|
حرب المبشرين في وقعة الجمل
صالح عباس
الحوار المتمدن-العدد: 1740 - 2006 / 11 / 20 - 08:22
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تبنى فكرة الحرب على تضارب المصالح أو المبادئ بين الطرفين المتحاربين. الحرب صراع نفوذ، يقتنع الطرفان قبل وقوعها بنفاد كل الأساليب الأخرى كالتفاهم والحوار والتنازل المتبادل والتسويات وإذا لم تكن الحرب تعبيرا عن فكرة الهدم، وان تضمنتها، فهي أحدى الوسائل التي كررها التاريخ باطراد مستمر، بحيث تعد اقرب السبل إلى حل النزاع. بعد وفاة النبي محمد اختلف أصحابه بين مؤيد لهذا ومناصر لذاك. وفي حقيقة الأمر أنه اخمد الصراع إلى حين ولم يقض عليه. فشخصيته الكاريزمية والتأسيس الإلهي بعدم النطق عن الهوى وانتصاراته لم تبح لأي طرف التمدد التام أو الحرية التامة ليظهر جوانيته. انتظرت الأطراف جميعا أن يصعد محمد إلى ربه لكي تعبر عن رغباتها وميولها وأفكارها الخاصة المرتبطة بتبرير أو آخر بمصلحة المسلمين وطاعة الله علنا، والمشتبكة مع المصلحة الشخصية والتعاقدات القبلية والاقتصادية سرا. (عن انس بن مالك قال : وضع النبي رأسه على منكبي علي فبكى فقال له ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها حتى أفارق الدنيا - تاريخ دمشق) لذلك لم تأت واقعة الجمل كصدمة بل كذروة لخلاف مستديم عبر عنه أو طمر في النفوس لحقب طويلة. من الأسباب ما هو متعلق بالصراع ما قبل الإسلامي بين القبائل، ومنها ما يتعلق بمكانة رمزية أو اجتماعية حازها احدهم على حساب الآخر، ومنها ما يتعلق بالمصالح التي تراكبت في الوضع القبلي الإسلامي الجديد وكثرة الأموال المتدفقة إلى بيت المال، تطابقا مع إحدى تنبؤات محمد نفسه حينما كان يغري القبائل في الدخول إلى الإسلام من باب المطامح الاقتصادية، وكما قال علي بن أبي طالب (لا والله لا تدفع قريش إلينا السلطان وهم خاضعون أبدا – أصول الكافي ).
لزمن طويل اعتادت القبائل العربية غزو بعضها البعض وسبي النساء والتفاخر بالقوة وكل ما سمي جاهلية فيما بعد أو تعصبا قبليا. روح الغابة كانت سائدة في الصحراء، وروح التكاتف. السيف والقبيلة، هما الحصانة الرئيسة كي يعيش المرء غالبا لا مغلوبا ومنتصرا لا مهزوما. ارتبطت المعارك بالرجولة، مثلما اقترنت بالمكاسب. بعد ظهور الإسلام استمر الوضع حينما تبنى محمد أسلوب موسى كقائد للجيش، وكانت الغنائم والسبايا، خاصة مع وجود التبرير الإلهي في ملك اليمين، تلعب دورا كبيرا في استمرار تمسك المسلمين بالإسلام. (تاريخياً تتكرر الأسباب نفسها في اعتناق الوهابية في الجزيرة العربية). ومثلما أبقى النبي محمد على كثير من الأعراف الجاهلية شرعن الغزو والحرب والسبي بمسميات إلهية، مع تهذيب لطبائع البدوي في وصاياه المشهورة للمحاربين بمعاملة الناس بالحسنى، والأسرى بشكل خاص والمراة إلى ما هنالك من تعاليم كررها أبو بكر وغيره من الخلفاء لرجالهم. هذه الاستمرارية ذات طابع متأصل في نفس البدوي لا يمكن أن يتخلص منها إلا بتحول حضاري سيكولوجي اجتماعي كبير لم يتحقق في خضم الإسلام الأول. وبمجرد غياب محمد اندلعت الحروب وقد وصلت ذروتها في حادثة مقتل عثمان الخليفة الثالث الذي فتح الباب مشرعا لاستغلال السلطة في خدمة القبيلة والمقربين أكثر بكثير من سابقيه (عمر وأبي بكر)، اللذين تنسب لهما المرويات السنية العدالة وتتبع سنة الرسول ونموذج الحاكم الإسلامي الحقيقي. في عهد الخليفة الأول ثم الثاني استمر المسلمون في غزواتهم وحروبهم، لغاية تصدير الثورة. وبعد مقتل عثمان سنحت الفرصة: إذ تولى الخلافة شخص غير مرغوب فيه، غير منسجم مع صورة الصحابي الذي ينتظر أن ينال الحظوة بعد فترة جهاد طويلة. يقول طلحة في وصف التحولات التي حدثت والأضرار التي لحقت به وبصحبه (لأنك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا، وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما أفاء الله بأسيافنا ورماحنا، وقد وجفنا عليه بخيلنا). في الطرف المقابل يقف معاوية بن أبي سفيان كرجل دولة محنك وسياسي دنيوي صرف بالضد من الصورة المثالية لعلي، وينبري كل من طلحة والزبير كمرشحين كبيرين للخلافة مسنودين من أم المؤمنين التي موقفها من الخليفة الرابع اشهر من أن يحتاج إلى توضيح: بغض كامل. وقعة الجمل من هذا المنظور تتمة لسلسلة الغزوات التي خاضها البدوي وتأصلت فيه مستكملة المكاسب نفسها، متوزعة بين عداء شخصي وطمع في سلطة، وهو ما تسميه الروايات اجتهاداً أو طلب الحق والصراع من اجله. ولا بد لكل حرب من تبريرات تساق لإقناع الأتباع وزعزعة ثقة الأعداء، ولا بد لكل حرب من رموز. الإنسان (البدائي) آمن بذلك، والراية في احد أشكالها رمز معنوي تتحقق بالالتفاف حوله دفعة معنوية قوية للأتباع. في وقعة الجمل استخدم رمز أساسي، ينتمي إلى حقل المخيلة أكثر من كينونته الواقعية: هوالجمل.
