|
العملية الإبداعية بين استبداد العقل وازدواجية المثقف العربي 3
هاتف جنابي
الحوار المتمدن-العدد: 1739 - 2006 / 11 / 19 - 10:31
المحور:
الادب والفن
تبدو لنا الحياة الإبداعية العربية، كتوليفة أو مزيج، بل قلْ: ترقيع من الأصول المتوارثة المحلية وبعض معطيات الحضارة الأوروبية. هذه التوليفة هي صدى لعملية توفيقية تقوم عليها الحياة العربية بكاملها، إن أردنا رحمتها قلنا، منذ ما يسمى "بعصر النهضة". فهي تحمل تناقضاتها: وهجها وعماها، عمقها وسذاجتها، منفاها وغربتها في داخلها، مُفرزة حالة من الارتباك والتناقض، ولربما حتى الانفصام والازدواجية التي تعم الحياة الفكرية والاجتماعية العربية. نلاحظ أن التقنية يجري استيرادها بعفشها وحيلة منتجيها، وأما العقلية العربية فما تزال غيبية وتقليدية في إيقاعها اليومي وممارستها الحياتية الأخرى، في نظرتها لنفسها وللآخر. هذا الواقع صوّره أدونيس بعمق قائلا: "لم ينتقل بعد، بوصفه كلا، من مرحلة الشفاهة والخطابة والذاكرة، إلى مرحلة الكتابة والتقنية"(34) إن حيرة المثقف العربي وخوفه من سطوة السلطة والمجتمع، جعلت الفرد العربي عموما مزدوج الشخصية. وصفه الباحث فهمي جدعان قائلا: "إن فوضى القيم جعلت من إنسان عالم الإسلام إنسانا معطوبا في بنيته الأخلاقية، مثلوما في وجوده الاجتماعي"(35) غير أن هذه البنية المشخصة على أنها معطوبة، لم تحظ بدراسات معمقة تتناسب وحجمها وفداحة عواقبها، فالمثقف ككائن اجتماعي غائب أو مطرود أو منفي من الدراسات التي أنجزت حول تكوين العقل العربي (36). والمقصود هنا بالكائن الاجتماعي كونه فردا حرا في اختياره وذا شخصية مستقلة. ولنا في نتاج الأدباء والمفكرين العرب ما يثبت صحة افتراضنا القائم على فكرة أن شخصية المثقف العربي تعاني من الازدواجية والانفصام، وتتسم بضعف الإرادة(بله التخاذل والتراجع غير المبرر أحيانا) وتفتقر إلى روح المغامرة وارتياد المجهول، يضاف إلى كل ذلك ما ينمو في داخله من شعور بالعجز والنقص، يبين بعد مقابلته بالآخر الغريب. هذه الازدواجية تمنع أو تحد المثقف العربي من التعبير عما يصبو إليه ويحلم به، خاصة وأن خطابه يبقى ناقصا مادام نصف المجتمع المتمثل بالمرأة يعيش في نظام الحريم. ولربما، هذا كله، ما يفسر لنا جزئيا سرّ تذبذب المثقف وانتكاسه أو خنوعه أو ارتداده السريع عن قناعاته. لقد كان منصور فهمي(1886-1959) أحد الأمثلة الصارخة على ذلك. ففي العام 1913 قدم بحثا لنيل شهادة الدكتوراه في باريس، بعنوان: "حالة المرأة في الإسلام"، كشف فيه عن العلاقة الاستغلالية التسلطية القائمة بين الرجل والمرأة. الملاحظ أن الفصل الأول "محمد والمرأة" هو الذي أثار ضده حفيظة القوى الدينية في الأزهر، ودفع معارضيه لاتهامه بالإلحاد والانحراف (37) والجدير بالذكر أن المؤلف قد تنكر فيما بعد لبحثه ولأفكاره بعد أن فصل من عمله في الجامعة المصرية لمدة ست