بمناسبة انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في البحر الميت السبت القادم
في التاسع من أيار 2003، وقف جورج بوش أمام الخريجين من طلاب جامعة جنوب كاليفورنيا معلنا دخول الولايات المتحدة سياسيا وبقوة إلى "الشرق الأوسط" وذلك لأول مرة منذ ان تقلد بوش منصبه كرئيس للولايات المتحدة، بعد ان كان "الخيار السياسي" في المنطقة مفوضا للكيان الصهيوني. قل بوش: "إذا اتخذ الشعب الفلسطيني خطوات جادة للقضاء على الإرهاب والاستمرار في طريق السلام والإصلاح والديمقراطية، فانهم وجميع العالم سيرون علم فلسطين مرفوعا فوق أمة حرة ومستقلة"، والإشارة هنا طبعا إلى ضرورة القضاء المبرم على حركات المقاومة.
وفي ثنايا نفس الخطاب، بث جورج بوش رؤيته " للشرق الأوسط" الجديد الذي أنبأنا كولن باول بقيامه عندما صرح قبل عدة اشهر أثناء العدوان على العراق، بأن هذا العدوان سيكون مقدمة "لإعادة تشكيل المنطقة" بما يتناسب مع مصالح الولايات المتحدة وشركاتها العابرة للحدود.
ولكن القليل يعلمون، أن الخطاب " التاريخي" لدبليو بوش أمام طلاب جامعة جنوب كاليفورنيا الذي غطى فيه الموضوع "إقامة الدولة الفلسطينية" على بقية المواضيع الخطيرة التي وردت فيه، قد تحول بقدرة قادر إلى جدول الأعمال الرئيسي للمنتدى الاقتصادي العالمي الذي يعقد "استثنائيا" في الأردن في الفترة 21-23 حزيران 2003، ذلك المنتدى الذي يعلن عن نفسه انه "منظمة دولية مستقلة ملتزمة بتحسين أوضاع العالم" لنفاجأ انه تابع للدوائر السياسية الأمريكية بشكل مطلق.
قال بوش في 9 ايار: "ان زمن الفرصة التاريخية قد اتى". محيلا مستمعيه إلى "إزالة دكتاتور العراق من السلطة" و "القدر الذي يواجه إرهابيي المنطقة" و "التأثير المتزايد" الذي يحصل عليه "الاصلاحيون في الشرق الأوسط". ويبدو أن الطرح هذا قد اثر كثيرا في فردريك سيكري، المدير العام للمنتدى الاقتصادي العالمي الذي صرح يوم 5 حزيران 2003، أي بعد حوالي شهر من خطاب بوش، بما يلي: " لقد حان الوقت لتقوم المنطقة ببناء رؤيا جديدة للتنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لنفسها. إنها الآن مسؤولية أولئك الذين سيأتون إلى الأردن ليلعبوا دورهم في الفرصة التاريخية"! لكن الأمر يتعدى مجرد الاقتباس اللفظي المباشر..
فقد أعلن بوش ذلك اليوم عن مقترحه "الرؤيوي" : "إنني اقترح إنشاء منطقة تجارية أمريكية/شرق أوسطية حرة خلال عقد من الزمن"، وهو ما نجده بالضبط فيما صرح به فردريك سيكري مدير عام المنتدى الاقتصادي العالمي.
يجيب سيكري في مقابلة نشرتها القدس العربي والوطن القطرية يوم 14 حزيران على سؤال حول الأسباب التي أدت إلى عقد المنتدى الاقتصادي العالمي في الأردن بدلا من دافوس مقرها الاعتيادي بقوله إن أحد ابرز هذه الأسباب هو "إقامة منطقة للتجارة الحرة في الشرق الأوسط بحلول عام 2013"، وهو يعيد التأكيد في مكان آخر من المقابلة على هذه المسألة مضيفا تفصيلا صغيرا ربما كان قد نسيـه في المرة الأولى: "مـن ابـرز القضـايا [المطروحة على جدول الأعمال المنتدى] بالتأكيد منطقة التجارة الحرة في الشرق الأوسط والمفترض أن تضم جميع الدول في المنطقة بما فيها إسرائيل". ولا ينسى سيكري أن يشير إلى أسباب أخري لانعقاد " دافوس" في الأردن، هي انه يعقد "وسط الأزمة الحقيقية التي تهدد الأمن العالمي" ( أي القضيتين الفلسطينية العراقية) "وبالقرب من العراق، البلد العربي الذي يثير اهتمام العالم الآن لإعادة اعماره والوصول إلى أسواقه"!!
