|
الحداثة: مقاربة العقل الرعوي
عبد الله ميرغني محمد أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 7828 - 2023 / 12 / 17 - 21:00
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
مقدمة: تغيير المرجعية الفكرية التي يستند إليها العقل السوداني، تعتمد في المقام الأول على تحرير هذا العقل (العقلانية) من الأغلال والقيود الدوغمائية التي تحد من قدرته على الفعل والحركة، والتي أصبحت تشكل عائقا يحول دون الابداع وتخطي حدود تلك المسلمات والثوابت التي تتدثر بثوب المقدس حينا، وتتلون مع الطيف السياسي السائد وفقا لفقه المرحلة في الغالب. الهموم المزمع الوقوف على حلها تحولت إلى أوهام – على حد قول دكتور على حرب في نقده للمثقف (2006) - مع مرور الوقت أقعدت بالمشروع الحداثي المتخيل. وهذه تتمثل في وهم النخبة، وهم الحرية، وهم الهوية، وهم المطابقة وأخيرا وهم الحداثة. أما أوهام العقل تعود الى القرن السابع عشر، حيث أشار إليها وحددها فرانسيس بيكون (1620) في أوهام القبيلة، الكهف، السوق والمسرح، تلك الأوهام التي تعوق العقل في البحث عن الحقيقة.
في المقابل تعزى أزمة المصطلح التي يعاني منها المثقف إلى الاستلاب الثقافي والتبعية والاستتباع إلى ما ينتج في المطبخ "الأجنبي"، الذي سيطر على المسرح كليا بعد العولمة. المثقف السوداني/ الأفريقي/ العربي / العالم ثالثي يستهلك ما ينتجه الغرب ثقافيا خلال وبعد فترة الاستعمار والي يوم الناس هذا.
دور المثقف يتمثل في تحريك المجتمع نحو أهداف مثلى وغايات سامية، "الحرية والسلام والعدالة" تمس جميع جوانب الحياة الدينية منها والأخلاقية والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. يعتبر المثقفون بمثابة العقل المفكر الذي يستوحي منه الشعب نقطة الانطلاق نحو التقدم، فمشاركته فاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية، يحاول المثقف مع سبق الإصرار إعادة بعث مجتمعه من السبات، نحو التقدم والرقي، وصولا إلى الحداثة. الحداثة: يحتل مفهوم الحداثة في الفكر المعاصر مكانا بارزا، فهو يشير بوجه عام الى سيرورة الاشياء بعد ان كان يشير الى جوهرها، ويفرض صورة جديدة للإنسان والعقل والهوية، تتناقض جذريا مع ما كان سائدا في القرون الوسطى.. [1]
والحداثة هي نقيض القديم والتقليدي. فهي ليست مذهبا سياسيا او تربويا او نظاما ثقافيا واجتماعيا فحسب، بل هي حركة نهوض وتطوير وابداع هدفها تغيير انماط التفكير والعمل والسلوك، وهي حركة تنويرية عقلانية مستمرة هدفها تبديل النظرة الجامدة الى الاشياء والكون والحياة الى نظرة أكثر تفاؤلا وحيوية.