سنوات، وتوقف عن كتابة ما من شأنه إثارة العقلية التقليدية الدينية المهيمنة (38 ) المثل الآخر هو العقاد. كان هذا الرجل ناقدا وشاعرا ومُنظرا لجماعة "الديوان"(التي ضمت أيضا كلا من المازني وعبد الرحمن شكري)، إلا أنه لم يكن مخلصا تماما لآرائه، فكان يدعو إلى التجديد من جهة ويناصب الشعراء الشباب العداء من جهة أخرى، لاعتقاده بأنهم منحرفون عن الذائقة الشعرية العربية السائدة آنذاك، وأنهم يكتبون نثرا لا شعرا. وبعضنا لا بد وأن يذكر موقفه من صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، ومحاولة منعهما من الاشتراك في مهرجان الشعر العربي المنعقد أواخر الخمسينات في دمشق(39). ولم يكن للكتابة الشعرية لدى العقاد معنى دون أن تخضع لقيود الوزن والموروث الشعري العربي. فلا معنى للتجديد والتحديث خارج نطاق "الرقص في السلاسل" على حد تعبيره. والرقص هي الحرية والإيقاع والسلاسل هي الوزن الخليلي الموروث. ومن حسن حظ شعراء "قصيدة النثر"، و"النص المفتوح"، وأتباع "أندريه بريتون" وسواهم، أنهم في عصر والعقاد في عصر آخر! ويبدو أن التأثير الغربي والتحديث على العقاد كان سطحيا وأن ادعاءه التجديد لم يكن سوى مجاراة لموجة تقليد الغرب التي شاعت في مصر منذ العشرينيات من القرن المنصرم، فهو وزملاؤه ونسبة كبيرة من المثقفين المصريين على وجه الخصوص، قد "أحسوا بالهاوية التي تفصل بينهم وبين المجتمع الذي يعيشون فيه بأخطائه الفاضحة وموقفه التقليدي تجاه الأدب، ولقد حملهم ذلك على الانفصال عن مجتمعهم حتى لا ينحدروا إلى مستواه. ونظروا إليه باستعلاء، ورأوا في أنفسهم قضاة وأبطالا يرفعون لواء القيم الصحيحة في المجتمع"(40) إن دور القاضي والبطل المتعدد الأوجه(أهي أقنعة لتعدد القناعات لدى الفرد الواحد؟) سمح للعقاد وغالبية جيله أن يلعبوا دورا أبويا، لم يكن منفصلا أو بعيدا، عن طقس العلاقات الاجتماعية البطرياركية. على أن هذه "الأبوية" قد انتقلت إلى سلوك الكتاب أنفسهم ومن ثم إلى معتقداتهم وإلى الجيل الذي يليهم، فخلقت هوة بين النظرية والتطبيق، بين الفعل والفكر، بين الدعوة إلى الانفتاح ومحاولة كبحه أو حتى التنصل منه. ومادمنا بصدد الحديث عن المثقفين المصريين، فلا بد من الإشارة إلى أن الازدواجية قد وسمت سلوك العديدين منهم، خصوصا في الفترة الناصرية وما تلاها. فكتّاب أمثال العقاد، وطه حسين، وزكي نجيب محمود، ولويس عوض، ونجيب محفوظ، وفؤاد زكريا، وتوفيق الحكيم، وغيرهم من دعاة التنوير والأفكار الليبرالية، وجدوا أنفسهم يتقاطعون أيديولوجيا مع نظام ذي اتجاهات قومية اشتراكية، لكنهم سرعان ما انبروا لخدمته، رغم عدم إيمانهم بأهدافه ونواياه، وما تعرض له بعضهم من استبعاد وإقصاء أو سجن في بعض الحالات. وما أن تسلم السادات دست الحكم حتى اندفعوا وراءه رغم اختلاف سياسته تماما عن سابقه. ويبدو أن الانفتاح الساداتي على الغرب جاء تعبيرا