|
آن الأوان
خالد صبيح
الحوار المتمدن-العدد: 7835 - 2023 / 12 / 24 - 22:14
المحور:
القضية الفلسطينية
أحرجت معركة غزة الكثيرين.
عندما قامت المقاومة الفلسطينية بعمليتها النوعية المفاجئة في 7 أكتوبر اصطف كثيرون وراء الرواية الإسرائيلية وصدقوها، إما نتيجة لتشبع في الوعي حول واقع إسرائيل المتخيل الذي صاغته في الذهن الجمعي الغربي الدعاية الصهيونية عبر عقود طويلة، أو نتيجة لتواطئ بدوافع سياسية ومصلحية جسدته بشكل خاص المواقف الرسمية لمعظم دول الغرب، أما بقية العالم الواسع فقد ابدا فتورا ازاء السردية الإسرائيلية واخذ يميل اكثر فاكثر، مع تطور الأحداث، الى تصديق ورفع السردية الفلسطينية المقاومة، ليتركز لاحقا وبزخم كبير في أكبر حواضر دعم الصهيونية "وإسرائيل"، (أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا)،الذي عبرت عنه التظاهرات الكبيرة في شوارع عواصم تلك الحواضر.
وبعد جرعة الألم التي تجرعتها "إسرائيل" في ميدان المعركة أخذت تنتقل خسائرها الى محور حرب السرديات، الذي لا يقل خطورة وأهمية عن حرب الميدان، والذي طالما تفوقت فيه "إسرائيل" عبر عقود صراعها مع العرب لسبب وحيد هو هيمنة اللوبيات الصهيونية، والمؤسسات الغربية، على ميادين الإعلام والفن والدبلوماسية وغيرها من مجالات إنتاج السرديات.
لقد كان الرهان الغربي و "الإسرائيلي"، في بداية المعركة، على حسم عسكري تنجزه "إسرائيل" ويعيد الأمور إلى عهدها الأول، ولا يبدو أن أحدا قد توقع أو حسب أن المقاومة تستطيع أن تقف في وجه عصف القوة "الإسرائيلية" الهوجاء والمتفوقة في كل المجالات والميادين، والتي أخفقت حد اللحظة في تحقيق أي هدف معلن لها ولو بمقدار تستطيع فيه أن تقنع داخلها المرتبك والمتوتر أو المتحمسين لها، رغم العنف غير المعقول الذي مارسته بسادية ووحشية على المدنيين الذي راح ضحيته أعدادا هائلة منهم، بينهم الكثير من الأطفال، والتدمير الهمجي الممنهج لكل مقومات الحياة لأهداف باتت علنية ومفضوحة هي الانتقام وتحقيق مشاريع الطرد واستعادة النكبة بلباس جديد.
لكن للتاريخ منطق صارم لا يستسلم للأهواء، فلم تعد، عربيا، لا الظروف ولا الوعي ولا القدرات التي أنتجت النكبة الأولى موجودة الآن، لقد تغير الوعي وكذلك الظروف والأهم القدرات، لم تعد هناك في مواجهة الصهاينة جيوش مرتبكة ومفككة تفتقد لمنظور استراتيجي في خوض المعارك، وينخرها الفساد وتضعفها الخيانات التي تقف وراءها مطامح ضيقة، وإنما حلت محلها قوى جديدة نوعية، قليلة العدد ومحدودة القدرات المادية لكنها تمتلك رؤية استراتيجية وتشكيلات قتالية مركزية التنظيم ومتماسكة. من هنا جاءت المفاجأة في قدرة المقاومة الفلسطينية في غزة على مواجهة آلة الحرب "الإسرائيلية" وأربكتها ومنعتها حتى اللحظة من تحقيق أي "نصر" أو منجز ميداني حتى لو كان شكليا يعينها على استرداد بعض من ماء وجهها الذي يبدو أنه أُهرق مرة واحدة وإلى الأبد في يوم 7 أكتوبر.