وبالعودة إلى تجربة السودان –الخجولة والمتواضعة إلى حدٍّ كبير– في مجال الحداثة أو التنوير، نجد أنها مازالت في طور التشكيل الجنيني – تحارب من أجل تحقيق مربع الخلاص “العقلانية، التاريخانية، العلمانية والحرية" على الواقع، الواقع الذي يتحرك باستمرار تجاه الماضي "المقدس". الماضي يتدثر بالدين ويفرض نفسه رغم أنف المستقبل، المجتمع لم ولن يتجانس ثقافياً مع حركة شد الأطراف، التي قد تنتهي بموت المركز سريرياً، المثقف السوداني تحت كُلّ المسميات، اليسار، الوسط واليمين، ما انفك يحمل صخرة سيزيف، وينادي بشعارات فقدت شرعيتها، لكنها المكابرة ولوثة النخبوية، أو حالة هروب من الذات. والعقل الجمعي السوداني يسوده "ظاهرة التفكير الرعوي"، وعندها يعاني "الوعي" حالة انقسام بنيوي، بين الوعي اليقيني واللاوعي، وتتجذر المعضلة أكثر فأكثر، عندما يكون "اللاوعي" هو صاحب الكلمة الفيصل، عندها ينفرط العقد والكُلّ يبحث عن المعادل الموضوعي، لواقع أقل ما يوصف به إنه مأزوم. [2]
من المفارقات التي يعاني منها المجتمع السوداني خاصة ومجتمعات العالم الثالث عموما هي النظر بشيء من الازدراء والدونية لكل ما هو ثقافي - حداثي - وتصنيفه في خانة غير الضروري للمرحلة، وعندها يتسع الشرخ بين التنمية المبنية على المعرفة العلمية والحس الجمالي الرفيع والتنمية التي تفرضها الظروف السياسية. وعندها يظهر الدور الطليعي للمثقف في أن يكون راس الرمح في عملية التنمية، وعليه يجب أن يكون مستقل فكريا وملتزم سياسيا، يساعد في بناء دولة المؤسسات بعيدا عن الصراع الأيديولوجي العقيم الذي ينتهي برفع الشعارات المكررة التي لا تورث الحكمة. ويشكّل كلّ من التراث الثقافي المادي وغير المادي، والطاقة الإبداعية، موارد يجب حمايتها وإدارتها بكل عناية. فكل منها قادر على أن يكون مُحرّكا لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وعلى تيسيرها، باعتبار أن المقاربة الثقافية هي عنصر أساسي لإنجاح المجهودات المبذولة لبلوغ هذه الأهداف. (اليونسكو) [3]
مفهوم الحداثة: كان هيغل أول فيلسوف وضع مفهوما واضحا للحداثة واستخدمه في سياقات تاريخية للدلالة على حقبة زمنية معينة، حيث ذكر بان الحداثة بدأت مع عصر التنوير، بفعل اولئك الذين اظهروا وعيا وبصيرة، باعتبار ان هذا العصر “حد فاصل” و “مرحلة نهائية من التاريخ”، في هذا العالم الذي هو عالمنا وحاضرا يفهم على انه قيومة الزمن الحاضر، انطلاقا من أفق “الازمنة الجديدة” التي تشكل تجددا مستمرا. وإذا جاز لنا ان نحدد تاريخا موجزا وسريعا لمفهوم الحداثة، فيمكننا القول بان المفهوم يعود الى بداية القرن التاسع عشر فقد ذكر هيغل بان الازمنة الحديثة تخص ثلاثة قرون تمت فيها تحولات هامة وهي: - اكتشاف العالم الجديد، عصر النهضة وعصر التنوير. [1]
