جدو سامى
كاتب وباحث وروائى متنور ومؤمن بالحريات الجنسيةوالدينية والابداعية والفكرية كاملة
الحوار المتمدن-العدد: 7835 - 2023 / 12 / 24 - 09:19
المحور:
الادب والفن
,
, -ألم تشكّ أنها إحدى جثث المشرحة وخاصة انها كانت محفوظة بالفورمالين ولاتختلف كثيراً عن باقي الجثث التي حولها؟
,
, -لم يكن هذا ممكناً ..أنا اعرف الجثث الخمس الموجودة بالمشرحة ..كما أنّ هذه الجثة كانت مازالت بكامل ملابسها والجثث الأخرى عارية تماماً ..كان من العسير أن أخطأها،وألا أدرك أنها لاتنتمي للمكان.
,
, -وهل لاحظت حينها أي شيء غير طبيعي في المشرحة، شيئ ما في غير مكانه مثلاً..أشياء مبعثرة بجوار الجثة..أتذكر شيء من هذا
,
, -لا ..لقد كان كل شيء في مكانه ..الشيء الوحيد الغريب هو تلك الفتاة .. أقصد جثتها..كانت على طاولة المفترض أنها كانت فارغة .
,
, -وماذا عن جثة الفتاة محفوظة بالفورمالين ،هل وجدت بجوار الجثة أي شيء يدل على حقنها بالفورمالين..محاقن مثلاً ..آنية ..سوائل ..أشياء كهذه.
,
, حاول عبد الوهاب أن يتذكر..كانت ذاكرته قوية منظمة طالما إفتخر بها..كان من اليسير عليه أن يتذكر أي شيء حدث له ،حتى لو كان هذا منذ زمن بعيد ،ولهذا استطاع أن يستحضر بسهولة من ذاكرته، كيف وجد الفتاة ..لم يكن بجوارها أي شيء فقال بعدها واثقاً :
,
, -كلا ..لم يكن هناك شيء من هذا..كانت تلك الجثة راقدة على المنضدة ..ولاشيء بجوارها على الإطلاق.
,
, -وماذا فعلت حين وجدت الجثة ؟
,
, -أسرعت حينها إلى أمن الكلية لأخبره ،كي يتصل بالشرطة،واتصلت بالدكتور فهمي لأخبره.
,
, هزّ وكيل النيابة رأسه بتفهم، وصمت للحظات أخذ خلالها يعبث في ولاعة سجائره دون أن يخفض عينيه عن عبد الوهاب الذي أخذ يتحاشى نظراته .. بعد هنيهة عاد وكيل النيابة لأسئلته وهو يقرأ إسمين من ورقه أمامه :
,
, -لقد ذكرت أن فراج ،ومرزوق لم يكونا بالمشرحة حين أتيت ..أكان طبيعياً أن يغادرا المشرحة، ويتركانها مفتوحة هكذا ؟
,
, -الطبيعي ألا نغادر المشرحة قبل أن نتأكد من إحكام إغلاقها .. وكان من المفترض أن يكونا بالداخل حين ذهبت ..لقد قضيا ليلتهما بها ليحرسانها ، لكني لم أجدهما حين جئتها..
,
, -إذا فقد تركا المشرحة قبل أن تأتي ،ولابد أن سبباً ما قد دفعهم لذلك .. برأيك ماذا قد يكون قد حدث؟.
,
, -لست أدري ..
,
, صمت وكيل النيابة مرة أخرى ،واستمر بالعبث بالولاعة الحديدية لفترة ،ثم نظر إلى عيني عبد الوهاب مباشرة ،وقال ببطء:
,
, -في الآونة الأخيرة هل حدث شيء ما غير طبيعي بالمشرحة، لك أو لأحد زملائك ..هل لاحظت أمراً ما غير طبيعي في المشرحة ،أو رأيت غريباً ما يحوم حول المشرحة.
,
, هنا ارتفعت نبضات قلبه أكثر ..تردد عبد الوهاب للحظة، وفكر ..هل يخبره ماحدث له بالمشرحة، أم يكتمه في نفسه.. لكنه في النهاية حسم أمره، وقصّ عليه ماحدث له.
,
, ارتسمت ابتسامة استخفاف على وجه وكيل النيابة ،وقال ساخراً :
,
, - لقد أفدتنا كثيراً ياعبد الوهاب بقصتك هذه ..على العموم إننا نتوقع منك أن تبادر بإبلاغنا بأي شيء تراه أو تسمعه ،وتظن أنه قد يفيدنا في هذه القضية ..أليس كذلك؟ وعده أن يفعل ،ولأنه لم يكن هناك ما يدينه فقد أمر وكيل النيابة ،بإخلاء سبيله..
,
, بعدها تم التحقيق مع حارسي أمن البوابة ..لم يضيفا الكثير ،فقط ذكر الأول أنها قد أتت في الصباح بعد السابعة بقليل وذكر الآخر، وكان هو المسؤول عن الباب الخلفي للكلية، أشار إلى أن عم فراج ومرزوق قد غادرا الكلية بعد الفجر مباشرة ،ولم يرهما يعودان مرة أخرى..وأضاف الحارس أنهما بديا في عجلة من أمرهما، وكانا مرتبكين للغاية ؛بدت المعلومة مهمة وخطيرة ، فوجد نفسه يفكر إن كان فراج ومرزوق قد فعلاها..أم أن هناك أمرا آخر قد دفعهما إلى ترك المشرحة في وقت مبكر كهذا ..
,
, انتبه للرائد علاء علاء رشدان الذي دخل عليه في تلك اللحظة .. رحب به، و أشار إليه بالجلوس ،وهو يقول له:
,
, -أتمنى أن يكون الحظ قد حالفك، وتوصلت إلى شيء ما.
,
, أجاب الرائد علاء بإجهاد وإبتسامة باهته تزين شفتيه:
,
, -لا شيء على الاطلاق..لا أصدقاء لها بالكليه ..وقد تعرف عليها حارس الأمن بالكلية حين عرضت عليه صورتها ،وأخبرني أنها كانت أول من أتى في الصباح من الطلاب ..كان هذا بين السابعة والسابعة والنصف صباحاً تقريباً.
,
, -لقد اخبرني بهذا بالفعل ،والجريمة قد اكتشفت في حوالي الثامنة ..إذن فقد تمت الجريمة في مدة لاتتجاوز النصف ساعة ..ألاتجد أن هذا عسير التصديق.
,
, -إنه كذلك بالفعل..إننا نتحدث عن جريمة قتل ،يقوم فيها القاتل بحفظ الجثة بالفورمالين بعد قتلها ،ويقوم بعدها بإزالة آثار الجريمة، ثم يعيد كل شيء كما كان في المكان.. من المستحيل أن تتم جريمة كهذا مهما كانت مهارة القاتل، أو حتى عددهم لو كانوا عدة أشخاص في نصف الساعة..أمر كهذا بحاجة لعدة ساعات على الأقل كي يتم بهذه الصورة التي رأيناها.
,
, -إنه أمر محير بالفعل..و واجبنا ان نكشف سر كل هذا الغموض.
,
, قالها وكيل النيابة بإحباط،وخيّم الصمت للحظات بينهما،بعدها عاد ليقول :
,
, -وماذا عن أهل الفتاة ؟..هل أخبروك بشيء ما قد يفيدنا ؟..
,
, -حالهم في منتهى السوء ..الأم منهارة للغاية ،والأب كذلك ، إلا إنني استطعت التحدث إليه.
,
, رمقه وكيل النيابة الشاب باهتمام وانتظر أن يكمل،فاستطرد الرائد علاء:
,
, -هو يؤكد أن ابنته قد غادرت المنزل في السادسة والنصف بصحبته ، حيث يقوم بتوصيلها بسيارته إلى الكلية كل يوم ، وقد وصلوا إلى الكلية قبل السابعة بدقائق ،فتركها أمام باب الكلية قبل أن ينصرف.
,
, -إن هذا يؤكد رواية الشهود ،ويؤكد توقيتنا المحدد للجريمة ..لكن ألم يخبرك لماذا جاءت مبكرة هذا اليوم؟.
,
, -يظن أنها ربما أرادت حجز مقعد في الصفوف الأمامية في مدرج المحاضرات.. لقد أخبرته قبلها أن المدرج يكون مزدحماً للغاية ويجب أن يأتي الطالب الذي يبغي مقعداً متقدماً مبكراً قليلاً.
,
, -هذا محتمل .. لكن علينا أن نعلم هل ذهبت إلى المشرحة من تلقاء نفسها أم أن هناك من دفعها لذلك ..ألم تعلم منه إن كان يشك في أحد ما قد يفعل هذا ..أو اعداء له قد يقومون بأمر كهذا ؟..
,
, -إنه لايصدق أن هذا قد حدث لإبنته..إنه لايتهم أحداً وذكر مراراً أنه لا أعداء له ..
,
, - وماذا عن عاملا المشرحة اللذين غادراها دون سبب مقنع تلك الليلة .. ألم تصلوا إليهما بعد؟
,
, -هناك من ذهب لإحضارهما ..لكن هل تعتقد أنهما قد يكونا الفاعلين؟
,
, -لقد غادرا المشرحة قبل حدوث الجريمة بوقت طويل، وهذا يبعد الشبهة عنهما..لكني أظن أن لديهما ما قد يفيدنا في قضيتنا هذه ..عليهما أن يفسرا لنا لماذا غادرا المشرحة هكذا وكأنهما يفران من شيء ما بِهِمَا ..ربما رأيا شيئاً ما قد يفيدنا أن نعلمه في قضيتنا تلك ..
١٥
"هذا عجيب .."
,
, هتف بها الدكتور عادل ، وهو يتطلع إلى جثة الطالبة التي يقوم بتشريحها بمعاونة الدكتور منصور ، ثم أشار إلى الجثة بتوتر ،وهو يقول:
,
, -هذه أول مرة أرى شيئاً كهذا في حياتي..لا نقطة ددمم واحدة في العروق.. كيف يمكن أن يحدث شيء كهذا ..هذا مستحيل تماماً.
,
, كانا يدركان أنه من المستحيل أن تخلو جثة ما تماماً من الدماء .. فلابد أن تتبقى كمية ما من الدماء في الجثة مهما كان ماتعرضت له من أذى ..فحتى لو قمت بتمزيق الجثة إرباً فهناك دوما دماء باقية في نسيج أو تجويف أو عرق ما.. عقد الدكتور منصور كلتا يديه خلف ظهره، وهو يقول :
,
, -السؤال الذي يجب أن نجيب عليه هو أين ذهبت دماء الفتاة؟! ..لاثقوب خارجية ..لا إصابات أو كدمات بأي مكان بجسدها..جميع الأوردة والشرايين السطحية سليمة ..إذن كيف فقدت دماءها؟
,
, غمغم الدكتور عادل بصوت خفيض ؛ربما خشية أن يبدو رأيه سطحياً أمام أستاذه:
,
, -ربما كان هناك نزيف داخلي بداخل أحشائها ؟..
,
, تطلع إليه الدكتور منصور للحظة قبل أن يهز رأسه نافياً :
,
, -لايوجد نزيف داخلي يفعل شيئاً كهذا .. أي نزيف داخلي هذا الذي لم يترك قطرة ددمم واحدة في عروق الفتاة؟..فحتى لو انفجر الشريان الأورطي ،وتمزق تماماً ، وأفرغ كل دمائه بأحشائها، سيبقى بعض الدماء بالأنسجة والشرايين ..الأمر يبدو هاهنا، وكأنما امتصت دماءها تماماً.
,
, تطلع إليه د.عادل بفضول وحيرة،وغمغم بحذر:
,
, -ألاتوجد سابقة لشيء كهذا؟
,
, -لوكانت هناك سابقة لجثة تخلو من الدماء، فإنني أجزم أننى لم أسمع عنها ..أن يفقد الإنسان كل دمائه ،أمر لم نسمع عنها إلا في قصص مصاصي الدماء الخرافية..وأرجو ألانضطر في النهاية لإتهام مصاص دماء بفعل هذا معها.
,
, ابتسم الدكتور عادل لطرافة التعليق ،وقد تخيل أن يكتب تقريراً رسمياً يجعل فيه القاتل مصاص دماء ، فقال مازحاً محاولاً تبديد بعض التوتر الذي يعصف بهما:
,
, -ربما نلجأ لهذا التفسير في النهاية، لو عجزنا عن الإجابة عن الألغاز التى تتعلق بهذه الفتاة.
,
, هزّ الدكتور منصور كتفيه ،وهو يقول برصانة دون أن يلتفت لما في الأمر من دعابة:
,
, -حتى لو كان من أحدث هذا مصاص دماء، فأين آثار أنيابه على جلدها ..إن عملنا قائم على العلم والأدلة والبراهين ،ولو قدمت لهم احتمالاً كهذا، عليك قبلها أن تخبرهم من أي وعاء دموي امتصّت دماؤها ،كما أن عليك أن تجيب عن سؤال آخر مهم للغاية..
,
, رمقه الدكتور عادل بترقب، واهتمام ،وهو يعدل من وضع نظارته الطبية فأكمل :
,
, -كيف تم حقن أوردتها بالفورماليين دون أن نجد أثراً واحدا لذلك المحقن.
,
, جالت عينا الدكتور عادل على الجثة صامتا ..لم يكن يملك إجابة لتساؤلاته، وإن كان قد شعر بالارتياح لوجود الدكتور منصور معه ..تخيل كل هذه الأسئلة التي عليه أن يجيب عليها ، وماذا سيفعل لو لم يكن الدكتور منصور معه ..
,
, أخرجه الدكتور منصور من خواطره، وهو يلتقط أحد أدوات الجراحة بيده ،وينحني نحو جثة الفتاة قائلاً :
,
, -إذن هيا بنا نكمل عملنا ،فربما وصلنا إلى إجابات لحيرتنا هذه..
١٦
في اليوم التالي جلس الدكتور فهمي على مكتبه شارداً مكتئباً .هل يتحول عامه الأول كرئيس لقسم التشريح بالكلية إلى كابوس وفشل ..في البدايه كان عدد غير كافي من الجثث ..بعدها أحداث غريبة تجري في المشرحة لأول مرة ..والآن هناك طالبة تُقتَل بصورة غامضة بالمشرحة ،ومازالت عجلة الألغاز تدور وتمرح بلانهاية ..
,
, ترى ماذا يخبأ لة الغد؟..
,
, كان بحجرته الدكتور أنيس صديقه الحميم ،وإن كان يكبره بأعوام ..كان الرئيس السابق للقسم، قبل أن يصل للسن القانوني للمعاش ، فانتقلت رئاسة القسم له بعدها..
,
, قال الدكتور أنيس، وهو يتابع الدكتور فهمي الذي اشعل سيجارته - ربما - المائة في هذا اليوم:
,
, - أشعر أن هناك أمراً غامضاً يجري في الخفاء بالمشرحة .. لست أظن أن حادثة قتل تلك الطالبة جنائي تماماً ..إن خلف مقتلها لغزاً ما.. هزّ الدكتور فهمي كفه التي تقبض على سيجارة بإعياء ، وقال متسائلاً :
,
, -وهل تعتقد أن الأمر بحاجة للمزيد من الألغاز ..لقد ماتت الفتاة وهذا يكفي لأن يصير الأمر كابوسياً لي.
,
, -لكني لا أجد أي مبرر لقتل تلك الطالبة ،كما أنني لا أفهم ماهدف القاتل من حفظها بالفورمالين ؟.. إنني أتساءل ،هل نواجه هاهنا مختلاً عقلياً قاتلاً ويعيش بيننا؟..وإن كان الأمر كذلك، فمن تراه يكون ؟
,
, -إن كل هذا لايهمني ،كل ما خنقني هو أمر واحد.. فمهما كان مايصبو إليه ذلك القاتل الحقير، فقد نجح في إفساد العام الدراسي برمته .. هنا قال الدكتور أنيس بحزم محاولاً انتزاعه من كآبته :
,
, -أنت تبالغ كثيراً في هذا يا فهمي..إنها مجرد أحداث عابرة وستمر، وسيعود كل شيء بعدها كما كان وأفضل..كل عام وله مشاكله ..لقد واجهت مشاكل مماثلة من قبل كنت شاهداً عليها حينها ،وجميعها انتهت كما تعلم ..هل تذكر مشكلة المعدات التى سرقت منذ عامين..لقد كاد الأمر أن يصل للنيابه ،وفي النهاية انتهى الأمر ومر ..
,
, تطلع إليه الدكتور فهمي بشك ،وكأنه لايثق فيما يقوله الدكتور أنيس ، واستمر بتدخين سيجارته ،ثم غمغم بصوت خافت لم يسمعه هو نفسه تقريباً :
,
, -أتمنى هذا !
,
, ارتفع صوت طرقات على الباب فرفع رأسه نحو الباب وصاح:
,
, -ادخل..
,
, كان القادم هو عم فراج..كان يحمل وجهاً شاحباً مكدوداً ومرهقاً، احتشدت تجاعيده ، وتكاثفت فأضفت عشرات الأعوام فوق عمره ..بدا كأنما لم ينم منذ أعوام ..
,
, بادره الدكتور أنيس مرحّباً، ومشفقا مما حدث له :
,
, -إذاً فقد عدت يارجل ..متى أطلقوا سراحك؟..
,
, ارتسمت ابتسامة باهتة على فمه قبل أن يجيب:
,
, - منذ قليل ..لقد أخرجوني بعد التحقيق معي ، ومرزوق كذلك. أشار إليه الدكتور فهمي بالجلوس قائلاً :
,
, -اجلس يافراج ..وقل لي أولاً ..لماذا تركتم المشرحة أول أمس قبل الفجر كما علمت؟
,
, جلس عم فراج بإعياء، وابتلع ريقه بصعوبة، قبل أن يقول بإرهاق:
,
, -لا أدري هل ستصدقوني ،أم تتهموني في عقلي، كما فعلوا معي في النيابة ؟
,
, قال الدكتور أنيس مطمئنا إياه باهتمام حقيقي:
,
, -لن يحدث هذا منا نحوك ..ومهما كان ما سوف تخبرنا به غريباً فلن نكذبك..إن رجال الشرطة والنيابة لايعرفونك ،ولهذا قد يشككون فيما تقوله؛ لكننا هاهنا نعرفك جيدا، وكلنا يعلم مدى صدقك و أمانتك.
,
, أطرق رأسه للحظة متردداً، قبل أن يقص لهم ماحدث له، و لمرزوق بالمشرحة ..استمع إليه الاثنان بتعجب ودهشة ..لكنه ما إن انتهى حتى فوجئ بالدكتور فهمي يصيح فيه بعصبية:
,
, -وهل تطلب من عاقل أن يصدق قصة مثل هذه .؟ أنت تتحدث مرة أخرى عن الجان والعفاريت، و تلك الخزعبلات التي لا أول لها ولا آخر ..هذه أشياء؛ كما قلت لك تصلح أن تقصها في قريتك في ليالي الصيف لتخيف الصغار والبلهاء..ربما توهمتم ماحدث لأنكم تناولتم شيئاً ما ،أو ربما كان هناك من يريد إفزاعكم ؟..
,
, فوجئ عم فراج بعصبية وسخرية الدكتور فهمي، فلاذ بالصمت إلا أن الدكتور أنيس مال نحوه ،وقد عدل من جلسته ،وقال باهتمام:
,
, -هل قلت أن من هاجم مرزوق كان فتاة؟.. التفت إليه عم فراج، ورد بحذر:
,
, -هذا ماقاله مرزوق..لقد كنت بداخل الغرفة، ولم أرَ أي شيء مما حدث له.
,
, -وهل رآها جيداً ؟ ..أعني هل يستطيع أن يصفها مثلاً؟
,
, صمت عم فراج، فقد خشى أن يسخر الدكتور فهمي من إجابته؛ إلا أنه حين وجد أن كليهما ينظران إليه بترقب في انتظار إجابته،طرح تردده جانبا، وأجاب ببساطة:
,
, -يقول إنها جثة الفتاة التي جلبها للمشرحة.
,
, تطلع الاثنان إليه بدهشة قبل أن يطلق الدكتور فهمي ضحكة ساخرة، ويقول:
,
, -جثة الفتاة هي من هاجمته؟..أي مخدر رديء تناوله هذا الأحمق .. إنها جثة..جثة يارجال انتهى أمرها للأبد ..هل رأيت جثة من قبل تهاجم أحدا ما؟..هل ردت إليها الروح من أجل أن تخيفه ، ثم عادت لموتها ثانية ؟ ..إنكم تهزلون يارجل وتمزحون...
,
, أطرق فراج برأسه أرضاً، بينما غرق الدكتور أنيس في التفكير .. فأكمل الدكتور فهمي بضجر :
,
, - من الأفضل أن تحتفظوا بقصصكم وأوهامكم هذه بصدروكم ..وإياكم أن تحدثوا أحدا ما عنها ..لا أريد المزيد من البلبلة هنا ..كفانا هاهنا حادث مقتل الفتاة ..
,
, كان عم فراج قد توقع ألا يصدقه ، وأعد نفسه لهذا، فلم يضايقه عدم تصديق الدكتور فهمي لما يقوله .. كما أنه لم يأتي الآن من أجل هذا ، بل جاء من أجل غرض آخر ،لذا قال بهدوء :
,
, -أريد أن أخبرك يادكتور أن جميعنا صار يشعر بالفزع من المشرحة، ولا أحد منا يرغب في المبيت في المشرحة بعد الآن.. لقد طالبني كل العمال بإبلاغك بهذا .
,
, هنا أجابه الدكتور فهمي بلا مبالاة:
,
, -لابأس بهذا ..أنا أيضا أرى أنه من الأفضل ألا يتواجد أحد ما بالمشرحة هذه الأيام ،بعد انتهاء اليوم الدراسي ..لكن عليكم أن تتأكدوا من إغلاق المشرحة بإحكام ، قبل أن تغادروها كل يوم .
,
, شعر عم فراج بالارتياح لهذا القرار فشكره وانصرف ..
,
, وقال الدكتور فهمي بعدها محدثاً الدكتور أنيس بعد أن اختفى عم فراج:
,
, -هل سمعت مايقوله ؟.. إنه يتحدث عن جثة عادت للحياة كي تعبث معهم .. إنني بالكاد أصدق أنني أسمع هذا الهراء ،هل تتخيل ماذا سيحدث لو سمع الطلاب مثل هذا الهراء ..ستعج المشرحة بالفوضى التامة.
,
, -إنني أوافقك بالتأكيد في ضرورة أن نكتم مثل هذه الأخبار عن مسمع الطلاب منعا للبلبة..لكنني أعلم فراج هذا جيداً ،ولا أعتقد أنه يكذب ..هناك أمر ما غير مفهوم يدور هاهنا، ولهذا أرى أن نتحقق من الأمر، وألا نكتفي برفضه ،وتجنب التفكير فيه، إن جريمة القتل التي تمت هاهنا مازالت أسبابها غامضة، وأخشى أن أقول إنني أتوقع ألا تكون الأخيرة.
١٧
ابتسم الدكتور منصور، حين رأى الدكتور عادل يدلف باب حجرة مكتبه، وقال الأخير محرجاً :
,
, -أرجو ألا أكون قد أزعجتك أو عطلتك عن عملك حين أتيت بغير ميعاد.
,
, أجابه الدكتور منصور على الفور ،وهو يدعوه للجلوس مرحباً وابتسامة عريضة ،ومرحبةً ترتسم على وجهه:
,
, -بل لقد اسعدتني زيارتك هذه يادكتور عادل، بل وقد كنت أنتظرها في الواقع.. لكن أخبرني في البداية ،ماذا تحب أن تشرب؟
,
, - لو كنت مصرّاً فهي القهوة السادة.
