبة التي واجه وشاهد فيها الكثير ..لقد اعتقد من قبل أنه شاهد كل شيء غريب .. لقد رأى أشباحاً .. واجه جاناً .. اصطدم بكائنات مخيفة ..تعامل مع جماعات غريبة وخطيرة ..لكنه كان ينجو دوماً.
,
, لكن هذه المرة تختلف.. إنه لأول مرة في مواجهة أحد الكيانات القديمة .. لم يبخل الكتاب اللاتيني القديم الذى طالما قرأه من قبل في التحدث عن القدرات اللامحدودة لتلك الكائنات ..كانت أقوى من عاش على الأرض يوماً ،فهي تمتلك قوة السحر والظلام نفسه ..إنها أصل القوة والشرور .. المشكلة الحقيقية أنه لا أحد يزعم أنه يعلم كل شيء عن هذه الكائنات .. وبالرغم من تواجدها بيننا دائما ،لكن أحدا لم يقترب منها إلا وأصابه شرها.. الكتب الجادة التي تناولتها على مر العصور قليلة للغاية، لاتتعدى أصابع اليد الواحدة، ولاتقدم الكثير للباحث الحقيقي .. ومن حسن حظه أنه يمتلك أحد أهم تلك الكتب .. كتاب اللعنات .. ذلك الكتاب الذي ألفه ذلك الراهب الروماني القديم قبل أن يهلك .. لكن ما أدراه أن ما ذُكر في هذا الكتاب من معلومات صحيح .. أليس هناك احتمال ما ،أن ما بالكتاب من معلومات ،وطقوس قد تكون مزيفة لا قيمة لها.. شعر بجفاف في حلقه حين وصل تفكيره لهذه النقطة ..لو كان صحيحاً أن المعلومات التى يحتويها الكتاب عن الكيانات القديمة مغلوطة فهذا يعنى هلاكهم بالتاكيد .. فهذا الكتاب والطقوس التي يتحدث خلالها عن طقوس العودة والطقوس المضادة لها هي كل سلاحه الذي يملكه الآن..شعر بالتشتت، ومرة أخرى تمنى لو لم يشترك في الأمر من البداية ..ولكن وقد دارت العجلة، فليس أمامه إلا الاندفاع معها للنهاية .
,
, لاحت ابتسامة خفيفة على ثغره حين تذكر كيف أنه قد تمنى يوماً حين كان أصغر سناً أن يقابل أحد هذه الكائنات ..بل وراح يبحث عنها حثيثاً مقتفياً العلامات الدالة على وجودها والتي ذكرها الكتاب.. كانت رغبة حمقاء .. تأكد من هذا الآن ..فأمنيته السخيفة على وشك التحقق الآن ،ولكن في صورة مواجهة يدرك أن احتمالات هلاكه فيها عالية للغاية.
,
, لكنه لن يصرح لمرافقيه بمخاوفه، وإن لن يخفي عليهم كل الاحتمالات القائمة .. لايريد أن يخدعهم؛فيدفعهم إلى هلاكهم لو فشلت المواجهة، ولا يريد أيضاً أن يتحمل مسئولية الأمر بمفرده، فهذا أكبر منه.
,
, قضوا ليلتهم حتى الفجر دون نوم ..فلا أحد منهم كان قادراً على النوم الآن. شعروا ببعض الراحة ؛فداعب النعاس أعينهم، وناموا في حجرة واسعة معاً ، فقد اقترح الدكتور عدلي ألا يبيت أحدهم بمفرده.
,
, فى تمام الحادية عشر صباحاً أيقظهم الدكتور عدلي ..تناولوا إفطارهم معاً ، وبعدما انتهوا ذهبوا إلى مكتب الدكتور عدلي؛ لتناول القهوة هناك .. ارتشف الدكتور منصور قهوته وقال:
,
, -والآن ماذا علينا أن نفعل؟..ألن نستعد لتلك المواجهة بشيء ما.
,
, أجابه الدكتور عدلي بهدوء :
,
, - لاحاجة بكم للقيام بأي شيء الأن ..يمكنكم العودة إلى بيوتكم الآن ،كي تطمئنوا زوجاتكم وأبناءكم عليكم، وليكن لقاءنا مساء .. سنبيت معاً مرة أخرى ، فلا زال الخطر قائماً كما تعلمون.
,
, -فكرة صائبة ..لكن ماذا عن الغد ..لم تخبرنا حتى الآن ما الذي سنقوم به؟
,
, قالها الدكتور أنيس ...فأجابه الدكتور عدلي، وهو يزفر سحابة صغيرة من الدخان من جانبي غليونه :
,
, -سنفعل ما اتفقنا عليه ..سوف نذهب إلى المشرحة ؛لنحاول أن نمنع طقس العودة ..مرة أخرى أذكركم أنها قد تكون رحلة بلاعودة ، وربما نفشل ؛ فتكون نهايتنا حينها ،لا أقول هذا لأخيفكم ،ولكن من حقكم التفكير في عواقب مانحن مقدمون عليه الآن ،والقرار مازال بأيديكم .. ففكرا جيداً.
,
, ابتلع الدكتور منصور ريقه بتوتر، وغمغم :
,
, -وماذا لو لم نذهب..أعني ماذا لو تجاهلنا الأمر؟...
,
, - ستتم طقوس العودة، وحينها أؤكد لك أننا سنكون في أول قائمة ضحايا هذا الشيء. إننا نتعامل مع شيء كالنار ،من يلهو بها، حتماً سيحترق بلهيبها.
,
, صمت الجميع بعدها..كان الدكتور عدلي يشعر بالصراع الدائر في صدورهم وعقولهم، لقد واجه نفس إحساسهم هذا من قبل ؛حين كان عليه أن يواجه شراً ما أو لعنة ما ..وكان يعلم أن أفضل شيء هو أن يتركهم ليقرروا مصيرهم بأنفسهم .. فتركهم لحظات أخرى مع أنفسهم، وأكمل هو شرب قهوته ،حتى قال الدكتور أنيس ،وقد حسم أمره :
,
, -أعتقد أنني سآتي معك.. يا رجل ودعنا نمضى في الأمر معاً للنهاية.
,
, كانت نبرته قوية لا تردد فيها ..وكطبيب نفسى أدرك الدكتور عدلي أن مايقوله ليس إحدى محاولات إدعاء البطولة الزائفة .. الرجل بالفعل يؤمن بما يقول.. وسيكون مفيداً له بشدة لو تسلح بمثل هذه الإرادة حتى المواجهة المرتقبة.
,
, فقال له مبتسماً بإعجاب ،ومشجعاً :
,
, - قرار شجاع بحق يستحق التحية ..أنت رجل شجاع بالفعل.
,
, ثم التفت إلى الدكتور منصور مكملاً:
,
, -وماذا عنك يادكتور منصور؟...
,
, ارتسمت ابتسامة متوترة على وجه الأخير ،وأجاب:
,
, -إنني معكم طبعاً ..أنا فقط أتساءل .. هل من شيء ما نفعله استعداداً للغد.