عن تطلعات معظم هؤلاء المثقفين وسواهم. وحسب رأي غالي شكري، إن خدمة أغلب المثقفين المصريين نظامين وشخصين مختلفين، يدل على أنهم كانوا يفعلون شيئا ويضمرون آخر (41) إننا بطبيعة الحال لا ننكر الأزمات التي نشبت بين المثقفين وبين جمال عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات (42). إلا أن الإزدواجية صارت ظاهرة تسم المثقف العربي عموما، حتى أن الأمر دفع ببعض الباحثين العرب إلى اعتبارها محركا للثقافة العربية. فهي برأي الباحث برهان غليون، ليست مرضا أو أمرا معيبا ومعرقلا لخلق مناخ ثقافي سليم، وإنما هي مصدر يمكن أن يغذي الثقافة العربية، وما على المثقفين العرب إلا أن يعيشوا هذه الإزدواجية "كتوتر تراجيدي يفضي كما في الملاحم إلى تاريخ جديد"(43) هذا يعني أن الإزدواجية قد أصبحت بالفعل حالة شعورية واقعية تنهش في جسد الثقافة العربية، لا يمكن تجنبها، والحل الوحيد باعتقاد الباحث هو التعايش معها والسعي لتوظيفها في خدمة الثقافة. ربما كان يقصد الباحث إزدواجية ثقافية وليست إزدواجية فكرية – سلوكية. ونقصد بها تلك التي تسمح بتعددية المرجعية الثقافية للمرء، وهذا أمر برأينا مفيد فعلا، لكن الخطورة تكمن في ازدواجية السلوك الذي يرقى إلى مصافي التذبذب وإرضاء الآخر لأغراض نفعية. على أن الباحث يستدرك في موضع آخر، مخاطرها معتبرا إياها حالة مدمرة لروح الإبداع! فيقول: "وُضِعَ العربي أمام إحراج مأساوي لا مخرج منه، فأما الحفاظ على الذات والتخلي عن الحضارة والتأريخية والفعالية، أو الانخراط في الحضارة والدخول في العالمية والتأريخ مع التخلي عن الذات. هذا الإحراج المأساوي يشق في الواقع وعي العربي ويهزه في أعماقه ويرميه في تعاسة وجودية لا مثيل لها. والشقاء الذي يخلقه هذا الإحراج في وعي كل عربي أكثر تدميرا لروح المبادرة والإبداع، وأكثر تمزيقا للّحمة الاجتماعية من كل ما تشهده الساحة الفكرية والسياسية من صراعات ومعارك"(44) ولعل أبلغ حالة من ازدواجية المواقف وترديها، ما لاحظناه أثناء الحرب العراقية – الإيرانية وحرب الخليج. فأغلب مثقفي الخليج وعدد لابأس به من مثقفي البلدان العربية، بما فيهم قسم من الماركسيين والشيوعيين، مثلا، قد وقفوا مع النظام العراقي آنذاك، وكانوا يعرفون تماما أنه كان نظاما معتديا واستبداديا ولاأخلاقيا، فكالوا له المديح الصحافي ودبجوا له القصائد العصماء، ورفعوه إلى عنان السماء حتى سقط منها مخذولا ملطخا بالشنار. ونفس هذه الأقلام سرعان ما هاجمته ونعتته بأبشع الأوصاف وسخرت منه(ومن ضحاياه أيضا) أثناء وبعد حرب الخليج المسماة "عاصفة الصحراء". غير أن أخطر ما في الأمر هو تحول قسم كبير من "المثقفين العرب" إلى خدم منفذين لسياسة الوهم السلطوي الصدامي. يذهب الكاتب والأكاديمي حليم بركات إلى استنتاج مفاده أن "العسكر حولوا المثقفين إلى موظفين أو اضطروهم للصمت داخل البلاد أو للنفي