,
, استدعى الدكتور منصور عامل البوفيه، وأمره بإحضار فنجانين من القهوة السادة ،وما إن انصرف ،حتى سأل الدكتور عادل باهتمام:
,
, -ما هي آخر أخبار التحقيقات بشأن مقتل طالبتنا..هل هناك من جديد.
,
, أجابهُ الدكتور عادل بسرعة ،وكأنه ينتظر هذا السؤال :
,
, - لقد أتيت اليوم من أجل هذا ..إنهم يطالبونني بتقرير عن سبب الوفاة .. وبالطبع من المفترض أن نشترك في إعداده معاً ..فأنت مثلي صرت مكلفاً بإعداده بصورة رسمية.
,
, هزّ الدكتور منصور رأسه متفهماً قبل أن يقول:
,
, - في الواقع سبب الوفاة هو سبب تأخيري في تقديم تقريري بنتيجة التشريح ..فما زلت لاأعلم كيف ماتت تلك الفتاة ،كما أنني افتقد لإجابات الألغاز الأخرى التي واجهتنا معاً حين قمنا بتشريح جثة الفتاة ..فجثتها كانت خالية من الدماء بلاسبب..ولاندري كيف تم حقنها بالفورمالين ..وكيف تم هذا في تلك الفترة القصيرة التي لاتتجاوز النصف ساعة ..لاحظ أننا لم نستفد كثيراً من تشريح الجثة ..فـ باستثناء الأنسجة المتشبعة بالفورمالين لا شيءآخر ذو بال وجدناه .غير القلب الضامر الفارغ تماماً من الدماء هو الآخر..
,
, It was completely collapsed-
,
, -هذا صحيح ..إنني لم أرى شيء كهذا من قبل ..بدا وكأنه بالون تم تفريغه من الهواء تماماً..تمنيت لو إحتفظت بالقلب لتتم دراسة كيف صار هكذا ..أعتقد أننا لو فعلنا لإكتشفنا ظاهرة جديدة.
,
, -الجثة كلها تصلح للدراسة كظاهرة جديدة وليس القلب فقط يادكتور منصور ..إنها كنز حقيقي لعلماء الطب الشرعي والتشريح.
,
, -لا أعتقد أن أهلها سيوافقون ابدا على أمر كهذا ..إن العبث بالجثث أمر مرفوض تماماً في مصر كما تعلم .
,
, مطّ الدكتور عادل شفتيه بتوتر وغمغم:
,
, -هذا صحيح للأسف ..لكن دعنا من هذا وأخبرني.. ماذا تقترح أن نكتب في تقريرنا ؟!
,
, -لا أدري يابني ..حقا إنني مستاء ؛لأنني لم أقدم لك الدعم الذي كنت تتوقعه مني ..لكن القضية غامضة بالفعل بصورة لم أعهدها من قبل .. صمتا لبعض الوقت قبل أن يقول الدكتور عادل بتردد:
,
, -أرجو ألاتسخر مني فيما سأقوله لك ..إنني أشك أننا نواجه أمراً غير مألوف في قضيتنا هذه ..أمرا أشبه باللعنات الغامضة والأمور الخارقة .فلا يوجد أي شيء منطقي في هذه القضية على الإطلاق.. والكيفية التي ماتت بها الفتاة من المستحيل علميا أن تكون فعلاً بشرياً ..ألست توافقني في هذا ؟.
,
, رمقهُ الدكتور منصور بدهشة، وصمت مفكراً في كلماته ،وهو يهز رأسه ببط ثم قال بهدوء:
,
, -لا أرحب في الواقع بهذه التفسيرات الخوارقية ..ودائماً أنفر منها ..لكن للأسف هذه أول مرة لا أرى البديل المنطقي عنها.
,
, دخل عامل البوفيه في هذة اللحظة ،و وضع القهوة أمامهما ثم انصرف بصمت، فاستطرد الدكتور منصور متسائلاً ، وهو يشير بيده نحو القهوة داعياً الدكتور عادل لتناول فنجانه:
,
, -وماذا عن البصمات والأدلة الأخرى؟..هل قادتكم إلى شيء؟
,
, تناول الدكتور عادل فنجان قهوته، وارتشف رشفة منه ثم أجاب:
,
, -لم تُضِف شيئاً .. فلا بصمات غريبة و جدوها ،غير بصمات العمال ، والأطباء بالقسم..إنها قضية الألغاز الكثيرة للجميع.
,
, تناول الدكتور منصور فنجانه هو الآخر، وارتشف منه رشفة صغيرة، وسأله:
,
, -وماذا عن المشتبه فيهم ..سمعت أنهم في البداية اشتبهوا في عاملين بالمشرحة قبل أن يطلقوا سراحهما..
,
, -لم يصلوا معهما لشيء ..والفتاة كذلك لا أعداء لها أو لأهلها .. ولم يتهم والدها أحد ما ..
,
, صمت بعدها للحظة؛ ليشرب بعض قهوته، وأكمل:
,
, -رجال المباحث أيضا يتخبطون في الظلام،فلا خيط أمامهم ليمسكوا به في هذه القضية..إنها أغرب قضية رأيتها في حياتي!..
,
, أنهى الدكتور منصور قهوته ،فوضع الفنجان أمامه ،وقال وهو يمسح فمه بمنديل ليزيل آثار القهوة عنه:
,
, - إذاً فعلينا أن نتمهل قليلاً قبل تقديم تقريرنا..لقد نويت أن أرسل نتائج التشريح ،وبعض الصور إلى بعض أصدقائي بالخارج لآخذ مشورتهم..فربما صادفوا في عملهم شيئا كهذا لم نصادفه في عملنا هنا..وربما كانوا أكثر حظاً منا وعلموا كيف تم الأمر.
,
, كانت فكرة جيدة ،راقت للدكتور عادل كثيراً ، فقال بحماس:
,
, -اقتراح ممتاز..فعقول عدة تفكر في القضية خير من عقل واحد بالتأكيد ، وربما مانراه هنا للمرة الأولى ،قد صادفه غيرنا من قبل ..سوف أنتظر نتيجة مراسلاتك،وسوف أتابع التحقيقات في القضيه،فربما قادتنا جميعاً لشيء ما.
,
, نهض بعدها لينصرف، وقال مودعاً ، وهو يمد يده مسلماً على الدكتور منصور وعلى شفتيه ابتسامة مرهقة:
,
, -لو اكتشفت شيئا سأخبرك على الفور ..وسوف أنتظر نتائج مراسلاتك ..
,
, نهض الدكتور منصور مودعاً ، وراقبه حتى غادر الحجرة ..ثم عاد لمقعده ثانية ،وظل صامتاً لفترة قبل أن يقول بشرود:
,
, -أتكون حقاً لعنة ما ؟..
١٨
مر أسبوع كامل، و لم يحدث خلاله أي شيء غير طبيعي بالمشرحة .. قرر مجلس القسم لمادة التشريح خلالها ، مد فترة الدراسة النظرية للطلاب، قبل السماح لهم ببدء الدراسة العملية على الجثث بالمشرحة ..
,
, راح الجميع خلال هذا الأسبوع يترقبون أن يحدث شيء ما بالمشرحة .. لكن بعد أن انتهى هذا الأسبوع بهدوء دون أن يعكر صفوه شيء ما ، قرر الدكتور فهمي رئيس القسم بدء إعداد الجثث للدراسة ..
,
, كان الأمر يقتضي تشريح أجزاء بسيطة من الجثث في البداية ، وليس كما يتخيل البعض بأنه يتم تشريح الجثة بأكملها مرة واحدة ..
,
, فمثلاً ،يدرس طلاب الفرقة الثانية الرأس والعنق ؛لذا يقتضى الأمر في البداية إظهار بعض الأعصاب والأوردة والعضلات لهم مع عدم المساس بمساراتها الأصلية ؛كي يرى الطالب بعينيه وضع ومسارات هذه الأنسجة الصحيح بالجسم ..كما يدرس طلاب الفرقة الأولى في البداية الطرفان العلويان .. وهذا يقتضي تشريح هذه الأجزاء فقط..
,
, كان من يقوم بعملية التشريح هم المعيدون القدامى بالقسم و ليس الطلاب بالطبع..الجثث قليلة للغاية ومن العسير تعويضها لو أتلف طالب ما جزء منها، لذا لايقوم الطلاب بالتشريح إلا فيما ندر.
,
, بداخل قاعة المشرحة إلتفّ ثلاثة معيدين حول الجثث من أجل تشريحها ..كانت عملية شاقة لاتحتمل أي خطأ..فالقاعدة هنا صارمة للغاية ؛إياك أن تمزق أو تغير من مسار أي عضلة أو عصب أو وعاء دموي ..عليك أن تكشفه، وتظهر مساره بحرص ثم تتوقف ..
,
, كان الثلاثة هم ،الدكتور كمال ،والدكتور نبيل ،والدكتورة فاطمة، و راح كل منهم يعمل بمفرده على إحدى الجثث.
,
, قال نبيل مازحاً بطريقته الساخرة التي اعتادها زملاؤه، وهو يمسح بـ كم البالطو الأبيض الخاص به حبات من العرق تفصدت - معنى تَفَصَّدَ : سَالَ عَرَقُهُ، رَشَحَ، تَقَطَّرَ - على جبهته بسبب الحر ورائحة الفورمالين الخانقة التي تحيط بهم:
,
, - لم أتخيل حين دخلت الكلية أن ينتهي الأمر بي هكذا..كنت دوماً أرى نفسي طبيبا منهكماً بإنقاذ عشرات الأرواح في وقت واحد وحوله عشرات الممرضات ينتظرن أوامره ..والآن إنتهى بي الأمر بالعمل كصبي جزار في هذه المشرحة.
,
, ابتسمت فاطمة لدعابته، وقالت دون أن تنظر اليه، وهي تبحث بعينيها عن أفضل نقطة يظهر من خلالها أحد أوردة الرأس في الجثة التي تعمل عليها:
,
, - ومن الجزارون إذا ،مادمت أنت الصبي ؟..
,
, - أطباؤنا العظام بالقسم بالطبع..أبناء أبي الهول ياعزيزتي .. هل ترين جزارين حولك غيرهم .. كلنا هاهنا ياصغيرة جزارين ،لكننا نختلف عن الآخرين بأننا ببدلة أنيقة ،ورباطة عنق لطيفة.
,
, أطلقت فاطمة ضحكة خافتة، في حين قطب كمال حاجبيه بضيق، وقال له جاداً ، وهو يتوقف عن عمله ويلتفت نحوه :
,
, -ألا تكف مرة واحدة عن السخرية من الأساتذة الأجلّاء هاهنا..أنت تتصرف دائماً كطالب خائب ،لايجيد إلا السخرية من معلميه ،كي يداري فشله وبلادته. رد عليه نبيل بلهجة ساخرة على الفور :
,
, -لن أفعل ،قبل أن تكف أنت عن لعب دور الطالب المتملق لأساتذته ؛كي يصل الى مآربه..
,
, رمقه كمال بعصبية ،وقد احتقن وجهه ،وقال بغضب، وهو يلقي بأدواته الحادة التى يعمل بها فوق المنضدة الرخامية التي أمامه :
,
, -أنت تعلم أنني لا أتملقهم ولا مآرب لي عندهم ..إنني أحترمهم، وأقدر علمهم ،وإذا كنت تفسر الاحترام تملقاً ؛ فأنت مريض وفي مشكلة حقيقية.
,
, - أحقاً لاتفعل ولاتتملقهم؟!..يبدو أنني قد اخطأت الحكم عليك يارجل ، وهذا يعني أن علي أن أعتذر إليك، أرجوك لا تخبرني أن علي أن أفعل.
,
, هنا اشتعلت شياطين الغضب كلها في وجه كمال..ورمق نبيل بنظرات نارية ،وفكر للحظة أن يتشاجر معه قبل أن يتمالك نفسه، وينهض بغضب، ثم ركل مقعده بقدمه ؛فسقط بصوت مدوى ،وغادر المشرحة ،وهو يهتف بحنق:
,
, - أنت بالفعل إنسان لا يطاق ..ويوماً ما سوف ترى أيّنا سيعلو شأنه ،ومن سيظل كما هو دائماً ولن يتغير.
,
, كان يكره جداً أن يصف أحد ما أسلوب تعامله واحترامه الشديد لأساتذته بالقسم بالتملق والنفاق..إنهم أساتذته ومعلموه.. أفلا نعطيهم نحن حقهم في الاحترام والتقدير لمكانتهم ..كان دوماً يبوح لزملائه بهذا الكلام المنمق الرائع .. لكن هل كان حقاً يؤمن بما يدعيه؟..
,
, كان في أعماقه يدرك أنه بالفعل يتملقهم ،ويتودد إليهم لأسباب آخرها هو احترام مكانتهم العلمية كما يزعم..كان يتطلع لأن يصل إلى أعلى درجة ممكنة له في أقصر وقت ..وكان يرى أن طريق النفاق هو أقصر الطرق جميعاً ..
,
, إنه الطريق المباشر للارتقاء منذ بداية الحياة، وحتى نهايتها ..إن تاريخنا يعج بالمنافقين منذ الفراعنة ..ألم ينافق الشعب فراعينه فعبدهم ؟..أن النفاق ليس مذموماً دائماً مادام لن يضير احد ما به ..
,
, كان يرى أن أمثال نبيل هؤلاء حمقى يَئِدون مستقبلهم المهني بأيديهم .. من المستحيل أن ترتفع مكانتهم، بسخريتهم ومزاحهم هذا ..
,
, لكنه كان يكره من يشعره أنه يعي مايجول بنفسه ..وكان نبيل أحد هؤلاء.. كان يحنقه تفوقه الدائم عليه ..فترتيبه في الكلية دوماً كان يسبقه ،وسرعة استيعابه كانت مثيرة لحنقه..
,
, كان يشعر بالتعري أمامه مهما حاول أن يتسلح بأقنعة مزيفة..كان هذا سبباً حقيقاً لكراهيته له، و كان هناك سبب آخر يحاول جاهداً ألا يدركه أحد ..
,
, كانت بينهما فاطمة..الدكتورة فاطمة الوكيل.. الفتاة التي يحلم بها ويتمناها، ويشعر أنها تنتمي لعالم نبيل ..
,
, كان يثير جنونه أن يسخر منه نبيل أمامها .. ويود أن يمزقه بأسنانه لو لمح ابتسامة ترتسم على محياها من سخريته منه.. لذا كان دوماً ،إما أن يتشاجر معه ،أو يحدثه بأسلوب عنيف،محاولاً تسخيف دعاباته وأفكاره ..هذه المرة لم يرغب في أن يتطور الأمر إلى شجار، لذا اختار أن يغادر المشرحة، ولينتظر حتى ينتهيا من عملهما، ليعود ويكمل عمله هو الآخر..
,
, بالداخل توقفت فاطمة عن عملها، واعتدلت على كرسيها، ورمقت نبيل بإعجاب، وهو منهمك في عمله ..كانت تحب سخريته ،وتهيم بلامبالاته وتعشق وسامته..
,
, كانت مثل هذه الأشياء، تذكرها بأبطال الروايات الرومانسيين، فرسان الأزمنة البعيدة..أما كمال فكان يذكرها دوماً بالموظفين الحكومين، ذلك الصنف الذى يشعرها بالرتابة والملل،كان نبيل هو التجديد والمغامرة، وكان كمال هو الجمود والثبات ..كانا مختلفين ،ولم يكن صعبا على قلبها أن يختار بينهما ..كان فارسها هو نبيل ..
,
, وبالرغم من هذا قالت له معاتبة فور انصراف كمال غاضبا :
,
, -لقد كنت قاسياً معه يانبيل ..لم يكن هناك حاجة لأن تنعته بالنفاق وتسخر منه هكذا..كان من الممكن أن تتغاضى عما قاله لك.
,
, هزّ نبيل كتفيه باستخفاف ،وهو ينتهي من فصل طبقة من الجلد تغطي وريداً صغيراً ، وقال:
,
, -لكنه ينافق ويتملق بالفعل ،فلماذا التجمل إذن؟!..
,
, -لكنه زميلنا ..وبعض اللباقة في التعامل معه لن تضير.
,
, أطلق ضحكة ساخرة دون أن يتوقف عن عمله، وهو يجيب:
,
, -إنك محقة في هذا..أنا سأعامله بفظاظتي، و عامليه أنت بلباقتك..وهكذا يتحقق التوازن في المعاملة.
,
, ابتسمت، وهي تدرك أنه لافائدة من محاولة إثنائه عما يفعله، فعادت لتواصل عملها ..أخدت تقطع بيديها الأنسجة بمهارة، لكن عقلها كان في كون آخر يمرح فيه .. في عوالم من الجِنان .. عوالم يرسم حدودها نبيل فقط ولا أحد غيره.. وتنهدت بصوت خافت كي لا يلحظ ما يجول بخاطرها.
١٩
اطمئن كمال إلى خلو المشرحة من نبيل وفاطمة، قبل أن يعود إليها ثانية ..كان يشعر حينها بضيق شديد ،وتمنى لو غادر المكان بأكمله ..لكنه لم يكن قد أنهى عمله بعد ،فلم يكن أمامه إلا أن يعود ثانية ..
,
, اتجه إلى جثة الفتاة..كانت هي التالية بعد أن أنهى العمل بجثة رجل مشنوق..جمع حاجياته وأدواته من حول تلك الجثة التي أنهاها، واتجه إلى جثة الفتاة ..
,
, سمع خطوات أقدام خلفه، فالتفت إلى صاحبها ..كان حسن عامل المشرحة أو البرميل المتحرك؛ كما يحب أن يدعوه بين زملائه ..قال له بشيء من الحزم والتعالي، كما اعتاد أن يعامل كل العمال:
,
, -لماذا تقف خلفي هكذا ..هل تريد شيئاً ما ؟!
,
, أجابه حسن بسرعة، وهو يمسح عن جبهته عرقاً احتشد عليها:
,
, -إنها الثالثة والنصف يادكتور..
,
, أخد كمال في ترتيب أدواته على المنضدة التي أمامه بجوار الجثة، وهو يقول ببرود:
,
, -وهل يعني هذا أمراً ما مهما ؟
,
, -إنه موعد انصرافنا ،ولم يبقَ إلا حضرتك ،وأنا هنا بالمشرحة.
,
, -لتنتظر قليلاً ..إنها نصف ساعة فقط، وسأنتهي بعدها لنغادر سوياً.
,
, رد عليه حسن بإحراج بعد سبّه في سره :
,
, - إن أتوبيس الساعة الرابعة الذي يقل الموظفين من الكلية ، سوف يتحرك بعد قليل ،وأرغب في أن أستقله .فجئت لأستئذنك أن أنصرف لألحق به.
,
, لم يجبه كمال على الفور ،كما اعتاد أن يفعل حين يطالبه أحد العمال أو الطلاب بشيء ما ...كان يعجبه دوماً أن يشعرهم أنه الرجل المهم صاحب القرارات ،حتى لو كان الأمر تافهاً ..كأن يأتيه أحد الطلاب مثلاً راغباً في تغيير مجموعته لمجموعة أخرى..حينها كان يتأخر في اتخاذ قراره ؛كي يوحي لمن أمامه أن مايطلبه منه أمر جلل يستحق التأمل والتفكير، قبل أن يقرر.
,
, لذا قال بعد فترة جاوزت الدقائق الثلاث، متشاغلاً خلالها بتجهيز أدواته، وحسن يراقبه بضيق وتململ، ولايكف عن سبابه في أعماقه:
,
, -حسناً يمكنك أن تنصرف ،وسأتولى أنا إغلاق الباب خلفي بعد أن أنتهي من هذه الجثة.
,
, -ولكن الدكتور فهمي أمر ألا يمكث أحد بالمشرحة بمفرده أبداً.
,
, -لا شأن لك بما أمر به الدكتور فهمي..اذهب الآن ولاتضيع وقتي.
,
, قالها بصرامة فانصرف حسن محرجاً حانقاً عليه، متسائلاً في نفسه عن السبب الذي يجعل البشر يتعالون على بعضهم البعض ..إنها وضاعة الأصل، والغرور ..من المستحيل أن يتصرف بتلك الطريقة الخشنة أحد من أصل طيب ..هكذا كان يرى السبب ..
,
, لكنه بعد ثوان كان قد نسي كل شيء ..فما كان يهمه حينها هو أن يلحق بأتوبيس الكلية، وأن يجد به مقعداً شاغراً ،كي لايضطر للوقوف فيه حتى يصل إلى بيته.
,
, أما كمال فقد واصل عمله، كشف الغطاء البلاستيكي عن الجثة التي أمامه، فطالعه وجه الفتاة بملاحة لم يطمسها الموت، ولاحجبها الفورمالين ..جميلة للغاية و فاتنة صاحبة تلك الجثة..
,
, تطلع إلى ملامحها الدقيقة وتنهد..كانت تمثل الحسن الذي يحلم بأن يقتنيه يوما ما حين يتزوج ..ويخشى دائماً ألا يظفر به لدمامته التي لاتخفى عليه ..
,
, لكنه سرعان ما نفض تلك الأفكار التي راودته عن عقله، و امتدت يده إلى كفها الأيسر ليبدأ عمله، وبلا تردد مزق الجلد الداكن قليلاً بتأثير الفورمالين، كاشفاً عن أنسجته وأوردته بمهارة حقيقية.. اقترب من الوريد الأزرق الداكن ،وحاول أن يحدد مساره بعينيه، ثم أخذ يفصل طبقة الشحوم الخفيفة من حوله محاولاً أ لا يصيبه.
,
, لكنه دون أن يشعر فوجئ بالمشرط الحاد الذى يعمل به يخترق الوريد فيمزقه .. كان خطأ معتاداً وكثيراً ما يحدث ، وإن لم يتمنَ أن يحدث معه ..
,
, اخترق المشرط الوريد؛ فاندفعت منه على الفور الدماء الحمراء القانية .. دافئة ، سائلة ولزجة .. لوثت يده التي يعمل بها، وتسرب بعضها إلى الأرضية مكوناً بقعة من الدماء راحت تتسع ببطء ..تطلع إلى الوريد بذهول، وهو يغمغم متراجعاً بظهره للخلف:
,
, -دماء طازجة..أي عبث هذا؟!...
,
, كان من المستحيل أن تتواجد دماء طازجة في أي جثة بالمشرحة..فالدماء سريعاً ما تتجلط فور الوفاة ..هذا ماتعلمه ،ورآه دوما ..
,
, فمن أين جاءت هذه الدماء الطازجة الدافئة التي تنساب بغزارة الآن؟..
,
, حانت منه إلتفاتةٌ إلى وجه الجثة فارتعد..
,
, كان وجهها حيئذ مُربَّداً وممتلأ بالغضب ..كانت ترمقه بعينين براقتين انقعدت حواجبهما المرسومة بدقة في غضب، و تقلصت العضلات حول فمها بصورة ذكرته بوجه أمه حين كانت تقسو عليه وتعاقبه.
,
, دقات قلبه تحولت لطبول إفريقية تقرع صدره بلارقيب وضاقت أنفاسه فشعر بالإختناق..تراجع بظهره للخلف، وحاول أن ينهض من مقعده مبتعداً ، فخذلته قدميه فهوى مع المقعد أرضاً .. شعر حينها بألم حاد بذراعه الأيسر؛ حيث اخترقه المشرط الذي كان يحمله بيده الأخرى ..
,
, لم يبالِ بإصابته، ولا بدمائه التي انهمرت بغزارة من ساعده ، وهو يحدق بعيون جاحظة مذعورة للجثة التي دبت فيها الحياة فجأة، لم تعد جثة الآن، وزال من جسدها كل أثر للموت .. نهضت من رقدتها وأخذت ترمقه بابتسامة ساخرة..لاحظ برعب أن ذلك اللون الداكن المميز للجثث المحنطة قد زال عن بشرتها الآن..
,
, لاحظ صدرها العاري الذي اختفى عنه تغضنه ، فاستدار و صار مثيراً بصورة لاتقاوم ..