,
, -لاشيء على الإطلاق ..فأنا من سيقوم بإعداد العدة لهذا الطقس السحري ،وأنا من سيقوم بأدائه، وأنتم ستشاركونني فقط في إتمامه .. وحين أنتهى من إعداد المواد التى سنحتاجها سأخبركم بما عليكم أن تفعلوه.
,
, -وهل سنحتاج لمعاونة ما لمساعدتنا ،أعني هل سيكفى ثلاثتنا أم علينا أن نبحث عن متطوعين آخرين؟
,
, سأله الدكتور أنيس ؛فأجاب الدكتور عدلي:
,
, -هذا مؤكد ؛فسنحتاج لتواجد آخرين معنا ..فيجب أن يكون عددنا ست كي نقوم بألامر.
,
, -هل تقترح أحد ما بعينه ،أم أن أى شخص يمكنه أن يشارك؟..
,
, -أى انتحاري أو اسلامي اخوانوسلفي حمساوي خميني داعشي مغفل لايعنيه حياته يصلح لهذا.. هناك عمال المشرحة مثلاً، اختاروا منهم اثنين ممن تثقون فيهم.. ومن الممكن أن يكون الشخص السادس هو الدكتور فهمي لو رغب في التواجد معنا..
,
, -لا أظن أنه سيوافق على المشاركة معنا ..إنه يرفض الاشتراك فى الأمر بأي صورة،لأنه يرفضها تماماً.
,
, قالها الدكتور أنيس ،فقال الدكتور منصور بسرعة :
,
, -لا مشكلة في هذا .. أظن أنني أعرف شخصاً سيرحب بأن يشاركنا الأمر.. إنه الدكتور عادل الطبيب الشرعي بوزارة العدل.
,
, - حسناً ..هذا يعني أننا سنصبح ستة .. إن هذا هو كل شيء .. يمكنكم العودة الآن إلى أسركم ،ولكن أرجو أن تكونوا هنا قبل الثامنة مساء.
,
, انصرفا بعدها ،فاتجه الدكتور عدلي إلى كتابه اللاتيني ،وفتحه مرة أخرى ، وجلب ورقة صغيرة وقلم ؛ليكتب منه المواد المطلوبة لتنفيذ الطقس..
,
, -ست جماجم لأشخاص بالغين ..كان يمتلك أربعة بالفعل ،ومن السهل أن يوفر الدكتور أنيس جمجمتين أخريين.
,
, -دماء بشرية ..لامشكلة في جلبها ..هناك بنك الدم الذى يترأسه أحد الأطباء من أصدقائه.
,
, - قط حالك السواد بلاشعرة بيضاء واحدة .. هذا أيضا يمكن إحضاره من أى من محلات بيع الحيونات الأليفة.. كان هذا هو الجزء السيء في الأمر.. لكنه أهم جزء في الطقس.
,
, -بعض البخور والروائح الزيتية..وكانت متوافرة لديه.
,
, -شمع أسود وأحمر .. يمتلكه بالفعل.
,
, -وبعض الأشياء الأخرى التي لاداعي لذكرها .. لكنها عنده بالفعل ..إذا كان كل شيء متاحاً ..ولم يبق إلا التوفيق ليتم الأمر بخير ..لكنه لم يكن واثقا من هذا.
٤٩
الجمعة... بعد العصر...
,
, فيلا الدكتور عدلي راغب...
,
, كانوا ست بخلاف الدكتور عدلي راغب نفسه...
,
, الدكتور أنيس ..الدكتور منصور.. الدكتور عادل ..وكيل النيابة الشاب ..عم فراج .. وأخيراً عبد الوهاب ...
,
, نجح الدكتور عادل في إقناع وكيل النيابة بضرورة الحضور ..أخبره أن حل جريمتي القتل سيكون متاحاً هذه الليلة .. وبالرغم من عدم قناعة وكيل النيابة بالأمر ،إلا أنه في النهاية حضر .. قدمت الخادمة المتشككة لهم الشاي والقهوة ،وبعض الكيك والحلوى التي أمرها الدكتور عدلي بإعدادها خصيصاً لهم ..وكان الانزعاج بادياً تماماً على وجهها، وهي لا تعلم ماهم مقدمون عليه.
,
, انهمك الجميع في بعض المناقشات الجانبية، وهم يتناولون الكيك والشاي .. ومال الدكتور عادل نحو الدكتور منصور وقال بانفعال:
,
, -حتى هذه اللحظة لا أصدق ما نحن بصدده .. هل تفعل أنت؟.
,
, أجابه الدكتور منصور بابتسامة قلقة :
,
, - أما أنا فقد صرت على استعداد لأن أصدق أي شيء ..أنت لم تكن في المشرحة لترى مارأيت ..إن مشهد الجثث المعلقة في الهواء، لايفارق مخيلتي قط..
,
, - وهل سينتهي الأمر على خير ؟.
,
, -هذا ما أتمناه في كل لحظة ..
,
, أما وكيل النيابة الشاب الذى جلس بجوار الدكتور عدلي راغب ، فقد أخذ يلتهم قطعة الكيك التي أمامه بالشاي باستمتاع ،وهو يقول:
,
, -ألست ترى الأمر غريباً أن أكون في مكان به أطباء ذوي مكانة علمية مرموقة ،ثم أراهم يستعدون لمطاردة أشباح وعفاريت؟.
,
, رد الدكتور عدلي ببساطة كمن اعتاد مثل هذه التعليقات السطحية:
,
, -إننا لن نطارد أشباحاً .. ولو كان الأمر يتعلق بالأشباح لما كانت هناك مشكلة على الإطلاق ولما كنت بحاجة لمساعدة أحد ما ..ما نواجهه اليوم أخطر بكثير ..أشعر أنك لا تدرك ما نحن مقبلون عليه ..
,
, -لنتكلم بصدق ..إنني لا أصدق شيئاً مما أخبرتموني عنه ..ولا أعتقد أن شيئاً ما سيحدث الليلة..لقد أتيت فقط ؛لأن الدكتور عادل ألحّ في هذا ..لكنني أشك أننا سنخرج من ليلتنا هذه بأي شيء سوى تضيع الوقت.
,
, لم يبال الدكتور عدلي بتصديقه من عدمه ،فقال بهدوء:
,
, -أتمنى أن تحافظ على قناعتك هذه في نهاية اليوم..
,
, -هل تعلم يادكتور ..إن هناك أمر آخر يحيرني ..فحتى لو إفترضنا أنني رأيت بعيني أشباح أو عفاريت أو وحوش حتى ،وتيقنت أنها المتسببة في حادثتي القتل بالمشرحة، فلن أستطيع أن أذكر هذا في تحقيق رسمي.