هذه التحولات الكبرى، التي بدأت منذ القرن السادس عشر، شكلت عتبة تاريخية هامة وانتقالا من القرون الوسطى الى الازمنة الحديثة، وهي دالة على حقبة جديدة تشير الى ولادة عصر ومستقبل جديد. منذ هذه الحقبة ابتدأ تصور التاريخ كتفاعلية متسقة خلاقة، وأصبح الزمن معاشا في مواجهة القضايا التي تطرح نفسها، او كزمن يلاحقنا. ان” روح العصر” Zeitgeist هو أحد المفاهيم الجديدة التي ابتدعها هيغل، التي تسم الحاضر كلحظة عابرة تستهلك نفسها في وعي التاريخ، وفي انتظار مستقبل مختلف. يقول هيغل، “ان زمننا هو زمن ولادة وزمن انتقال الى حقبة جديدة. وان العالم الجديد ينفتح على المستقبل ويولد حقبة تاريخية جديدة تستمر في كل لحظة من لحظات الحاضر الذي يولد شيئا جديدا”. وان الوعي التاريخي بالحداثة يتضمن تحديدا للحدود بين الزمن القائم والزمن الجديد، وتصبح الحقبة المعاصرة بداية للزمن الجديد الذي يبدأ مع عصر التنوير، ومع الثورة الفرنسية، باعتباره حدا فاصلا يكون قطيعة بين الازمنة الحديثة والماضي. كما شكلت القطيعة انفصاما وتوقفا وازاحة له من جهة، وثورة معرفية كونت تحولا مفاجئا وحادا في نظام المفاهيم والاشياء والعلاقات الاجتماعية من جهة اخرى. وبهذا فالحداثة ليست قطيعة مع الماضي فحسب، بل هي الغاء له وتوليد حركة طليعية متقدمة. وبطلوع القرن الثامن عشر صاحب الحداثة مفاهيم جديدة ذات دلالات ما زالت تحتفظ بجدتها واهميتها حتى اليوم كالحرية والعقلانية، والنقد، والتقدم الاجتماعي، وغيرها. [1]
بالعودة إلى مرجع أساسي في تناول هذا الموضوع الشائك، نجد المفكر الفرنسي (جان بودريار/1929-2007) يستهل حديثه عن الحداثة، باعتبارها “ليست لا مفهوماً سوسيولوجياً، ولا مفهوماً سياسياً أو حتى مفهوماً تاريخياً، إنها نمط حضاري خاص يتعارض دوماً مع نمط التقليد”. حيث إنها تقوم في وجه التعدد الثقافي والرمزي في المجتمعات “التقليدية” كشكل متجانس يجتاح العالم انطلاقاً من الغرب الحضاري، الشيء الذي يضفي عليها هالة من الأسطره لدرجة يتماها في مظاهرها ما هو واقعي بما هو أسطوري. ومع ذلك، يظل لها مدلولاً ملتبساً يشير من جهة إلى تطور تاريخي، ومن جهة ثانية إلى تغير في الذهنية، أنها معطى متشابك يمتزج فيه الواقعي بالأسطوري، واقع يتميز في كل المجالات: “دولة حديثة، تقنية حديثة، موسيقى ورسم وعادات وأفكار حديثة، على هيئة مقولة عامة وضرورة ثقافية [4]
التشبث بالحداثة دون وعي مستنير قد يعوق المُفكِّر في خلق الأفكار ونقدها «هذا الوهم يعوق المفكر في خلق الأفكار، يحول بين المثقف وبين الاستقلال الفكري أو ممارسة التفكير النقدي. وهكذا فهو سلوك فكري يتجلى في تقديس الأصول أو عبادة النماذج أو التعلق الماورائي بالأسماء والتوقف الخرافي عند العصور. ودكتور علي حرب ينتقد تعلق المثقف بالحداثة كتعلق اللاهوتي بأقانيمه، أو المتكلم بأصوله أو المقلد بنماذجه» [5]
وإذا كانت الحداثة الأوروبية مشروعاً لم يكتمل، كما يقول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، فإن الحداثة العربية ولدت، ولا زالت، مشروعاً معوّقاً. فقد تأسست الأولى على ثورات فكرية وعلمية وصناعية تسارعت في القرن الثامن عشر، بينما بدأت الثانية بالتشكّل، بشكل مجزوء، في منتصف القرن التاسع عشر [6]. هنا يكمن المأزق، أي هنا مكمن العلة ووجهه الإشكال. ذلك أن الحداثة لا تكون بالإحتذاء والتقليد، بل تصنع بالخلق والإنتاج، أيا كان مدى الإفادة من الغير، وأيا كان مبلغ التأثير بالمنجزات الحديثة. إنها لا تتحقق من غير إبداع يتجسد إنقلابيا في الفكر، أو طفرة في المعرفة، أو تغيرا في الرؤى والمفاهيم، وتبدلا في المناهج والأساليب. بهذا المعنى لا يصبح الواحد حديثا، ما لم يصنع حداثته، بالتعامل مع هويته وخصوصيته على نحو جديد ومبتكر، فعال ومثمر. [5]. ولمواجهة الحداثة علينا ــ حسب الجابري ــ أن نفكك ونعيد تركيب العقل العربي ببيانه (الفقه واللغة)، وعرفانه (التصوف والعلوم الباطنية)، وبرهانه (علوم العقل من منطق وغيرها). ما يبقى غامضا في فكر الجابري هو كيف لنا أن ننتقل من نقد العقل العربي إلى نهضة مجتمعية وسياسية وتكنولوجية عارمة؟ هل إعادة بناء البيان والعرفان والبرهان كاف لتحقيق الثقة في الذات والانطلاق نحو المستقبل؟ [7]