,
, طالما حلم في يقظته من قبل بامرأة تمتلك صدراً مثله ..لكن مثل تلك الأفكار لم تراوده في هذه اللحظه ،لقد أذهب الهلع عقله، وذكرياته، وأحلام يقظته ..صرخ وهو يرتطم بمنضدة اعترضت طريقه، وهو يتراجع بظهره، فسقط أرضاً مرة أخرى ..
,
, أراد أن يتلو آية الكرسي، فلم يتذكرها،كأنما تبخرت فجأة من عقله .. استمرت الفتاة في التقدم نحوه ،وأخذ يتراجع بظهره زاحفاً ، كأنما يخشى أن يوليها ظهره فتنقض عليه من الخلف ..حانت منه إلتفاتة إلى يدها التي قام يتشريحها منذ قليل فوجدها سليمة لا أثر لمبضعه فيها..
,
, وفوجئ بها تقول بصوت رخيم، وهي تمد نحوه يدها كأنما تدعوه إليها:
,
, -لا تخف أيها الصغير الجميل..اقترب مني ولاتخف..وأعدك ألا تشعر بشيء..
,
, هذه المرة انطلقت صرخاته المكتومة، فاستدار ،واندفع نحو باب المشرحة ليجده مغلقاً ، إزداد رعبه ،وقد أيقن أنه قد صار حبيساً معها في المشرحة بمفردهما..فأخد يطرق الباب بجنون عسى أن يسمعه أحد ما بالخارج فيأتي لنجدته ..ومن خلفه وصله صوتها قريباً من أذنه كثيراً ،قائلاً :
,
, -كلكم حمقى.. هكذا أنتم أيها البشر..أنتم حمقى بالفعل.
,
, شعر بأنفاسها الحارة تصطدم برقبته من الخلف..انتشر في الفراغ عبق أنثوى مثير..استدار بيأس؛ ليجدها خلفه تماماً ، ويديها تمتدان نحوه..حاول أن يدفعها بعيداً عنه بيديه، لكن يديه خانتاه فلم تستجيبا له..أحاطت وجهه بأنامل رقيقة حانية ،وهي تقول بصوت مخيف،وابتسامتها المخيفة تتسع في وجهها كله:
,
, -لقد صرت لي الآن ياصغير..توقف عن المقاومة ،ولاتخشى شيئاً..سينتهى الأمر سريعاً فلاتقلق.
,
, هذه المرة قررت مراكز المخ العلوية، أن وقت الإغماء قد حان ..فهوى على الأرض مغشياً عليه .. للأبد.
٢٠
لقد ولت الأيام الطيبة لتفسح للأيام التعيسة مكانها ..
,
, هكذا فكر رئيس المباحث الرائد علاء رشدان ،وهو يرمق بحنق جثة الدكتور كمال الراقدة أمامه على أحد مناضد المشرحة ،وقد اكتسبت بشرتها لوناً بنياً، لايختلف عن باقي الجثث المجاورة ،وتم حفظها بالفورمالين هي الأخرى .
,
, راقب خبراء البحث الجنائي الذين انهمكوا مرة أخرى في البحث عن أي دليل قد يقودهم إلى الفاعل ..شعر أنهم لن يصلوا لشيء هذه المرة أيضاً، تطلع إلى ساعته؛ فأدرك أن الطبيب الشرعي ،ووكيل النيابة قد تأخرا كثيراً .. كان ينتظرهما منذ ساعة أو أكثر ،ولم يأتِ أيهما بعد..
,
, أخرج سيجارة من علبة تبغه، وراح يحركها بين أنامله للحظات، ثم وضعها بفمه وأشعلها ،وأخذ ينفث دخانها بعصبية ،وأفكار كثيرة تتصارع في عقله ؛ فشعر بالإجهاد ..
,
, لقد اقترن به سوء الحظ هذه المرة، فَأُلقيَ في طريقه جريمتي قتل غامضتين في مكان واحد، ويفصلهما أسبوع واحد..كان أمامه شهور قليلة قبل الترقية الجديدة التي حان موعدها، لم يكن ليحتمل الآن مفاجأة من أي نوع قد تعوقه عن الحصول عليها..عليه أن يزيح هذا الغموض، وأن يصل إلى القاتل ؛ وإلا صارت ترقيته في مهب الريح ..
,
, تكاثفت سحب الدخان الرمادية حول رأسه ،وهو يفكر، هل ولت الأيام المبهجة التي كانت قضايا القتل فيها نمطية بلا ألغاز حقيقيه..من قبل كان المتهم دائماً موجوداً ،وكان يعلم كيف يوقعه، ويدفعه لأن يعترف بارتكاب الجريمة ..لو كان القتيل شاباً ابحث عن الزوجة والعشيق ،ولو كان رجل أعمال..فحتماً هناك عشيقة ما في الخفاء أو شريك أو منافس..إنها الجرائم التي اعتادها ويعرفها، ويعرف بحدسه كيف يصل إلى الفاعل فيها دون عناء حقيقي.
,
, لكن الأمر هاهنا يختلف..إن جريمة مزدوجة كهذه تمت بهذه الصورة الغامضة لن يصلح لها أسلوب التلفيق ..كان من السهل أن يتهم أحد عمال المشرحة بفعلها ،وبالتأكيد سينجح في إجباره على الاعتراف بفعلها ..لكن من يضمن له أن القاتل الحقيقي سيكف عن جرائمه بعدها مكتفياً بمن قتلهم..فلو لم يتوقف القاتل الحقيقي حينها، وارتكب جريمة جديدة ، فسوف يبرئ هذا المتهم الذي لفق له التهمة ..وحتما لن يكون موقفه أمام رؤسائه مقبولاً ..
,
, وجد نفسه يلقي عقب السيجارة دون أن ينتهي منها تحت حذائه ،ويدهسها بعنف ،وهو يتمتم :
,
, -اللعنة !
,
, انتبه في تلك اللحظة إلى وكيل النيابة الشاب، الذي اندفع بخطوات سريعة إلى داخل المشرحة ،وقد بدت علامات الترقب على خلجاته، ثم توقف لحظة في منتصف القاعة الواسعة ،مسحت خلالها عيناه المكان المكتظ برجال الشرطة ،والمعمل الجنائي، ثم تلاقت عيناه بعيني الرائد علاء، فاتجه إليه ،وهو يقول بانفعال:
,
, -قتيل آخر بالمشرحة؟! ..ما الذي يجري هنا بالضبط؟!.
,
, تنهد الرائد علاء ،وأومأ برأسه مؤكداً ، ثم غمغم، وهو يشير بإصبعه، إلى جثة الدكتور كمال الراقدة على منضدة على يمينه :
,
, - هذه المرة القتيل هو معيد بالقسم ..كان بالمشرحة بالأمس حيث كان يقوم بإعداد الجثث، ويبدو أنه لم ينهِ عمله في موعده ،فاستمر بالمشرحة بعد انصراف الجميع ،إلى إن اكتشفوا جثته في الصباح ..
,
, اقترب الاثنان من الجثة محاذرين الاصطدام بأحد رجال البحث الجنائي الذي ركع على ركبتيه متفحصاً أرضية الحجرة بعدسة في يده..
,
, كشف وكيل النيابة الغطاء عن وجه الجثة ،فطالعه وجه التصقت به صرخة صامتة ،وعيون جاحظة مفزوعة..ولاحظ اللون البني الذي اكتسبه، ورائحة الفورمالين القوية التي راحت تفوح منه ،فغمغم بشيء من عدم الراحة :
,
, -ومن اكتشف الجثة هذه المرة ؟.
,
, -أحد عمال المشرحة أيضاً ،تماماً كما حدث في المرة السابقة، كان مرزوق هذه المرة ،إنه أحد الاثنين اللذين احتجزناهما في المرة الماضية..
,
, أومأ وكيل النيابة برأسه متذكراً ،ومال رأسه نحو الجثة ،وغمغم مغالباً رائحة الفورمالين القوية التي تثير أغشية أنفه المخاطية وتحرقها:
,
, - إنه محفوظ هو الآخر بالفورمالين..يبدو أن لدينا هنا قاتل يهوى التشريح؟
,
, - أظن أن هذا يضيق دائرة البحث عن القاتل..إنه بالتأكيد أحد العاملين هنا بقسم التشريح..ربما يكون أحد الأطباء وربما أحد العمال..فحقن الجثتين بالفورمالين هكذا ،يشير أن القاتل له خبرة بطريقة حفظ الجثث ..
,
, أشار وكيل النيابة بإصبعه نحو باطن يد القتيل اليسرى ،وهو يقرب إصبعه من جرح قطعي عميق دون أن يلمسه، وضاقت عيناه متفحصة إياه وهتف :
,
, -وهل لاحظت هذه الإصابة ،يبدو كجرح حديث، اعتقد أنه قد تم بفعل آلة حادة.
,
, انحنى الرائد عادل بجواره، وهو يتطلع إلى الإصابة العميقة التى بدت حوافها غير منتظمة في ساعد القتيل الأيسر ؛بالرغم من اكتسابها لوناً داكناً بفعل الفورمالين ،وقد برزت بعض أنسجتها المتهتكة ، وقال :
,
, -لقد رأيتها بالفعل ..لكنني لا أظنها تفسر وفاته..جرح كهذا لن يقتله أبداً.
,
, هزّ وكيل النيابة رأسه موافقاً ، وقال، وهو يعتدل :
,
, -لكنها ربما تدل على مقاومة القتيل لقاتله ..إن الطبيب الشرعي هو من سيخبرنا كيف تم هذا الجرح.
,
, وانتبه حينها إلى خلو المكان من الطبيب الشرعي ،فقال بدهشة:
,
, -لكن أين الدكتور عادل؟.. ألم يستدعه أحد ؟!.
,
, -لقد أرسلت بالفعل في طلبه..لقد حدثتهم في مصلحة الطب الشرعي ، فأخبروني أنه في معاينة خارجية، لحادث طريق، فأرسلت إحدى سياراتنا إلى مكان الحادث لجلبه.
,
, ضاقت عينا وكيل النيابة ،وهو يتفحص المكان متأملاً ..لاحظ الكرسي المقلوب، وأدوات التشريح المبعثرة أسفل إحدى المناضد التى عليها جثة ما، والتي انهمك بعض خبراء البحث الجنائي في تصويرها قبل أن يجمعوها بحرص محافظين على البصمات الموجودة بها ،ثم وضعوها بأكياس بلاستيكية للتحفظ عليها ..
,
, أخرج علبة سجائره من جيبه، وتناول سيجارة منها قدّمها للرائد علاء، فتناولها شاكراً ، ثم أخرج واحدة أخرى، ووضعها في فمه، وأشعلها ،وهو يقول للرائد علاء:
,
, -مارأيك لو إنتظرنا بالخارج قليلاً ..الرائحة هنا كريهة للغايه، وقد بدأت أشعر بالاختناق من هذا المكان .
,
, رافقه الرائد علاء للخارج شارداً ، وتوقفا أمام باب الحديقة الخلفي للمشرحة ، فحمل إليهما بعض النسمات الباردة التي أنعشتهما، وبددت من أنفيهما رائحة الفورمالين الخانقة ..وراح كل منهما يتنفس بعمق، وارتياح لطرد الرائحة الخانقة للفورمالين من صدرهم ، وغمغم وكيل النيابة:
,
, -إننى أتعجب من قدرة الأطباء والعمال على الحياة وسط هذه الرائحة المريعة للفرومالين ،والجثث المتحللة ..إنني أشعر بالغثيان الشديد من هذه الدقائق القليلة التي قضيتها بالداخل.
,
, -لابد أنهم قد تعودوا عليها ..وإن كنت لا أفهم كيف يتعود إنسان على رائحة كهذه..إنها سيئة بالفعل.
,
, -أوافقك في رأيك هذا ..ومن الصعب أن يتعود أحدنا على شيء كهذا..لابد أن الأطباء يمتلكون أنوفاً غير التي نمتلكها ليحتملوا هذا.
,
, صمت بعدها لينتهي من سيجارته ،وعاد ليحدث الرائد علاء قائلاً :
,
, -اعتقد أنك تتفق معي في أن قاتل هذا الطبيب والطالبة هو نفس الشخص..لا أعتقد أنه قاتل آخر.
,
, أومأ الرائد علاء موافقاً :
,
, -إنه حتما نفس القاتل .. لقد كرر مافعله بالمرة الأولى حرفياً هنا..أتعجب من رباطة جأشه التي تجعله يفعل جريميتن في نفس المكان في أسبوع واحد ..ألا يخشى هذا أن يفتضح أمره مثلاً؟..
,
, -أرى أن الأكثر عجباً أن يقوم ذلك القاتل بقتل ضحاياه، وبعد ذلك يحفظ جثههم بالفورمالين..لماذا يفعل شيئا كهذا؟ .. هذا مالا أفهمه؟!...
,
, -أخشى أنه يفعل هذا ؛ليحيرنا، ويسخر منا ..وربما كان مجنوناً ، ولهذا يقوم بتلك الأفعال الغير مبررة .
,
, سطعت في عقل وكيل النيابة فكرة ملحة وغريبة في الوقت نفسه.. ترك عقله يقلب فيها للحظات قبل أن يعرضها على مفتش المباحث قائلاً :
,
, -أتعلم فيما أفكر فيه الآن يا علاء بك؟
,
, تلاقت عيناهما للحظة ،وهزّ الرائد علاء رأسه منتظراً إجابته ؛ فأكمل وكيل النيابة ببطء،كأنما يختبر وقع استنتاجه عليه:
,
, -قاتل متسلسل..
,
, تصلب وجه الرائد علاء بدهشة ،وردد :
,
, :قاتل متسلسل !..قاتل متسلسل في مصر !.. لم يحدث شيء من هذا القبيل من قبل ،الحادثه الوحيدة التى نذكرها في هذا الشأن هي «رايا وسكينه»، وإن كنت لا أعدها قتلاً متسلسلاً ..كانت قتلاً من أجل السرقة.
,
, قالها ،وراح يتذكر ما درسه من قبل في الكلية عن حوادث القتل المتسلسل ..كانت محاضرة مملة لم يشعر بأن لها أهمية ما، وخاصة أن عقله قد استبعد من البداية أن يواجه في يوم من الأيام قاتلاً كهذا ..
,
, لكنه مازال يذكر ماقاله المحاضر عن انتشار تلك الجرائم في أحياء، وأزقة المدن الأوربية، وبخاصة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين..القاتل فيها إما أن يكون مهتزاً نفسياً أو سادياً عنيفاً .. وضحاياه يكونون في الغالب من المومسات ،أو اولاد الشوراع ،أو العجزة المرضى ،والمشردين ..وغالباً ما يميل القاتل إلى اتباع سلوك متكرر في جرائمه .. كان مازال يذكر أسماء عدة ذكرها المحاضر كأمثلة لهؤلاء القتلة؛ مثل جاك السفاح ، و تيد بندي..لكنه نسي الآن تماماً ماذا فعلوا بالضبط ..
,
, ومازال يرفض أن يتخيل أن تحدث جرائم كهذه في مصر ..إنها جرائم يحلو لبعض كتاب الصحف المتأنقين التحدث عنها، وقصها للقراء لإثارة دهشتهم..وزيادة توزيع جرائدهم..لكن الواقع يقول إنه لامكان لحوادث كهذه في مصر.
,
, لكن وكيل النيابة كان مصرّاً على فكرته، فأكمل بحماس :
,
, -إن كل مانراه هنا يقودنا نحو هذه الفكرة بالرغم من غرابتها..لدينا قتيلان في مكان واحد ،لارابط بينهما ..ولادافع واحد لقتلهما ..ثم يحدث عبث بالجثث بعد قتلها ..ألايوحي لك هذا بأننا قد نكون إزاء قاتل مختل عقلياً أو قاتل متسلسل؟.. ألا يوحي لك حقن القتلى بالفورمالين بعد موتهم أن القاتل يتبع في فعله الطقوس نفسها ..
,
, بدت الفكرة بالرغم من غرابتها ،وعدم تقبل عقل الرائد علاء لها منطقية كثيراً ..فقال بتوتر:
,
, -لو كان قاتلاً متسلسلاً فعلاً فنحن في ورطة .. إننا لم نواجه شيئاً كهذا من قبل ،ولاخبرة لنا في التعامل معه ..
,
, -ستكون ورطة بالفعل ..فالقاتل هنا قد يكون أي واحد ممن حولك ..قد يكون عامل المشرحة ،وقد يكون رئيس القسم نفسه .. وغالبا من الصعب أن تتوقع من يكون أو أن توقعه ؛لأنهم غالبا ما يتميزون بثبات نفسي رهيب يبعد الشكوك عنهم تماماً ، وعليك حينها أن تنتظر مصادفة ما أو خطأ يرتكبونه كي توقعهم.. الحظ هنا هو سلاحك الأول في مواجهة قاتل كهذا.
,
, تنهد الرائد علاء بعمق ،وحمل وجهه تعبيراً مبهماً من الحيرة والقلق ..كان يتمنى بداخله ألا يكون استنتاج وكيل النيابة صائباً ..ليس هذا وقت القضايا المعقدة الصعبة..نريد القاتل الأحمق الذي يكاد وجهه يصرخ «أنا القاتل»
,
, حاول أن يبعد الفكرة عن عقله ،لكنها كانت ملحة كذبابة صيف لعينة..قاتل متسلسل !..أيكون هذا ما يواجهه حقا؟!..
٢١
كان جميع عمال المشرحة في حال يرثى له، فجميعهم يدرك أن مايحدث ليس جرائم قتل عادية ..إن هناك شيئاً شيطانياً يدور في المشرحة ..شر واجهوه جميعاً ، لكن أحدا لا يصدقهم ..
,
, المشكلة الحقيقية الآن أنهم صاروا المشتبه الأول في جريمتي القتل ..إنهم أضعف أطراف الحلقة ،وبالتالي فهم المتهم الجاهز دائماً .وحتماً لن يتهم الأمن أحد أطباء المشرحة طالما العمال المساكين موجودين.
,
, كان العمال الأربعة في النيابة في انتظار مثولهم للتحقيق مرة أخرى أمام وكيل النيابة..أكثرهم جزعاً كان حسن..كان آخر من رأى القتيل ..وبالتالي كان يخشى أن يتهموه بقتله ..
,
, يعلم يقيناً أن الجاني الحقيقي ليس بشرياً ، ولذا فـ مهما بحثوا عنه؛ فلن يستطيعوا أن يصلوا إليه ..لذا تداعت في ذهنه عشرات الخيالات المرعبة ..لابد أنهم في حاجة الآن لاتهام أحد ما بارتكاب الجريمتين ،ولأنه مجرد عامل بالمشرحة ،لا ظهر له أوسند ،فلن يعدموا حيلة ما كي يلفقوا التهمة له ...هذه أشياء سمع عنها من قبل في الحارة والمقهى ..
,
, هل ينسى محروس صبي المكوجي الذي اقتادوه من بيتهِ ذات مساء ،ولفقوا له تهمة سرقة المدرسة الإعدادية..علم جميع سكان الحارة أنه مظلوم ؛لأنه وقت ارتكاب الجريمة كان موجوداً في المقهى ،وعشرات الرواد كانوا قد رأوه وشهدوا بذلك بالفعل..
,
, لكن الضابط الذي قبض عليه ولفق له التهمة كان ذئباً .. فوضع بعض الأشياء التي تخص المدرسة بحنكة أسفل فراشه أثناء تفتيش حجرته ..وتكفل الضرب والتعذيب في أن يعترف الولد بالتهمة ،ولم تشفع له شهادة الشهود، ليحكم عليه القاضي بالسجن لخمسة أعوام ..
,
, لكن الأمر هنا ليس سرقة أو مشاجرة ..إنها جريمتا قتل ..مما يعني أن العقوبة هذه المرة هي الإعدام حتماً ..
,
, ارتجف حين جالت الفكرة برأسه، فقال لعم فراج بصوت أقرب للبكاء :
,
, -هل سيعذبوننا ياعم فراج كي نعترف ؟...
,
, أجابه عم فراج بهمس، وهو يتلفت حوله بخوف كي لايسمعه أحد ما من العساكر أو المخبرين المنتشرين كالجراد حولهم:
,
, -نعترف بأي شيء يا أبله؟!.
,
, -بأننا من قتلنا الدكتور كمال ،وتلك الطالبة ...
,
, هذه المرة همس مرزوق فيه بذعر ،وهو يتلفت هو الآخر حوله ليتأكد أن أحداً من حراس النيابة لم يسمع ماقاله حسن :
,
, - اصمت أيها الغبي ..هل تريد أن تثبت علينا تهمة لم نرتكبها.. انتبة حسن إلى خطئه ؛فانكمش في نفسه أكثر ليزداد ذعراً حتى شعر بأنه سيفقد وعيه قريباً من الهلع ، بينما قال عم فراج محاولاً تهدئته هامساً:
,
, -نحن لم نفعل شيئاً ياحسن..ولا دليل واحد يدين أي منا .سوف يسألوننا كالمرة السابقة ،ثم يصرفونا بعدها إلى منازلنا..هذا ماسيحدث حتماً.
,
, قالها، وهو يشعر أَنّ ما سوف يحدث غير ذلك ..لكنه حاول أن يبدو أمام زملائه متماسكاً كي يطمئنهم ..إلا أن حسن لم يطمئنه هذا الرد ؛وعاد ليغمغم بصوت خافت:
,
, -وهل هؤلاء في حاجة لدليل؟..إنهم يفعلون مايرغبون فيه، وهم بحاجة الآن لمن يحمِّلوه القضية ،و لايوجد لديهم غيرنا ليتهموه .
,
, تمنى مرزوق لو كان يستطيع أن يوسعه ضرباً لحماقة ما يقوله .. خاف أن يورطهم جميعاً في الأمر بغبائه هذا لو تفوه بمثل ماقاله الآن في التحقيق .. أراد أن يسبه ليصمت، لكن العسكري القابع على باب وكيل النيابة نادى على حسن في تلك اللحظة ؛فصمت الجميع و إلتفتوا اليه ..
,
, دارت عيناه بين زملائه ببؤس، ثم أخذ يجر جسده البدين جراً نحو حجرة التحقيق ؛ وهو يرتعش بشدة، ويتلو المعوذتين في سره.
,
, حين دخل الحجرة لاحظ وكيل النيابة الشاب اضطرابه والارتجافة التي تعروه،فسأله ببطء عن بياناته،وعيناه معلقتان به..وعبثاً حاول حسن أن يبدو متماسكاً ،وهو يجيب أسئلته، لكنه ازداد ارتباكاً فلم يدري ماذا أجاب..
,
, لاحظ أن وكيل النيابة يسأله في أشياء متناقضة لارابط بينها، ففطن إلى أنه يريد أن يوقعه في خطأ ما ،فازداد اضطرابه، فصارت إجاباته مزيجاً مبهماً لامعنى له ..وبنفاذ صبر صاح فيه وكيل النيابة حين أيقن أنه لم يظفر منه بشيء ذي قيمة ، وهو يضرب سطح مكتبه بكفه:
,
, -اسمع يا حسن.. ربما تكون بريئاً ، ولست أنت الجاني ،لكنك كنت لسوء حظك آخر من رأى القتيل..لهذا فأنت أمامي المشتبه الأول في ارتكاب هذه الجريمه..وهذه ليست الجريمة الأولى كما تعلم ..إننا بحاجة إلى أن تخبرنا بكل ماتعلمه ،وكل ماسمعت به ،أو رأيته كي نستطيع القبض على القاتل الحقيقي، وإلا فالإدانة بانتظارك ،ولن أستطيع مساعدتك أبداً مادمت صامتاً ..حاول أن تساعد نفسك يارجل وتكلم.