,
, - على الأقل ستعلم الحقيقة حينها، ولن تبحث عن متهم بريء .. أما عم فراج فقد شعر بالكثير من التوتر والقلق منذ فوجئ بالدكتور أنيس يطرق باب بيته ،ويطلب منه أن يأتي معه .. و مَرَّ بالبيت الذي يسكن فيه عبد الوهاب؛ فلحقهما هو الآخر، وفي الطريق شرح لهم بإيجاز ماسيفعلونه .. أخبرهم بطريقة مبسطة أنهم سيواجهون شيئاً خارقاً يشبه في أفعاله أفعال الجان ،وخيّرهم إن كانت لديهم الشجاعة ليشتركوا في هذا الأمر أم ينسحبوا دون تثريب -تَثْرِيبُ الرَّجُلِ: لَوْمُهُ- عليهم ..بالطبع وافقا ،وإن لم يُظْهِرا له كم شعرا بالرهبة والخوف .. تراءت في مخيلة عم فراج أثناء الطريق إلى فيلا الدكتور عدلي عشرات الأحداث منذ بدأ الأمر .. الحكايات التي قصها مرزوق عن صاحبة الجثة، وأفعالها المخيفة .. الطالبة التي وجدوها ميتة بالمشرحة، وكذلك جثة الدكتور كمال .. ماحدث مع مرزوق حين قضيا ليلتهما معاً بالمشرحة، ومارآه عبد الوهاب من الجثث المعلقة ،ومرزوق يطير بينها .. الأمر مخيف ولكنه حياء لم يكن بمقدوره أن يظهر أمام الدكتور أنيس بهيئة الرجل الجبان.. نفس الأمر لم يختلف كثيراً بداخل عبد الوهاب ، كان يشعر بالخوف فعلاً ، وإحساس غامض مقبض بداخله يطالبه بالانسحاب وعدم خوض الأمر معهم، وهمس بقلق لعم فراج كي لا يسمعه أحد:
,
, - هل سيمر الأمر بخير يا عم فراج.. إنني لست مطمئناً لما نحن مقدمون عليه.. إن الهواجس والمخاوف لا تفارق عقلي لحظة.
,
, -وأنا مثلك ياعبد الوهاب ..أنا أيضاً خائف وبشدة ، لكن لا أرى مجالاً للتراجع الآن ..لنتمنى أن يمر الأمر بسلام.
,
, صمتا بعدها ،وسرح كل منهما مرة أخرى في أفكاره، وبعد أن انتهوا من الشاي والقهوة والكيك ،جاءت الخادمة ،ورفعت من أمامهم الأكواب ،والأطباق الفارغه.
,
, وأشعل الدكتور عدلي غليونه ،وقال موجهاً كلامه للجميع بصوت مرتفع :
,
, -مرة أخرى إنني أرحب بالجميع في منزلي ..ولكن دعوني أذ كركم للمرة الأخيرة بما نحن بصدده ..إن علينا أن نوقف أمراً شريراً اخوانوسلفيا اسلاميا ازهريا راشديا عباسيا عثمانيا داعشيا ربيعيا اردوغانيا سعوديا خليجيا للغاية متجسداً في هيئة جثة الفتاة التي بالمشرحة.. والأمر هنا ليس أحد الجان أو حتى الشياطين .. إنه شيء أخطر.. وصمت وعيناه تتنقل بين الوجوه المترقبة ،فأكمل :
,
, إننا سنواجه إحدى الكائنات التى عاشت على الأرض قبلنا منذ آلاف السنين ..كائنات قوية، وعادلة وقاسية في انتقامها من الاسلاميين طوال الفترة من القرن السابع حتى انقراضهم عام 2163، .. يكفي أن أخبركم صادقاً إن مواجهتنا لهذا الشيء قد تحمل هلاكنا .. وأن تعلموا أن احتمالات الفشل فيها أوفر حظاً من فرص النجاح ، و لا داعي لأن أذكركم أن الفشل فيها يساوي هلاكنا جميعاً.
,
, سرت همهمات خافتة بين الجميع وتبادلوا النظرات ،إلا أنه لم يدعهم وهمهماتهم وأكمل قائلاً:
,
, -لا أريد أن يظن أحدكم أنني أبالغ فيما أدعيه أو أننى أرغب في إفزاعكم..إنها الحقيقة أيها السادة ..الحقيقية مجردة كما أعلمها، وإنني أعرضها كاملة عليكم .. والقرار الأن بأيديكم ..من يرغب في الانسحاب فليفعل الآن ،ولن يلومه أحد .فهذه آخر فرصة للانسحاب لمن يرغب.
,
, نهض بعدها من مقعده، واتجه نحو النافذة ،وأولاهم ظهره ، وأخذ ينفث دخان غليونه بهدوء في انتظار قرارهم الأخير.. بينما تبادل الجميع النظرات الحيرى المضطربة دون أن يتكلم أحد منهم .. بعد هنيهة قال الدكتور أنيس محاولاً السيطرة على مشاعره:
,
, -سيمضي كل شيء بخير يادكتور عدلي ..أفعل ماتراه صواباً ، وكلنا معك في محاولتك هذه.
,
, هنا إلتفت نحوهم الدكتور عدلي، وقال بحسم :
,
, -سأعتبر صمتكم جميعاً ترحيباً بالاستمرار في الأمر ..دعوني أحييكم لشجاعتكم أولاً ،ودعوني الآن أشرح لكم ماعلينا أن نقوم به الليلة..فأعيروني آذانكم ،وأذهانكم من فضلكم. وشرح لهم بعدها كل شيء بالتفصيل..
٥٠
فى العاشرة مساء كانوا أمام باب الكلية ..
,
, وفوجئوا هناك بالرائد علاء رشدان في انتظارهم ..كان وكيل النيابة قد أخبره قبلها بما سيفعلونه ، فقرر ألا يفوِّت الفرصة عسى أن يصل للحقيقة ..إنها قضيته في النهاية ،ومازال هناك قتيلان لم يقدم قاتليهما بعد .. اتجهوا الى المشرحة بخطوات هادئة ،وتعاون عم فراج وعبد الوهاب في حمل الأغراض التي اصطحوبها معهم، بينما اكتفى الدكتور عدلي بحمل حقيبة صغيرة بيده .. أمام باب المشرحة تقدم الدكتور أنيس ،وأخرج من جيبه مفتاحاً صغيراً فتح به الباب فدلفوا واجمين.. وصلوا إلى قاعة التشريح، فأضاءوا النور ليشاهدوا أسوأ كوابيسهم هذه المرة ..
,
, ارتفعت جثة الفتاة عن الأرض ، و قد أسدلت عليها عباءة سوداء فضفاضة غطت جسدها كاملاً ، وفردت ذراعيها على اتساعهما ؛فبدا مع أكمام العباءة الواسعة كجناجين هائلين..وفى أركان ستة من فراغ الحجرة ،سبحت الجثث الستة في الهواء في وضع مقلوب، أرجلها لأعلى ورأسها لأسفل ، وقد عقدت كل جثة ذراعيها أمام صدرها ..
,
, كانت هناك جثتان قد أضيفتا إلى الجثث دون أن يعلم أحد منهم..جثة مرزوق ،وجثة عبد الرحيم .. تدلى فك مفتش المباحث في بلاهة ،وشعر بذعر لاحدود له حتى أنه كاد أن يثب للخارج هارباً من المكان .. وشعر وكيل النيابة بنفس مشاعره ، وصاح وهو يمسك بكلتا يديه في ذراع الدكتور عادل شاعراً بأنفاسه تضيق في صدره :
,
, -انظروا للجثث إنها تطير بالفعل ..إي هراء هذا؟ .. أما الدكتور عادل ،فشعر بجفاف شديد في حلقه، وبغيبوبة تجتاح عقله فراح يلتقط أنفاساً سريعة كي يمنعها.