في المقابل تحت عنوان "وهم القطيعة الفكرية بين الماضي و الحاضر يستنكر اصف إبراهيم [8] فكرة القطيعة مع التراث التي نادى بها الجابري « القطيعة المعرفية عربياً ربما كان المفكر محمد عابد الجابري أهم من استخدم هذا المصطلح في دراساته المتعلقة بالفكر والتاريخ العربيين، لكن تناغم الجابري مع هذا المصطلح جاء مضطرباً، فهو يقصد دعوته إلى القطيعة مع بنية عقلية لعصر محدّد وقد يوحي ذلك بالدعوة للعودة إلى ما قبله، أي أن القطيعة هنا ليست مرتبطة بالتقدم كما أرادها مطلقوها بل بنقض مرحلة شاذة والعودة إلى مرحلة أسمى كالدعوة إلى القطيعة المعرفية مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط. ≪ وبالعودة إلى السؤال القديم -الحديث الذي كان رواد النهضة من أمثال محمد عبده والأفغاني والكواكبي يطرحونه منذ عقود: ≫ ما السبب في تطور الغرب وتقدمه وتأخر بلاد الإسلام وتخلفها؟ بل إن عمق السؤال كان هو كيف التعامل مع زخم الحداثة وقوتها وجاذبيتها في ظل وجود ثقافة متجذرة نهلت على مر العصور من تفسيرات محافظة للدين ونظريات للمجتمع مغرقة في التقليدية؟» [7]
ينتقل السؤال من " لماذا؟" إلى "كيف" كيف يستطيع المثقف الحداثي في الفضاء العربي، أن يدمض جراحة في المعركة الفكرية التي خاضها، بشيء من التعالي على الواقع “ المأزوم " بهدف اللحاق بركب العصر ، فكانت الصدمة « نتاج ما سبق نجد أن الحداثة كان لها وقع الصدمة الفكرية والأيديولوجية على المثقف المغربي (والسوداني ). كما أن الرد كان في جله دفاعيا، وفي بعضه استسلاميا أو خطابيا، وأن ازدواجية الأنا والآخر كانت هي الثنائية المانوية الغالبة في التفاعل مع الحداثة، كذلك فبناء المتخيل كوسيلة لإيجاد فضاء فكري بديل كان هو القاعدة في غالبية الردود؛ وأن قضية الانتماء والهوية (رغم أنها بناءات خطابية في جلها) وإعادة بناء هذا الانتماء، أرقت جل المثقفين من مختلف المشارب الفكرية والأيديولوجية. » [7]
وفي حوار مع فيصل دراج (بعنوان المثقف قائم في النقد) ينتقد الموقف للمثقف المعاصر من الثورة والدعوة للاشتراكية الذي اختزل في رمزية "الحداثة" التي تحتاج إلى "تحديث" من المفترض أن تقوم به المؤسسات الرسمية في الدولة. «أما كلمة الحداثة التي ظهرت وسُوّق لها منذ السبعينات، فقد جاءت كبديل عن كلمة الثورة والاشتراكية. ففي الأربعينات كان يقال الثورة، والاشتراكية، والتقدم، والنهوض. لكن بعد أن فشل كُلّ هذا، جاءت كلمة الحداثة، التي اختصرت الحداثة في الأدب والإبداع وقلة مفترضة تنجزهما بمعزل عن حياة الناس.» [9]