خارجها" ويضيف بنبرة لا تخلو من المرارة والتأسي والمفارقة المرة قائلا: "إن الفكر العربي يقع تحت الاحتلال"(45) ولعلنا نلمس في شخصية"شاعر العرب الأكبر" محمد مهدي الجواهري خير مثال على الإزدواجية وتناقض القول مع الفعل، والفكر مع تطبيقاته العملية. فهو الذي وقف مع الثوار والوطنيين العراقيين والعرب ومن بينهم الشيوعيون، وغيرهم، وهو الذي ندد بالاستعمار في شعره ومقالاته ومقابلاته الصحافية، وهو الذي مجّد الفكر وحرية المفكرين: "لثورة الفكر تاريخ يحدثنا بأن ألف مسيح دونها صُلبا"(من قصيدته في ذكرى أبي العلاء المعري)؛ وهو الذي عانى من الملاحقة والاضطهاد وتغرّب بسبب مواقفه تلك؛ إلا أنه إلى جانب كل ذلك قد مدح قوى سياسية مختلفة ومتناقضة، بل محتربة فيما بينها، ومدح شخصيات ورؤساء وملوكا أغلبهم دجالون ومستبدون ومعادون للحرية ولشعوبهم، ولا علاقة لهم بكرامة الإنسان ولا بحقوقه(46 ) ربّ قائل أو سائل يقول: إن الجواهري شاعر كلاسيكي وهذا شأن أغلب الشعراء من هذا القبيل، نقول حسنا، سنورد أدلة أخرى. المثال الآخر للإزدواجية/ ممارسة وإبداعا/هو الشاعر بدر شاكر السياب(1926-1964). فالسياب الذي قاد أهم حركة شعرية عربية معاصرة منذ العصر العباسي الثاني، قد وقف مع الشيوعيين مرة حتى سُجن وفصل من عمله حتى اضطر للهرب إلى إيران فالكويت في العام 1953، ثم صار قوميا منددا بالشيوعيين في سلسلة من المقالات بعنوان"كنتُ شيوعيا" نشرها في مجلة الحرية البغدادية (47 ) إن تقلب الآراء والأفكار والأهواء ليس أمرا جديدا أو حتى معيبا، بشرط أن يقترن بمبدأ أو مبررات معقولة. ولنا في مواقف كتاب ماركسيين وحتى رأسماليين معروفين عالميا قد خرجوا عن أحزابهم الشيوعية أو أفكارهم الرأسمالية، وعادوها فيما بعد فكريا لا بغرض التشهير والمصالح الضيقة، بله بسبب قناعاتهم الجديدة. وإذا كانت أمثلتنا تركز على المطبخ العراقي، أكثر منه على المطبخ العربي، فإنما لكي لا نتهم بالتعدي على حرمة الإزدواجية العربية المريعة! ولنا من المطبخ العراقي في نازك الملائكة مثال آخر وبرهان على تقلب القناعات وتبدلها حتى يقع المرء في شراك المتناقضات غير المبررة. فهي التي نظرت، قبل غيرها، للشعر العربي الجديد، وهي التي هاجمته وتخلت عنه في سنواتها الأخيرة، حتى أنها قد ماتت تقريبا، منسية كشاعرة مجددة إلا من فصول تاريخها الأولى في التجديد. سوى أن حالتها تختلف نوعا ما عن حالة السياب. فالسياب لم يكن مقتنعا حتى موته بتحوله الفكري وبسلوكه جراء ذلك، فقد ندم قبل موته على ما فعله معتقدا أنه ارتكب حماقة، وكان يُقسم بأسلوب متشنج أن كل ما كتبه كذب في كذب، اضطره على ارتكابه سوءُ وضعه الاقتصادي(48) وثمة أمثلة عديدة، لكننا نود الإشارة إلى شاعر آخر معروف تتسم سلوكيته بازدواجية واضحة. فبعد أن كان محسوبا على الماركسيين في الخمسينيات وداعيا إلى حرية الفكر والتعبير، تحول إلى أحد