,
, تماسك حسن بصعوبة مجاهداً ألا يبكي، وشعر بأنفاسه تختنق ،وهو يتخيل حبل المشنقة، وقد التف حول عنقه؛ فأجاب بصوت أقرب باكٍ للولوله:
,
, -ولكني لم أقتله..أقسم إنني لم أفعل..لقد أمرني أن أتركه بمفرده ليكمل عمله؛ فتركته لألحق بأتوبيس الكلية ..إن هذا هو ماحدث..
,
, - إذن من برأيك قد يكون القاتل؟
,
, -لا أعلم ..لو كنت أعلم شيئاً لأخبرتك به على الفور ..لكنني لا أعلم ..
,
, في النهاية أصدر وكيل النيابة أمرا بحبسه أربعة أيام قيد التحقيق.. فأخذ يبكي، ويصرخ بأنه لم يفعل شيئاً ،وأنه مظلوم ،والحارس يضع في يديه القيود الحديدية ..قبل أن يخرج به.
,
, دخل بعده عم فراج الذي أنكر هو الآخر أن يكون له صلة ما بالجريمة .. فهو قد انصرف في الثالثة مع عبد الوهاب ،ومرزوق تاركين حسن بمفرده بالمشرحة مع القتيل..إلا أن وكيل النيابة نهض من مكانه، وتوقف بجوار المكتب عن يساره ،وعقد يديه خلف ظهره و بدا صارماً للغاية، وهو يقول بصوت مخيف :
,
, -المشكلة أنني لم أصدق حرفاً مما ذكرته في التحقيق من قبل، في حادث مقتل تلك الطالبة قبل أسبوع ..لقد ادعيت أنت والعامل الآخر أن هناك من هاجمكما في المشرحة حينها، ولهذا غادرتم المشرحة ..ومن حسن حظكم أن حارس أمن الكلية قد ذكر أنكم قد غادرتم المكان قبل الحادث بوقت طويل..فتركتكم حينها..لكن هذه المرة الأمر مختلف..لن أذكر في التحقيق أن الأشباح أو حتى الجن الأزرق هي الجاني..سأصير أضحوكة كافة وكلاء النيابة إن فعلت.
,
, -لكن ماقلته هو ما حدث بالفعل، وأنا لم أكذب..
,
, -ومن قال أنني أتهمك بالكذب..فقط أعطني قصة معقولة يمكن تدوينها في التحقيقات، وسوف أجعلك تغادر المكان على الفور..
,
, - يا فندم أنا لا أعلم إلا القصه التي حدثت لي أنا وباقي العمال ..إنني وباقي العمال قد مررننا بأحداث غامضة في المشرحة ،لكن الجميع يأبى أن يصدقنا بالرغم من أن مانقوله هو الحقيقة.
,
, رمقه وكيل النيابة بنظرات نافذة كأنما يتقين من خلجاته مقدار صدقه في ما يذكره، ثم تحرك نحوه، وتوقف بجواره تماماً ووضع ذراعه فوق كتفيه ،وقال له بهدوء :
,
, -لنترك أمر أشباحك أو أيّ ما كانت الآن جانباً ..وأخبرني ، هل كان للقتيل عداء مع أحد ما أو تشاجر مثلاً مع أحد ما مؤخراً ؟.
,
, -الدكتور كمال - الراحل - كان يتعامل معنا بشيء من التعالي والتكبر.. ولا أبالغ لو قلت أنه يعامل الجميع باحتقار ..لذا فقد كنا جميعاً نتحشاه بقدر الاستطاعة.
,
, لكن لا أظن أن هذا التعالي قد يدفع أحد ما لقتله.
,
, - وماذا عن الأطباء والأستاذة في القسم..كيف كانت معاملته معهم ،وهل كان على خلاف مع أحد ما منهم ؟
,
, - لم أسمع أنه تشاجر مع أحد منهم ..لكننا لاحظنا بعض المشاحنات الصغيرة بينه وبين الدكتور نبيل في بعض الأحيان.
,
, انتبه وكيل النيابة ،ودون الاسم في ورقة صغيرة على مكتبه وقال باهتمام :
,
, -مشاحنات ؟.. هذا مثير.. أي نوع من المشاحنات تقصده بقولك هذا؟
,
, ابتلع عم فراج ريقه، وخشى أن يكون قد ورط الدكتور نبيل في الأمر ،فقال متداركاً :
,
, -لا أدري يابيه ..فالدكتور نبيل كان على عكس الدكتور كمال محبوباً من الجميع ،ويعامل الجميع معاملة طيبة ،ولهذا فجميعنا يحبه ..وهذا على النقيض من الدكتور كمال كما ذكرت لك..وأظن أن الدكتور نبيل لم يكن راضياً عن الطريقة التي يتعامل بها الدكتور كمال مع الجميع ،ولهذا كانا أحياناً يختلفان.
,
, -وهل وصل الأمر حد العراك يوماً ما.
,
, -لم يحدث هذا أبداً ..الأمر لم يتعدى أبدا مشاجرات لفظية... استمر وكيل النيابة بعدها في توجيه الأسئلة، وعم فراج يجيب عليها دون جديد يذكر..في النهاية أمر بإخلاء سبيله كالمرة الماضية بضمان محل إقامته.
,
, دخل عبد الوهاب بعد ذلك ،ولم يختلف ما ذكره في التحقيق عما ذكره عم فراج، وخاصة حين حاول وكيل النيابة أن يعلم منة طبيعة العلاقة بين الدكتور نبيل والدكتور كمال والمشاحنات التي كانت تتم بينهما .. في النهاية تم إخلاء طرفه أيضا بضمان محل إقامته..
,
, فى النهاية كان مرزوق ..لم تختلف أقواله هو الآخر كثيراً عن زملائه ، إلا أنه أضاف شيئاً خطيراً ..فعندما سأله وكيل النيابة عن أعداء ما محتملين للقتيل صمت لحظة قبل أن يجيب مطرقاً برأسه لأسفل:
,
, -الكل لاحظ أنه كان دائم التشاجر مع الدكتور نبيل.
,
, هنا أراد وكيل النيابة أن يستزيد من معلوماته فسأله:
,
, -لابد أن هناك سبباً ما لتلك المشاحنات؟.. أليس كذلك يامرزوق؟ أدرك مرزوق مقصده، فأجاب وهو يطرق برأسه لأسفل كأنما يهم بإلقاء معلومة خطيرة :
,
, -ربما لأن الدكتور نبيل كان دائم السخرية منه ، وربما من أجل ... صمت لحظة متردداً ،فمال نحوه وكيل النيابة باهتمام وقال:
,
, - من أجل ماذا يامرزوق ؟..
,
, -ربما بسبب الدكتورة فاطمة.
,
, قالها مرة واحدة، فنظر إليه وكيل النيابة بتساؤل وقال :
,
, -لست أفهم ماذا تعني بقولك هذا.
,
, -أظن أن الدكتور كمال – الراحل - كان يميل قليلاً إلى الدكتورة فاطمة لكني أعتقد أنها كانت تفضل الدكتور نبيل..وربما كان هذا الأمر يحنق الدكتور كمال ويغضبه.
,
, لم يذكر بعدها مرزوق شيئاً مهما آخر، وفى النهاية أمر وكيل النيابة بإخلاء سبيله الآخر بضمان محل إقامته ،واستدعاء الدكتور نبيل ،والدكتورة فاطمة للتحقيق معهما.
٢٢
جلس الدكتور نبيل بهدوء ورباطة جأش أمام وكيل النيابة .. كان يبدو علي وجهه بعض الاضطراب..لكن نظراته الثابتة وشت بتماسكه..تأمله وكيل النيابة متفحصاً ..لكن وجه الدكتور نبيل لم يُنْبِئُهُ بالكثير، لذا بدأ في طرح أسئلته :
,
, -علمت أنك لم تكن على وفاق مع القتيل..هل هناك سبب ما لهذا؟ كان سؤالاً مباشراً أراد به أن يربكه ،إلا أن الدكتور نبيل رد بصوت قوي ثابت:
,
, -لقد كانت خلافات العمل الطبيعية..ربما لأنني كنت أعترض على أسلوب تعامله المتعالي مع الطلاب والعمال ..لكن من الصعب أن تسمي ما كان بيننا خلافات حقيقية.
,
, -وماذا عن الدكتورة فاطمة ؟..
,
, بان الانزعاج على ملامح الدكتور نبيل ،فهتف باستنكار:
,
, -ماذا عنها؟..
,
, -لاشيء.. فقط أتساءل هل كان القتيل يميل إليها.
,
, -لم ألاحظ شيئاً كهذا ..ولم تخبرني هي عن شيء كهذا.
,
, واكتسب صوته رنة حزم ،وهو يكمل:
,
, -ثم إننا مخطوبان تقريباً لبعضنا البعض..فقط قررنا أن نخفي الأمر قليلاً ؛ حتى ننتهي من الماجستير.
,
, هزّ وكيل النيابة رأسه بفهم ،وقال:
,
, -متى كانت آخر مرة رأيت فيها القتيل ؟.
,
, -قبل مقتله بيوم ..كنا نعمل سوياً لإعداد الجثث بالمشرحة أنا وهو والدكتورة فاطمة..
,
, صمت بعدها للحظة، وهو يفكر إن كان عليه أن يخبره بتلك المشاجرة الصغيرة التى حدثت في ذلك الوقت..خشى أن يكون وكيل النيابة على علم بها ؛فيشك فيه لو أخفاها عنه ..انتبه وكيل النيابة إلى صمته وتردده، وشعر أنه يريد أن يقول شيئاً ما فاكتفى بمتابعته في انتظار أن يتكلم..بعد لحظات حسم نبيل أمره، فقال:
,
, -في هذا اليوم كانت هناك مشادة بسيطة بيني وبينه،غادر على إثرها المشرحة،ولم يعد ليكمل عمله إلا حين انتهينا أنا والدكتورة فاطمة من عملنا
,
, -إذا فقد تشاجرتم حينها مرة أخرى..أيمكنني أن أعرف لماذا حدث هذا؟.
,
, قص عليه الدكتور نبيل ماحدث..إلى أن غادر الدكتور كمال المشرحة غاضباً ..وأخبره أنه لم يره بعدها..عاد وكيل النيابة ليسأله:
,
, -ومتى غادرت الكلية في ذلك اليوم..
,
, -غادرتها في الثانية والنصف عصراً بصحبة الدكتورة فاطمة والدكتور عبد الغنى جابر أحد زملائنا بالقسم ..إنني أمتلك سيارة صغيرة ، واعتدت أن أقلهم للمنزل كل يوم.
,
, رمق وكيل النيابة الكاتب الذي جلس بجواره ،وراح يدون كل كلمة يقولها نبيل ..ثم التفت إلى نبيل، وقال له:
,
, -بالطبع تعلم أن هذه الجريمة هي الثانية بالمشرحة بعد مقتل تلك الطالبة الأسبوع الماضي ..من برأيك من الممكن أن يفعلها؟.. هل يكون أحد عمال المشرحة مثلاً ؟
,
, -كلا بالطبع ..إنني أعرفهم جميعاً جيداً ..ومن الصعب أن أتخيل أن أحدهم بإمكانه ارتكاب جريمة كهذه.. إنهم إناس في منتهى الوداعة والبساطة،ومن العسير أن يقوم احدهم بشيء كهذا ..أرى أنكم تظلمونهم بشدة بشككم هذا فيهم انتهى بعدها التحقيق معه ..وجاءت بعده الدكتورة فاطمة التي أقرت ماذكره نبيل فأخلى سبيلها هي الأخرى.
,
, أرسل بعدها في طلب الرائد علاء رشدان ،الذى جاءه بعد أقل من نصف الساعة ،وجلس أمامه بإرهاق حقيقي، فسأله عن نتائج التحريات التي قام حول القتيل وأهله، وهل اكتشف أعداءً له ، فأجابه الرائد علاء أنه لم يتوصل إلى شيء ذي بال ؛ فطلب منه وكيل النيابة أن يضع المشرحة تحت الحراسة الدائمة في الفترة القادمة ،وأن يتم تسجيل خروج ودخول كل شخص يدلفها ،فوافقه الرائد علاء ،ثم انصرف.
٢٣
تبادل الدكتور منصور رئيس قسم الطب الشرعي بكلية الطب والدكتور عادل كبير أطباء مصلحة الطب الشرعي النظرات الحيرى ..كانوا قد انتهوا من تشريح جثة الدكتور كمال .. وكما جرى في المرة السابقة لم يضف التشريح إليهم جديداً غير الحيرة، والمزيد من الألغاز..
,
, كانت جثة الدكتور نبيل كالجثة السابقة، بلا دماء على الإطلاق، كأنما امتصّت كل الدماء التى بها لآخر قطرة ،وكذلك تم حقن أوعيتها الدموية بالفورمالين دون أن يظهر عليها كيف تم هذا حقنها..وكان القلب أيضا فارغاً من الدماء تماماً ومضغوطاً بشدة كما حدث لقلب الطالبة القتيلة.
,
, كان هناك جرحاً عميقاً في كف اليد اليسرى ، إلا أنه لم يقدم لهم الكثير.. فاتجاه الجرح ،وأداة التشريح التي سببته ،والتي وجدت بجوار الجثة تؤكد أنه جرح ذاتي أحدثه الطبيب بنفسه..وفي الغالب سقط القتيل أرضاً ، وكان يحمل بيده تلك الأداة الحادة ؛فأخترقت أنسجته رغماً عنه، أيضاً لم يكن الجرح خطيراً ، ولم يكن ليسبب للقتيل مشاكل حقيقية.
,
, اغتسلا بعد انتهائهما من التشريح ،ثم ذهبا سوياً بعد ذلك لمكتب الدكتور عادل .. جلب لهم الساعي كوبين من الشاي ،وتناول الدكتور عادل سيجارة ، وقال للدكتور منصور مستئذناً :
,
, -أيضايقك أن أدخن؟
,
, - كلا بالطبع ..خذ راحتك.
,
, أشعل الدكتور عادل سيجارته قبل أن يقول :
,
, -والأن مارأيك يادكتور منصور ..ها هي جثة أخرى لم تقدم لنا إلا الأحاجي مرة أخرى ..
,
, -إن أكثر ما يحيرني هو أين تذهب دماؤهم ،وكيف تمتص هكذا ..لقد راجعت طوال هذا الأسبوع معظم مراجع الطب الشرعي القديم والحديث كي أرى إن كان ممكنا تفريغ الجثث من دمائها تماماً كما نرى هاهنا فلم أجد مايفيدني.
,
, وصمت للحظة وتقلصت ملامحه بانزعاج حقيقي وقال :
,
, -ليس من العدل أن تموت تلك الفتاة أو هذا الطبيب الشاب هكذا ..فتاة جميلة وصغيرة مفعمة بالأحلام والطموحات ،وطبيب في مقتبل عمره يجتهد كي يرتقي بنفسه ،ثم تنتهي حياتهما فجأة بلا ذنب أو مبرر حقيقي على يد قاتل حقير مريض ..إنني أهتم بتلك القضية ،لأنني أبحث عن بعض العدالة لتتحقق..بعض العدالة فقط ..فحتى لو وجدنا القاتل وأعدمانه لما تحققت العدالة الكاملة ..فموته لن يعني شيئاً لمن ماتوا ..لكنه يضمن بالتأكيد ألا يكون هناك ضحايا آخريين لهذا المعتوه
,
, سحب الدكتور عادل نفساً عميقاً ،موافقاً على ماذكره الدكتور منصور ..قبل أن يقول بضيق:
,
, -هل تعلم أن النائب العام بنفسه قد اتصل بي، وأخبرني بانزعاجه من حوادث القتل هذه ..وأبدى اهتمامه بنتيجة التشريح.
,
, -وماذا أخبرته ؟
,
, - أخبرته بالحقيقة..إن الأمر محير..ومازلنا نبحث عن حل يجلو ظلام الحيرة التي يعرونا.
,
, ران الصمت للحظة قبل أن يقول الدكتور منصور بتردد بعد أن ارتشف بعض الشاي من كوبه:
,
, -ستتعجب مني حين أخبرك بأنني عدت أفكر في تفسيرك الذي أخبرتني به في مكتبي.
,
, -أي تفسير ..لست أذكر أنني توصلت لتفسير ما.
,
, صمت الدكتور منصور متردداً ..إلا أنه في النهاية حسم أمره وقال بهدوء:
,
, -لقد قلت من قبل أنك تخشى أن يكون بالقضية أمر ما خارق للطبيعة أو لعنة ما..لا أدرى لماذا بدأت أميل لتصديق أن هذه الأفعال غير بشرية .. أشعر أنها تماثل ما سمعنا عنه من أفعال الجان والأرواح ..
,
, فى الواقع كان دكتور عادل من المؤمنين بهذه الأمور بشدة .. بل ويجزم أنه مرّ ببعض الحوادث الغريبة من قبل، إلا أنه لم يقصها لأحد؛ ربما لأنه يخشى أن يسخر منه البعض أو لا يصدقه؛ وربما لأنه يفضل أن يحتفظ بمثل هذه الخبرات لنفسه
في بعض الأحيان، كما أن الأشباح بالرغم من عدم إيمان البعض بها ،إلا أن ذكرها موجود في كل الثقافات.. لكن هل تعني بقولك هذا أن نضع احتمالاً كهذا في بالنا.
,
, صمت الدكتور منصور، وهو يزن كلماته ثم قال :
,
, -إنني رجل علم ..ولهذا أرفض أن أنساق لمشاعري دون دلائل واضحة .. لكن الغموض والتيه الذي نلاقيه في هاتين الجريمتين الغامضتين يدفعني للنظر في هذه الناحية جدياً ..لاحظ أن نتائج عملنا وتشريحنا للجثتين لايخضعان لتفسير علمي واضح.
,
, هرس الدكتور عادل عقب سيجارته في منفضة السجائر قبل أن يقول:
,
, -إذا ماذا تقترح ؟..
,
, ابتسم الدكتور منصور وقال:
,
, -أرى أن علينا أن علينا أن نستعين بأحد ما يهتم بمثل تلك الأمور الخوارقية كالجان والأشباح وغيرها..
,
, شعر الدكتور عادل أن الحوار قد أخذ منحنياً عملياً وجدياً ،فقال بترقب:
,
, - وهل تعرف أحد ما بعينه؟ هزّ الدكتور منصور برأسه ،وقال بحسم:
,
, - لا أثق هنا إلا بشخص واحد أعلم يقيناً أنه ليس نصاباً ؛إنه الدكتور عدلي راغب..رئيس قسم الطب النفسي بالكلية سابقاً .. هل تعرفه؟...
٢٤
بدت الكلية كلها في حداد وتوتر،و في قسم التشريح خاصة .. في البداية كان مقتل الطالبة الشابة ،والآن معيد شاب بنفس القسم ..
,
, وبالرغم من أن الدكتور كمال لم يكن الشاب اللطيف الذي يحبه أحد ما ،إلا أن للموت هيبة ،كما أن صغر عمره خلق حالة عامة من التعاطف معه..
,
, المشكلة الأكبر أن حوادث القتل قد تسربت بصورة ما إلى الطلاب .. ولايدري أحد كيف وصلت تفاصيل الجثث االمحنطة إلى أحد الطلبة، فلم يألو جهداً في نشر الأمر بين أوساط الطلاب ،لينتاب الجميع حالة عامة من الفزع .. و انتشرت الكثير من الإشاعات كالنار في الهشيم ..
,
, كان على أستاذة الأقسام المختلفة أن يبحثوا عن إجابات مقنعة لأسئلة الطلاب المتكررة بإلحاح عن حقيقة ماحدث..ولأنه لا أحد كان يعلم الحقيقة تحديداً ، ولغموض الأمر كلياً، تضاربت إجابة الأساتذة فزادوا الطلاب اضطراباً ؛فانتشر بينهم أن هناك ما يخفيه الأستاذة عنهم ..
,
, بالطبع انتشرت الإشاعات عن السفاح الذي يقتل الأطباء والطلاب ،ثم يقوم بتحنيطهم ..وتطوع خيال بعض الطلبة بإطلاق الإشاعات عن شبح المشرحة الذي يقتل من يوجد بها وحيداً ..تحمس البعض، وأعلنوا لزملائهم أنهم سيقتحمون المشرحة سراً بعد انتهاء اليوم الدراسي لكشف غموض مايحدث بها ..إلا أن محاولتهم ذهبت هباء لوجود بعض عساكر الأمن الذين تم تعينهم لمراقبة المشرحة وحراستها .. قرر بعض الطلبة برغبتهم أو برغبة آبائهم التغيب لفترة عن الدراسة حتى يجلو الأمر أو ينتهي.
,
, كان الدكتور فهمي في أسوأ حال ممكن .. ماهذا الذى يحدث بالمشرحة؟.. كان يحنقه أنه لا يدري كيف ومتى يستطيع بدء الدراسة بالمشرحة، ومامصير هذا العام الدراسي بها ..وبالطبع كان حزيناً لمقتل أحد اطبائه.
,
, ازداد معدل استهلاكه للسجائر بصورة مخيفة؛ حتى صار من النادر أن يراه أحد دون سيجارة مشتعلة في يده يعقبها دوماً بأخرى قبل أن تخبو نارها .. ازداد عصبية بصورة مخيفة، وصار سهل الاستثارة والغضب لأتفه سبب..
,
, جلس بمكتبه بصحبة الدكتور أنيس، الذى جلس على مقعد جلدي بجانب الحجرة الأيمن واضعاً ساقاً فوق ساق واجماً صامتاً..وقال الدكتور فهمي بضيق، وهو ينفخ من فمه وأنفه سحباً لاتنتهي من الدخان الرمادي :
,
, - لا أعتقد أن القسم واجه سوء طالع مثل هذه الأيام الكئيبة .. يبدو أنني قد نحسته حين صرت رئيساً للقسم.
,
, - لاتبالغ هكذا وكفى تطيراً ..إنها مصادفة سيئة لا أكثر، و مع الوقت ستنتهي ،و سينساها الجميع..إننا شعب يعرف جيداً كيف ينسى أكثر مما يعرف كيف يتذكر ..وبعد أسبوع أو أسبوعين سيعتاد الجميع الأمر ولن يهتموا به.
,
, - وماذا عن الدراسة بالمشرحة ..لقد توقفت تماماً ..وزاد الأمر سوءاً عساكر الأمن الذين صاروا يحرسونها ليل نهار.
,
, -إن هذا كله خطأ ،أنا أرفض وجود الأمن هكذا لأن هذا يفزع الطلاب؟..كما أنني لا أوافق مجلس الكلية في رفض بدء الدراسة العملية بالمشرحة..فلايجب أن يتأثر الطلاب بتلك المشكلات ،وأسهل طريقة لتبديد خوفهم ،وإخماد إشاعاتهم هو شغلهم بالدراسة والمحاضرات.
,
, صمت الدكتور أنيس للحظة بعدها قبل أن يميل نحو الدكتور فهمي قائلاً :
,
, -لقد فكرت في حل ، ربما يفيدنا مؤقتاً.
,
, قال الدكتور فهمي بلهفة .
,
, -أخبرني به ارجوك ؟
,
, -أرى أن نستعين بمشرحة القصر العيني..من الممكن أن يذهب إليها طلابنا يومين كل أسبوع بالتنسيق مع إدارة الكلية هناك .. كان حلاً مقبولاً ..فقال الدكتور فهمي مفكراً :
,
, -وهل تظن أنهم سيوافقون؟
,
, قال الدكتور أنيس ببساطة :
,
, -ولماذا يرفضون ..يمكني أن أتحدث في هذا إلى عميد الكلية ورئيس القسم هناك ، فهناك علاقة طيبة تربطني بهما ،والأمر هنا يتعلق بحق الطلاب في العلم ..
,
, -ليكن ،سوف أعرض الأمر على العميد ؛لآخذ موافقته. وبعدها يمكنك أن تحدثهم .