وهكذا يصح لنا أن نستنتج مع منظري الحداثة، أنها فكرة تتعرف فيها الحضارة على نفسها، وتلعب في الآن ذاته دور تنظيم ثقافي، وهي بذلك تلتحق خلسة بالتقليد. وإذا كان (بودريار) يعتبر أن الحداثة ليست نظرية بقدر ما تنطوي على منطق وإيديولوجيا يميزانها عن التصورات التقليدية للعالم، فإنه يرى أن منطق الحداثة هذا يتشكل من ثلاثة أبعاد هي:[4] البعد التقني ــ العلمي، حيث تطور الوجود الإنساني بشكل غير مسبوق نوعا وكماً وكيفاً، وبشكل تدريجي للعلوم والتقنيات وللنمو العقلاني والمنهجي لوسائل الإنتاج ولأساليب تسييرها وتنظيمها، حتى صارت معه” كأنها عصر الإنتاجي. المفهوم السياسي للحداثة، حيث تجسدت الدولة كفكرة مجردة جامعة وتحددت “في صيغة الدستور، ومن خلال الوضع الاعتباري للفرد، وتحت عنوان الملكية الخاص، وذلك ما شكل البنية السياسية للحداثة. إن هذه الوضعية تعلن عن تجاوز لكل الأنظمة السابقة، إذ كانت الحياة السياسية تتحدد في شكل تراتبية تؤطرها وتتحكم فيها العلاقات الشخصية والأطر الاجتماعية والمعرفية التقليدية. المفهوم السيكولوجي، ذلك أنه في مواجهة الرؤية الموحدة للعالم ذات المضامين السحرية الدينية والرمزية للمجتمع التقليدي، يقف “العصر الحديث موسوماً ببزوغ الفرد بوصفه كائناً يحوز وعياً مستقلاً، بنفسيته ونزوعاته الشخصية ومصلحته الخاص، مؤسساً بذلك لرؤية جديدة للذات وللعالم.
وفي سياق جدلية الحداثة والتحديث يرصد عمران سلمان [10] الحالة في الوطن العربي (السودان حالة نموذجية) ويصل إلى أن الدولة هي المعوق الأساسي ضد الحداثة “وهنا نعود إلى الإجابة على سؤال المعوقات، والتي أعتقد أنها أكثر من معوق وليس واحدا. ولكن منها ما هو أساسي وثمة ما هو متفرع عنها. لعل المعوق الأكبر أمام انتقال المجتمعات العربية نحو أي إصلاح أو تغيير، بما في ذلك "الحداثة"، يعود إلى طبيعة الدولة أو النظام السياسي نفسه. وصفات تلك الدولة تتلخص في: دولة أبوية، تقدم نفسها بوصفها راعية ومسؤولة عن المواطنين وليست شريكة لهم وخاضعة لنفس العقد الاجتماعي. وهي بهذا المعنى تتحدث نيابة عن الناس وتعمل ما تعتقد أنه يصب في مصلحتهم. وهي تعاقبهم أو تغدق عليهم بحسب أدائهم، بالضبط كما يعامل الأب أو الأم أطفالهم. دولة تحتكر الفضاءات، السياسي والديني والاقتصادي و الثقافي . ويشمل ذلك مؤسسات السُّلطة والتعليم والمسجد والإعلام والأنشطة الاقتصادية الأساسية. دولة يستحوذ إدامة الوضع الراهن علىّ جل اهتمامها ووقتها ومواردها، بما في ذلك علاقاتها مع العالم الخارجي.
الحداثة والعقل الرعوي: أطروحة الدكتور النور حمد بعنوان “قيد الثقافة الرعوية" الذي يحول دون اكتساب قيم الحداثة، وجدت منذ العام 2016 ردود فعل متباينة وسط المثقفين السودانيين من مقرظ لها بأنها طرح جديد وخروج عن المألوف وآخر شن عليها هجوما شرسا لأنها لم تتبع الأطر الاكاديمية المتفق عليها. ارتكز النقد المدعوم أيدولوجيا على "المصطلح" أي "العقل الرعوي" وليس الظاهرة الاجتماعية التي ترتبت علية. وتمحور السجال أو المناظرة في صورة سؤال قلق يتيم: ايهما يشكل الآخر في العلاقة الجدلية بين العقل والواقع؟ في مداخلة لدكتور النور حمد في رده لنقد دكتور عبد الله أبراهيم لمصطلح العقل الرعوي (( لقد لاحظ الدكتور عبد الله أنني وسعت من المصطلح وأدخلت فيه بعضًا من التجليات الحضرية. وقد جعله ذلك، في ما فهمت منه، يشعر بأن استخدام المصطلح ليس متسقًا. غير أنني كنت واعيًا بأنني أستخدم ذات المصطلح في سياقين مختلفين؛ أحدهما قبل حداثي، والآخر حداثي. ففي حين شملتُ بالمصلح سياقيْ البداوة، أو ما قبل الحداثة، والحداثة، كنت أقصد ذلك. فأنا لست منشغلاً، في نظرتي للظاهرة بجهتها الجغرافية، أو وضعيتها في “كرونولوجيا” التاريخ الاقتصادي والاجتماعي. انشغالي بالظاهرة يتجه إلى تجليات ما يمكن أن أطلق عليه ثنائية “الإنسية” و”الوحشية”، أو النظام واللانظام، أو صراع “الجلافة” مع “الصقل والتهذيب والنبل وعالي القيم”. أو في تجليات أخرى تشمل مختلف جوانب صراع الكيانات قبل الحداثية مع مؤسسات الدولة الحديثة)) [11]
وفي هذا السياق كتب دكتور النور حمد "التحليل الماركسي الاقتصادي للظواهر رغم أهميته التاريخية، لم يعد صالحًا تماما. فقد انقصم عظم ظهره منذ وقت طويل. فمقولة الوعي التابع للمادة، ومقولة إن منظومة علاقات الانتاج هي التي تصنع القيم، وأن البنى الفوقية تتولد، بالضرورة، من البنى التحتية، مقولات سقطت جلُّ دعاماتها الإيديولوجية. وأعني هنا، أنها لم تسقط على الصعيد النظري، وحسب، وإنما سقطت على صعيد التجربة الفعلية في التطبيق الاشتراكي في الدول الشيوعية" [12]
ويستطرد دكتور النور في توضيح فكرته "الذين يضرسون، من تسمية “العقل الرعوي”، ربما احتاجوا أن يتريثوا، فلا يندفعوا إلى الدفاع بحمِيَّة القبلية. فهذا النوع من الاندفاع يمثل واحدًة من تجليات العقل الرعوي، المتحفز، الذي لا يفكر صاحبه مرتين، قبل أن يَخِفَّ إلى سلاحه ليشهره في وجه الآخر. فتعبير “العقل الرعوي” ليس “للتريقة”، على الرعاة، أو التقليل من شأنهم، أو النظر إليهم من علٍ، أو دمغهم بالنقائص، وإنما هو إشارة إلى منظومةٍ قيميةٍ ارتبطت بنشاطٍ اقتصادي بعينه، وأسلوب حياةٍ بعينها. فالمصطلح لا يشير إلى قبيلةٍ بعينها، ولا إلى مجموعةٍ بشريةٍ بعينها، وإنما يشير إلى منظومةٍ قيميةٍ شكلتها ظروف تاريخية. وهذه الظروف التاريخية، لم تكن لتسمح لها بأن تتشكل على غير تلك الصورة. فمنظومة القيم الرعوية تشكَّلت، وفق الظرف التاريخي، والمعطيات، والسياق الذي أحاط بها" [12] وفي تعليق ساخر يلخص دكتور عبد الله على إبراهيم موقفه من أطروحة العقل الرعوي: (( وقد كتبت مراراً عن فساد فكرة القائلين بإن مرد محنة السودان الأنية هذه إلى العقل البدوي الناشب في الصفوة لا تكاد تخطو خطوة واحدة في طريق الحداثة حتى ترجع القهقري خطوتين. وقلت إن هذه حيلة بائخة تتملص بها البرجوازية الصغيرة من جريرة خرابها للوطن لترميها على عقل بدوي مزعوم" ويواصل ولكن تعويل النور على فض نطاح الحداثة والرعوية على استرجاع كوش التاريخية مما لم يقع لي)) [13] "
كيف ولماذا انتكسنا حضاريًا، وكيف ولماذا عجزنا عن الإمساك بأسباب الحداثة، مثل بقية الأمم؟ والتساؤل حول إمساك البداوة ببنية العقل العربي، والحؤول بينه وبين الامساك بجوهر الحداثة، ليس جديدًا. فالسؤال الشهير: "لماذا تقدموا، وتخلفنا؟"