اسم الجمل : عسكر، مهدى إلى عائشة، اشتراه يعلى بن منيه عامل عثمان على اليمن. وبعد تولي علي للخلافة ذهب بن المنبه إلى مكة. التقى هناك بعائشة وطلحة والزبير. فأعطى عائشة وطلحة والزبير أربعمائة ألف درهم، وأهدى عسكرا إلى عائشة- مروج الذهب.
في المعركة، التف قوم يسمون بني ضبة على جمل عائشة، هذا يحميه وهذا يمسك زمامه، وذاك يترقب المشهد. يقال أن الأيدي تقطع أمامهم من دون أن يؤثر ذلك فيهم. ( قال القعقاع ما رأيت شيئا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفين لقد رأيتنا ندافعهم بأسنتنا ونتكيء على ازجتنا وهم مثل ذلك حتى لو أن الرجال مشت عليها لاستقلت به – الفتنة ووقعة الجمل ). يمكن تصور وضع الجمل الذي لا ناقة له ولا جمل في معركة إسلامية إسلامية داخلية بين مبشرين بالجنة ومبشرين آخرين.
يقع الجمل بين عدوين. عدو يحاول عقره من دون أن يكون له يد في جلب عائشة والمقاتلين معها إلى ساحة المعركة ولا كان قد حرض على قتل عثمان. وعدو يحاول جره إلى المعركة مع الحفاظ عليه كرمز، كقوة سحرية، كدلالة انتصار.الرائي من الخارج للمعركة يتساءل، خاصة اذا كان خبيرا عسكريا: قد لا يخدم المهاجمين التوغل في عمق العدو لقتل الجمل، وقد لا يخدم المدافعين عنه تكورهم حوله. لكن حيل الطرفين العسكرية معنوية بقدر ما هي مادية. اذا انكسرت راية جيش هبط بارومتر روحه المعنوية إلى الصفر، و ليس في تحطيم الأصنام قراءة دينية فحسب، بل زمنية، بمعنى الإشارة إلى أن زمن السادة القرشيين قد ولى، وتنبيه لمن يحلم بعودة الطقوس الوثنية بأنه صار في عداد المستحيل، ولا رجوع بالزمن إلى الوراء. هكذا تركز الجيشان المقاتلان على عسكر. استمرت معاناة الجمل في ظل الصخب والضجة والقتل إلى أن عالجه رجل على عجزه فسقط صريعا، يقول القرني (كأني اسمع عجيج الجمل ما سمعت قط عجيجا اشد منه).
وإذ انجلت الغبرة فإذ بالصرعى– صحابة وتابعين، وإذ بعائشة في اشد المواقف انخذالا، وإذ بالجمل عسكر ملقى على الأرض مقسما القتلى من حوله إلى أصحاب جنة وخالدين نار.
#صالح_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لمحات من التاريخ الاسلامي: عائشة تقول لمحمد : الله يسارع في
...
-
لمحات ادبية في التاريخ الاسلامي : المهدي المنتظر
المزيد.....
-
الأكثر ازدحاما..ماذا يعرقل حركة الطيران خلال عطلة عيد الشكر
...
-
لن تصدق ما حدث للسائق.. شاهد شجرة عملاقة تسقط على سيارة وتسح
...
-
مسؤول إسرائيلي يكشف عن آخر تطورات محادثات وقف إطلاق النار مع
...
-
-حامل- منذ 15 شهراً، ما هي تفاصيل عمليات احتيال -معجزة- للحم
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تصفية مسؤولين في -حماس- شاركا في هجوم
...
-
هل سمحت مصر لشركة مراهنات كبرى بالعمل في البلاد؟
-
فيضانات تضرب جزيرة سومطرة الإندونيسية ورجال الإنقاذ ينتشلون
...
-
ليتوانيا تبحث في فرضية -العمل الإرهابي- بعد تحطم طائرة الشحن
...
-
محللة استخبارات عسكرية أمريكية: نحن على سلم التصعيد نحو حرب
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|