,
, ران الصمت مرة أخرى بينهما ..فأنهى الدكتور فهمي فنجان القهوة الذي يتناوله واجماً ،ثم قال الدكتور أنيس بعدها:
,
, -أتريد رأيي في ما يحدث؟
,
, أجابه الدكتور فهمي باهتمام:
,
, -بالطبع يادكتور أنيس ؟..
,
, -أرى أن نأخذ رواية عمال المشرحة بشيء من الجدية ، فبعد ماحدث لا أظن أنهم يتوهمون ماحدث لهم بداخل المشرحة أو يختلقونه ..هناك شيء غامض يحدث بالمشرحة ..هناك لمسة غير طبيعية ، في جريمتي القتل .. أعلم أنك تفهم ما أعنيه ؛وإن كنت ترفض تصديق ما تشير إليه الوقائع.
,
, قال الدكتور فهمي معترضاً :
,
, -يادكتور أنيس نحن أساتذة جامعيون ..علماء كما يقال في مجالنا.. ماتقوله يجرُّنا إلى تصديق الخرافات التي سمعناها، ونحن صغاراً ..هل تطالبني أن أصدق قصص العفاريت، والأشباح بعد أن صنع الإنسان الصاروخ ،وصعد إلى سطح القمر .. من الصعب أن أتخيل هذا..إن تلك الأشياء خرافات مبعثها الجهل والتخلف.
,
, ابتسم الدكتور أنيس، وهو يجيب:
,
, -وما التعارض بين هذا وذاك ....أنا شخصياً أرى أن لاتعارض بين الخوارق والعلم..ربما من العسير أن نُخضع تلك الأشياء للبحث والتجريب بقواعد العلم الحالية ..لكن هذا لاينفي وجودها ..ومن الممكن أن نكتشف القواعد الصحيحة لدراستها في يوم من الأيام ..بل وربما تصير إحدى فروع العلم القابلة للخضوع لآلياته حينها.
,
, أشعل الدكتور فهمي سيجارة جديدة محاولاً استيعاب ما يقوله الدكتور أنيس ..كان يحترم الدكتور أنيس بشدة فهو أكبر سناً وأغزر علماً ..إنه عالم حقيقي يدرك قيمته الجميع .. لكنه الآن يتحدث عن أشياء ظل طوال عمره يرفضها ..كان يرى أنها أقرب للدجل والخرافة ..
,
, لو كان شخصاً آخر هو من يتحدث إليه هكذا؛ لرد عليه بعنف ،فمن المستحيل أن يقتنع بشيء كهذا ..إلا أنه لا يستطيع أن يبوح برأيه هذا مسفهاً رأي الدكتور أنيس ..فهذا لا يليق احتراماً لقيمة الرجل، واحتراماً لصداقة دامت بينهما لأكثر من ثلاثين عاما ..
,
, لذا قال بهدوء:
,
, -ربما كان هذا صحيحاً ..لكني أعتقد أن حوادث القتل بالمشرحة لابد أن لها تفسيراً مادياً آخر..لايجب أن نخضع بسهولة لتلك التفسيرات العجيبة.
,
, -وهل استطاع عقلك تقديم تفسير مقبول لما حدث ..كيف تم قتل تلك الطالبة وكمال؟ ..وكيف تم حقن أوردتهم بالفورمالين بهذه الصورة دون إحداث ثقوب بأجسادهم ، وفي هذه الفترة القصيرة التي لاحظناها في حالة الفتاة ..
,
, هل تتخيل أن يتم قتل الفتاة والتخلص من دمائها ثم حقنها بالفورمالين في أقل من نصف ساعة؟! .. أخبرني عن أقل فترة زمنية نحتاجها لإعداد وحفظ الجثث بالفورمالين هنا؟..أربع ساعات على الأقل .. فكيف حدث هذا مع الفتاة في أقل من نصف ساعة إذا ؟.. أعطني تفسيراً مادياً معقولاً ، وسأطرح حينها أفكاري كلها جانباً.
,
, كان الأمر محيراً له ..هو نفسه فكر في الأمر مراراً ،محاولاً إيجاد تفسيراً معقولاً ،لكنه فشل ..لكن هذا لا يعني أن يطرح المنطق جانباً ليبحث عن شبح ما أو جثة كما ادعى عمال المشرحة لإلصاق التهمة بهم، لذا قال بعناد:
,
, - ربما لا أملك تفسيراً بالفعل..لكن من العسير أن أقبل أن الجان أو الأشباح هم من فعل هذا ..ماهو الدافع لديهم في القتل ..ولماذا لم يفعلوا هذا من قبل؟.
,
, لم يرد عليه الدكتور أنيس مباشرة ..فقد كان هذا وقت توجيه الاتهام لمتهم يجول بخاطره ..لذا قال بعد صمت طويل ،مرة واحدة:
,
, - جثة الفتاة! ..تلك الجثة التي جلبها مرزوق..لو لاحظت فإن كافة الأحداث حدثت بعدما جلبها مرزوق إلي المشرحة..أرى أن سراً ما يحيط بها..هل لاحظت كيف كانت تبدو حين جلبها مرزوق..لم تبد أبداً كجثة .. ألم تتعجب من خلوها من أي من علامات التحلل؟ ..لقد كانت بالفعل عجيبة محيرة في كل شيء.
,
, ثم ابتلع ريقه للحظة دون أن يرفع عينيه من عيني الدكتور فهمي، قبل أن يكمل بحماس:
,
, -لن أخجل من أن أخبرك أنني ذهبت بالأمس إلى المشرحة؛ لألقي نظرة عليها ..لقد فزعت حين أزحت جفنيها لأرى عينيها ..لن تصدق كم البريق والحيوية الذي مازالت تحتفظ به..بريق فشل الموت و الفورمالين في إطفائه..إن عينيها حيتان تماماً لو جاز لي التعبير.. إنني أعمل منذ أكثر من أربعين عاماً بالطب..كطبيب تشريح تعاملت خلالها مع مئات الجثث .. ولابد أنك تصدقني حين أخبرك أنه في حياتي كلها لم أرَ جثة كهذه.
,
, تطلع إليه الدكتور فهمي في حيرة ودهشة ..أيود الدكتور أنيس أن يتهم جثة بافتعال كل هذا ..هذا يتنافى تماماً مع العقل ..إنه لاينفي أن تلك الجثة كانت غريبة ،لكنها جثة في النهاية ..قال معترضاً :
,
, -إنها جثة يادكتور أنيس ..جثة !..فكيف يمكنها أن تفعل كل هذا ..الموتى سيظلون موتى إلى يوم القيامة ،ولن ينجح أحد في إحيائهم مهما فعل ..هذا أساس عقائدي لامجال لإخلاله.
,
, -أنا لم أقل إنها عادت للحياة..ربما كانت لعنة ما أو مس شيطاني يحيط بها ..شيء مثل لعنة الفراعنة فعلاً ..
,
, لم يقتنع الدكتور فهمي بتلك التبريرات ،إلا أنه غمغم مستسلماً :
,
, -إذن ماذا تقترح لنتأكد من افتراضك هذا؟
,
, -أرى أن علينا أن نقوم ببعض التحريات عن هذه الجثة ..من هي؟.. وكيف ماتت؟.. وماهي الظروف المحيطة بموتها ؟..إنني أنوي أن أستعين في هذا بمرزوق ..فمن يدري ربما وصلنا بعد هذا لشيء ما حينها...
٢٥
يعيش عم فراج في منشية الصدر .. منطقة فقيرة تنتشر فيها الأكواخ والعشش الخشبية والبيوت المصنوعة من الطمي كما ينتشر في أرجائها بعض محلات الأطعمة المتواضعة والقهاوي الرخيصة ..
,
, اختارها عم فراج ؛لأنها كانت قريبة للغاية من الكلية ولايفصلها عنها إلا مسافة قصيرة.. يسيرها كل يوم ..
,
, أحب المكان كثيراً ، فقد بدا ببيوته وسكانه مألوفاً له ،وذ كره بقريته بالمنيا حيث نشأ .. وَ لا عجب في هذا فأغلب القاطنين هنا ذوي أصول ريفية أو صعيدية بالفعل ..
,
, كانت الساعة تقترب من منتصف الليل حين غادر القهوة الوحيدة بالمكان ،حيث اعتاد أن يقضي سهراته فيها ..يشرب الشيشة ..يلعب الطاولة ..يتكلم في السياسة ..
,
, كانت القهوة وسيلة تساعده على إزاحة أوقات فراغه..حيث يظل بها حتى يشعر بالنعاس ؛فيغادرها متثاقلاً نحو داره ..
,
, انتصف الليل؛ فقرر العودة إلى منزله الصغير الذي يستأجره .. منزل عتيق مكون من حجرة واحدة ومطبخ صغير وحمام صغير بلا باب يدخله بالكاد ..وبالرغم من ضيق المكان إلا أنه كان يشعر بالرضا عنه..على الأقل هناك مكان يستره آخر الليل ..وصل المنزل وفتح الباب ،وامتدت يده إلى جانب الحائط الأيمن المجاور للباب حيث مفتاح الإضاءة ..ضغط عليه فلم يضيء المصباح الكهربائي ..فتمتم بضيق:
,
, -اللعنة ..هل أحترقت الأسلاك مرة أخرى؟
,
, تطلع من النافذة إلى الخارج ليلاحظ أن المنازل المجاورة له مضاءة ..إذاً فالعطل في بيته فقط ..كان من المستحيل أن يحاول معرفة مكان العطل الآن في هذا الظلام ؛ لذا فقد قرر أن يبيت ليلته في الظلام ،ولينتظر العطل للصباح ..اتجه إلى الحمام بعدها محاولاً ألا يتعثر في أي شيء بطريقه ،ونجح في هذا لحد ما ..وبعد أن قضى حاجته أشعل عود ثقاب ليبحث عن المصباح الزيتي ..
,
, وجده على أحد الأرفف بالحائط ..نزع غطاءه الزجاجي، وقرّب عود الثقاب من فتيله ليشعله ،لكنه لم يستجب ..تطلع على ضوء عود الثقاب الآخذ في الذبول إليه، فلاحظ أنه خالٍ تماما من الوقود..أعاده إلى مكانه، وقد تذكر أنه قد نسى جلب المزيد من الوقود ..
,
, غمغم بموال شعبي صعيدي شهير، وهو يتجه الى فراشه حيث خلع عنه جلبابه، ورقد عليه .
,
, كان من النوع الذي يرضى دائما عن نفسه ،ولايؤنب نفسه أبداً .. هل كان هذا تأثير الحشيش الذى يدمنه؟ ..ربما.. لذا كان من الصعب أن يعكر صفوه أي شيء حين يعود من المقهى، وقد شرب حجرين أو ثلاثة من المعسل المخلوط بالحشيش ..ولهذا لم يضايقه الظلام ،ولا أسلاك الكهرباء التالفة ،ولا المصباح الخالي من وقوده، ،ولم يمضِ وقت طويل إلا وقد راح في نوم عميق و تعالى شخيره.
,
, لم يدرِ هل نام طويلاً أم أن وقتا قصيراً قد مضى على نومه حين شعر بحركة ما في الحجرة..فتح عينيه باتساعهما محاولاً أن يخترق بهما الظلام الكثيف الذي يحيط به دون جدوى..هل هناك أحد ما غيره بالغرفة ؟ ..
,
, أيكون لصاً ما؟..ولكن لو كان كذلك فماذا سيسرقه .. المنزل بأكمله لايوجد فيه ما يستحق أن يعير أتعس لص انتباهه له.. لهذا لن يقتحم لص بيته ليسرق بعض الهلاهيل والكراكيب التي لن تجد من يشتريها ..
,
, إذن من هذا؟ ..أيكون فأراً ؟ ..ربما ..لذا هتف بصوت مخنوق متوتر:
,
, -من هناك ؟..
,
, جاوبه الصمت قبل أن يشعر فجأة ببرد غريب ينتشر بالمكان كله .. شعر بقلبه يضطرب فجأة، ورائحة عطرية قوية ومثيرة تتسلل نحو أنفه..
,
, مرة أخرى هتف بتوتر أكبر، وهو يحاول أن يجعل نبرة صوتة قوية غير مرتعشة، إلا أنه اكتشف أنهُ فشل في ذلك حين خرجت من فمه مرة أخرى مخنوقة أكثر :
,
, -من هنا ؟! تحدث وأخبرني من أنت؟
,
, مرة أخرى كان الصمت والبرد والخوف، والرائحة المثيرة تزداد قوة ..هنا تذكر فجأة أين شم هذا العطر من قبل..كان هذا في المشرحة..فى تلك الليلة التي هاجم فيه مرزوق شيء ما..فشعر بهلع شديد ..
,
, إنه بمفرده مع هذا الشيء ..أتكون نهايته الآن مثلما حدث مع الدكتور كمال وتلك الطالبة؟..إندفع الأدرينالين في جسده وقد خشى الموت ولم يشعر إلا بنفسه، وقد انتفض فجأة من فراشه ،وقد عزم أن يهرب ..سيجري نحو الباب ليفتحه، وينطلق إلى الشارع ،ولن يألوا جهداً حينها في الصراخ طلباً للنجدة ..
,
, لكنه ما أن تحرك حتى فوجئ بأنامل دقيقة باردة كالثلج ،وناعمة تحيط بذراعيه العاريتين، وتقبضان عليه بقوة وتصميم..
,
, حاول التملص من هذه القبضات الرقيقة القوية فلم يستطع ..هنا صرخ بأقوى مايملك..صرخ وهو يشعر بقدميه واهنتين ترتعشان كأقدام ولد يتعلم الحبو ..
,
, صرخ ..فترددت في المكان ضحكة أنثوية مثيرة ..صرخ وصوت جميل يقترب من أذنه، ويهمس فيهما بنشوة:
,
, -خائف أنت ومذعور ياصغيري ..إن هذا يطربني بشدة..
,
, هنا لم يعد في الإمكان أن يظل بوعيه كل هذا الوقت ،والهول بجواره ..لقد ظل محتفظاً بوعيه لفترة أطول من اللازم ،ففقد وعيه بين يديها.
,
, بالخارج تعالت الدقات القوية على باب بيته منادية عليه ،وقد انتبه بعض جيرانه لصرخاته ؛فهبو إليه لنجدته..تحطم الباب تحت وطأة الأكتف القوية التي راحت تصطدم به بقوة وحماس ..
,
, أضاء المصباح الكهربائى فجأة ،حين تحطم الباب ليجد المندفعون عم فراج راقداً على الأرض ومغشياً عليه بجوار الفراش ،والعطر الأنوثى المثير يملأ الفراغ..لم يكن هناك في المكان أحد ما غيره ..انهكموا في إفاقته ، وراحوا يخمنون ماذا حدث له.
٢٦
في نفس الوقت كان هناك أمر مثير آخر يحدث مع حسن الذي أُطلق سراحه منذ أيام لعدم توافر الأدلة .. عاد من القهوة كعادته كل يوم بعد أن انتصف الليل ..
,
, فلم يكن يغادر القهوة إلا حين يكون متأكداً من أن زوجته قد نامت ،وأنه لن يجدها بانتظاره حين يعود ..
,
, كان يسكن في الطابق الثاني في عمارة صغيرة من أربعة طوابق بحي المطرية..صعد الدرج المظلم بهدوء ،وفتح باب شقته محاذراً أن يصدر عنه صوت ما ..ثم دخل سائراً على أطراف أصابعه ..
,
, وقف للحظة صامتاً ليتأكد من أنه لا أحد مازال متيقظاً بالبيت ..أرهف سمعه ،فلم يصل لأذنه إلا أصوات الأنفاس المنتظمة لأبنائه وزوجته النائمين ..ابتسم باطمئنان قبل أن يتجه إلى المطبخ..كان يبحث كعادته عن الطعام الذى تتركه له زوجته كي يأكله قبل أن ينام ..
,
, أضاء المصباح وتطلع إلى المنضدة الخشبية التي تتوسط المطبخ ..كان هناك طبقان مغطيان بورق جرائد ،كشفهما ليجد طبقاً من الأرز وآخر به بامية مطبوخة تتوسطه قطعة صغيرة من اللحم ..
,
, شعر بالسعادة لهذه الوجبة، وتحركت شهيته..فهناك لحم اليوم .. اتجة إلى الثلاجة ليحضر زجاجة مياه باردة تجرع منها جرعات كبيرة ،قبل أن يعود للمنضدة ؛ليجلس على أحد كراسيها ،ويبدأ في إلتهام عشائه ببطء، وهو يدندن أغنية لعبد المطلب يحبها ..
,
, -ياحاسدين الناس مالكم ،ومال الناس .. كان ظهره للباب إلا أنه شعرفجأة أن هناك من يقف خلفه بجوار الباب ويراقبه ... ازدرد معلقة الأرز التي كان يهم بابتلاعها بصعوبة ،وقد أيقن أنها زوجته حتماً فمن غيرها يتحرك بمثل تلك الخفة التي تميز الزواحف؛ فلا تشعر بها أبداً ..هي ليلة سوداء بالتأكيد ..عبس وهو يلتفت برأسه مستعداً للعراك، لكنها لم تكن زوجته ..
,
, كان من المستحيل أن تكون هي.. زوجتة لاتختلف عن شِوَال من البصل يسير على قدميه ..أما هذه فهي حورية ..
,
, تطلع إليها بذهول حتى أن فمه الممتلئ بالطعام قد فغر ،وسال على جانبه الأيسر بعض اللعاب..كانت تبتسم له ابتسامة شديدة العزوبة..
,
, تساءل في سره من تكون، وهو يتنفس بعمق تلك الرائحة الأنثوية المثيرة التي تفوح منها..أتكون إحدى قريبات زوجته؟! ظلت كما هي بمكانها بجوار الباب ترمقه بصمت ،وابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيها ،وظل يرمقها بانبهار قبل أن يقول:
,
, -مرحبا ..أنت إحدى قريبات زوجتي ؟..
,
, هزت رأسها ببطء نافية ،وأجابت بصوت ساحر:
,
, -إنني ضيفتك هذه الليلة.
,
, اتجهت إليه بخطوات لاصوت لها ،وعيناه معلقتان بها لاترمشان ، وجلست بجواره، وأكملت بصوت ساحر أثمله:
,
, -أكمل طعامك ...أحب أن أراك تأكل.
,
, التفت إلى الطعام ،وبدأ في التهامه بشهية، دون أن يرفع عينيه عنها ،وقد جلست أمامه ترمقه بعينين نجلاوين أسكرتاه..
,
, كان كالمنوم مغناطيسياً ..
,
, ظلت تبتسم حين تذكر فجأة أين رأها من قبل..هبط الجواب على رأسه فجأة كالمصائب التي تأتي بلا توقع..
,
, إنها هي جثة الفتاة التي في المشرحة..
,
, هنا اتسعت ابتسامتها، وهي تلاحظ فكه السفلي الذي تدلى ببلاهة ورعب، ونظرة الهلع التي ارتسمت على قسمات وجهه ،وبقايا الطعام التي كان يلوكها ظاهرة خلال فمه الفتوح ، فقالت ،وهي تشير بإصبعها نحو صدرها:
,
, -نعم إننى هي..ألاتراني فاتنة ؟...
,
, كان هذا وقت الذعر، وكان يجب للجنون الآن أن يمرح ،إلا أنه تيبس على مقعده ،ولم يقو على فعل أي شيء.. فقط أعلن قلبه عن تمرده فراح يدق بعنف واضطراب..
,
, اقتربت منه في هذه اللحظة بوجها وجسدها يميل نحوه، وغمزته بعينها اليسرى ،وقالت بمرح :
,
, -في المرة القادمة انتبه لما تأكل.. بعنف اتجهت نظراته إلى طعامه ...الأرز صار دودا مقززا ،والطبيخ كان دماء ..هنا لم يستطع أن يكتم صرخاته أكثر من ذلك ، فانطلقت من حنجرته صاخبة ؛ لتمزق سكون البيت .. حينها اندفعت زوجته من الحجرة صارخة هي الأخرى على صوت صرخاته، لكن الفتاة حينها لم تعد بالشقة.
,
, ظل يصرخ لفترة من هول ماحدث له وجزعاً مما أكله.. أخذت معدته في التقلص والتمرد على مادخلها ،فانتابته نوبة عنيفة من القيء فانحنى ليفرغ تحت الطاولة ما أكله، وزوجتة تراقبه بوجل ،وهي لاتكف عن سؤاله عما حدث له ..لكنه في تلك اللحظة لم يكن قادراً على الإجابة ..وظل هكذا طوال الليل ...
٢٧
في نفس الوقت كان مرزوق هو الآخر يمر بلحظات لاتقل إثارة عما يمر به زميلاه .. كان قد استلقى على فراشه في انتظار أن تأتيه زوجته التي كانت تحاول بشتى الطرق أن تجبر أبناءها الأربعة على النوم ..لعنت خلالها مراراً القاهرة أو مصر كما كانت تسميها ..
,
, فحين عاشوا في قريتهم بمحافظة البحيرة كان يكفي أن تقص عليهم قصة قبل النوم؛ ليخلد أبناؤها بصورة تلقائية للنوم بعدها..كانت أيام مبهجة وبسيطة ..وبالرغم من مرور فترة لابأس بها منذ انتقالها للحياة بالقاهرة، إلا أنها لم تعتدها بعد.
,
, لم تعتد أن تعيش في المدينة الصاخبة التي لاتنام قبل الصباح ..المشكلة أن أبناءها تأقلموا بسرعة ،وبصورة مخيفة على الحياة هنا .. صاروا يستيقظون متأخرين بعد الظهر ،وينامون بعد منتصف الليل .. بل والأفدح أنهم قد امتلكوا جرأة الرد عليها أحياناً لو زجرتهم.. وتعلموا أن يرفضوا ماتصنعه من طعام لهم لو لم يروق لهم ..
,
, بل وأخذوا يحدثونها الآن عن ملابسها التي عليها أن تغيرها ؛لأنها لاتليق بها الآن ..لقد غيرتهم تلك المدينة الوحشية حين أبهرتهم بأضوائها ..لكنها لن تنهزم أمام فتنها وإغرائها مهما حدث.
,
, أخذ مرزوق يفكر وهو راقد على فراشه ..كان قلبه مشغولاً بصفقة جديدة من صفقاته التي لاتنتهي ..
,
, هناك ستة طلاب من طب القاهرة جاءوا يسألونه أن يوفر لهم هياكل عظمية كاملة، وطالب سابع كان يبغي جثة سليمة على أن يحفظها هو بالفورمالين قبل أن يتسلمها الطالب منه..
,
, كان هذا يعني مبلغا من المال لابأس به يضاف لجيبه ، ورحلة أخرى لقريته لجلب الهياكل .فراح يفكر إن كان يستطيع توفير تلك الصفقة كاملة ..
,
, من حسن حظه أنه كان على علاقة جيدة بعم عبد الواحد .. حانوتي القرية ..لم يتعب كثيراً في إقناعه بنبش القبور ،وإخراح أحشائها من بقايا البشر القابعين بها ليوم الحشر ليسلبهم أجسادهم وعظامهم ..فالحي دائما أبقى من الميت، كما أن الموتى لم يعد هناك ماقد يضيرهم ..
,
, لقد انتقلت أرواحهم الى بارئها أما أجسادهم؛ فهي جيفة يأكلها الدود والتراب ..أقنعه أنهم لايقومون في عملهم هذا بأمر شرير.. ألا تساعد هذه الهياكل والجثث الطلاب على معرفة تكوين الإنسان وتركيبه.. وكل هذا لإعدادهم لأن يصبحوا فيما بعد أطباء مهرة يعالجون المرضى ،ويحاربون الأسقام ويقاومونها..
,
, إن مايقومون به هو من أجل العلم،..