، سؤالٌ قديمٌ ظل يُطرح منذ بدايات ما سُمي ب "النهضة العربية". ان الثيمه الأساسية لطرح النور الفكري فيما بدا لنا هو ان العقل الرعوي وراء هزيمة الحداثة وانتصار التخلف عبر الهبات الرعوية التي تأت لتسحق بعض التحديث الذي تم علي يد الاستعمار البريطاني ومن قبله التركي المصري. يشير طارق بشرى (شبين) [14] في نقده لأطروحة العقل الرعوي الى ((استخدام الكثير من اللغة المطلقة –فالبحث العلمي و بخاصة في العلوم الإنسانية يتواضع الي استخدام اللغة او الحقيقة النسبية. و حدد ثلاث محاور كمثال للتعميم و الاطلاق في الاحكام هي : أولا قوانين سبتمبر التي أعادت حراك التحديث عقودًا إلى الوراء وترتب عليها وصول الإنقاذ الى السلطة مما أدى إلى إطفائها لنور العقل والمعرفة، وإماتتها للوجدان الجمعي. ثانيا التركيز على السياسة عوضا عن السياسات و اهمال التفكير، والغرق في النزاع غير المنتج. ثالثا الصراع المستمر ابتداء بسلطنة الفونج، ومرورًا بالحكم المهدوي، وانتهاء بأنظمة الحكم لفترة ما بعد الاستقلال، لا تحكي عن بناء للدولة، بقدر ما تحكي عن صراعٍ مرير معها، ظل يستهدف بنيتها.))
يطرح بله البكري العديد من التساؤلات القلقة على لسان أحد القراء المتابعين لما نشرة بصدد نقد العقل الرعوي و استعصاء الإمساك بأسباب التقدم ((وجاءني من قارئي شغوفٌ، مثل الكثيرين، ب (التغيير) ومشغولٌ به متسائلا: هل يمكن أن تُعزى كل المصائب على مستوى إدارة الدولة السودانية، منذ الاستقلال حتى تاريخه، إلى عامل واحد هو “العقل الرعوي” في الفهم والممارسة أم هناك عوامل أخرى تماثله في الأثر أو ربما تفوقه؟ وماهي أولى خطوات الخروج من هذا المأزق؟ من أين نبدأ: هل على مستوى الفرد أم على مستوى الجماعة والمجتمع؟ هل على مستوى البناء السياسي والتنظيمى (علماني) أم البناء (الدينى) أو بناء ثالث هجين (علماني/ديني) [15]
الخلاصة: أي ظاهرة اجتماعية تاريخيه وان كانت في غاية البساطة هي بالتعقيد بمكان ان تفسر او تحلل بعامل واحد-بشكل من الاشكال قد ذهبت بعيدا في تغييب او تجاهل عدة مفاهيم مركزية عادة ما تؤخذ في الاعتبار المعرفي و الأيديولوجي- في الحقل الاكاديمي و السياسي - في مناقشة إشكالية الحداثة و التنمية و مقاربة التخلف ، و مما زاد تعقيدها المعرفي وفق اطروحة النور لا تجد اشتراطاتها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الأيدولوجية وتسبباتها في بنية الدولة السودانية (حداثة/تخلف)، وفي تأريخية الصراع الاجتماعي السياسي في بعده الوطني و الاقليمي و الدولي. [14] تتلخص شروط الحداثة في تبني مربع الخلاص، والذي سوف نطلق عليه مجازا ال Tetragon "العقلانية، التاريخانية، العلمانية والحرية" التي تزامنت مع حركة التنوير الفلسفي والنهضة الصناعية بعد تحقيق الثورة العلمية والثورة الفرنسية التي جسدت حقوق الانسان. بالطبع ليس من المنطقي العودة 500 عام للتماهي مع ما حدث في الغرب الأوربي. لكن أعمدة التنوير صالحة لتكون نبراس يحتذى للخروج من النفق مع مراعاة ظروف الواقع الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي. والاعمدة تتلخص باختصار في التالي: العقلانية: العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة (ديكارت وسبينوزا) - عدم التناقض بين الوسائل والغايات. التاريخانية: تفسير الاحداث والقيم الإنسانية وفقا لسياقها الاجتماعي والتاريخي، ليس هنالك ثمة ثوابت، الكل في صيرورة. العلمانية: مصطلح يعني بعد الدولة واستقلالها عن العقيدة، لأن الدولة مخلوق انساني لأغراض انسانية متغيرة مع الزمن. وأخيرا الحرية: هي المسؤولية التي تتجسد في القدرة على الاختيار " أنا اختار إذا أنا موجود" وفقا للمنهج الوجودي.