,
, أخذ عم فراج حاول طمأنة نفسه وتهدئتها ..ولاحظ عبد الوهاب جثة مرزوق بين الجثث فتقلصت أحشائه جزعاً ، وصاح بصوت باكٍ:
,
, -يا إلهي .. إنه مرزوق..لقد قتلته الفتاة..إنه بين الجثث.
,
, تطلعوا حيث أشار بقلق ...فهتف عم فراج بألم ،وهو يغالب دموعه :
,
, -إنه مرزوق بالفعل ..إنه مرزوق .
,
, صاح فيهم الدكتور أنيس ،وقد تعرفه هو الآخر ،وهو يتجه نحو جثته المعلقة:
,
, -ليساعدني أحدكم في إنزاله ، فربما مازال على قيد الحياة.
,
, لكن الدكتور عدلي صاح فيهم بحزم وصرامة ، وهو يجذبه من ذراعه مانعاً إياه من الاندفاع :
,
, -إياكم أن تفعلوها .. لقد مات بالفعل.. لا أحياء في مثل هذه الطقوس، دعوه مكانه، ولاتستفزوها بفعل كهذا، فهي لن تسمح لكم بإفشال طقس العودة.
,
, تجمدوا في أماكنهم بفزع وترقب، وهم يتطلعون إلي الجثث المعلقة .. كان شيئاً مريعاً ،ولم يكن أحد منهم أن يتخيل بشاعته .. هنا كان مفتش المباحث قد فقد كل ذرة من شجاعة باقية في نفسه ؛فاندفع نحو الخارج ،وهو يصيح:
,
, -لن أمكث في هذا المكان لحظة واحدة ،وليذهب كل شيء الى الجحيم.. وقطع جملته حين اكتشف أن مكان باب المشرحة الخارجي لم يعد هناك، لقد صار حائطاً كباقي حوائط المشرحة.. هنا شعر بذعر لا حدود له، فأخذ يصرخ وهو يضرب بكلتا يديه الجدار الذي حل مكان الباب :
,
, -أخرجوني من هنا ..لا أريد أن أموت..أخرجوني عليكم اللعنة .
,
, اندفع الجميع نحوه، ثم توقفوا أمام الحائط الذي حل محل الباب بذهول ،وغمغم الدكتور عادل، وعيناه تتفحصان الجدار الذي جاء من العدم:
,
, -ماهذا العبث الشيطاني الاخوانوسلفي الراشدي العباسي العثماني السعودي الخليجي الافغاني الاردوغاني الصومالي السوداني..أين ذهب الباب؟..
,
, غمغم الدكتور منصور ،وقد أدرك أنه لا تراجع الآن :
,
, -يبدو أننا صرنا محبوسين هنا.
,
, هنا هتف فيهم الدكتور عدلي راغب بصرامة، وقد شعر أن الأمر بدأ يخرج من يديه نحو الفوضى:
,
, -ماذا دهاكم أيها الجبناء..لقد أخبرتكم أنه بمجرد أن ندخل المشرحة فلا مجال للتراجع بعدها ..إنها لن تسمح لكم بهذا .. فلماذا هذا الذعر الصبياني إذا ؟.. كونوا رجالاً ، وعودا لصوابكم، ودعونا نفعل ما أتينا من أجله أو استمروا في الولوله هكذا كالأرامل حتى تقضي علينا جميعاً بعد قليل.
,
, أطرق الجميع رؤوسهم لأسفل في خجل، وتوتر قال عم فراج :
,
, -نحن طوع أمرك يادكتور.. ماذا تريدنا أن نفعل ؟
,
, زفر من فمه نفس طويل، وقال وهو يعود لقاعة التشريح:
,
, -هيا بنا جميعاً إلى القاعة لنبدأ عملنا.
,
, انتقل إليهم الحماس للحظة، ولكن قبل أن يتحرك الجميع انطلقت من المشرحة ضحكة أنثوية ساخرة ،وعالية فارتجفوا ،وغمغم وكيل النيابة ، وهو يتلفت حوله برعب:
,
, -هل استيقظت ؟.
,
, إلاّ أن الدكتور عدلي قال بسرعة كيلا يطول ذعرهم:
,
, -تجاهلوا أي شيء.. أمامها أكثر من الساعة كي تتم طقوسها ..الطقوس تنتهي في منتصف الليل تماماً ، فدعونا نسرع ولاتلتفتوا لما تفعله..إنها ترغب في إفزاعكم.
,
, أخذوا يراقبون الجثث المعلقة برعب وحذر، وبخاصة جثة الفتاة التي أخذت تدور حول نفسها في الفراغ ببطء .. وتجاهل الدكتور عدلي راغب كل هذا ،وبدأ في إعداد المكان بمساعدة عم فراج وعبد الوهاب.
,
, فى البداية أخرج دلواً يحتوى على الدماء التى جلبها من أحد بنوك الدم .. وأخرج فرشاة كبيرة، وعلى مساحة واسعة وفارغة من أرض المشرحة أخذ يرسم بالدم نجمة سداسية كبيرة حتى أنها كانت لتسعهم جميعا .. انتهى منها ثم رسم حولها دائرة لامست حواف النجمة الستة.. راقبه الجميع أثناء ذلك، وقال وكيل النيابة للدكتور عادل بجزع:
,
, -أهذه دماء حقيقه ؟..
,
, -أعتقد ذلك ..لابد أنها لازمة لإتمام الطقوس!.
,
, تصاعد الغثيان في جوف وكيل النيابة ،وشعر بالرغبة في القيء ، فحاول كتم إحساسه هذا مكتفياً بالصمت ومراقبة مايدور حوله ،وعقله لايصدق أن هذا يحدث أمام بصره .. أتم الدكتور عدلي رسم النجمة الخماسية والهلال والدائرة، ثم أخرج فرشاة أصغر وغمسها في إناء الدم وبدأ في رسم بعض النجوم الخماسية الاسلامية والأهلة والخطوط المتقاطعة الصغيرة في كل ركن من أركان النجمة ..كان يرسم الكثير من الخطوط الصغيرة العجيبة والطلاسم الغامضة.. هنا توقفت جثة الفتاة عن الحركة ..لاحظها أولاً الرائد علاء الذي لم يرفع عينه عنها قط ، فأشار إليها برعب وصاح :
,
, -لقد كفت عن الدوران .. ماذا يعني هذا؟!.. اتجهت عيونهم إليها برعب وتوجس .. وارتفع صوت الدكتور عدلي بينهم دون أن يلتفت إليهم، أو يكف عن رسم الدوائر والخطوط المتشابكة:
,
, -لاتلتفتوا إليها وتجاهلوا وجودها تماماً .. إنها لن تؤذيكم الآن.