مثقفي السلطة، لكنه كان حتى موته، يعتبر نفسه في كتاباته، ولقاءاته الصحافية، "شيخ المنفيين" (49 ) وإذا كنا بصدد سوق الأمثلة فمثال الشاعر محمود درويش على الصعيد العربي لايحتاج إلى إثبات، فهو الشيوعي سابقا، والمادح لعرفات لاحقا، والمماليء لصدام وسياساته الكارثية فيما بعد. وياليته قد اكتفى بموهبته الشعرية الكبيرة بدون تلويثها بمواقف سياسية أحرجته فيما بعد، دون شك! الواقع العربي يسعى جاهدا لتلويث مبدعيه أو خلط الأوراق عليهم، حتى لايبقى أحد ذو شأن من المثقفين أفضل من حاكميه! الحل الأمثل هو المحافظة على المسافة التي يحتاجها الإبداع في صراعه مع أحابيل السياسة والواقع. أعلينا أن نتساءل بعد ذلك عن مصير "فيالق" من المثقفين العراقيين بعد سقوط النظام الصدامي؟ أتريدون أمثلة على أولئك الشعراء والكتاب والصحافيين، والعاملين في المؤسسات الثقافية والإعلامية، ممن كانوا يمدحون صداما أو ممن كانوا يعادونه، ثم انقلبوا فجأة وبقدرة قادر، حيث وجدوا أنفسهم بين مماليء لدهاقنة المسار الديني أو الفكر السلفي -التكفيري أو لقوى الاحتلال؟ ثم أرجوكم أن تقولوا لي: كم عددنا نحن الذين لم تلوثنا طوائفنا، أحزابنا، عشائرنا، ومصالحنا الضيقة؟ ذكر لي أحد المسؤولين العراقيين الكبار من ذوي العلاقة العقلانية مع الأمريكان، بالحرف الواحد: "يأتونني ليلا، طالبين مني التوسط لدى الأمريكان، لكنهم يجاهرون نهارا بعدائهم لهم"!! ثم كم من الذين بنوا مجدهم على المغايرة والاختلاف والتمرد وادعاء الطليعية، لكنهم في المقابل خدموا أو يخدمون، لقاء دراهم معدودات، مناهضي التحديث الفكري والإجتماعي الحقيقي من الذين ينتشرون سرطانيا اليوم بفضل أموالهم تحكما بمصير المؤسسات الإعلامية والثقافية العربية؟! هذه مجرد أمثلة لحالات وأسماء معروفة ومؤثرة في الساحة الثقافية العربية، تشكل نموذجا للإزدواجية، ولانفصام الشخصية، ساهمت مع أسماء أخرى عديدة غيرها في إضعاف وضعضعة وتفتيت هيبة الثقافة والمثقفين على السواء، لكنها من جانب آخر عملت على جعل الازدواجية والانفصامية حالتين غير ناشزتين في المجتمع العربي. والغريب في الأمر، أن هذه الحالة بصورتها السلبية لم تنسف أو تسقط نتاج هؤلاء الشعراء والكتاب والإعلاميين، رغم أنها قد أدت إلى زعزعة الثقة بمجمل النتاج الإبداعي العربي. من جانب آخر، فهذه الحالة من الازدواجية والانفصام لها انعكاسات مدمرة على صعيد ماهو ثقافي وإبداعي وحتى اجتماعي، خصوصا على صعيد مسيرة العقلية العربية المعاصرة، ناهيك عن انعكاساتها السلبية على القاريء البريء. إن السلوك المماليء وغير الحاسم للمثقفين العرب(نعني الأغلبية وليس الجميع) ساعد على استمرار الفوضى (50)، المتمثلة في خلط الأوراق، وانعدام المعايير ذات الأولوية ومزج العملية الإبداعية بما هو غير إبداعي، أو ربطها بما هو سياسي وعابر، أو أيديولوجي ممنهج ومبرمج. وهذا ما يفسّر إلى حد ما تعثر عملية التحديث في العقلية العربية أو قل المجتمع العربي برمته. الإبداع ليس أمرا عابرا، ولا شعارا عابرا، كما وأن التحديث لا يتم بتوفير وسائله، إنما بخلق الأرضية والخلفية التي تقوده، وتدعمه إلى ما لانهاية. لأنها قضية تحتاج إلى إيمان بها وتطبيق لها، شأنها شأن الدين والأيديولوجيا. (يتبع)
