منال حميد غانم
الحوار المتمدن-العدد: 7821 - 2023 / 12 / 10 - 10:18
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
نُشر كتاب لفرجينيا وولف بعنوان "غرفة تخص المرء وحده " منذ 94 عاما ,كانت الكاتبة فيه تتحدث عن العقبات التي تواجه النساء وتقف بينهن وبين طموحاتهن في المشاركة بحقل الأدب ,كي لا ينفرد به الرجال وحدهم معبرين عن نظرتهم هم في تحديد شكل وماهية هذا العالم بمعزل عن النساء , اي انها كانت تركز في كتابها على تفكيك مشكلة لو تم حلها لأستطاعت النساء ان تدخل الى المجال الادبي وهذه المشكلة هي عبئ الانجاب والتربية والاعمال المنزلية بالإضافة الى النظرة الدونية لإنتاجية النساء الثقافية والابداعية حتى لو تجاوزن تلك العقبات .
وبعد 94 سنة وفي العراق تحديدا لا يزال حلم ان تكون هناك غرفة للمرأة وحدها هو حلم غير قابل للتحقق وان تحظى به كل النساء يبدو اعجوبة, لأنه حلم مكبل بأكثر من جهة تمنعه من اختراق الحد الفاصل بين الخيال والواقع مع انها غرفة من اجل العيش الانساني الكريم لا من اجل الانتاج الأدبي .
فلا يتضمن التخطيط العمراني للمساكن اجنحة تخص النساء او غرف للبنات تضمن حقهن بالخصوصية والتمتع بالراحة , او حتى تضمن لهن مكان مؤكد الوجود عندما يرجعن من بيوت ازواجهن لبيوت اهليهن لغرض الزيارة او الغضب الزوجي . غياب اثر على مصائر الآف من الشابات وصنع ملايين القرارات التي تجعل النساء تنزل على ركبها خاضعة وتقول (اتحمل , ما عندي مكان اروحله اذا تطلكت) , غياب صنع شكل مشوه لمؤسسة الزواج وجعل منها مختزلة من مؤسسة شراكة وحب ومودة الى مؤسسة انقاذ من اجل بديهيات الحق بالخصوصية حتى لو كانت لا تمنحها كاملة بل هامش من الحقوق والسلطة .
عندما ينزل سقف الطموحات في العيش تجد الكثيرات ممن لا يطلبن الغرفة للغرض الذي طلبته فرجينيا وولف بل فقط من اجل النوم بقيظ صيف العراق دون الاضطرار للبس ملابس اضافية ك "بيجامة او اتك " تحت (الدشداشة) ودون الاضطرار للألتزام بوضعية نوم " مستورة " دون غيرها , مكان من اجل ممارسة هواية , رقص , عبادة , تأمل , ابتسام دونما سؤال عن السبب .
( اشتريت غرفتي بصحتي ) هكذا عبرت احدى الفتيات عن كيفية نيلها لحقها بغرفة داخل منزلها تعبيرا عما تكبدته من أيلام وتعنيف لرفض العائلة ان تكون لها غرفة بينهم لكنها قاومتهم .
تقول اخرى : كنا نشاهد كارتون سالي وكنت احسدها لان لها مكان تهجع اليه عندما تريد ان ترتاح من الاعمال المنزلية, وتملك سريرا خاصا بها ودولابا غير مشترك مع أحد وعندما كبرت حزنت على نفسي كونني "حسدت" سالي وهي بطلة لفيلم كارتون عن طفولة مسحوقة وبائسة .
بالغالب الأعم لا يوجد غرفة تخص كل فتاة في المنزل العراقي وبأحسن الاحوال هناك غرف للبنات تضمهن جميعا لحين تزويجهن تباعا , وعادة ما تكون غرفة في الطابق الثاني من المنزل غير قابلة للعيش صيفا لشدة سخونتها وطاردة شتاءا لبرودتها, فتتحول تدريجيا الى غرفة لتبديل الملابس لا اكثر , وكلما كانت النساء من طبقة اجتماعية فقيرة كلما قلت احتمالية تواجد تلك الغرفة وذلك الدولاب لينمن في غرفة المعيشة او مع الجدات او مع الاطفال وملابسهن في دولاب الام او دولاب مشترك او في صناديق .