,
, إلا أن الفزع في أعماقهم كان هادراً كاسحاً كإعصار ؛فلم يلتفتوا إلى كلماته ، واستمروا في مراقبتها .. وفجأة سقطت الجثث المعلقة إلى الأرض بعنف فأحدثت دوياً مفزعاً ، وشعروا جميعا بالرعب وقد التصقوا ببعضهم في فزع، وصرخ الدكتور عادل :
,
, -أخبرنا يادكتور عدلي ارجوك.. ماذا يحدث هاهنا ؟
,
, إلا أنه لم يعيرهم انتباها، وهو يسرع في عمل الخطوط، والعزائم، والطلاسم التي يرسمها .. كان يرسم تلك الرموز والطلاسم السحرية التي رآها في الكتاب، والتي يزعم الكتاب أنها قادرة على الحماية من شر هذه الكائنات القديمة وسحرها. كان الوقت يمضي بسرعة مخيفة، ومنتصف الليل يقترب مهرولاً ،وعليه قبلها أن يبدأ الطقس ،ويردد التعاويذ ..فلو انتصف الليل قبل أن يتم عمله ،فستفيق ..وحينها لن يكون لما يفعله أي جدوى.
,
, فصرخ فيهم محذراً ، ويده تسارع الزمن ؛كي تنتهي من رسم الرموز ،والطلاسم التي سوف تحميهم:
,
, -قلت لكم تجاهلوا أي شيء ..لا تلتفتوا إليها مهما حدث.
,
, -وماذا عنهم؟.. هل تضمن أن يتجاهلونا ؟!..
,
, قالها الدكتور أنيس برعب حين لاحظ أن حركة ما دبت بالجثث الملقاة على الأرض ..كانت تحاول أن تنهض من سقطتها ببطء ،فصاح الرائد علاء بفزع:
,
, -إنها تعود إلى الحياة ،انظروا إلى الجثث ..إنها تتحرك ؟!
,
, إلا أن الدكتور منصور صاح باستنكار محاولاً أن يجعل صوته متماسكاً:
,
, -الجثث لاتعود إلى الحياة أبداً ،هذا شيء لايقدر عليه الا الخالق.. وهتف الدكتور عادل بصوت مخنوق ،وهو يشير للجثث التي كانت على وشك الانتصاب واقفة :
,
, -وماذا تسمى هذا إذا؟!.
,
, -ربما تحركهم بحيلة ما ..إنها مجرد حركة ميكانيكية لا أكثر.. لا تدعوا الخوف يزلزلكم .. إنهم موتى .. موتى لن يعودوا للحياة أبداً.
,
بينما أكملت الجثث نهضتها، وانتصبت في صف واحد كجنود في انتظار معركة حاسمة.
,
, التفتت الجثث إليهم بعيون مغلقة ..و فتحت فمها، وأصدرت أصواتا مخيفة متحشرجة ، قبل أن تبدأ التحرك نحوهم ببطء مفزع .. تراجعوا بفزع تاركين الدكتور عدلي بمفرده .. ولاحظ الدكتور عدلي مايحدث؛ فشعر بالقلق ..يبدو أن تلك الشيطانة قد شعرت بما ينوون أن يفعلوه، فرغبت في بث الفزع بينهم كي تمنعهم .. رأى الجثث المتحركة نحوهم، فألقى بنفسه وسط النجمة الكبيرة التي رسمها محتمياً بها .. فطلاسمها سوف تحميه من سحرها ..وما إن دخلها بجسده حتى مد ذراعه خارجها مكملاً بسرعة رسم الطلاسم الباقية.
,
, بالفعل تجاهلته الجثث ،واستمرت في اندفاعها نحو الباقيين، الذين تراجعوا في فزع ،وتعالت صيحاتهم، وبخاصة مفتش المباحث الذي أخذ يصرخ فيها :
,
, -ابتعدوا عني .. لا تلمسوني أيها الشياطين الاخوانوسلفية الخمينية.. ابتعدوا عليكم اللعنة.. قالها وأخرج مسدسه من حزامه، وراح يطلق على الجثث طلقات مدوية راحت تغوص في أجساد الجثث دون أن تعيق تقدمها ..ظل يطلق نيرانه حتى فرغت خزينة مسدسه فألقاه بيأس ،وعاد ليعدو مع زملائه.
,
, في النهايه اصطدموا بالحائط ،ولم يعد هناك من مهرب.. أخذوا يلتصقون ببعضهم في رعب ،وأجسادهم ترتعش ،وتنتفض، وهم يرقبون الجثث التى تقترب منهم بحركة بطيئة رتيبة ومخيفة،وحين بلغتهم امتدت أيديها نحوهم كأنما تبغى القبض عليهم، فأخذوا يحاولون بجنون تحاشى الأيدى الممتدة نحوهم .
,
, كانت جثة مرزوق في المقدمة ،واتجهت مباشرة الى عم فراج كي تمسكه.. لم يكن هناك مكان ما يهرب إليه ،فأخذ يدفع الباقين الملتصقين بالحائط وهو يصرخ بهلع، بيأس حتى أمسكت به الجثة، فصاح فيها بفزع ، وهو يدفعها بيده بكل قوته:
,
, -لا تؤذنى يامرزوق .. أفق يارجل.. إنني فراج ..اتركني ارجوك..ابتعد عني ولا تلمسني.. لكن يدي الجثة لم تتركه بل ارتفعت نحو رقبته كي تخنقه، فدفعها بقوة ليبعدها عنه.. ترنحت الجثة للحظة، وكادت أن تسقط قبل أن تستعيد توازنها وتعود إليه مرة أخرى بآلية لتكمل ما بدأته.
,
, اندفعت باقي الجثث نحو الباقين، وانقضت عليهم.. أخذ الجميع في ضربها ،وإبعادها بأيديهم عنهم برعب هائل .. وفقد رئيس المباحث ، والدكتور أنيس وعيهما رعباً ؛فسقط جسديهما على الأرض ، فانحنت جثتان نحوهما وأحاطت بيديهما عنقهما لتخنقهما .. تعالت الصرخات أكثر ،واستمرت الاستغاثات اليائسة دون جدوى، وشعر الجميع أنها النهاية .. وقد يئسوا من قدرتهم على التصدي للجثث إلا أنهم فوجئوا بالدكتور عدلي يندفع نحوهم لاهثاً ، وبيده الفرشاة الصغيرة الملوثة بالدماء ،ثم اتجه إلى أقرب جثة، ورسم مثلثا بداخل دائرة ،وحرف عجيب على ظهرها ؛فتجمدت الجثة بمكانها على الفور.. واندفع بسرعة إلى غيرها، وفعل نفس الشيء؛ فتجمدت هي الأخرى.. وشعروا بالأمل، وصاح الدكتور منصور، وهو يدفع بكل قوة الجثة التي تحاول الوصول إليه بإصرار:
,
, -أسرع يا رجل ..أوقف هؤلاء الملاعين أرجوك.
,
, أسرع الدكتور عدلي بالفعل ،وبعد دقيقتين كانت الجثث جميعاً واقفة متجمدة في مكانها بثبات غريب.. كان مشهداً مفزعاً تهتز له القلوب ولا تتخيله العقول مهما أوتيت من خيال.. وتطلعوا إليها بفزع وترقب.. وقال الدكتور عادل بدهشة:
,
, -ماذا فعلت بهم يادكتور عدلي؟.. هل انتهى خطرهم؟.
,
, - ليس لفترة طويلة ..إنها مجرد تعويذة لتجميدهم، وإيقاف السحر الخاضعين له مؤقتاً.