ورغم أن أنظمة الغرب الرسمية، وأولها أميركا، ماتزال مصرة ومتمسكة بمنطقها وحججها المبتذلة، وماتزال تنشر بصلف خطابها المتهافت بالدفاع الأعمى عن الجرائم "الإسرائيلية" المكشوفة، إلا أن دائرة رفض هذه الحجج صارت تتسع أكثر فأكثر ما سبب حرجا لبعض تلك الأنظمة وأخذ يثير مخاوفها، أولاً بسبب ضغط مجتمعاتها واتساع تيار الرافضين للحرب فيها الذين أخذوا يدينون إسرائيل ويحملونها المسؤولية، وثانيا بسبب القلق والخوف من اشتداد مشاعر الكراهية للغرب بين الشعوب العربية الملتفة حول المقاومة، حتى تلك التي قيدت إمكاناتها للتعبير عن ذلك، بالتظاهر والاحتجاج وغيره، ما يعني زعزعة الاستقرار في المنطقة الذي يشكل أحد الضمانات الكبرى لمصالح الدوائر الغربية.
لا أتصور أن هناك ضرورة لهدر الوقت والجهد في التطرق لمواقف وسلوك الأنظمة العربية، فهي مخزية وجبانة في أقل توصيف لها، ومواقفها هي انعكاس طبيعي لطبيعة هذه الأنظمة الفاقدة لأية شرعية.
لكن ماذا عن الشعوب العربية؟
بدا من الواضح، عبر مجسات عديدة أهمها السوشيال ميديا، مقدار التفاف الشعوب حول المقاومة، رغم ما يحمله الكثيرون من تحفظات مشروعة، سياسية وأيدلوجية، حول هوية حماس، العنصر المقاوم الأساسي في المعركة، وبنيتها وخلفيتها الفكرية، وقد عبرت عن هذا الالتفاف بعض الشعوب الحية، أعني تلك التي تمتلك ارث نضالي كبير، مثل المغاربة والمصريين، استطاعت من خلاله أن تؤطر نفسها، عبر عقود من النشاط الجريء، في بنى سياسية وثقافية، عمقت ادراكها ووضّحت رؤيتها للواقع، عبرت عن طرق للتضامن جريئة بالتظاهر والاحتجاج ومطالبة حكوماتها بمواقف واضحة، فيما كانت شعوب أخرى مغلوبة على أمرها لم تستطع أن تعبر عن نفسها، لكنها لجأت لسلاح فعال في التعبير عن موقفها هو المقاطعة لمنتجات الشركات الغربية الداعمة لـ"إسرائيل"، والشركات لا ترتدع مالم تُمس مصالحها المباشرة، وقد نجحت هذه المقاطعة في أماكن عديدة، الكويت ومصر والمغرب.
وسلاح المقاطعة هذا سلاح فعال ومؤذي لأنه خفي وفردي ولا يمكن السيطرة عليه وقمعه، وصار معيارا لكشف حقائق سياسية واجتماعية تصيغ مواقف جماعية للمجتمع من دون أن تستطيع أجهزة القمع والتدجين مواجهتها. إضافة الى أنه، عدا تأثيره المادي المباشر، ينطوي على بعد رمزي لا يوجه رمزيته الاحتجاجية للشركات وحدها، وإنما لأنظمة الحكم في أي دولة عربية يمارس شعبها المقاطعة عند تقييد حريته في التعبير العلني عن مواقفه. جُرب هذا السلاح في مناسبات أخرى غير حرب غزة وأثبت فعالية كبيرة، في أزمة غلاء الأسعار في المغرب مثلا. ولأن الشعوب العربية متباينة في خلفياتها وإرثها الثقافي والاجتماعي وفي مسارها التاريخي والسياسي لذا هناك كما يبدو شعوبا تفتقد للحيوية، مدجنة ومستسلمة أو رخوة ومقادة، (السعوديون والإماراتيون مثلا) وقد عجزت أو تقاعست عن اتخاذ أي موقف رغم فظاعة الجرائم "الإسرائيلية" وعلنيتها، وانصاعت أو تماهت مع موقف حكوماتها ونخبها.