تقول احدى الفتيات القاصرات المتزوجات ( الاعباء المنزلية لصالح عائلة كبيرة مثل عائلة اهل زوجي لا يمنحني فرصة الاستمتاع بوجود غرفة خاصة بي كوني لا اراها الا عند التاسعة ليلا ومع ذلك هي افضل كوني استطيع ان انام بملابس خفيفة صيفا )
في الوقت الذي نشاهد فيه افلام الابيض والاسود ونرى البطلة في مشهد تسحب التلفون الارضي من الصالة الى غرفتها لتتصل بحبيبها او اخر تجلس فيه مع صديقتها تحادثها بغطاء اخاذ من الخصوصية, او مشاهد اخرى توضح كيف تستطيع البطلة تغيير فساتينها بأريحية تامة او تحادث نفسها دون ان يرمي عليها احد كلمة مجنونة او تبكي كلما ارادت وتغلق بعدها الباب بقوة , كلها مشاهد تشير الى ان تخطيط شكل المنازل قبل شرائها او بنائها او استئجارها او ارتهانها يضع في حسبانه ان البنت او مجموعة البنات في المنزل لهن غرفة خاصة بهن وحتى الغرف الجماعية في الافلام تظهر غير مكتظة تصل الى فردين او ثلاث بالغرفة الواحدة, هكذا تكونت الرؤية الواضحة لخلو مكان الحق بالمكان والخصوصية في مخيلة النساء .
حيث نستطيع ان نقارن بينها وبين حال المرأة العراقية ونجدها في افضل عصور الدولة الحديثة ازدهار ورفاه ورخاء لم تكن للبنات غرف داخل منازلهن خاصة بهن, بل مجتمعات مع اخريات واخرين ويمارسن حياتهن اليومية بمزيد من المشقة وهن يسعين من اجل الحصول على هامش من الخصوصية.
ففي الثقافة العراقية يتم شراء المنزل او بنائه بما يضمن وجود غرف على عدد الابناء من الذكور ليتمكنوا عندما يكبروا بالزواج فيها مع اسرهم الممتدة اما البنات فلا حاجة لتخصيص غرف لهن, فمصيرهن الزواج والمسألة مسألة وقت و بإمكانهن ان يضغطن على انفسهن لحين بلوغ تلك المرحلة .
وبالفعل تعقد الفتيات امال كبيرة على مؤسسة الزواج و احد اهم هذه الآمال بل وتشكل اهم ركن من اركان قبول المرأة الدخول لتلك المؤسسة هو الحصول على غرفة خاصة بها وحدها فتراهن يتحرقن شوقا للزواج لا رغبة به ولا بأعتباره مطلب من اجل الشراكة والاستقرار, بل وسيلة تحفظ لهن خصوصيتهن وتشعرهن بأنهن يملكن , الشعور بالملكية وهامش من السلطة على المكان قد تراه متمظهر برغبتهن في اقتناء ميداليات مختلفة ومتنوعة لمفاتيح باب تلك الغرفة او شرائهن ديكورات لها , فكلما فار مالا بأكفهن تحول الى سلع لتزين الغرفة او تطويرها الى منزل شبه مستقل او تحويلها بمرور الوقت الى غرفة خزن لمواد و اغراض منزلية استعداداً لحلم الخروج من منزل العائلة الممتدة الى بيت مستقل .
استطاعت " الغرفة " ان تتحول الى هدف محض للزواج بالنسبة للنساء كلما تدهورت ازمة السكن اكثر وتكدست العائلات في بيت واحد, لتظهر الحاجة الى هامش من الخصوصية بشكل يمثل الانقاذ او الخلاص فقط من اجل النوم دون ان تتفاجئ بمن يوقظك فقط لان هناك ضيوف او لان هناك من قرر ان يمارس هوايته الصيفية بالعراك وابراز الغضب, او لتفادي اجراء تدابير عدة قبل الذهاب للنوم من اجل الا تتعرض للتحرش من المحارم .
