|
حدث غير واقعي ، ومع ذلك تعاملت معه المدينة بمنتهى الواقعية ..؟
مصطفى حقي
الحوار المتمدن-العدد: 1739 - 2006 / 11 / 19 - 10:33
المحور:
الادب والفن
ملاحظات عامة للكاتب المسرحي وليد فاضل حول مسرحية جائحة اللون من تأليف مصطفى حقي تتحدث المسرحية عن جائحة تحل ببلدة وتتمثل في تحوّل لون البول من اللون الطبيعي وهو اللون الأبيض أو الأصفر إلى اللون الأزرق ، وقد تعرض معظم سكان البلدة لهذا التغيير الغريب والمفاجيء الذي طرأ عليهم دون إنذار سابق ، وبرغم محاولة الأطباء والعلماء بمختلف العلوم من فيزياء وكيمياء تفسير هذه الظاهرة علمياً وبيولوجياً ، إلا أنهم بقوا عاجزين عن تفسير السبب الذي حوّل لون البول إلى الأزرق ، ويتوصل أحد العلماء إلى طريقة لاستخراج مادة الحبر وذلك بفصل اللون الأزرق من البول المصاب لاستخدامه حبراً في الكتابة ، هنا يأتي ما يدعوه المؤلف عرافاً من خلف البحار حاملاً تعويذة تحول اللون الأزرق للبول إلى لونه الطبيعي وذلك بواسطة دواء يمتص اللون الأزرق من البول فيعود كما كان مائلاً للصفرة ، وينجح علاج العراف وينقسم جمهور المدينة بين مؤيد له ومعارض ، فالمؤيدون له يشكلون حزباً هو الحزب الأصفر ، أما المعارضون للعراف فيشكلون الحزب الأزرق ، وتأتي الانتخابات ، فيحتدم الصراع ، حزب الزرق يرفعون الأعلام الزرقاء والشعارات الزرقاء لأن الزرقة هو لون الحبر رمز الثقافة والأصالة ومضاد للدجل والشعوذة ، أما حزب الصفر شعاراتهم وأعلامهم صفراء إشارة إلى إعادة اللون الحقيقي والطبيعي الخالص إلى بولهم أي أن القادم من وراء البحار أعاد لهم الأصالة ، وينقسم المجتمع إلى قسمين متعادلين ، ولايتم حسم الموقف بالانتخابات ثم يأتي تقرير مفاجيء ليعلن ظهور جائحة جديدة ، وهي أن لون البول الجديد قد صار أسوداً قاتماً .. وتنتهي المسرحية على صوت الراوي نادبا مرور السنين مردداً من كلمات الشاعر فاروق جويده .. الطفل يا أماه يسرع نحو الأربعين أتصدقين ..؟ ما أرخص الأعمار في سوق السنين ... ما عدت أسمع أغنيات كالتي كنا نغنيها والعمر ياأمي ضنين ... لكنني مازلت أحلم مثلما يوماً رأيتك تحلمين ... تتألف المسرحية من إحدى وستين صفحة مقسمة إلى تسع وعشرين مشهداً ، وهذا يعني أن المسرحية مؤلفة من مشاهد أقرب إلى اللقطات السينمائية أو التلفزيونية منها إلى السرد المسرحي ،وهذا يتناسب مع تطور الحدث السريع وهو انتشار الجائحة وتنقل المشاهد من مكان إلى آخر راصدة النتائج السيئة المترتبة على انتشار تلك الجائحة ، ولأن المسرحية تتحدث عن شيء حسّي ملموس ، جاءت اللغة حسية أيضاً بل مفرطة في أدق التفاصيل الحسية ، ففي الحوار الذي يدور بين الزوج والزوجة حول فاعلية علاج العرّاف يجري الحوار التالي الزوجة : سوف اشرح لك ، انها جارتنا قصدت العرّاف الدجّال كما تصفه ، وبولها أزرق ، وعادت من عنده بلون طبيعي أصفر ، وقد شاهدت ذلك بعيني ، حيث عرضت عليّ عيّنة سابقة وعيّنة حاليةً .. الزوج : وهل ... يعني ... أقصد .. ! الزوجة : أنت مشكّك كبير يا زوجي .. الزوج : لا لست شكّاك ، ولكن أسألك ، هل فعلتها أمامك ...؟ ( ص32) والسؤال الذي يطرح نفسه ، هل يتحول ماهو حسّي ، بل ماهو مغرق في الحسّية إلى رمز عام تنضوي تحت رايته جموع الناخبين ، رافعين الرايات الزرق لون البول الأزرق أو الرايات الصفر لون البول الأصفر ، والرمز صيغة مجرّدة تشمل ظواهر عديدة لها الإيحاء والمعنى والدلالة ذاتها ، فهل يمكن جمع زرقة السماء وزرقة البحر وزرقة العيون وزرقة الدم النبيل مع لون البول الأزرق ، بل هل يمكن جمع زرقة الحبر وزرقة البول في صيغة رمزية واحدة ، ان كان الرمز يدل على مجموعة من الأشياء تشترك في خاصية أو خواص مشتركة فحتماً البول خارج دائرة تلك الأشياء لأنه متنافر معها من حيث الإحساس والإيحاء ، إذن رفع اللون الأزرق إلى مرتبة الرمز كان محاولة حسّية متعسفة ولم تنسجم مع الدلالة الرمزية للون وهذا ما أثار إبهاماً حول دلالة الحدث لأن طريق الرمز يبدو شائكاً مبهماً ، ان بطل المسرحية مغرق في إيمانه بالحس والحواس يؤمن معها أنه فعلاً سيتم استخراج الحبر من البول الأزرق ويزداد دخل عائلته بشكلٍ مجزٍ ، ولكي يتأكد أن زوجته لم تذهب إلى العرّاف وتتناول منه الدواء ، يطلب منها أن تدخل إلى الحمّام وتضع قليلاً من بولها في زجاجة ليتأكد بأم عينه من لونه فيطمئن قلبه وقد لا يطمئن مادام قد دخل في لعبة الحواس ، لكن المدينة بكاملها قد دخلت في لعبة الحواس ، وقرنت مصيرها مما تراه أعينها وتلمسه لمس اليد ، وماعدا ذلك هو وهم ، من الواضح أن الحدث هو غير واقعي ، ومع ذلك تعاملت معه المدينة بمنتهى الواقعية بدءاً من أناسها العاديين إلى علمائها الأفذاذ ، ورجال سياستها ركبوا موجة اللون الأزرق والأصفر أيضاً وانخرطوا في اللعبة .. وهنا تتخذ الجائحة صيغة القدر ، فهي ظاهرة عامة مجهولة المصدر والغاية ومعالجتها تفلح جزئياً ولو لفترة محددة لتتجدد تلك الجائحة ثانية بصورة لون جديد وهو اللون الأسود والذي برز في نهاية المسرحية ويعيد الأحداث إلى نقطة الصفر وإلى نقطة البداية ... إن الجائحة تعادل هنا مفهوم اللعنة في المسرح الإغريقي ، فإن كان الجدب واحتباس المطر كوسيلة من الآلهة للتنبيه إلى جريمة تمت ولم يتم كشفها وبالتالي لابد من إظهارها وإنزال العقاب لمرتكبها لتحقيق العدالة فتزول اللعنة أو العقاب الجماعي ، كما في حالة أوديب ، فالجائحة تتخذ طابع العدالة الإلهية في كشفها الجريمة الخفية والتي ارتكبها أوديب دون علم منه عندما قتل أباه وفقاً لما خطّ في لوح القدر ، فالجائحة تهدف إلى إظهار الجريمة المخفية لتحقيق العدالة وإيقاع العقاب الصارم بالفرد فيزول الغضب عن الجماعة ، ويظهر هذا الغضب بصورة كوارث طبيعية أو تغيرات بيئية تسبب الأذى والضرر الجماعي لمدينة ما ، وسارتر في العصر الحديث استعاض عن احتباس المطر بالذباب وما يحمله من أمراض لكشف الجريمة المخفية ، فالجائحة إذن سواء في المسرح القديم أو الحديث هي عقوبة ما تحل بمدينة أو مجموعة بشرية بكاملها لقاء معصية كبيرة ارتكبها أحد أفراد تلك المدينة وغايتها العقاب لترسيخ العدالة وقيم التطهير الجماعي برفض الجريمة المحرّمة .... لكن ماهي الجائحة التي يتحدث النص المسرحي هنا وماهو كنهها ، انها ظاهرة عامة ولكنها ليست بجائحة ، لأن لم يتأت أي ضرر أو هلاك من ظهور تلك الظاهرة ، أي تغيير لون البول من الصفر إلى الزرق ، بل ربما كان اللون الأزرق للبول أكثر جمالاً للبعض من اللون الأصفر ، إذن هنا المدينة لاتعاني من عقاب عام ، لأنه لا توجد معصية محرمة قام بها فرد أو ارتكبتها المدينة ككل ، هناك ظاهرة عامة هو تحوّل اللون ، لكن هذا