اذا، فالجغرافيا العربية الآن قيد التشكيل، والمنتدى الاقتصادي العالمي سيمثل الأرضية التي ستتحدد عليها شكل وطبيعة هذه التقسيمة في المجالين السياسي والاقتصادي. ولهذا السبب بالذات ستتم هذه العملية من خلال المنتدى لا أي إطار آخر، فالمنتدى يمثل لقاء كبار الرأسماليين من أصحاب الشركات العملاقة المتعدية للحدود، مع كبار السياسيين من أصحاب السلطة والقوة في الدول الإمبريالية والتابعة على حد سواء.
في أوساط مناهضي العولمة ، خفت اليوم حدة النقاش التي كانت تتنبأ بانتهاء "الدولة" لصالح سلطـة "مـا فوق قومية" رأسمالية باتجاه التأكيد على دور "الدولة الإمبريالية" في هذا الصعيد، خصوصا بعد احتلال الولايات المتحدة لكل من أفغانستان والعراق وتبنيها نموذج "الضربات الوقائية" و"الحرب اللانهائية" ضد بقية العالم. ان منتدى دافوس يمثل بشكل نموذجي هذا الالتقاء بين الرأسمال و "الدولة الإمبريالية" في هذا الصعيد، والتبادلية المنظمة للأدوار التي ستتشكل علاقاتها المحددة بتجربتها الأولى على الأرض في العراق وفلسطين.
إليكم النموذج بالتسلسل: نظام مارق/ دولة غنية بالموارد (العراق)، عدوان ماحق بدون مبررات (حرب " وقائية" من قبل الدولة الإمبريالية وهي هنا الولايات المتحدة)، سيطرة مركزية على الموارد دون اكتراث للأشياء الأخرى ( سيطرة الدولة الإمبريالية على آبار النفط ووزارته)، دخول الرأسمال المتعدي للحدود ل"إعادة الاعمار" (الاسم الملطف للاستغلال - هاليبرتون وبكتل الأمريكيتين اللتان حازتا على عقود مختلفة بمئات المليارات والحبل على الجرار).
هكذا لا نستغرب أبدا إن من سيمثل الولايات المتحدة في المنتدى الاقتصادي العالمي في الأردن هما كولن باول وزير الخارجية (الذراع السياسي العدواني للدولة الإمبريالية)، وروبرت زوليك ممثل التجارة للولايات المتحدة (الذراع الاقتصادي للدولة المعني بالتنسيق مع الشركات المتعدية الحدود).
ولان "التقدم يحتاج إلى زيادة التجارة، كما قال دبليو بوش في خطابه السابق الذكر، فلا بد من وضع إطار عام لهذه "التجارة " خصوصا وان "التطورات المؤسفة التي حصلت منذ 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة والعنف المتواصل في الأراضي الفلسطينية والحرب في العراق ألحقت كارثة بالاقتصاد العالمي" ( العبارة لسيكري). هنا يأتي دور الكيان الصهيوني في المنظومة الجديدة.
إن " التشكيل الجديد" للمنطقة سيكون على نموذج "منطقة التجارة الحرة" التي ستشمل جميع الدول في المنطقة "بما فيها إسرائيل".