الهوامش:
34 أدونيس، الصوفية والسوريالية، دار الساقي، لندن 1992، ص:214؛ ويذهب الباحث حسن حنفي إلى أنه قد غلبت في الفكر العربي المعاصر "الكتابة من معارف معلومة سلفا قبل التحدث عنها، أفكار موروثة أو آراء منقولة واستنباط أحكام منها ثم فرضها على الواقع فلا تطابقه، وترفض الواقع وتدينه أو يرفضها الواقع إذا كان عصيا"، أنظر: حسن حنفي "الكتابة بالقلم والكتابة والدم"، مجلة فصول، المجلد 11، ع 1، ربيع 1992، القاهرة، ص:59 35 فهمي جدعان، المصدرالسابق، ص:8؛ وللعروي رأي مقارب في الفوضى، يقول: "إن الإرث الثقافي الإسلامي والنظام العشائري والحرفي القائم في مناطق واسعة من الوطن العربي، يحملان في كنفهما بعض مكونات السلوك الفوضوي"، أنظر كتابه، مفهوم الدولة، م. س. ص153 36 قارن، الطاهر لبيب "العالم والمثقف والانتلجنسي"، في كتاب: الانتلجنسيا العربية، الدار العربية للكتاب، ليبيا – تونس، د.ت. ص11 37قارن: شمعون بلاص، م.س. ص: 164 38 أنظر للمزيد: م. س، ص: 149-189 39عارض العقاد اشتراك الشعراء الجدد في المهرجان، فقد أحال شعر صلاح عبد الصبور إلى لجنة النثر بالمجلس الأعلى للآداب والفنون، واشترط على اشتراك حجازي أن يكتب قصيدة عمودية، فرد عليه حجازي بقصيدة عمودية بعنوان"إلى الأستاذ العقاد" وكانت حافلة بالسخرية، أما مطلعها فهو: من أيّ بحر عصيّ الريح تطلبه إن كنتَ تبكي عليه، نحن نكتبه للمزيد أنظر، ديوان أحمد عبد المعطي حجازي، دار العودة، بيروت 1973، ص: 433. أما الأنكى من هذا فهو البيان الذي أصدرته لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للآداب والفنون حول "الشعر الجديد" حين اتهمته ب"الزندقة والقرمزة والشعوبية والإلحاد". أنظر، غالي شكري، سوسيولوجيا النقد العربي الحديث، دار الطليعة، بيروت 1981، ص: 25 40أنظر، س. موريه، الشعر العربي الحديث 1800- 1970، ترجمة شفيع السيد وسعد مصلوح، دار الفكر العربي، القاهرة 1986، ص: 111 41للاستزادة أنظر، غالي شكري، مرآة المنفى - أسئلة في ثقافة النفط والحرب، دار الريس للكتب والنشر، لندن 1989، ص: 131 42لقد صدرت مجموعة دراسات تتناول تلك الأزمات وتحلل أبعادها، ونحيل القاريء هنا إلى بعضها: عادل حمودة، أزمة المثقفين وثورة يوليو، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1985؛ محمد حسين هيكل، أزمة المثقفين، دار الأهرام ، القاهرة 1961، وأنظر خصوصا، إلى كتاب سماح ادريس، المثقف العربي و السلطة- بحث في روايات التجربة الناصرية، دار الآداب، بيروت 1992(أنظر الفصل الأول مثلا، ص: 31 – 62). 