نستطيع ان نسمع مئات القصص التي ترويها ناجيات العنف الجنسي عن معاناتهن في ابعاد انفسهن عن خطر متحرش ينام بالقرب منها ويستطيع تبرير ملامسته جسدها على انه فعل غير ارادي اثناء النوم, ونستطيع ان نسمع قصص فتيات يستطعن سماع ذويهن عند الممارسة الجنسية وشعورهن بالاختناق او الغضب دونما قدرة على مغادرة الغرفة والنوم بمكان اخر .
ان حرمان النساء من الحق بالخصوصية لا يمكن محورته حول مستوى الحالة المادية فهناك اسر ميسورة الحال ولكن بسبب نظرتها الذكورية ترى ان لا حاجة من بناء غرفة ستتحول الى مخزن للأغراض الاحتياطية بمجرد خروج قاطنتها منها بالزواج, ولكن الحقيقة ان النساء المتزوجات و عندما يعدن لأهليهن لغرض الزيارة او الطلاق او الترمل او حتى لقضاء فترات الغضب الزوجي لا يجدن مكانا لهن ويبقين كحال المسافرين الترانزيت في المطارات يتجولن بحقائبهن بين الغرف وينمن في غرفة المعيشة او المطبخ ليصبحن على طريق كل مار بين ارجاء المنزل . وهناك عوائل ميسورة الحال يقرروا ان يخصصوا بناء غرف للبنات ولكنها محكومة بالمراقبة كأن يضعوا كاميرات في داخلها, او عليها باب لا ينغلق بإحكام بحيث يسهل الولوج لغرفهن وقتما رغب رجال العائلة . حيث تقول احدى اليافعات ( تحسدني زميلاتي كونني الابنة الوحيدة لأهلي واملك غرفة خاصة بي فيه لكن الحقيقة مؤلمة فهي مراقبة بكاميرا و والدي يقول انها لحمايتي اثناء غياب العائلة لكنني لا اشعر بالراحة بسببها , حتى خلع ملابسي صار امرا يوميا شاقا ).
استطيع الان استعارة جملة صديقتي " نحن البنات محض محاولات فاشلة لأنجاب ذكر" , وغالبا فالأبوين يتعايشان مع تلك الورطة التي وقعوا بها وهم قطعا لا يتقبلون مفردة "ورطة" بأنجاب البنات لكن سلوكياتهم نحوهن لا توحي الا بذلك. تخبرنا احدى الفتيات انها تعيش بغرفة واحدة مع اخواتها الثلاث وكلهن سمعن امهن وابوهن على مائدة الافطار وبشكل متكرر وهما يتناقشان حادثة لم تحدث بعد وهي جلب العار من قبل بناتهم بمعرض (ما العمل؟) لو حدث ذلك ؟ تقول انها تشعر بالشفقة حيالهم لأنهم يخططون لتدارك وهم لا يخطر ببالنا . بينما تخبرنا اخرى فتقول ( اخي الاكبر كثير الشك ويملك سلطة في العائلة عندما اشترى والدي المنزل خصص غرفة لنا نحن البنات وكانت ككل الغرف بباب لكن اخي خلعها واستبدلها بستارة ثقيلة تمكنه من مداهمتنا عندما يشك بأمر احدانا ).
الاغفال العمد لوجود البنات وتجاهل حاجتهن لمسكن امن ومؤكد في بيوت اهليهن عند تخطيط المساكن و صرف النظر عن تلك الحاجة المرتبطة بنوعهن للخصوصية يجعل من حياتهن اليومية ساعات من المشقة والذل والغضب كسجين ينتظر الافراج عنه لأي مكان حتى لو كان عناء اخر , لتنعكس تلك المعاناة على شكل المساواة بين الجنسين وتشويه مؤسسة الزواج بل وفشلها بمجرد قضم هامش الحق بالخصوصية الذي يتزوج معظمهن من اجله , حقا كفله الدستور والمواثيق من اجل حياة منتجة سوية وتشكل بديهيات العيش الكريم لا تفضلا من اسرة او دولة .
#منال_حميد_غانم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