إذا نعيد التحليل مرة أخرى:
الدولة الإمبريالية وتمهيدا لقيام منطقة التجارة الحرة، لا بد أن تسوي الطريق أمام رأس المال ليفعل فعلته السحرية عن طريق "التكامل الاقتصادي الإقليمي"، ورأس المال الذي يفضل أن يتمـركز في " النقاط الساخنة اقتصاديا " لاشك يقدر قيمة الكيان الصهيوني الجيواستراتيجية والاقتصادية تاريخيا، ويعتبره "الوتد" الأساسي والمركز الاقتصادي والسياسي والعسكري الذي يجب أن تتمحور حوله دول المنطقة، لهذا يتم الإصرار دائما على "دمجه" في المنطقة العربية.
وعليه لابد من التخلص من العقبات المادية: العراق الرافض "لعملية السلام" وللكيان الصهيوني، والذي يمتلك موارد نفطية كبيرة ومشروعا تصنيعيا ثقيلا أو شبه ثقيل، لن ينفع كعضو في منطقة "تجارية" حرة مركزها إسرائيل. الحل إذا تغيير النظام. تم ذلك.
العقبة الثانية: مقاومة شرسة في فلسطين ستقوض بلا شك جهود إنشاء المنطقة التجارية الحرة أو ستفشلها إن قامت. الحل إذا القضاء عليها. يتم ذلك الآن بتعهد أبو مازن إنهاء عسكرة الانتفاضة وبالعدوان الشامل الذي يشنه الكيان الصهيوني على المقاومة المسلحة.
بعد الانتهاء من العقبتين المذكورتين أعلاه ستتم قولبة المنطقة بحسب "النموذج" الأردني الذي يشير إليه بوش وسيكري على حد سواء. وإذا فهمنا أن إقامة "منطقة حرة" أمريكية شرق اوسطية بمشاركة "إسرائيل " هو الهدف الأسمى الحالي للإمبريالية الأمريكية وتصاغ نظريا من خلال المنتدى، فلابد إذا أن تتم الإحالة إلى مشروع المناطق الصناعية المؤهلة كمثال "ينمذج" التجربة الأردنية ويجعلها تجربة "رائدة" في المنطقة. فالمناطق الصناعية المؤهلة تربط الأطراف الثلاثة بعضها ببعض، والأطراف الثلاثة هي: رأسالمال، الولايات المتحدة، الكيان الصهيوني.
في المنطقة الصناعية المؤهلة يمتلك الرأسمال المتعدي للحدود ميزة التصدير بدون رسوم جمركية أو حصص إلى الولايات المتحدة شرط أن يكون 8 - 20 % من المواد الأولية من منشأ "إسرائيلي"، ويمتلك راس المال حرية إخراج الأرباح وإخراج رأس المال بأكمله بحرية تامة، ولا يدفع أي نوع من الضرائب أو الرسوم، ويقوم باستغلال العمالة المحلية والأرض والبنية التحتية بأرخص الأسعار. هذه هي الأطراف الثلاثة في مجالها الحيوي.
ان هذا النموذج التي تتحول فيه المنطقة العربية إلى " أرضية " فقط لحركة رأس المال وتركيز القوة والاقتصاد والموارد في يد الكيان الصهيوني ( فيما يتعلق بالموارد، نشير إلى إعادة إحياء مشروع أنبوب كركوك حيفا النفطي) وتتحول مجاميعه البشرية إلى " قوى عاملة " رخيصة لصالح رأس المال تعتمد اعتمادا مبدئيا عليه في معيشتها اليومية، ودور رأس المال الصهيوني المركزي في هذا التحول، هو الهدف المعـلن ل " قمـة المصالحـة العالمية" (الاسم الذي يطلقه المنتدى الاقتصادي العالمي على اجتماع الأردن)، التي تعقد تحت شعار "رؤيا لمستقبل مشترك" على جغرافيا جديدة اسمها "المنطقة الحرة الأمريكية الشرق أوسطية"، يحكمها في الشرق بريمر وفي الغرب شارون، يمتد بينهما أنابيب نفطية ومناطق مؤهلة ومجاميع سكانية مهشمة وفقيرة.