,
, كان كلاماً بالطبع لايقنع أحداً ، لكن حين تضيف إليه سحر المال، فسيصير هذا الكلام من درر الحكمة وعجائب الدهر .. لذا لا تتعجب حين تجد عم عبد الواحد قد وفر الجثث من أجله، ثم يقبض في يديه ثمنها..ليتمتم بعدها بخشوع..شكرا.
,
, ولأن تجارته بالجثث والعظام قد اتسعت، وصار مقصد الكثير من طلاب الطب ،فقد قام عن طريق عم عبد الواحد بالاتفاق مع عم عبد الجبار ،حانوتي إحدى القرى المجاورة لقريتهم ، ليجلب لهما هو الآخر المزيد من الجثث والهياكل من الجبانات التى يقوم برعايتها ..
,
, ظل سارحاً في خيالاته حين لاحظ أن النور قد أطفأ فجأة ،وقبل أن ينادي زوجته شعر بها تدلف إلى السرير، وترقد إلى جواره، فاقترب منها ليحتضنها شاعراً بجسدها الدافئ، وقال منتشياً ويداه تحيطان بجسدها الغض:
,
, -اقتربي مني أكثر؟.
,
, لم تقاومه وإن تعالت أنفاسها ،وأفعمت المكان بعطر مثير ذكره بشيء ما لايذكره تحديداً ،فتنشق العطر بعمق ليفاجأ بأن ملمس ذراعيها اللذين يحيطهما بذراعيه قد صارا باردين فجأة، فقال بتعجب ،وهو يبعد كفيه عن جسدها:
,
, -مالك باردة للغاية هكذا ؟
,
, لم يجاوبه إلا أنفاثا لاهثة.. ثم فوجئ بصوت زوجته يأتى من خارج الحجرة قائلاً :
,
, -مع من تتحدث يامرزوق؟!...
,
, انتصب شعر رأسه وتواثب قلبه..إذا كانت زوجته بالخارج تناديه الآن ، فمن هذه؟! ..هبط الجواب على رأسه مرة واحدة مفزعاً ومخيفاً ،حين تذكر العطر الذي يفوح من تلك المرأة ..كان هذا هو عطرها الذي شمه من قبل ..عطر الفتاة التى جلب جثتها للمشرحة وهاجمته بعدها ..لم يتمالك نفسه، فأطلق صرخة فزع ،وصوت مخيف يهمس في أذنيه بجذل:
,
, -نعم إنني هي ..وقد جئت لآخذك معي .. حاول أن يدفعها بيديه بعيداً عنه ،وهو يطلق صرخة أخرى .. إلا أنه أحس فجأة بدوار مفاجئ يغطي مناطق وعيع ،وبعدها لم يشعر بشيء ..
,
, أما زوجته فحين سمعت صرخات زوجها تتعالى في الظلام لم تألوا جهداً في أن تطلق صرخات قوية توقظ الموتى ..واندفعت بفزع نحو الحجرة لتجدها خالية من زوجها الذي وصلها صوته منها منذ قليل ..فاستمرت في إطلاق صرخاتها،وعيناها تبحث عن زوجها الذى اختفى من الحجرة فجأة، واختطفته الشياطين.
٢٨
في الصباح كان عبد الوهاب كعادته أول من وصل للمشرحة .. حيا العسكري الأسواني دقيق الجسم ،ذو البشرة السمراء، الواقف على باب المشرحة ،والمكلف من الشرطة بحراستها .. ودعاه لأن يتناول إفطاره معه، فلبى العسكري الدعوة بامتنان. دخلاالمشرحة سوياً ، فغطى الجندي أنفه وفمه بمنديل حين واجهته رائحة الفورمالين الخانقة قائلاً :
,
, -هل الرائحة هنا سيئة دوماً هكذا؟ ..لا أدري كيف تحتملونها ضحك عبد الوهاب ،وقال بلهجته النوبية الدافئة:
,
, -أكل عيش يا بلدينا ..لقد تعودنا عليها منذ زمن فلم نعد نهتم أو نشعر بها.
,
, - لاأظن أن رائحة كهذه من الممكن أن يعتادها المرء يوماً ما...
,
, -صدقني ..لقد اعتدناها بالفعل ..
,
, -بالمناسبه ..أنا إسماعيل ..إنني من أسوان.
,
, -وأنا عبد الوهاب النوبي ..إنني من النوبة كما يشير اسمي وبشرتي..لكنني أعيش الآن هنا بالقاهرة.
,
, هزّ الجندي رأسه ،وهو يتطلع إلى آخر قاعة المشرحة ،وقال بصوت خافت وعيناه تلمعان من الإثارة:
,
, -هل يمكنني أن أرى الجثث التي هنا ؟..إنني لم أرَ جثثاً قط في حياتي.
,
, -بالطبع يمكنك أن تراها الآن..لكن عدني ألا تخبر أحد .
,
, قالها عبد الوهاب ،وهو يمسك بيده، ويتقدمه نحو قاعة المشرحة ليريه الجثث..
,
, دخلا قاعة التشريح فكان الهول بانتظارهما..فما رأياه كان أكثر فزعا من الكوابيس نفسها......
,
, أطلق عسكري الأمن صرخة فزع ،وهو يحتضن عبد الوهاب الذى راح جسده يرتجف هو الآخر ،وهو يتمم :
,
, -ياإلهي ..ياإلهي ..
,
, فأمامهما كانت الجثث الموجودة بالمشرحة بأكملها معلقة في الهواء بصورة مقلوبة، فكانت أرجلها لأعلى ،ورأسها للأسفل، وقد تقاطعت أذرعها أمام صدورها ،فى وضع مشابه لوضع المومياءات الفرعونية المحنطة.. وفي منتصف الجثث المعلقة في هذا الوضع المخيف ظلت جثة على منضدتها.
,
, كان جلياً أن الجثث تصنع بأجساها رؤوس نجمة خماسية الأضلاع ، وتتوسط تلك النجمة الوهمية جثة الفتاة.
,
, حانت إلتفاتة من عبد الوهاب إلى إحدى الجثث المعلقة ففوجئ أنها لمرزوق . كان عارياً تماماً من ملابسه ،مثله مثل الجثث التي تسبح بجواره ،وقد احتقن وجهه بشدة من جراء وضعه المقلوب هذا.
,
, ظل الجندى يرتجف ،وهو لايصدق مايراه ،وذعر هائل يعجزه عن فعل أي شيء ما ،فأخذ يطمن نفسه.
,
, أما عبد الوهاب؛ فقد تغلبت مروءته على فزعه ،فصاح بالجندى بتوتر ،وهو يشير إلى جسد مرزوق بإصبع مرتجف:
,
, -إنه مرزوق ..ساعدني يا إسماعيل أرجوك كي ننزله.
,
, تطلع إليه الجندي بفزع ونظرة خاوية على وجهه تشي أنه لم يفهم مايقوله أو لايصدق أنه يطلب منه التدخل في أمر كهذا ..أشعره ما يراه أن أبواب الحجيم قد فتحت ،وبصقت كل شياطينها هنا الآن ..
,
, لاحظ عبد الوهاب جموده ..فهزه بيده بعنف ،وهو يصيح به:
,
, -إنه مرزوق زملينا بالمشرحة معلق بين الجثث ..ساعدني لننزله.
,
, انتبه الجندي إلى مرزوق ،فقال بصوت مضطرب :
,
, -وما الذي ذهب به إلى هناك؟!...
,
, -وما أدراني .. ولكن علينا أن ننزله الآن ..
,
, -وكيف سنفعل هذا؟!...
,
, -سنجذبه لأسفل معا ...ولكن انتبه حتى لايسقط على رأسه فيصاب.
,
, اندفع الاثنان ناحيته ،وهما يتحركان بحذر بين الجثث المعلقة متطلعين إليها بتوجس ورعب ..تخيل الجندي الشاب أن تمد إحدى الجثث المعلقة يدها نحوه فجأة، لتمسكه من رأسه أو شعره فاقشعر بدنه..شيء كهذا سيوقف قلبه حتماً له لو حدث .. وصلا إلى مرزوق ؛فجذباه كل من أحد كتفيه ..
,
, كان بارداً ..لكنهما لم يلتفتا لهذا الأمر ..جذباه بقوة أكبر محاولين التغلب على مقاومة خفية تجذبه لأعلى ..مضت لحظات من المحاولات الحثيثة دون جدوى وفجأة اختفت تلك المقاومة الخفية لجذبهما مرة واحدة، فسقط جسد مرزوق عليهما وأسقطهما معه..ونجح عبد الوهاب بسرعة في حماية رأس مرزوق من الارتطام بالأرض بأن احتضنها ..
,
, اندفع الاثنان بعدها في جر جسد مرزوق للابتعاد به عن هذا المكان الملعون ، وراح الجندي يصرخ بفزع:
,
, -دعنا نخرج من هذا المكان الملعون ..أسرع .هيا أسرع.
,
, أسرعوا في جر مرزوق جراً ..وجذبوه نحو حجرة العمال،ثم وضعوه على الفراش ..وبينما غطاه عبد الوهاب ببطانية صوفية ،اندفع الجندي فجأة نحو باب الحجرة فاراً ، كأنما تتبعه الشياطين ،وهو يصرخ :
,
, -لن أمكث في هذا المكان الملعون لحظة واحدة بعد الأن..ليسجنونني لو شاءوا ..لكنني لن أعود لهنا ثانية.
,
, بالطبع لم يكن عبد الوهاب بقادر على لومه ..جثث معلقة في الهواء؟.. أي فعل شيطاني هذا ؟..
,
, كان يتمنى هو الآخر أن يفر من المكان ، إلا أنه لم يكن ليترك مرزوق بمفرده في مثل هذه الحالة.. لذا أخذ يهز رأسه وجسده بصورة محمومة محاولاً إنعاشه وإفاقته..
,
, لكن مرزوق بالرغم من انتظام أنفاسه الآن وتحسنها قليلاً، لم يستجب لمحاولاته إلا بعد وقت طويل..
٢٩
أي جنون اعترى الجميع هاهنا ..جثث تطير في المشرحة ..عن ماذا تتحدثون ؟..
,
, قالها الدكتور فهمي بعصبية شديدة واستنكار ،وهو لايصدق مايلقيه عبد الوهاب على أذنه.
,
, كان عبد الوهاب يقف أمامه بصحبة عم فراج وحسن ومرزوق الذى بدا شاحبا للغاية ،وبصعوبة بالغة استطاعت قدماه أن تحمله..كان يرتدي ملابساً قديمة لعم فراج كان يحتفظ بها في المشرحة..قميص رمادي وبنطالون صوفي أسود واسع، وبدا جسده غارقاً في الملابس الواسعة للغاية فأضفى له هذا منظراً مضحكاً ..
,
, وجم الجميع أمام استنكار الدكتور فهمي وثورته ،لكن عبد الوهاب استمر في جداله قائلاً دون خوف:
,
, -يا سيدي ما أقوله الآن هو ماقد حدث، ولست أختلق أو أتوهم شيئا مما ذكرته ..وهاهو مرزوق أمامك ليؤكد كلامي، وهناك أيضا جندي الأمن الذى كان شاهداً على ماحدث هو الآخر..
,
, كاد الدكتور فهمي أن ينفجر في وجهه ،وخاصة حين لمح نظرة عبد الوهاب المتحدية اللامبالية بغضبته،إلا أنه تمالك نفسه وقال من بين أسنانه ببطء :
,
, -إذن فأنتم تريدون مني أن أصدق أن الجثث بالمشرحة كانت معلقة في الهواء ،ومرزوق بينها كذلك ومعلق هو الاخر من قدميه في الهواء ..أليس هذا ماترغبون مني في تصديقه.؟
,
, -إن هذا ماحدث بالفعل ..ولقد تركنا المشرحة ،وهي كذلك.
,
, قالها عبد الوهاب بشيء من التحدي ،فالتفت الدكتور فهمي إلى عم فراج وحسن، وقال لهما ،وهو يلوح بأصابعه في الهواء:
,
, -وماذا عنكما ؟..هل رأيتم أيضا الجثث المعلقة؟.
,
, أسرع عم فراج يجيب بتوتر:
,
, -أنا لم أدخل المشرحة بعد ..فلم أرَ شيئا ..لقد صحبتهما إلى هنا مباشرة.
,
, -هذا يعني أنه لا أحد قد دخل المشرحة مذ كانت الجثث معلقة أليس كذلك ؟..
,
, هزّ بعضهم رأسه مؤكداً ..فاستطرد الدكتور فهمي بنفس الصوت الرتيب البطيء.
,
, -إذا يمكننا أن نذهب إلى هناك لنرى تلك الجثث المعلقة بأعيننا.
,
, قالها ،ثم نهض من مقعده، وانطلق بعصبية ،وخطوات سريعة نحو المشرحة ..كان حانقاً عليهم جميعاً ، وعقله يأبى أن يصدق حرفاً مما يدعونه ..
,
, إنهم جميعا ثلة من الجهلة يهرتلون بلا شك..لكنه لن يسمح لهذا الهراء أن يستمر للأبد ..وسيثبت لهم الأن أنهم حمقى ويكذبون.
,
, تبعوه مهرولين، وهو يتجه للمشرحة ..دفع بابها الخارجي بعنف واتجه مباشرة ،وبلا تردد نحو قاعة التشريح..دلفها، ثم توقف مباشرة بعد الباب ،وتطلع إليها للحظة قبل أن يلتفت إليهم قائلاً بلهجة ساخرة ،ويده تشير إلى الجثث الراقدة على مناضدها:
,
, -ها هي الجثث كما هي على مناضدها ..فأين إذا تلك الجثث المعلقة ؟..
,
, تطلعوا هم الآخرين بتوتر إلى الجثث ،بالفعل كانت على مناضدها كالمعتاد ..هنا هتف عبد الوهاب بحيرة وضيق، وهو يخشى أن ينعوته بالكذب:
,
, -أقسم أنها كانت معلقة في الهواء ..كل الجثث كانت كذلك إلا جثة تلك الفتاة ..وحدها كانت كما هي
,
, صاح الدكتور فهمي ،وهو يشعل سيجارة ببعض التعالي والحزم:
,
, -هل ستستمر كثيرا في صب هذا الهراء على آذاننا ..إنني أمنعك عن هذا..ولو استمررت في ادعائك هذا ،فسيكون هناك كلام آخر.
,
, قال عبد الوهاب بيأس ،وعيناه تستنجدان بزملائه :
,
, -هناك جندي الشرطة يمكنك أن تسأله.. لقد كان هنا ورأى كل شيء مثلي..إساله أرجوك ..إنني لا أكذب
,
, -لن أسأل أحدا عن أي شيء.. لقد انتهى الحديث في هذا الهراء ..ولن أسمع حرفا آخراً في هذا الشأن بعد الآن.
,
, قالها الدكتور فهمي ببرود ،ثم التفت إلى مرزوق مستطرداً بحزم:
,
, -أما أنت فأريد تفسيراً منطقياً لوجودك بالمشرحة عارياً ..أخبرني كيف فعلت هذا ؟..
,
, غمغم مرزوق بإعياء حقيقي:
,
, -إنني لا أعلم شيئاً مما حدث ..وآخر ما أتذكره أنني كنت بفراشي بالأمس ،ثم استيقظت لأجد نفسي هاهنا...
,
, لم يرغب مرزوق في أن يقص عليه ماحدث له بالأمس على فراشه قبل أن يفقد الوعي.. كان مشوشاً ومرعوباً مما حدث .. صحيح إنه لايدري كيف جاء للمشرحة ،ولا كيف صار عارياً معلقاً للسقف ..إلا أن ماحكاه له عبد الوهاب حين أفاق ،وكيف أنه كان عارياً ومعلقاً في الهواء بين الجثث أورثه رعباً يفوق الوصف ، وارتسم في عقله تساؤل مخيف ..
,
, ماذا كان سيفعل لو أفاق فجأة ،ووجد نفسه هكذا معلقاً من قدميه في الهواء وحوله الجثث معلقة ..بالتأكيد لن يحتمل قلبه شيئاً كهذا ،وستكون نهايته ..
,
, كان هذا هو نهاية عمله في المشرحة، ولو كان عمله بها يكسبه ذهبا .. فهناك حكمة يفهمها جيداً ..
,
, الموتى لايعرفون الذهب.. لذا فعليه أن يعيش إذا أراد أن يستمتع بأمواله.
,
, لذا لم يبالِ بنظرة الدكتور التي رمقه بها ببرود ، قبل أن يقرر الدكتور فهمي أن يغادر المكان بكل الهراء الذي به،لولا أن قال له عم فراج هذه المرة :
,
, -نحن أيضاً نصدق عبد الوهاب يادكتور ،وهناك أيضاً ما أود أن أحكيه لك أنا وحسن.
,
, قالها ، فتطلع إليه الدكتور فهمي بنفاذ صبر، وهو ينفث دخان سيجارته بضيق ،فحكى له عم فراج وحسن ماحدث لهما بالأمس..
,
, اكتفى الدكتور فهمي بالصمت ،وراح يرمقهما من حين لآخر بتوتر مغالباً إحساسه ولم يعقب ،ثم هزّ رأسه بقوة كأنما يطرد كلامهم منها ، ثم تركهم وغادر المشرحة دون أن يعلق على ما قالوه ، فتطلع الأربعة إلى بعضهم البعض بتعجب ،وقال عبد الوهاب بحنق:
,
, - لا أدري لماذا يرفض أن يصدق؟..لا أظن أننا كلنا يختلق ويدعي ما حدث.
,
, قال مرزوق بلامبالاة:
,
, -لايهمني الآن تصديقه من عدمه، فلن أمكث لحظة واحدة في هذا المكان بعد الآن..لن أحتمل رعباً آخراً في هذا المكان ..إن مرتين من الفزع تكفي.
,
, وافقه حسن الذي قال بخوف ،وجسده الضخم يرتجف ،ويهتز بانفعال:
,
, -ولا أنا سأمكث هنا..سأستقيل أنا الآخر..ولتذهب تلك الوظيفة المشئومة إلى الجحيم .
,
, حاول عبد الوهاب أن يهدئهما أو أن يثنيهما عن قرارهما ،ولم يتكلم عم فراج ..كان يتذكر كل ماحدث له ولهم ،ويحاول بعقله أن يربط كل تلك الأحداث بخيط واحد..كانت كل الأحداث تنتهي كل مرة عند جثة الفتاة.. لقد بدأت تلك الأحداث بعدما جلبها مرزوق ..كما أن من يهاجمهم كل مرة كانت هي ..هل تكون هذه الجثة ملعونة ؟..
,
, وجد نفسه يقول فجأة قاطعا الجدال القائم بين باقي العمال وهو ينظر إلى مرزوق بسخط:
,
, -مرزوق من أين أتيت بهذه الجثة اللعينة؟.
٣٠
-إنني على عكسك تماماً يادكتور فهمي أصدق كل ما قالوه..إن مامروا به يتفق مع ما أفكر فيه..من المستحيل أن يختلقوا كل هذا.
,
, غمغم بها الدكتور أنيس للدكتور فهمي حين قص له ماحدث..كان الدكتور أنيس على يقين الأن أن أمراً ما غير طبيعي يحدث بالمشرحة ،ويرتبط هذا الأمر بالجثث أو بجثة الفتاة على وجه التحديد ..
,
, كان يمتلك عقلاً مرناً ،ولم يكن بالشخص الذي يرفض فكرة ما مهما بدت غرابتها إلا بدليل عقلي لايدحض..رأى أنه من المستحيل أن يختلق العمال كل هذه الأحداث ،فلا هدف ما سيحققونه باختلاق أحداث كهذه ..كما إنه من المستحيل أن نتهمهم جميعا بالهلوسة أو الجنون ..
,
, هل نواجه كائناً شيطانياً ..هل نواجه جاناً ..كان هذا هو السؤال ..
,
, حين كان صغيراً شاهد في قريته الصغيرة بالقليوبية بعينه أحداثاً مخيفة تحدث لأحد أقاربه ..اتفق الشيوخ حينها على أن جاناً ما قد أصابه بالمس ..كان كثيراً ما يرى قريبه هذا يثور فجأة دون مبرر، فيحطم كل ماحوله قبل أن يهدأ فجأة ..كان قادراً على تحريك كتل صخرية تزن أكثر من عدة أطنان بيديه بالرغم من ضعفه وهزاله ..وكانت النيران تشتعل فجأة حوله .. بل وكاد مرة أن يحترق على فراشه ،حين بدأ السرير في الاشتعال بينما كان نائما عليه ..
,
, كانت تجربة مريرة لأسرة قريبه هذا عاشها معهم وكان شاهداً عليها .. وقد انتهت للأسف بموت هذا الشخص غرقاً في مصرف المياه ذات مساء ..
,
, كان يؤمن بأن هناك الكثير مما يدور حولنا، ولانشعر به أو نراه، ولكنه موجود وربما يؤثر علينا أحياناً بشكل ما ..لذا قال للدكتور فهمي متسائلاً :
,
, -هلا تخبرني بالفائدة التي تعود على العمال من اختلاق هذه الأحداث الكثيرة المتلاحقة؟!
,
, لم يجد الدكتور فهمي إجابة محددة لهذا السؤال، لذا قال بحيرة:
,
, -المشكلة أن مايقصونه يفوق قدرتي على التصديق ..إنهم اليوم كما أخبرتك يحدثوني عن جثث معلقة من أرجلها في الهواء ، ليس هذا فقط بل يتحدثون عن مرزوق الذى نام على فراشه ليجدوه اليوم معلقا هو الآخر بين الجثث عارياً ..لو كان ما يقولونه قد حدث بالفعل ،فكيف وصل إلى هنا، ومن الذي فعل به هذا؟..هل هناك عاقل يصدق هذا الهراء؟..
,
, -يمكنك أن تضيف هذا السؤال إلى عشرات الأسئلة الأخرى التي تحيرنا.
,
, وضع الدكتور فهمي يديه بإرهاق على سطح مكتبه، وأسند رأسه عليهما، وقال بصوت ضعيف حائر:
,
, -مارأيك أن تتولى أنت الأمر ..فأنا لست بقادر على التفكير في أي شيء الآن.
,
, -قرار صائب .. سوف أتولى الأمر من هذه اللحظة ،إن لدي شكوكاً قوية حول جثة الفتاة التي جلبها مرزوق ..سأذهب إليه لِيُعْلمنى من أين أتى بها ،وما قصتها ،ولو اقتضى الأمر سأذهب للمكان الذي أتى بها منه بنفسي لأعرف قصتها..لقد كان هذا ما نويته كما أخبرتك من قبل ..وأظن أن وقت البحث جدياً لمعرفة ما الذى يحدث قد حان.
,
, -أتمنى أن تفلح في مقصدك ..إنني أريد أن ينتهي هذا الكابوس بأي صورة كانت.
,
, - سوف ينتهي كل هذا في أقرب وقت،إنني أتوقع أن تقدم لنا تلك الخطوة بعض الإجابات التي تحيرنا.
,
, هزّ الدكتور فهمي رأسه موافقا على الاقتراح قبل أن يقول مكملاً:
,
, -وهل تنوي أن تستعين بأحد ما في هذا الأمر؟
,
, -سأكتفي بنفسى في البداية ،وأرجو ألا نلجأ لأحد الدجالين الذين يسخرون ملوك الجان الذين لايحلو لهم كي يبوحوا بأسرارهم إلا للغربان المصابة بالبواسير، والديوك المصابة بعمى الألوان ،والضفادع التى تشكو من عسر الهضم.
,
, ضحك الدكتور فهمي وقال :
,
, -لو أن هذا سيفيد فسألجأ له ..على العموم افعل ماتراه صواباً ، وسأتمنى أن تنجح في مسعاك حقاً .. قالها ،وأكمل في سره.
,
, -وإن كنت غير مقتنع تماماً بما تفعله.
٣١
وصل الدكتور أنيس ومرزوق إلى قرية أولاد سليم قرب المغرب..تلك القرية التي تلتصق بقرية مرزوق، والتي جلب منها مرزوق جثة الفتاة ..