,
, ثم أشار إلى جسدي الدكتور أنيس ،ومفتش الشرطة ،وأكمل بتوتر:
,
, -احملوهما ،وتعالوا بسرعة إلى الداخل ؛لتحتموا بالدائرة التي رستمها.. إن تأثير التعويذة التي أوقفتهم قصير المفعول ،وربما يفيقون منها في أي وقت.
,
, تعاون الجميع في حملهما في رعب ،واندفعوا إلى الدائرة المرسومة بالدم على أرض المشرحة، والتى اتسعت لهم جميعاً ، فشعروا ببعض الطمأنينة، بينما أكمل الدكتور عدلي عمله بخارج الدائرة بعدما رسم على ذراعه الأيسر بعض الخطوط المتشابكة بالدم.
,
, أفاق الدكتور أنيس ومفتش المباحث الذي هتف ما أن أفاق ،وهو يتلفت حوله بهلع :
,
, -هل متنا ؟.. إبتسم الجميع ،وأجابه وكيل النيابة:
,
, -لقد أنقذنا الدكتور عدلي في اللحظة الآخيرة..
,
, وفجأة انطلقت من فم جثة الفتاة ضحكة عالية وساخرة كعادتها .. وبصوت مخيف قالت:
,
, - لن ينفع هذا ..ستفشلون وستدفعون جميعاً الثمن.. فلا شيء يوقفني.. لاشيء بقادر على فعل هذا!.
,
, دارت رؤوسهم نحوها بفزع .. وصرخ فيهم الدكتور عدلي دون أن يتوقف:
,
, -إياكم أن تستمعوا لها ..سدوا آذانكم بأيديكم ؛ كي لاتسمعوا أي شيء.
,
, إلا أنها استمرت في التحدث مثيرة الفزع في إعماقهم:
,
, -هل تعلمون مصيركم الذي ستنالوه بعد قليل..دعوا عقولكم المرتجفة تخمن هذا، وأعدكم أن أفعل بكل واحد منكم أبشع شيء تخيله .. اقشعرت أبدانهم، وا حتبست أنفاسهم ،وتوتروا أكثر، وكل منهم يفكر في أبشع مخاوفه .. بعضهم كانت مخاوفه سيئة بحق ،فأكملت بجزل:
,
, -أنا جائعة للغاية .. أنتم لاتتخيلون كم اشتقت لتذوق الطعام مرة أخرى .. لكن هل تعلمون ماهو طعامي المفضل؟.. لن اخبركم يا صغاري احفاد الاسلاميين اخوانا وسلفيين وخمينيين..سأترك هذا لتخمينكم انه الانتقام العادل منذ ظهرتم كراشديين وعباسيين وعثمانيين.
,
, وتعالت ضحكاتها المخيفة مثيرة مزيداً من الفزع إلى قلوبهم، ومرة أخرى صرخ فيهم الدكتور عدلي، وهو ينتقل إلى بقعة جديدة، مواصلاً رسم المزيد من الدوائر ،والخطوط بالدماء:
,
, -لاتستمعوا إليها ..إنها تبغي تشتيت انتباهكم..أديروها ظهروكم ولا تلتفوا إليها ..لقد أوشكنا على البدء.
,
, وقالت ،وهي تطلق ضحكة ساخرة :
,
, -إفزاعهم فقط؟.. يبدو أنك لاتراهم.. إنهم يرتجفون من الرعب كفرخ مبلول في ليل شتاء ..إنهم ليسوا بحاجة لما أقوله لكي يفزعوا.. إن قلوبهم لتوشك أن تغادر أماكنها هلعاً .. ياللمساكين الصغار !.
,
, لن يطول عذابكم طويلا، فسوف آتيكم بعد قليل.
,
, لم يجيبها ،واستمر بإصرار في اتمام عمله.. فوجهت كلامها هذه المرة له قائلة بلهجة مخيفة:
,
, -هل تظن أن هذه الخطوط التافهة التى ترسمها ستحميكم مني .. أنت واهم أحمق.. إنها لاقيمة لها أيها المغفل.
,
, ومرة أخرى تجاهلها.. كان في عجلة من أمره.. الوقت يمضي بلاتوقف، ولابد أنها تحاول إعاقته بشغله وإثارة توتره ..فتجاهلها، وهي تقول:
,
, -أعلم أنك تمتلك ذلك الكتاب الذي كتبه ذلك الراهب المأفون .. إنه لايساوي ثمن الحبر الذي كتب به..إنه تافه مليء بالأكاذيب المسلية .. سوف أثبت لك هذا بعد قليل حين ترى بعينك أن تعويذاتك هراء .
,
, شعر بالبلبة والرهبة ..بداخله كان يعلم أنها ربما كانت محقة..فلا أحد جرب هذه الطقوس والتعويذات التي بالكتاب من قبل .. إلا أنه لم يكن يملك غيرها، فلم يكن أمامه إلا أن يستمر ،ويمضي في عمله للنهاية.. فجأة تعالت همهمات قوية من الخارج ،وخطوات أقدام تتردد في المكان.. لقد أفاقت الجثث من جمودها ..هنا صاحت بصوت مخيف تردد في جنبات المكان ؛فارتجت له جدران المشرحة:
,
, -تعالوا إليّ يا عبيدى ..إنه وقت العودة .. دلفت الجثث القاعة بخطواتها الآلية ،وتجاهلت الجميع هذه المرة.. ثم ارتفعت أجسادها في الفضاء مرة أخرى متخذة وضعها السابق الذي رأوه من قبل.. صمتت الفتاة تماماً ، وإتخذت هي الاخرى وضعها السابق ،وأخذ جسدها في الدوران في الفراغ حول نفسه، وذراعاها مفرودان تماماً .. وأظلم المكان بغتة في تلك اللحظة، وتعالت أصوات مبهمة، وحشرجات غريبة بدت وكأنها تأتي من كل مكان حولهم، وتدريجياً راحت حدتها في التصاعد ..كانت أصواتاً مخيفة ومرعبة ..وفي أركان الغرفة كلها بدأت دوامات هوائية صغيرة في التكون .. بلغت القلوب الحناجر هلعاً ، وارتجفت الأبدان ،وتقلصت الأحشاء ، وقد أدرك الجميع أن طقس العودة يقترب من الاكتمال .. ولم يتمالك الدكتور أنيس نفسه فسقط فاقداً الوعي مرة أخرى بداخل الدائرة.
,
, كان الدكتور عدلي قد انتهى هو الآخر من رسم الخطوط والطلاسم ، فانتقل بسرعة إلى وسط النجمة السداسية الكبرى وصاح فيهم:
,
, -هيا بنا نبدأ ...فالوقت يكاد أن ينفذ.
,
, وكما أخبرهم اتخذ كل منهم قمة رأس من رؤوس النجمة السداسية، وجلس في منتصفها، ثم التقط كل منهم جمجمة وضعها بين قدميه .. قاموا بعدها بإشعال شمعة سوداء ،وثبتوها على الأرض ،ثم وضع كل واحد منهم الجمجمة التي يمسكها فوقها فتوهجت فجوات عيون الجماجم بضوء لهبي مخيف كأنه منبعث من الجحيم .. أما الدكتور عدلي فقد أشعل شمعة أخرى في منتصف الدائرة حيث جلس ، وألقى عليها بعض البخور والمواد الغريبة؛ فتعالى دخان كثيف في المكان، وصاح فيهم الدكتور عدلي بصوت عال صار م:
,
, -ليمكث كل واحد منكم في مكانه.. إياكم أن تتحركوا أو تغادروا أماكنكم مهما حدث ..امسكوا أيدي بعضكم البعض بقوة ..ولاتتركوها أبدا .