43برهان غليون، اغتيال العقل، مكتبة كدبولي، القاهرة 1990، ط 3، صك 349 - 350 44نفس المصدر، ص: 36 45أنظر، حليم بركات "المثقفون في المجتمع العربي المعاصر: ملاحظات حول أصولهم وانتماءاتهم الطبقية"، في كتاب: الانتلجنسيا العربية، الدار العربية للكتاب، ليبيا – تونس، د. ت. ص: 49-50 46ليس هدفنا الانتقاص من الجواهري أو سواه، بقدر ما نود فسح المجال للتفكير الهاديء، وعليه فالجواهري قد مدح في أشعاره أحزابا ورؤساء وملوكا وشخصيات مختلفة ومتناقضة في سلوكها وتفكيرها. فمثلا، قد مدح حزب البعث العراقي وقادته(أنظر، مثلا، قصيدة "أبا الشعر"، ديوان الجواهري، المجلد الرابع، ط2، دار العودة، بيروت 1982، ص: 248-252)، ومدح حافظ الأسد، والحزب الشيوعي العراقي، ولينين، وعبد الناصر، والملك الحسن الثاني ملك المغرب، والملك حسين ملك الأردن، وجلال الطالباني... وهو الذي كان يعب الخمرة ويتصيد الفتيات ويؤمن بالله(ظاهريا على الأقل!!). ولم يكن الجواهري الوحيد في ازدواجيته، فثمة أعداد غير قليلة(ربما غفيرة) نهجت وتنهج نهجه، ويكفي أن نذكر الشاعر جميل صدقي الزهاوي الذي كان يدعو بحرارة لتحرر المرأة، ولكن زوجته التركية الأصل كانت محجبة طوال حياتها! أنظر، علي عباس علوان، تطور الشعر العربي الحديث في العراق، منشورات وزارة الإعلام، بغداد 1975، ص: 132 47قارن، ناجي علوش، ديوان السياب، المقدمة، دار العودة، بيروت 1971، ص: ق ق، وما بعدها. 48 قارن، عبد الصاحب الموسوي "أيام السياب الأخيرة"، مجلة الاغتراب الأدبي، ع25، 1993، لندن، ص: 25 49الكل يعرف تقلبات ومتناقضات المرحوم الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي خلق مدرسة عراقية في سلوكه المتقلب وفي براعته في تسويق نفسه في مختلف الظروف! 50من بين طلائع من أشاروا إلى حالة التفكك والفوضى التي عمت الحياة العربية في القرن العشرين، هو الأمير فيصل بن الحسين، بعد فشل الثورة العربية الكبرى في 1916، وكذلك أمين الريحاني في معرض حديثه عن سوريا قال: "إنه ما كادت تخرج البلاد من مظالم الأتراك حتى دخلت في ظلمات الفوضى...". أنظر، أمين الريحاني، فيصل الأول، دار الريحاني، بيروت 1958، ص: 31 وما بعدها.
#هاتف_جنابي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكاتب البولندي ريشارد كابوشتشينسكي نموذجا للكتابة عن أثمان
...
-
أنثروبولوجيا العائلة
-
الأسئلة وحواشيها
-
أحلام وأباطيل أخرى
-
العملية الإبداعية بين استبداد العقل وازدواجية المثقف العربي2
-
فضاءات-وصايا- انبعاث
-
ملاحظات أولية في المعرفة والعلم والعمل
-
قصيدة البياض في طور النقاهة
-
العملية الإبداعية بين استبداد العقل وازدواجية المثقف العربي
-
أبقار إسرائيلية في لبنان
-
هل إسرائيل بحاجة إلى -حماس- و-حزب الله-؟
المزيد.....
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|