,
, رحلة شاقة لأكثر من أربع ساعات بالسيارة بين طرق صغيرة وعرة ،وغير ممهدة ذات انحناءات حادة تنذرك دوماً بأنك في لحظة سهو واحدة ،قد تنقلب بك السيارة أو قد ترقد بك في أعماق ترعة أو مصرف مياه ..
,
, لاحظ الدكتور أنيس الذى يقود السيارة مظاهر الدهشه التي تعلو وجوه الفلاحيين العائدين من أراضيهم قرب المساء،بعد يوم عمل شاق في هذا الطقس الحار الذى خنق أنفاسه، وهم يتطلعون إلى السيارة بفضول..
,
, لابد أن قدوم سيارة ما إلى هذه الأنحاء كان قليلاً ، فصار حدثاُ أن يرى الفلاحون سيارة تخترق قريتهم ..
,
, عند مدخل القرية أشار مرزوق للدكتور أنيس بالانعطاف بالسيارة نحو طريق فرعي، فنظر الأخير إلى الطريق بقلق ، وهو يلاحظ مدى ضيقه، قبل أن يقول لمرزوق:
,
, -هل تظن هذا الطريق يتسع للسيارة ؟..أخشى أن يكون ضيقاً.
,
, -اطمئن يادكتور..الطريق سيتسع للسيارة ،وليس ضيقاً كما يبدو ..إنني آتي الى هنا بسيارات أضخم حجماً ويستوعبها الطريق.
,
, لم يكن امامه إلا أن يجرب ،فانحرف الدكتور أنيس بالسيارة نحو ذلك الطريق ،ثم سار بها ببطء ..وكما توقع وخلافاً لما قاله مرزوق كان الطريق غير ممهد وضيق بصورة مخيفة وأخذت السيارة تتقافز عليه كلما عبرت حفرة،أو اصطدمت بنتوء به.. كان جانب الطريق الأيمن أراض منخفضة و حَدّهُ الأيسر ترعة صغيرة..
,
, كان على الدكتور أنيس أن يعود بعد ساعات من الآن من نفس الطريق مرة أخرى ..حينها سيكون هناك الليل بظلامه ..ولأنه أسوأ سائق بالظلام ،فقد شعر بالتوتر..
,
, لكنه نفضَ عن رأسه تلك الأفكار ..وقرر أن يترك كل شيء لحينه .. فلا أحد يعلم ماسوف يحدث بعد ساعات.
,
, لاحظ بعض الصبية الذين أخذوا يعدون خلف السيارة ،ويلاحقونها كي يلمسونها، ويعتلون سطحها إن استطاعوا ، فصار أكثر حذرا كي لايصطدم بأحدهم ..وبعد قليل لاحت من بعيد شواهد قاتمة انعكست خلفها أشعة الشمس الغاربة بحمرتها المقبضة ..فقال مرزوق مشيراً إليها:
,
, -لقد وصلنا يادكتور..
,
, اتجه الدكتور بالسيارة نحو مساحة عارية واسعة بجوار المقابر ،فأوقف السيارة بها ،ثم ترجل منها ..
,
, أشار مرزوق إلى حجرة من الطوب اللبن معروشة بالخشب مقامة في مقدمة المقابر قائلاً :
,
, -هذه حجرة عم عبد الجبار ..إنه يعيش بها.
,
, سارا نحو الحجرة ،وقدماهما تطأ الأرض المليئة بالحصى ، في نفس الوقت الذي خرج من الحجرة رجل عجوز متجهاً هو الآخر نحوهما ..لابد أنه قد انتبه إلى صوت السيارة، فخرج ليرى ما هناك..
,
, كان نحيلاً للغاية ،وقد امتلأ وجهه بالتجاعيد حتى صار من العسير أن تحدد عمره الحقيقي ..واكتسبت عيناه الضيقتان صفرة مائلة للخضار تشي بكبده المعلول كما فتر فمه عن أسنان سوداء نخرة ..كان يرتدى كلسوناً بنياً حال لونه وصديري أبيض مهترئ ذابت أطرافه..
,
, اقترب منهما ببطء بقدم متباعدة الأطراف ،وعينان ضيقتان ترتعشان في محجرهما وتتأملاهما بشك..
,
, تعرّف على مرزوق فلانت ملامحه، وهو يقول مرحبا بصوت خشن :
,
, -مرحبا يامرزوق ..أهلا وسهلا بك يابني.
,
, قالها ،ونظر إلى الدكتور أنيس بتوجس ،ومرزوق يجيبه :
,
, - أهلا بك ياعم عبد الجبار ..كيف حالك؟.. أتمنى ألا نكون قد أزعجناك.
,
, -أهلا بك في أي وقت يا بني.
,
, ثم أشار للدكتور أنيس مكملاً بخفوت وريبة،وهو يرى ملابسه الأنيقة، ومنظره الحسن:
,
, -الباشا مباحث ؟..
,
, ابتسم الدكتور أنيس لطرافة ما ظنه ..أدرك من الارتجافة البسيطة في جفنا العجوز ،ويديه أن هذا الرجل ممن يتعاطون الحشيش وغيره غالباً ، وأقصى رعب يعيشه أن يأتيه أحد من الشرطة ،وقد افتضح أمره.. لابد أنه لم يعد يخشى الموتى أو الأحياء..لكن أن يزوره رجل شرطة فهذا مايرعبه حقاً ،لذا أسرع قائلاً ليطمئنه:
,
, -لست مباحث يا حاج عبد الجبار..إنني طبيب.
,
, وأسرع مرزوق يقدمه له قائلاً :
,
, - هذا هو الدكتور أنيس .. إنه أحد الأساتذة الكبار في كلية الطب التي أعمل بها ..يمكنك ان تقول أنه رئيسي في العمل.
,
, لانت ملامح عبد الجبار مرة أخرى، وظهرت ابتسامة حقيقية مرحبة على وجهه، وقال وهو يدعوهما للدخول:
,
, -أهلا وسهلا يادكتور..زيارة كريمة .. تفضلوا من هنا.
,
, دخلوا حجرته الصغيرة التي بان الإهمال فيها جلياً ، وقد تناثرت في أركانها وجوانبها الكثير من الملابس المبعثرة ،وبعض أوراق الجرائد ، والكثير من قطع الأخشاب المحترقة التي لابد إنه يستعملها كوقود للشيشة ..كانت هناك - أيضاً - برتقالة ملقاة في المنتصف.. وتحت النافذة الوحيدة كان هناك فراش عتيق ،وبجواره انتصبت طاولة خشبية متهالكة عليها موقد كيروسيني وإناء لغلي الشاي ..و كان أسفلها بعض أوانى الطهي النحاسية وبعض الأطباق ، وفي منتصف الحجرة على حصيرة من الخوص كانت هناك شيشة وموقد فحم..
,
, كان هواء الغرفة كريهاً مبهماً ، وبدا كمزيج من رائحة دخان عتيق ،ورطوبة عطنة بعض الشيء ..
,
, أسرع الرجل يجمع ملابسه المبعثرة على الأرض داعياً إياهما للجلوس على الحصيرة..وشرع على الفور في إعداد الشاي لهما ،وهو يشكو الروماتيزم ،والدم الذى يمتزج بالبول مصحوباً بحرقة شديدة ..
,
, تفهم الدكتور أنيس الأمر على الفور ..إنها البلهارسيا بالتأكيد ..نصحه ببعض النصائح ، وأوصاه بإجراء بعض التحاليل ،وبعد أن انتهى من شكوى مرضه قال له مرزوق :
,
, -لقد أتى الدكتور أنيس إليك ليسألك عن شيء ما.
,
, تطلع إلى الدكتور أنيس بتوجس ،وقال:
,
, -وأنا تحت أمر الدكتور
,
, قال الدكتور أنيس بهدوء:
,
, - أخبرني مرزوق أنك ساعدته في جلب جثة من هنا منذ بضع أسابيع ، ونريد أن تمدنا ببعض المعلومات عن صاحبتها لو كان هذا ممكنا .
,
, عادت إلى نفس الرجل بعض الريبة ثانية ، فرفت عيناه وجلاً ،وانتقلت بسرعة إلى مرزوق ،إلا أن الأخير هزّ رأسه له مطمئناً ، فسكنت بعض مخاوفه ،وقال:
,
, -لماذا يادكتور؟.. هل حدث شيء ما ؟!..
,
, -نريد أن نعرف من صاحبتها ،وكيف ماتت ..وأي شيء آخر
,
, عنها تستطيع أن تخبرنا عنه.
,
, قال عم عبد الجبار بدهشة:
,
, - صاحبتها؟..لكن الجثة كانت لرجل يادكتور.
,
, شعر الاثنان بالدهشة ،فقال مرزوق مذكراً إياه:
,
, -إنها جثة فتاة ..تذكر ياعم عبد الجبار جيداً ..لقد كانت الجثة لفتاة.
,
, -يابني أنا أعرف كل عين بالمقابر ،وأعي جيدا من دفن في كل قبر..لقد أعطيتك جثة كمال أبو الفضل.
,
, تبادل الدكتور أنيس ومرزوق النظرات الذاهلة، قبل أن يقول الدكتور أنيس بهدوء:
,
, -لكن الجثة التي جاء بها مرزوق كانت لفتاة صغيرة في بداية العشرينات من عمرها ..ربما فتحتم مقبرة أخرى دون أن تنتبهوا وجئتم بجثة أخرى.
,
, -مستحيل أن يحدث هذا يادكتور.. فأنا لاأخطئ أي قبر ..كما أنها لم تمت أي فتاة صغيرة هنا منذ زمن بعيد.
,
, شعر كلاهما بالحيرة أمام ثقة الرجل وإصراره، ولم يدر مرزوق ماذا يقول، إلا أن الدكتور أنيس تمسك باحتمال أن يكون الرجل قد أخطأ ، فقد تقدم العمر بالرجل ،كما أن وعيه لا يبدو سليماً تماماً ، لذا قال بنفس هدوئه:
,
, -هل يضايقك ياحاج عبد الجبار لو قدتنا إلى المقبرة التي جلبت منها الجثة لنراها ..نريد أن نتيقن أنه لم يحدث خطأ ما.
,
, - سأقودكم لها بالطبع لأريكم شاهد القبر لتتأكدا من كلامي ..إنه كمال أبو الفضل ،وهو من أعطيته لمرزوق وليس أحدا آخر ..هيا بنا الآن لو شئتما..
,
, قالها ،وقادهما وهو يحمل مصباحاً زيتياً مشتعلاً إلى داخل المقابر.. كان الليل قد هبط الآن على المكان بظلامه وظلاله المتوجسة ، فبدت شواهد المقابر مخيفة بعض الشيء، تبعث على الرهبة والخوف ..
,
, شعر الدكتور أنيس ببعض الخجل لهذا الشعور الذي انتابه لمرآها ..فبعد أعوام طويلة من التعامل مع الجثث بكافة أشكالها ،مازال يتوجس من زيارة المقابر ليلاً ..ومن بعيد علا نباح غامض متوجس لكلب ما ،فجاوبه نباح آخر أقل حدة ..إن ليال الصيف في المقابر مميزة وحافلة بشدة.
,
, ساروا حتى الصف الرابع من المقابر ،وتوقفوا بجوار شجرة ضخمة عتيقة برز بجوارها شاهد من الطوب الأحمر لأحد القبور ، فأشار إليه عم عبد الجبار بيده الفارغة، قائلاً وهو يسعل :
,
, -هاهو القبر ..يمكنكم أن تقرأوا المكتوب على شاهده ..أليس هو كمال أبو الفضل ؟..
,
, قرأ الدكتور أنيس نفس الاسم على الشاهد، بينما بدت الدهشة والحيرة على مرزوق ..فلم يكن هذا هو القبر الذي جلبوا الجثة منه ..
,
, إنه مازال يذكرالقبر جيداً ،بالفعل كانت هناك شجرة بجوار القبر الذي جلبوا منه الجثة ،لكنها لم تكن بمثل هذه الشجرة ..كانت أكثر قدماً وأضخم جذعاً ،كما أن شاهد القبر كان أقدم من هذا كثيراً ، ولم يكن مدوناً عليه أي اسم..ليس هذا هو القبر ..القبر الآخر مختلف تماماً.
,
, كان مازال يذكر النقش الغامض الموجود على أحد حواف شاهد القبر .. شيء غريب يشبه ثعباناً يأكل ذيله ،وإن طمست عوامل التعرية كثيراً من خطوطه وحوافه ..قرب عينه ودقق في جانب الشاهد ..لم يكن النقش موجوداً ..إنه لم يخطأ في شكه إذا.. لذا اعتدل ،وقال بثبات وثقة:
,
, -يبدو أنك أخطأت هذه المرة ياعم عبد الجبار ، لم يكن هذا هو القبر .. أنا أذكر القبر الآخر جيداً ..كان أقدم من هذا كثيراً والشجرة الملاصقة له لم تكن هذه الشجرة ..الاخرى كانت يابسة قديمة.
,
, قال عم عبد الجبار ، وهو يحك رأسه بحيرة :
,
, -ولكن هذا هو قبر أبو الفضل .
,
, هز مرزوق رأسه بإصرار قائلاً :
,
, -صدقنى ليس هذا هو القبر ..دعنا نبحث عنه في الصفوف التالية.
,
, لم يعلق عم عبد الجبار، وسار أمامهم باستسلام مضيئاً لهم المكان بمصباحه،حتى وصلوا إلى الصف السادس من القبور،فتوقف مرزوق ،وقال متنهداً بارتياح ،وهو يشير لشاهد قبر قديم:
,
, - هذا هو القبر الذي جلبنا منه الجثة .
,
, ظل الدكتور أنيس صامتاً مترقباً ،وهو يتابعهما في رحلة البحث عن القبر الصحيح ..تساءل في نفسه هل أخطئوا وجلبوا جثة أخرى ..وهل دفنت الفتاة دون أن يعلم عم عبد الجبار، مادام يصرّ على أنه لم يقم بدفن أي فتاة منذ فترة طويلة ..كان يعرف بحكم نشأته الريفية أن هذا يحدث كثيراً ، وخاصة في جرائم الشرف ..هنا يقوم أهل الفتاة بقتلها ليلاً ، ثم دفنها سراً .. ولكن حتى لو كان هذا ما حدث..ففي النهاية سوف يثير غياب الفتاة الكثير من الشكوك والشبهات ،وسوف يكتشف الأمر حتماً ولو بعد حين..
,
, فوجئا باللحاد العجوز ينحني نحو الأرض ،و يتأمل التراب المحيط بالقبر، قبل أن ينهض ويردد بخوف ،وصوت مرتجف ،وهو يخطو خطوا ت سريعة مبتعداً عن القبر:
,
, -رحماك يا امونرع ..رحماك يا امونرع... تبعاه بدهشة وقلق ،ومرزوق يهتف:
,
, -ماذا هناك ياعم عبد الجبار ؟!..ولماذا تهرول هكذا؟!..
,
, استمر عم عبد الجبار في السير مهرولاً ، ومبتعداً، عن القبر كأنما تلاحقه الشياطين، وهو يصيح دون أن يلتفت للخلف:
,
, -لقد جلبنا المتاعب لأنفسنا ولغيرنا ..لقد نبشنا قبرها..لقد أيقظنا شهرها.
,
, ظل يردد غمغماته الغامضة حتى وصلوا إلى حجرته، وأمام أعينهم المذهولة مما يفعله ،ويقوله ارتدي بسرعة جلباباً فوق الصديرى ، وكأنما هو في عجلة من أمره وقال لهم بصوت ضعيف مرتجف:
,
, -تعالوا معي ودعونا نبتعد عن هنا..سآخذكم إلى من يعرف أكثر مني ..عليكم أن تعلموا أي شر أيقظناه.
,
, هنا قال له الدكتور أنيس بدهشة:
,
, -ماذا هناك ياعم عبد الجبار؟..لماذا ابتعدت بخوف من ذلك القبر ؟ وما هذا الذى تقوله ؟..أخبرنا ارجوك ماذا جرى؟!..
,
, تجعدت تجاعيد وجهه أكثر ،وتقلصت عضلات فمه ،وهو يجيب:
,
, -يبدو أننا ارتكبنا خطأ شنيعاً يادكتور .. لقد فتحنا على أنفسنا أبواب الجحيم..لم يكن علينا أبداً أن نقرب هذا القبر.
,
, -أرجوك اهدأ قليلاً .. وأخبرنا ما الذي تقصده..من حقنا أن تفسّر لنا الأمر بدلاً من حيرتنا هذه ..إهدأ يارجل وأخبرنا ماذا حدث.
,
, -يادكتور ألم تفهم ماحدث؟..لقد دنسنا قبراً ملعوناً منذ أجيال .. قبر تعلمت أن أتحاشاه دائماً منذ امتهنت مهنتي هذه..أنت لم تر كيف لاتقرب الطيور أبدا هذا القبر ..هل لاحظت الشجرة التى تجاوره ..هل لاحظت موتها وتحجرها..لو كنا نهارا لرأيت كيف تتحاشاها الطيور هي الأخرى ، ولاتقف أبدا على أغصانها المتيبسه..منذ زمن بعيد رأيت بعيني ذات مرة ذئب يتجول بين شواهد القبور..إن هذا شيء مألوف في كل المقابر في أي مكان ..
,
, تتبعته من بعيد خشية أن يكون قد اتخذ مكاناً ما بين القبور وكراً له، فهذا أمر خطير للغاية ،فقد يهاجم حينها أحداً لو اقترب من وكره وقد يؤذيه.. لذا كان عليّ لو حدث هذا أن أطرده من المكان..يومها فوجئت بالذئب يقترب من القبر ،وإذا بشعر جلده بأكمله ينتصب ،وأخذ الذئب يعوى بصوت مخنوق لم أسمع مثله من قبل، قبل أن يندفع هارباً ؛ كأنما تلاحقه كلاب الجحيم..وفى اليوم التالي وجدته ميتاً بجوار ذلك القبر دون أفهم ماحدث.
,
, صمت بعدها لحظة ليبتلع ريقه الجاف ، قبل أن يكمل وكلاهما يتطلع إليه بترقب ودهشة :
,
, -يبدو أننا قد أخطأنا ودنسنا هذا القبر..... أنتم لم تستمعوا إلى الأصوات التي تنبعث منه أحياناً ..همهمات كنت أسمعها لو اقتربت منه فجراً .. ضحكاتٍ ساخرة في الليالي المقمرة..وصرخات وأنين مفزع أحياناً أخرى كأنما هناك من يصلى جحيماً بداخله..إنه قبر ملعون ..ملعون
,
, كان من الواضح أنه يخشى هذا القبر بشدة ..شعر الدكتور أنيس بالإثارة ،وقد أحس بصدقه من الذعر الحقيقي البادي على وجه ، بينما شعر مرزوق بالخوف ..أيكون حقاً قد اشترك في نبش هذا القبر ..وهل سيصيبه مكروه جرّاء هذا؟..بعد ماحدث له من قبل كانت الإجابة واضحة ..إن الجحيم بإنتظاره، لذا إبتلع ريقه بصعوبة ،وقال بتوتر بصوت اقرب للبكاء:
,
, -من دفن بهذا القبر ياعم عبد الجبار؟..ولماذا هو ملعون ..لابد وانك تعرف حكايته كلها وسره ..أليس كذلك؟.
,
, نظر إليهما بعينين إلتمعتا بدموع خفيفة ..قبل أن يقول:
,
, -هذا القبر يحوي حكاية قديمة تتناق..وهي من سيقص عليكم حكاية صاحبته.
٣٢
غرقت البلدة في ظلام الليل البهيم فتصاعد القلق بداخل الدكتور أنيس، وهو يسير في الشوارع المظلمة مع عبد الجبار ومرزوق ..فهاهو الليل قد استقر ،ولم يحصل بعد على الإجابات التي أتى من أجلها، بل ازدادت حيرته مع ما ذكره له عبد الجبار عن القبر الملعون ..
,
, كان في طريقه للمرأة العجوز التي علّها أن تجلو الأسرار ،وتزيح الطلاسم .. ولكن هل تملك العجوز الإجابات حقاً ،أم أن ماستقدمه له هو الخرافات التي تتناقلها العقول المتيبسة الطاعنة في العمر ..
,
, فكر للحظة في أمر غريب آخر.. إن عم عبد الجبار شيخاً عجوزاً طاعناً في السن ،ولابد أنه قد اقترب من الثمانين من عمره ، فكم يكون عمر خالته إذن ؟..
,
, لكنه عاد مرة أخرى ،ليفكر في زوجته وأولاده الذين أخبرهم أنه لن يتأخر كثيراً ..هل سينجح في العودة سالماً لو قاد سيارته في هذا الظلام على طرق غير ممهدة كهذه ، يكفيه فيها أن تسهو جفونه للحظة كي يجد نفسه في قلب مصرف أوترعة أوحقل ..أم أن عليه أن يبيت في مكان ما منتظراً الصباح والنهار ؟
,
, لم يفكر كثيراً واتخذ قراره، سوف يبيت ليلته هنا في أي مكان وعلى مرزوق أن يعثر له على هاتف ما عسى أن ينجح في الاتصال بأسرته ليطمئنهم إلى غيابه..
,
, سار أمامهما عم عبد الجبار متكئاً على عكاز خشبي ،وراح يرشدهما إلى الطريق، وتبعاه بخطوات بطيئة صامتة.
,
, كانت خالته طاعنة في السن للغاية كما توقع الدكتور أنيس..لابد وأنها قد تجاوزت المائة ببضع سنوات .. كانت تعيش في بيت ريفي من الطوب اللبن ذي سقف منخفض مغطى بأكوام من الحطب والطين ..
,
, سريرها كان فرناً بلدياً من الطين ،وضعت فوقه بطانية قديمة حال لونها ورقدت عليها ..
,
, لم يكن باب دارها مغلقا بإحكام حين وصلوا، واحتاج لدفعة بسيطة من يد عم عبد الجبار، ليستجيب لفوره مصدراً صريراً عالياً ..كانت رائحة الطمي العطن تملأ المكان ..لكن المكان كان نظيفاً بالرغم من ذلك..فخمنوا أن هناك من يعتني به من حين لآخر ..
,
, دخل عم عبد الجبار إلى حجرة مظلمة في نهاية البيت ، فانتظروه للحظات بالخارج قبل أن يلاحظا اشتعال مصباح في الحجرة أضاءها، ثم ناداهما داعياً إياهما للدخول.
,
, حين دلفوا ارتفع صوت مرزوق محييا السيدة العجوز:
,
, -مساء الخير يا أمي ..كيف حالك ؟...
,
, التفتت إليه برأسها، وإن لم ترد فاقترب من أذنها عم عبد الجبار، وأعاد تكرار تحية مرزوق لها ، فأيقنوا أن سمعها ضعيف للغاية ؛حتى أن الدكتور أنيس تساءل في قرارة نفسه بإحباط ..هل مازالت تحتفظ بذاكرتها فعلا ، أم هي الأخرى في طريقها للزوال ،والضعف كسمعها ...
,
, رحبت بهم بصوت قوي لم يتوقعا أن يخرج من حنجرتها قائلة :
,
, أهلا وسهلا ...أهلا وسهلا ..من هؤلاء يا عبد الجبار؟
,
, مرة أخرى مال على أذنها عم عبد الجبار ،وقال لها بصوت مرتفع :
,
, -الباشا طبيب من القاهرة ..لقد جاء خصيصاً ليراك.
,
, هزت رأسها متفهمة ،وقالت بصوت أضعف من الأول متوجعة:
,
, -هل جئت به ليفحص بطني ..إنها تؤلمني طوال الوقت ،ولم أعد اتمتع بأي شهية للطعام..إن الألم كله هنا .. لقد تبست وصارت كالحطبة الجافة ، هل يعنى هذا أنني أموت ،وأن المعدة قد توقفت؟..