,
, أسرع الجميع بتنفيذ الأمر ،وقلوبهم تتواثب في فزع ..وتعالت أصوات مخيفة في المكان راحت ترددها الجدران ؛كأنما حضرت شياطين الجحيم لتشهد الحدث .. تعالى صوت الدكتور عدلي في المنتصف، وهو يردد باللاتينية التعويذة التي حفظها عن ظهر قلب ..
,
, Spiritus est munus satiatur Tkhmdy tenebris، et vado ad Spatk.. Anima eius in sempiternum، et tenebras lucem Tnami Talny.. Avis et re-dir-e ad mandatum Spiritus Thmdy Spiritus munus satiatur tenebris .. Ahpty Amkty et Inferno
,
, لم يفهم أحد ما يردده ، إلا أنه ظل يردد بقوة وحماس ..تحول حينها إلى شخص آخر بدا لهم أكثر قوة وسيطرة.. بدا وكأنه ينتمي للجحيم الذي يعيشون فيه الآن في الوقت نفسه ازدادت سرعة الدوامات في جوانب الحجرة ؛حتى صنعت عواصف صغيرة .. وكلما ارتفع صوت الدكتور عدلي مردداً التعويذة، تعالت في فراغ الحجرة أصوات غاضبة تطلق صرخات مريعة ارتجفت لها الجدران.. وبغتة وفوق رأس الفتاة التي تسبح في الفراغ نشأت صواعق صغيرة من العدم..وراحت الصواعق في التواثب بين الجثث التي بسطت أذرعها الآن ..تعالت الزمجرات والأصوات المخيفة، حتى شعر الجميع أن ارواح موتى اخوانوسلفيي وخميني وراشديي وعباسيي وعثمانيي الكون تشاركهم المكان الآن، وإنها اللحظات الأخيرة في حياتهم.. وصرخ الدكتور عدلي بأقصى قوة محاولاً جذب انتباهم وتحفيزهم:
,
, - أغمضوا أعينكم وتجاهلوا ماحولكم ..إننا سننجح ..إننا سوف ننجح بالتاكيد... أغمضوا عيونهم بقوة ..فلم يكن هناك من يرغب في أن يرى أي شيء مما يدور حولهم ..فقط تمنوا جميعهم أن ينتهي كل شيء بسرعة..مهما كانت النهاية... تعالت الصرخات في المكان .. صرخات شياطين غاضبة تخلع الأفئدة .. ومعها تواثبت القلوب في الصدور كأقصى مايكون.. تعالى زئير قوي في المكان ،وأعقبه آخر ثم آخر ..كأنما كان هناك أسود تتصارع في المكان ،إلا أن أحداً لم يفتح عينيه .. شعروا بالهواء العاصف يكاد أن يقتلعهم من أماكنهم..فقبضوا على أيديهم بقوة محاوليين الصمود.
,
, الوحيد الذى ظل يتابع بعينيه كل شيءكان الدكتور عدلي ..كان يتابع الأمر برعب حقيقي .. سمع الصرخات والهمهمات والزئير، فتلفت حوله بقلق ، وهو لا يرى أي شيء، فاستمر في ترديد التعاويذ اللاتينية بوتيرة أسرع، محاولا التغلب على فزعه... فجأة انفتحت أبواب الجحيم أمامه فانخلع قلبه في رعب .. فعشرات العيون الحمراء كانت هناك في الفراغ ترمقه بغضب ..كانت مجرد عيون في الظلام بلا رؤوس أو أجساد ..هل يكونون شياطين الجحيم ، وقد حضروا ؛ لكي يشهدوا الحدث .. أغمض عينيه وفتحها... لكن العيون لم تختف .. كانت هناك رياح قوية تحاول اقتلاعه من مكانه؛ لكنه تشبث بالأرض بقوة ،واستمر بأقصى قوة لديه في تلاوة التعاويذ.
,
, اندفعت الجثث بأكملها نحوهم؛ لتطير بسرعة حول دائرته وتمد أيديها نحوهم؛ كأنما تحاول أن تمسكهم ،وفمها يصدر أصواتاً مفزعة .. تجاهلها وقد بدا اليأس يدب في أعماقة وشعور مفزع بالفشل يجتاحه.. لاحظ الفتاة التي توقفت ،وأخذت تحملق في أحدهم ..فشعر الدكتور عدلي أنها تدبر شيئاً ما .. فجأة جذب عبد الوهاب يديه من يدي عم فراج والدكتور عادل الجالسين بجانبيه ..رآه الدكتور عدلي يفعل هذا ..فصرخ فيه بفزع :
,
, -إياك أن تفعل..
,
, إلا أن صرخته كانت متأخرة للغاية... وفجأة امتدت أيد خفية نحو عبد الوهاب الذى ما إن حرر يديه حتى قفز خارج الدائرة ..وأمام عيني الدكتور عدلي المفزوعتين تمزقت جثة عبد الوهاب إلى أشلاء على الفور .. وأغرقت دماء عبد الوهاب الجميع ،وأشلاؤه الممزقة تضرب وجوهم وأجسادهم؛ فصرخوا بجزع دون أن يفلتوا أيديهم ،بينما اندفع الدكتور عدلي على الفور نحو مكان عبد الوهاب الخالي ،ومد ذراعيه ممسكاً بأيدى عم فراج ،والدكتور عادل .. كان يخشى أن تنكسر الدائرة السحرية اللازمة لإنجاح التعويذة.
,
, هنا استيقظ الدكتور أنيس في منتصف الدائرة .. بدا غريباً مختلفاً حين نهض فجأة متجاهلاً ما يجري قبل أن يفتح فمه، ويقول بصوت غريب:
,
, -لن تفلحوا في هذا !..
,
, فتح الجميع أعينهم ورأوه في فزع وهو ينقض على الدكتور عدلي، كأن هناك مايسيطر علي عقله، واضطر الدكتور عدلي لترك يدي فراج والدكتور عادل للدفاع عن نفسه .. كان الدكتور أنيس يحاول جاهداً دفع الدكتور عدلي خارج الدائرة .. وامتدت ناحيته عشرات الأيدى المخلبية من الفراغ نحوه بانتظار تمزيقه فور خروجه من الدائره .. شعر الدكتور عدلي بالعجز، وقد أدرك أن الطقس الذي يقوم به قد فشل ..لقد أفلت يدي زملائه ؛فكسرت الدائرة السحريه ومازال هناك الجزء الأخير من الطقس الخاص بالقط الأسود الذي لو لم يتمه لفشل الأمر، ولن يستطيع أبدا القيام به مع المحاولات الحثيثة للدكتور أنيس - الذي سيطر على عقله شيء ما - لإخراجه من الدائرة للتخلص منه.