المراجع: 1. إبراهيم الحيدري - ما هي الحداثة؟ - أزاميل الخبر و أسئلته (منشور في إيلاف) – 22 أبريل 2018 ، ص 1،2،3،8 2. عبد الله ميرغني محمد احمد – المثقف.. الآخر! - مآلات مشروع الحداثة في السودان المعاصر، مركز عبد الكريم ميرغني، أغسطس 2022، ص 172،171،170 3. اليونسكو – الثقافة في صميم أهداف التنمية المستدامة – 2015 .4هشام الهداجي - سؤال الحداثة والتحديث: بحث في المرجعية الفكرية والتاريخية للحداثة- مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث – 18 ديسمبر 2016- ص 1،2،3 5. علي حرب - أوهام النخبة أو نقد المثقف - بيروت - المركز الثقافي العربي - الطبعة الثالثة- 2004- ص98، 111، 112 6. فيصل دراج – المصائر الغريبة للحداثة العربية – فيصل دراج – المصائر الغريبة للحداثة العربية - قراءات في الفن العربي – 2013-ص1 7. محمد بكري - المثقف المغربي وصدمة الحداثة -جريدة القدس العربي - 28 سبتمبر 2019 – ص1، 2.، 5 8. صف إبراهيم - وهم القطيعة الفكرية بين الماضي والحاضر- صحيفة البعث الثقافية - 25 تموز 2020 – ص1 9. فيصل دراج - المثقف قائم في النقد - مجلة صوت فلسطين - الترا صوت - 18 مارس 2019، ص 4 10. عمر سلمان - معوقات الانتقال للحداثة – الحرة - 3 يناير 2020 - ص 2. 11 .النور حمد ، في تشريح بنية العقل الرعوي (2) – صحيفة التغيير الألكترونية – 28 سبتمبر ، 2016- ص 2 12. النور حمد - تشريح بنية العقل الرعوي – الانطولوجيا –7 سبتمبر،2017 – ص 2،8 13. عبد الله علي إبراهيم – النور حمد: نطاح الحداثة والرعوية – صحيفة الرعوبة – 15 سبتمبر 2016- ص 2،5 14. طارق بشرى (شبين)، قراءة نقدية حول: في تشريح بنية العقل الرعوي.. لكاتبها د. النور حمد .. سودانيلنشر في سودانيل يوم 19 - فبراير – 2017 – ص 2،3،4 15. بلة البكري . قراءة في كتاب د. النُّور حَمَد: “العقل الرَّعَوي في استعصاء الإمساك بأسباب التقدم (2/2) – صحيفة الديمقراطي –29 نوفمبر، 2022- ص 11-.12
#عبد_الله_ميرغني_محمد_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مألات مشروع الحداثة في السودان المعاصر : الواقع و التحديات
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
-
المثقف العضوي و الثورة
-
الحداثة: تقاطع المطلق و المتغير
المزيد.....
-
-سقوط مباشر واحتراق آلية-.. -حزب الله- يعرض مشاهد لاستهدافه
...
-
صنعاء.. تظاهرات ضد الحرب على غزة ولبنان
-
فصائل العراق المسلحة تستهدف إسرائيل
-
الديمقراطيون.. هزيمة وتبادل للاتهامات
-
القنيطرة.. نقاط مراقبة روسية جديدة
-
عرب شيكاغو.. آراء متباينة حول فوز ترامب
-
مسؤول أميركي: واشنطن طلبت من قطر طرد حركة حماس
-
إعلام سوري: غارات إسرائيلية على ريف حلب
-
بعد اشتباكات عنيفة بين إسرائيليين وداعمين لغزة.. هولندا تقرر
...
-
هجوم بطائرة مسيرة يوقع قتيلًا و9 مصابين في أوديسا
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|