,
, ابتسم الدكتور أنيس بإشفاق ،بينما قال عم عبد الجبار بصوته القوي في أذنها :
,
, -سوف يفحصك الدكتور فيما بعد .. لكنه يريدك الآن أن تحكي لهم ماتذكرينه عن شمس الشموس .
,
, لاحظ مرزوق والدكتور أنيس التقلص الذي بدا على وجهها حين ذكر كلمة شمس الشموس ..بان على وجهها الانزعاج، واختجلت تجاعيد وجهها .. فأشاحت بيديها المتغضنة بعروقها الكثيرة ،وهي تقول بضيق واضح:
,
, -وما الذي ذكرهم بها الآن؟..وهل أتوا في هذا الوقت المتأخر من اجل هذا؟
,
, أدرك الدكتور أنيس أنها مازالت تذكر الفتاة، وأن هذه الذكرى لم تسقطها ذاكرتها بعد ..رأى هذا منعكساً على وجهها ، فنهض من مكانه، وقرب فمه من أذنها ،وقال بصوت مرتفع :
,
, -لقد أخبرني عم عبد الجبار أنك أكثر من يفيدنا في هذا الأمر..
,
, -يا بني هذا أمر قد حدث منذ زمن بعيد قبل أن أُولد أنا ..كانت قصصاً ، أخبرنا بها الأجداد ولم نعشها ..فما الداعي لتذكرها الآن.
,
, -لكنك مازلت تتذكرينها ..أليس كذلك ؟.
,
, مصمصت شفتيها الجافتين ،وأشارت بيدها إلى قلة فخارية موضوعة في صينية على قائم من الطوب قائلة بضعف:
,
, -اسقني ياعبد الجبار.
,
, ناولها القلة ؛فتجرعت منها جرعات صغيرة ،ثم أعادتها إليه ثانية ،وقالت بصوت أكثر قوة كأنما أنعشها الماء :
,
, -يابني هذه قصص عجائز لم يعد يصدقها أحد..فلماذا تبحث فيها الآن .. دع تلك الذكريات للنسيان كي تموت كما يموت كل شيء ؟
,
, شعر الجميع أنها لاترغب في أن تقصَ عليهم ماتعلمه..فتطلع مرزوق ،والدكتور أنيس إلى عم عبد الجبار الذي أدرك ما أدركاه ،فانحنى نحوها صائحاً :
,
, -ياخالتي ..إنهم ضيوفنا فلاتخذليني أمامهم ..إنهم يرغبون في أن تحكي لهم عن شمس الشموس ،فأخبريهم بماتعرفينه.
,
, تمتمت بكلمات مبهمة غير مسموعة قبل أن تقول بصوت واضح :
,
, -حسنا ..سأحكي لهم يا بني ماداموا يريدون ذلك..لقد كنا من قبل نحكيها للأطفال والأن يهتم بها الأطباء ..لقد صار زمنكم عجيباً غريباً ولا أفهمه ..
,
, وشردت بعينيها نحو الجانب البعيد من الحجرة، وتحركت شفتيها ببطء ..ثم بدأت تحكي لهم.
٣٣
بدأ كل شيء حين جاء ال سعود ومعهم اخوانهم وسلفيوهم وازهريوهم مؤيدو الحجاب والنقاب والتكفير وتطبيق الحدود وقمع الحريات والتنوير وقمع القيم الاوروبية وتحريم الفنون الخ بعدما برمجوا وحجبوا ونقبوا الشعب المصري منذ السادات مرورا بمبارك وحتى السيسي إلى مصر ليحتلوها..ها قد جاء ابن سعود وجنوده بأسلحتهم الغريبة ومدافعهم القاتلة..فارتبكت الحياة في كل مكان ،واهتزت النفوس وزلزلت في الصدور، وانقسم الناس بين مؤيد للغزاة الذين سوف يخلصون الخلق الاسلاميين من السيساوية وطغيانهم وبين العلمانيين من يرون أن ال سعود واعوانهم ارهابيون تكفيريون كفرة يجب قتالهم ، وأن السيساوية بالرغم من ظلمهم وطغيانهم؛ فهم من يحمون البلد ويقومون بشؤونه .
,
, كان هناك منصور بن الحاج عبد السلام ..فتى يعبق بالفتوة والوسامة والمروءة ..فتى من الذين تنظر إليهم الحوامل عسى أن يرزقن بفتى مثله..و تنظر إليه الفتيات ،ثم يتنهدن بحرارة ولوعة ،وهن يتمنين أن يلتفت إليهن مرة.. لكنه خذلهن جميعاً فلم يعرهن اهتماماً ..بدا كأنما يبحث على أميرة أخرى لم تولد هاهنا بعد ..
,
, قالوا إنه ترك القرية ،وذهب إلى مصر «القاهرة» كي يحارب الفرنج ..غاب ثلاثة أعوام، لم يسمع أحد خلالها عنه أي شيء ، حتى ظن البعض أنه ربما قد حدث له مكروه ما أو مات.. لكنه عاد فجأة ذات نهار.. ولم يكن بمفرده ..
,
, كانت مع زوجته.
,
, قالوا إنها كانت فتنة تحبو على أديم الأرض ، كانت كالبدر في تمامه ، جميلة بصورة جعلت من العسير على أي فتاة أن تحنق عليها ؛لأنها خطفت منصور منهن ..فأمام حسنها يبدو حسنهن شاحباً قميئاً.. إنها أميرة من أميرات الحواديت القديمة التي لايكف المردة والجان عن اختطافهن ،ولايكف الفرسان والشطار عن إنقاذهن والبحث عليهن.
,
, من يراها دون أن يعرفها يظن أنها من بنات اوروبا الجميلات.. كانت ذات بشرة رائقة ،ناصعة البياض لم يرَ أحد مثلها من قبل، وكانت عيناها حلوتين آسرتين ؛فلايستطيع أحد أن ينظر إليهما لحلاوتهما ..
,
, لذا أطلقوا عليها شمس الشموس ..
,
, مرت الأيام عليها في القرية هادئة في البداية ..ومع الوقت بدأ الهمسات ترتفع عن سبب تأخر حملها حتى الآن ..إلا أن الأمر بدا ،وكأنما لايشغل بال زوجها الذي كان يعشقها ،ولايبغي أي شيء سواها ..
,
, اشتعلت الشائعات عنها بعد ذلك حين زعم البعض أنهم رأوها بين المقابر في منتصف ليلة مقمرة .. بالطبع لم يصدّق أحد حرفاً مما قيل، واعتقد البعض أنها افتراءات مصدرها الفتيات الحانقات عليها..
,
, بعد ذلك مات الكلب الذي كان يملكه الحاج عبد السلام حماها ..كان الرجل يحبه جداً ؛فقد رباه ورعاه لأكثر من عشر سنوات ،وكان الكلب لايفارقه أبدا ..
,
, يقولون أن الكلب في أحد الليالي المقمرة بدأ في النباح فجأة .. ويبدو أنه أطال النباح ؛لأن الحاج محفوظ خرج إليه؛ ليعلم سر نباحه ..وجد الرجل الكلب مبقور البطن سابحاً في دمائه محتضراً .. ليموت بعد ساعات من الألم ..
,
, الغريب هنا في الأمر أنهم وجدوا بين أسنانه قطعة ممزقة من ملابس شمس الشموس .. وأيضاً هذه المرة لم يشك أحد فيها.. فانتهى الأمر وتناساه الجميع ،قبل أن يبدأ اختفاء بعض أطـفال القرية ..
,
, قالوا إنهم كانوا ستة أو سبعة ..وحين بحثوا عنهم لم يعثروا إلاعلى جثة أحدهم فقط.. كانت جثة الطفل شاحبة كالثلج خالية تماماً من الدماء ..كيف حدث هذا؟.. لا يعلم أحد ..اتجهت أصابع الشك إليها هذه المرة أيضاً ،فقد كان كل الأطفال الذين فُقدوا من رواد بيتها.. فقد اعتادت أن تلاعب الكثير من الأطفال من جيرانها ،وأن تمدهم بالحلوى..وأوعز زوجها ماتفعله إلى اشتياقها للأطفال ..
,
, لكن هذا الحب لايفسر أن تجد خادمتها بين حاجياتها أشياء تخص الأطفال المختفين ..وجدت بين أغراضها بعض الألعاب الصغيرة والأحجبة وغيرها.. بالطبع لم يتهمها أحد صراحة ،ولكن الهمسات لم تتوقف ،وازدادت حتى وصلت لمسمع زوجها ..
,
, لم يجد مايفعله غير أن يواجهها بما يُقال ؛بكت كثيراً له وأخبرته أنها تعلم أن الجميع يغار منها لحسنها ..وأن الكل يشمت فيها لعدم إنجابها ..طلبت منه الطلاق ؛ لأنها لاتطيق أن تعيش في قريته ، إلا أنه كان متيّما بها، فرفض طلبها ..فطلبت منه أن يعودا سوياً للقاهرة ليعيشا هناك .. وافقها بالرغم من معارضة والده ، واشترى لها بيتاً بالقاهرة ..
,
, غاب لفترة طويلة عن القرية ،قبل أن يعود بمفرده لزيارة أهله، ليجد أن كل من يقابله ينظر إليه بارتياب ويتحاشاه ..لا أحد يرد على سلامه وتحيته..وكل من يراه ويعرفه يشيح وجهه للجانب الآخر بعيداً عنه كي لاتتلاقى النظرات ..وصل حائراً إلى دار والده ،وهو لايدري لماذا يعامله أهل القرية هكذا .. وهناك فسّر له والده الأمر ..
,
, أخبره أنه ما إن غادر إلى القاهرة ليعيش فيها ،حتى عاشت البلدة أهوالاً كثيرة..اختفى الكثير من الشباب دون أثر ..غرقت الكثير من الفتيات في الترعة أو المصرف ..لكن المخيف حقاً في الأمر أن الكثيرين صاروا يرون زوجته في شوارع القرية في نفس الأوقات التي تحدث فيها هذه الحوادث..
,
, رآها الكثير في المقابر ليلاً .. رأها البعض الآخر في الطرقات المظلمة بعيون متوهجة مخيفة ..وراحت بعض النساء يقسمن أنهن رأينها أسفل صفحة الماء تنظر إليهن بابتسامة ساخرة مخيفة ،وهن يغسلن أوعيتهن بالترعة ،أو يملئن منها جرارهن ..
,
, بل وأقسم البعض الآخر أنه رآها تسير فوق الماء ..لم يصدق منصور هذا الكلام ..فزوجته لاتفارقه أبدا منذ غادرا المكان إلى القاهرة ، فكيف تأتي هاهنا لتفعل كل هذا؟..لكن والده أخبره أنه وأمه هما أيضاً قد شاهداها ذات ليلة مظلمة تتجول حول الدار ..
,
, يقولون إن منصور كان غاضباً ..خائفاً ..متحيّراً ..أقسمت عليه أمه أن يطلقها ،ويعيدها لأهلها فلم يُجِبْهَا ،فقط قرر أن يعود مرة أخرى إلى القاهرة دون أن يمكث معهم لبضعة أيام كما كان يريد ..
,
, لا أحد يدري ماذا حدث في القاهرة له.. لكنه في اليوم التالي عاد بها إلى داره بالبلده..بالطبع عاملها الجميع بخوف ،ولم يحدثها أحد ،ليفاجأ الجميع بموتها في اليوم التالي..دفنوها بمقابر العائلة بعد أن قامت حماتها ، وبعض خادماتها بتغسليها .. وأوصى الحاج عبد السلام أن يكون لها قبر بمفردها ،وألا يدفن به أحد غيرها ..مات هو الآخر وزوجته بعد أيام من موتها- هو وزوجته -.. وجدوهما ميتين بالفراش ليلاً في نفس الوقت ، ليحلقهم منصور نفسه بعدها بأيام قليلة..
,
, تناثرت بعد ذلك الأقاويل عنها أكثر من ذي قبل ..البعض أقسم أنه رآها بعد ذلك في المقابر تتجول ليلاً ..وعاد آخرون ليؤكدوا أنهم يرونها تسير في الطرقات ليلاً تناديهم، وتدعوهم لنفسها ..بالطبع لا أحد يدري بالحقيقة في أقوال كهذه ...لكنها ظلت في النفوس والذاكرة طويلاً ..صارت قصة يتناقلها الجميع بتوجس ورعب ..وصار قبرها منبوذاً يخشاه الجميع .. خصوصا أنها كانت علمانية لادينية تنويرية تستهدف كل تكفيري مجرم واخوانوسلفي ارهابي اسلامي وازهري ومؤيد للنقاب والحجاب وتطبيق الحدود وداعشي طالباني مؤيد للترابي والبشير وابن لادن والقاعدة وبوكوحرام والخميني وخامنئي الخ ولا تستهدف الابرياء ابدا ولا المتنورين وهي لعنة على كل تكفيري حتى لسابع حفيد.. وقد كانت شمس الشموس لديها قدرة على التنقل المتعدد مالتيلوكيشن لذلك عايشت وعاصرت كل جرائم الاسلاميين اخوانا وسلفيين الخ منذ عهد محمد بن عبد الوهاب وقضاء ابراهيم باشا على حركته، مرورا باغتيالاتهم للساسة المصريين بالاربعينات واستهدافهم ليهود مصر، ووصولا لسيد قطب وافكاره وكتبه الارهابية التكفيرية ومؤامرته مع جماعته الاخوانية لقلب نظام الحكم 1965 واحتلال التلفزيون وضرب محطات الكهرباء، ووصولا لنكبة الخميني بايران وطالبان بافغانستان، وسقوط سياد بري بالصومال، وسقوط اليمن والعراق بايدي الدواعش والخمينيين والسودان وقوانين الشريعة سبتمبر 1983 على يد النميري ومن بعد البشير والترابي واخونتهم للسودان، ووصولا لاستيلاء ال سعود وال الشيخ على الحجاز ونجد 1925 من قبل، وسيطرة البترودولار بحجابه ونقابه ولحاه وتكفيره وتعصبه على ملابس وعقول رجال ونساء وشباب مصر والجمهوريات العربية من عهد السادات ومبارك وهي نفسها قد قتلت وعذبت عدة مرات على يد هؤلاء الاسلاميين بكل العصور حتى منذ عهد ابن العاص وابن الوليد وابن الخطاب ووصولا لال سعود وابن لادن والربيع العربي ربيع الاخوان والسلفيين والدواعش بليبيا وسوريا واليمن وتونس ومصر ، قتلت وعذبت على ايديهم بصور شتى لذلك ومن كثرة اضطهاد الراشدين والعباسيين والايوبيين والعثمانيين لها لانها تولد ارمنية تارة وشيعية تارة وعلوية تارة ومسـيحية ويهودية ومصرية وفارسية وافغانية وباكستانية وهندوسية ودوما تولد بتناسخ روحها وقد تنسخ روحها بعدة اجساد بعدة دول بوقت واحد بالطرف الاقلي او الواقع عليه الاضطهاد والقتل والعذاب على يد الغزو العربي والعثماني الخ وبالتالي كانت ايزيدية تباع بالسبي على يد داعش بالعراق وكانت علوية اسدية بسوريا تقطع راسها ويقتل زوجها او اخوها او ابوها الجنود بالجيش العربي السوري، أو بالجيش الليبي بعهد القذافي باخر شهور له، وكان آخر مكان استقرت به بعد كل هذا العذاب هو هذه القرية والتي اقنعت بقدراتها اهل القرية بانها مولودة وموجودة بينهم منذ عقود واقنعت زوجها، وكانت تلك القرية من اشد القرى المصرية وقتها ايمانا بالاخوانية والسلفية والداعشية بين كل قرى مصر فاختارتها شمس الشموس لتنتقم فيها من هؤلاء المجرمين التكفيريين الاخوانوسلفيين .. بل وبعد مئتي عام ورغم استئصال شأفة الاخوانية والسلفية والازهرية، لكنها تحيا لتثأر حتى من أحفاد هؤلاء الاسلاميين او الذين كانوا يؤيدون تكفيرهم وحمساوييهم الخ
٣٤
شعر الدكتور منصور بالإثارة مما يسمعه ،وأخد عقله بسرعة يبحث عن عشرات التفسيرات ،دون أن يُعَقّب على ماسمعه .. الحكاية قديمة ، وبالطبع لا يستطيع أحد أن يؤكد صحتها من عدمه ،فعقود طويلة تفصلهم الآن عن وقت حدوثها..بدا واضحاً أن توقيت حدوث القصة كان وقت غزو البترودولار السعودي والخليجي والايراني الخميني والتركي الاخواني الاردوغاني الحجابي النقابي الداعشي الطالباني السوداني الربيع عربي السلفي على مصر..هذا يعني أن قرنين من الزمان تقريباً تفصلهم عن وقت حدوثها، وبالتأكيد سيضيف الخيال الكثير من الأحداث وسيسقط أحداثاً أخرى ..
,
, لكنه صار متأكداً أن شيئاً ما غير طبيعي يحيط بشمس الشموس ؛كما أطلقوا عليها سابقاً ..هناك شيء ما بداخله جعله يصدق الكثير من هذه الأحداث..
,
, مرة أخرى قفز إلى خياله صورة جثتها في المشرحة ..جثتها التى لم تنالها أبدا عوامل التحلل المعتادة ..جثة أثارت الكثير من المتاعب منذ جلبها للمشرحة ..إن القرار الصائب في رأيه هو التخلص منها بأقصى سرعة ، وبأي وسيلة كانت .. إنها قنبلة موقوتة لا يدري أحد كيف يتعامل معها ،وماذا ستفعل هي في اللحظة التالية ..
,
, شعر هذه اللحظة بكراهية وغضب شديد على مرزوق ..ربما لأنه كان السبب في جلبها..وتمنى لو أنه لم يطلب من فراج إحضار جثة للمشرحة ..ربما وفّر هذا الأمر متاعبهم التي يعيشونها الآن.
,
, لذا قال لمرزوق بضيق:
,
, -ألم تجد غير هذا القبر لتعبث به ؟..
,
, لم يكن هناك مايقوله الأخير ،فقد كان غارقاً في رعبه بعد ما سمعه الآن..فهو من عبث بقبر شمس الشموس بعد كل هذه السنوات..كان يعلم بعض ماقصته العجوز عليهما..فقد سمع من قبل عن شمس الشموس في قريته ،وهو صغير..حكاية مخيفة كعشرات الحكايات عن الجان، والعفاريت، وأم الشعور، والنداهة، وغيرها من التي تمتلئ الذاكرة بها ..لكنه لم يتخيل أن يتورط في قصة من تلك القصص يوماً ما..
,
, تساءل برعب هل تنتقم شمس الشموس منه لهذا..بالطبع هذا شيء متوقع ،ويفسر له لماذا اختطفته من داره ليلاً ،وأرسلته للمشرحة ،ولم تفعل هذا مع زملائه..
,
, ولكن هل تكتفي بهذا أم تكون هناك مرات أخرى؟ ..
,
, قبل أن يأتي هنا كان قد اتخذ قراراً بأن يستقيل من عمله ويتركه ..كان بالطبع متردداً ، و فَضّل أن يؤجل تنفيذ قراره حتى يستطيع إيجاد عمل آخر له ..لكن بعد ماسمعه الآن ،فالأمر قد انتهى..لن يعود مرة أخرى إلى المشرحة مهما حدث ..
,
, وأخذ يدعو الرب امونرع وزوجته واولادهما البنين والبنات في سره أن يكون هذا كافياً .. ليتها لاتعود إليه بعدها لو غادر المشرحة ولا تهاجمه في بيته ثانية ..لكنه كان موقناً انها ستفعل!
,
, اتجها بعدها إلى قرية مرزوق ،وقد قررا أن يبيتا في بيت والده ..هناك استطاع الدكتور أنيس الاتصال بزوجته بواسطة تليفون عمدة القرية ، والذى رحّب به بشدة حين عرف من هو، مقسماً أن يبيت بداره لا دار مرزوق ..وفي الصباح عاد مباشرة إلى الكلية؛ لتنفيذ مانوى عليه دون إبطاء..
,
, سوف يدفنون تلك الجثة الملعونة هذا اليوم.
٣٥
فى الثالثة ظهراً خرجت سيارة من سيارات نقل الموتى من باب الكلية .. كانت تحوي جثة الفتاة، وبداخلها جلس عم فراج ومرزوق وعبد الوهاب جالسين حول جسمانها بوجوم.. اتجهت السيارة نحو أطراف القاهرة إلى المقطم حيث مقابر القاهرة ..كان هناك الكثير من مقابر الصدقة التى تلجأ لها المشرحة للتخلص من أشلاء الجثث التالفة بعد انتهاء العام الدراسى ..
,
, كانت هذه المرة هي الأولى التى يتم التخلص فيها من جثة سليمة.
قصصى باسمى جدو سامى على جوجل درايف
https://drive.google.com/drive/folders/1N0wKMRM9mRd5pSI4Dyq2zt5orcQwEH3K?usp=drive_link
مقاطع فيديو مهمة على جوجل درايف
https://drive.google.com/drive/folders/1VGtdNEuiaJll4dK0_iSXcCVOKcZqUe6r?usp=drive_link
و
https://drive.google.com/drive/folders/1PayOCf35-FxbHZl04B8LNkd_R6CtET6z?usp=drive_link
و
https://drive.google.com/drive/folders/1ZBOG2u01Jqw_ZbdCGHJ5FyjK_D3sYRiA?usp=sharing
و
https://drive.google.com/drive/folders/1NRM9x4lDPBXiHejdHzF4HigQoorQQLcp?usp=drive_link
قناتى على اليوتيوب بصوتى
https://www.youtube.com/channel/UC1hw85LpXl5LGurYMspSScA/videos
وقناتى الثانية على فيميو وفيوه والفيسبوك
https://www.veoh.com/users/GeddoSamy81
https://vimeo.com/user101325859
https://vimeo.com/user101325859/videos
https://www.facebook.com/profile.php?id=61552353388948
بودكاستاتى الصوتية فى موقع سبريكر
https://www.spreaker.com/show/h_9186
رابط مقالات صديقتى الغالية ديانا احمد بالحوار المتمدن
ولها مواضيع ومشاركات مهمة بشبكة الالحاد العربى
https://www.ahewar.org/m.asp?i=4417
ولى انا جدو سامى ولها حسابات باسم جدو سامى وسمسم المسمسم وناهد محمود وباهر علوى وكواكب بن تحتمس وكواكب وديانا احمد فى ميديوم واكسهامستر وليتروتيكا وميلفات وحلمات (باسم جدو سامى وجدو سامى بالروسى وبهجت عزيز و M _ Hamdy) ونسوانجى الجديد والقديم
حسابى على تيكتوك
https://www.tiktok.com/@geddosamy
حسابى على جاستباست ايت
https://justpaste.it/u/Geddo_Samy81
حسابى على واتباد
https://www.wattpad.com/user/GeddoSamy81
حسابى على فليكر
https://www.flickr.com/photos/199468613@N07/
حسابى على كورا
https://www.quora.com/profile/Nabeel-Serry
حسابى على ايميدجتويست
https://imagetwist.com/p/BaherOlwy
حسابى على ايميدجبام
https://www.imagebam.com/view/GA9Q9X
حسابى على بينتريست
https://www.pinterest.com/GeddoSamy81/_created
حسابى على سبوتيفاى فور بودكاسترز
https://podcasters.spotify.com/pod/show/geddo-samy81
https://open.spotify.com/show/55Uwno4znf3L4hMOINIFKi
حساب صديقتى ديانا احمد بشبكة الالحاد العربى
https://www.il7ad.org/member.php?u=5643
حساب صديقى احمد بن تحتمس بشبكة الالحاد العربى
https://www.il7ad.org/member.php?u=6788
#جدو_سامى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