,
, كانت صرخات كائنات الجحيم على أشدها الآن احتفالاً بفشلهم .. وتملكت الدكتور أنيس قوة غريبة، فوجد الدكتور عدلي نفسه يُدفع رغماً عنه إلى خارج الدائرة؛فأغمض عينيه في انتظار الموت السريع القادم بعد لحظات.
,
, لكنه فوجئ في اللحظة التالية بتراخي ذراعي الدكتور أنيس عن عنقه ، ففتح عينيه على الفور ليجد الدكتور عادل واقفاً ، وقد ضرب الدكتور أنيس بجردل الدماء المعدني في رأسه فشج رأسه وأفقده وعيه ..وصاح الدكتور عادل ،وهو يثب نحو مكانه ثانية :
,
, -أسرع يادكتور عدلي قبل أن ينتهي الأمر..هيا انتهي من عملك.
,
, هنا أسرع نحو صندوق خشبي في وسط الدائرة .. أخرج منه القط الأسود الذي خدره قبل ذلك ..هنا إلتفتت إليه الفتاة بفزع حقيقي ومقت ،وصرخت صرخة اهتزت لها الأركان...
,
, -إياك أن تفعلها ..سوف أقتلك لو فعلت.
,
, إلا أنه لم يبال .. أخرج سكينا فضيا ، وامتدت يده نحو عنق القط بضيق وتردد ..لم يكن يرغب في هذا ،ولكنها الطقوس .. هنا فتح القط المخدر عينيه فجأة وأطلق مواء غريباً ؛ فوجل الدكتور عدلي ..حاول القط أن يهرب من يده حتى أنه مزق بمخالبه كف يده، فسالت منه الدماء، إلا أن الدكتور عدلي أمسك به بإصرار أكبر.. ودون تردد هذه المرة اندفعت السكين الفضية نحو عنق القط فذبحه.. عوى القط للمرة الأخيرة، وتدحرج رأسه الصغير على الأرض ، واندفعت نافورة من الدماء من الجسد المنتفض ؛فألقي الدكتور عدلي جثمان القط ،ودمائه المنهمرة نحو جثة الفتاة السابحة في الفراغ.. أصاب تيار الدم المتدفق من جثة القط وجهها ؛فصرخت برعب وألم، وارتج المكان بآلاف الزمجرات الغاضبة الصاخبة ، وإهتزت الجدران كلها حتى كادت أن تميد بهم.
,
, وامام عينيه راحت عشرات العيون تختفي وبدأت الدومات الهوائية في الإنقشاع ،وبدات الظلمة الرهيبة في الإنحسار وصاحت بغضب ومقت للمرة الأخيرة...
,
, -سأعود أيها البائس وستدفع الثمن..سوف أعود إليك قريباً جداً ..تذكر هذا وانتظرني ...هنا ردد الدكتور عدلي تعويذته الأخيرة بأقصى ماعنده من قوة وامل:
,
, Modo malum CADO، somnus apud Tranquilla
,
, وفجأة وكالسحر همد كل شيء .. سقطت الجثث على أرض المشرحة .. هبطت جثة الفتاة بهدوء إلى مكانها على منضدتها بالمشرحة.. اختفت الأصوات والعيون والعواصف الصغيرة .. حبست الأنفاس في ترقب وخيم السكون على المكان ..بعد قليل فتح الجميع عيونهم بترقب .. كان المكان يموج بالفوضى.. لاحظ عم فراج أشلاء عبد الوهاب الممزقة ودمائة التي تغرق كل شيء حوله ؛فأخذ يصرخ ويبكي ،وهو يحتضنها ويداه تتلوثان بدمائه وأنسجته.. راقبه الجميع بوجوم، ولم يعرف أحد منهم مايقوله ليواسي عم فراج ويخفف ألمه لفقده عبد الوهاب .. لكنهم وبرغم الحزن على عبد الوهاب، إلا أن شيئاً من الارتياح اجتاح أعماقهم .. وقد انتهت لعنة تلك الجثة.. وبقى في أنفسهم سؤال معلّق بلا إجابة.. هل انتهى الأمر حقا .. لكن أحدا منهم لم يعرف الإجابة ..
قصصى باسمى جدو سامى على جوجل درايف
https://drive.google.com/drive/folders/1N0wKMRM9mRd5pSI4Dyq2zt5orcQwEH3K?usp=drive_link
مقاطع فيديو مهمة على جوجل درايف
https://drive.google.com/drive/folders/1VGtdNEuiaJll4dK0_iSXcCVOKcZqUe6r?usp=drive_link
و
https://drive.google.com/drive/folders/1PayOCf35-FxbHZl04B8LNkd_R6CtET6z?usp=drive_link
و
https://drive.google.com/drive/folders/1ZBOG2u01Jqw_ZbdCGHJ5FyjK_D3sYRiA?usp=sharing
و
https://drive.google.com/drive/folders/1NRM9x4lDPBXiHejdHzF4HigQoorQQLcp?usp=drive_link
قناتى على اليوتيوب بصوتى
https://www.youtube.com/channel/UC1hw85LpXl5LGurYMspSScA/videos
وقناتى الثانية على فيميو وفيوه والفيسبوك
https://www.veoh.com/users/GeddoSamy81
https://vimeo.com/user101325859
https://vimeo.com/user101325859/videos
https://www.facebook.com/profile.php?id=61552353388948
بودكاستاتى الصوتية فى موقع سبريكر
https://www.spreaker.com/show/h_9186
رابط مقالات صديقتى الغالية ديانا احمد بالحوار المتمدن
ولها مواضيع ومشاركات مهمة بشبكة الالحاد العربى
https://www.ahewar.org/m.asp?i=4417
ولى انا جدو سامى ولها حسابات باسم جدو سامى وسمسم المسمسم وناهد محمود وباهر علوى وكواكب بن تحتمس وكواكب وديانا احمد فى ميديوم واكسهامستر وليتروتيكا وميلفات وحلمات (باسم جدو سامى وجدو سامى بالروسى وبهجت عزيز و M _ Hamdy) ونسوانجى الجديد والقديم
حسابى على تيكتوك
https://www.tiktok.com/@geddosamy
حسابى على جاستباست ايت
https://justpaste.it/u/Geddo_Samy81
حسابى على واتباد
https://www.wattpad.com/user/GeddoSamy81
حسابى على فليكر
https://www.flickr.com/photos/199468613@N07/
حسابى على كورا
https://www.quora.com/profile/Nabeel-Serry
حسابى على ايميدجتويست
https://imagetwist.com/p/BaherOlwy
حسابى على ايميدجبام
https://www.imagebam.com/view/GA9Q9X
حسابى على بينتريست
https://www.pinterest.com/GeddoSamy81/_created
حسابى على سبوتيفاى فور بودكاسترز
https://podcasters.spotify.com/pod/show/geddo-samy81
https://open.spotify.com/show/55Uwno4znf3L4hMOINIFKi
حساب صديقتى ديانا احمد بشبكة الالحاد العربى
https://www.il7ad.org/member.php?u=5643
حساب صديقى احمد بن تحتمس بشبكة الالحاد العربى
https://www.il7ad.org/member.php?u=6788
#جدو_سامى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