التحول لا يتداخل مع مفهوم اللعنة أو العقاب أو الفعل التطهري بأي شكل من الأشكال ، ومادام لا يوجد عقاب جماعي فلا يوجد فعل مسرحي للخلاص من اللعنة وآثارها العضوية المدمرة بل الجائحة أضفت نوعاً من السرور والبهجة على جو المدينة ونوعاً من التندر والفكاهة ، وهذا ما أدى لغياب الفعل المسرحي لأن الجهد المبذول لتغيير لون البول والذي لن يغير من كنه البول ووظيفته ، هو جهد غير مجدٍ وغير ذي معنى ، لأن اللون الجديد قد يبدو أكثر جمالاً من اللون القديم ، إذا نحن أمام مدينة تحيا في الفراغ ، وجل اهتمامها الأشكال والمظاهر الخارجية ، وأتت ظاهرة اللون لتصبح موضع اهتمامها وإضفاء دراما مزيفة على حياتها ، فانقسمت إلى فريقين متعادلين تحت راية اللون ، أي الشكل الخارجي والأتكيت والبروتوكول ، مثل هذه المدينة التي تحيا في جو سخافة عامة تحتاج إلى لجائحة على شاكلتها ، فتنتج معارك وهمية كما هي حياتها الواقعية ، والمعنى الوحيد الذي يمكن أن تظفر به هذه المدينة ومعها المسرحية هو اللامعنى ، أي العبث والخواء والفراغ ، وبالتالي لا توجد غلة لما يحصده القاريء .. ومسرح العبث ومسرح اللامعقول والمسرح السوريالي هو نوع من أنواع كشف للذات أو الغوص في الجوهر الإنساني ، حيث حقول الدهشة من كنه الجوهر الإنساني وعمقه ، لقد سار النص بعكس هذا الاتجاه فلم يولد الدهشة بل حيرة ، ماهذا الذي يجري أمامنا وعلام يدل ، ولعل تولد مثل هذا السؤال يكفي لتبرير العمل ، ومثل هذا العمل قابل للتأويل بأشكال شتى .... حمص 15/10/2006
#مصطفى_حقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسالة إلى نبيل عبدالكريم ...؟
-
..العلمانية مابين الأممية والقومية ...؟
-
لو كان الحجاب رجلاً لحجّبته ...؟
-
صفعة المرأة في اسياد المال حطّمت باب الحارة ...؟
-
لقد أخرسنا الغرب فعلاً....؟
-
..لما كان القضاء بخير سننتصر حتماً.... ودقي يامزيكا ...؟
-
وأخيراً .. هل تساؤلات خوسيه أثنار تزيد الطين بلّه...؟
-
العلمانية .... والمرأة ...؟
-
ثلاثة نساء متميزات هذا الأسبوع
-
مفهوم المقاومة مابين الحداثة ومابعد الحداثة ...؟
-
مفهوم المقاومة مابين الحداثة ومابعد الحداثة ..؟
-
.. الإسلام السياسي .. والشارع العربي الثائر .. والبابا ..؟
-
هل الديكتاتورية وسيلة لتطبيق الديمقراطية ....!
-
.. المرأة وسلامة بنية المجتمع ؟
-
لنقف حداداً على أرواح بريئة .. ولا للإرهاب ..؟
-
العلمانية ... والدين ..؟
-
.. امرأة الليل /قصة قصيرة
-
.. انها شجاعة ... ولو بعد فوات الأوان ...؟
-
.. انتبهوا ... نحن من يفلسف الهزائم ....؟
-
.. العوالم الجديدة .. والحضارة ...؟
المزيد.....
-
أسلوب الحكيم.. دراسة في بلاغة القدماء والمحدثين
-
الممثل السعودي إبراهيم الحجاج بمسلسل -يوميات رجل عانس- في رم
...
-
التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
-
التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
-
بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري
...
-
مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
-
الكويت توزع جوائز الدولة وتحتفي باختيارها عاصمة للثقافة العر
...
-
حتى المواطنون يفشلون فيها.. اختبارات اللغة الفرنسية تهدد 60
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|