ولأن همجية العدوان "الإسرائيلي" أسقطت كل الأقنعة وهتكت غلالة الزيف التي غلفت بها جميع الأنظمة العربية، خصوصا تلك التي ارتبطت مع "إسرائيل" باتفاقات "سلام" وتطبيع، ادعاءاتها حول ممكنات الحلول السياسية مع "إسرائيل"، فقد راجع بعض المثقفين مواقفهم التي كانت متساوقة مع هذه التصورات، ومنهم الدكتور (أسامة الغزالي حرب) حينما كتب مقالا يعتذر فيه للفلسطينيين بعد أن (تابع بغضب وسخط وألم) عن حسن ظنه بالكيان الذي كشف (عن روح عنصرية اجرامية بغيضة) وارتكب (جرائم وفظائع) بحسب تعبيره.
قد يكون موقف أسامة حرب، وهو من المتحمسين لاتفاقيات السلام المصرية، منسجما مع الموقف الرسمي المصري المتوجس من نوايا "إسرائيل" في تهجير فلسطينيي غزة وتوريطه بنتائج ذلك، حيث صعّد إعلاميا، بجهد استباقي، بإدانات لعدوان "إسرائيل" دون أية إجراءات، هو قادر عليها بالتأكيد، يخفف بها على الفلسطينيين مأساتهم، أعني أن موقف الدكتور أسامة ليس موقفا فرديا خالصا بقدر ما هو مرتبط بسياق موقف النظام المصري ونخبه، لكن بشكل عام لا تبدو مواقف المراجعة ونقد قناعات حسن الظن بـ"إسرائيل" عابرة، فبعد هذا الكم من الجرائم ونوعها، ومقدار النفاق الغربي المفضوح لم يعد أمام من كانوا يمتدحون ويمالئون "الإسرائيليين" ويدعون لـ (حلول سلمية) مستحيلة، وطالما حمّلوا بشكل ينطوي على مغالطات منطقية وواقعية الضحية مسؤولية عرقلة تلك الحلول (بتعنته وتطرفه) كما يزعمون، أقول قد آن الأوان، بعد كل هذا الانكشاف لهمجية الصهاينة، لهؤلاء الذين انطلقوا في مواقفهم تلك عن قناعة وليس ارتزاقا أو انسياقا مبتذلا وراء دعاوى أي نظام حكم عربي، أن يراجعوا انفسهم ومواقفهم، ويسحبوا صك "حسن الظن" بهذا الكيان العنصري، فالجريمة أكبر بكثير من أن يُسكت عنها، ومن يصمت الآن قد لا يمكنه دفع شبهة الشريك في تلك الجرائم التي ستلاحقه وتصمه بالعار.
#خالد_صبيح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هينز الفريد كيسنجر
-
ما يريدونه و ما يستطيعونه
-
خطوط حمر لا أخلاقية
-
بين الواقع والمؤامرة
-
بداية ونهاية
-
مفترق 14 تموز
-
هل سيعيد التاريخ نفسه؟
-
ممكنات التغيير في الأنظمة الشمولية
-
ما وراء عبّادان قرية
-
المتحولون
-
عن متلازمة ستوكهولم
-
المساواة الحقة!!
-
في أصل الدمج وفصله
-
استراتيجة (ثلاثية الأبعاد)
-
خواطر عن المثلية
-
في مواجهة الوباء
-
تداعيات محلية لوباء عالمي
-
كورونا
-
ساندرز والانتخابات الأمريكية
-
الثار والانتقام ( تأملات وتساؤلات)
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|