|
رواية للفتيان دلمون الأعماق طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7802 - 2023 / 11 / 21 - 00:49
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
دلمون الأعماق
طلال حسن
شخصيات الرواية ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الحطاب
2 ـ الزوجة
3 ـ ابن الحطاب .. شنوه " 14 سنة "
4 ـ الفتاة .. بالو " 13 سنة "
5 ـ أم بالو
"1 " ـــــــــــــــــــ
ـ شنوه . فزّ شنوه على زوجة أبيه ، تصرخ باسمه ، ففتح عينه خائفاً ، وقبل أن ينهض من فراشه ، أطلت عليه زوجة أبيه ، من باب الغرفة ، بوجهها المحتقن ، الغاضب ، وصرخت ثانية : انهض . ونهض شنوه على عجل ، وقال : ما الأمر ؟ الشمس لم تشرق بعد . ودفعته زوجة أبيه نحو الباب ، وقالت : لا شأن لي بالشمس ، اذهب واملأ الجرة من البحيرة . وتلكأ شنوه في سيره ، وقال : إنني جائع ، لم تدعيني أتعشى البارحة ، دعيني أتناول طعام الافطار مع أبي ، على الأقل . ودفعته زوجة أبيه منفعلة ، وقالت : لن تفطر ، يا شنوه ، حتى تملأ الجرة ، ثم إن أباك أخذ طعام فطوره ، وذهب إلى الغابة . وتناول شنوه الجرة ، من زاوية في طرف الفناء ، والتفت إلى زوجة أبيه ، وقال : لكن المرأة العجوز الطبيبة ، التي تعالجه ، قالت لك ، إن عليه أن يرتاح في فراشه عدة أيام . وقالت زوجة أبيه : الذنب ذنبك أنت ، يا شنوه ، فهو يذهب إلى الغابة ، رغم مرضه ، ويحتطب ليعيلك ، أيها الكسول . وردّ شنوه قائلاً : لقد عرضتُ عليه مراراً ، أن أذهب معه إلى الغابة ، لكنه كان يرفض . فقالت زوجة الأب ساخرة : نعم ، فهو يخاف عليك ، من النسيم الهاب . ثم دفعته إلى الخارج ، وهي تقول : هيا ، اذهب بسرعة ، واتني بالماء . ومضى شنوه حاملاّ الجرة ، صوب البحيرة ، التي تقع على مسافة قريبة من القرية ، تحيط بها غابة كثيفة الأشجار . ورأته بالو ، وهي فتاة أصغر منه بقليل ، وكانت كالعادة تترقب مروره ، فأسرعت إلى فناء الدار ، وأخذت الجرة ، وهمّت أن تلحق بشنوه ، ولمحتها أمها ، وكانت تخبز في الفناء ، فنادتها : بالو . وردت بالو ، وهي تتجه بالجرة نحو باب البيت : سأملأ الجرة من البحيرة . وتوقفت أنها لحظة عن عملها ، وقالت : لدينا ماء يكفينا ، تعالي وعاونيني . وفتحت بالو الباب ، وقالت ، وهي تمضي مسرعة : لن أتأخر ، يا أمي ، سأعود بعد قليل . وهزت أمها رأسها ، وقالت تحدث نفسها : لابد أن أنبه هذه البالو ، إلى أنها بنت ، فهي تتصرف مع شنوه ابن الحطاب ، وكأنها ولد مثله . وأسرعت بالو في أثر عامر ، والجرة على كتفها ، وهي تصيح : شنوه .. شنوه . وأبطأ شنوه ، دون أن يتوقف ، وحين لحقت بالو به ، وجرتها على كتفها ، نظر إليها ، وقال : الوقت مبكر بالنسبة لك ، يا بالو . والتفتت بالو إليه ، وابتسمت قائلة : لا يكون الوقت مبكراً ، مادت إلى جانبي . وسارا معاً ، جنباً إلى جنب ، وكلّ منهما يحمل جرته ، حتى وصلا البحيرة ، المحاطة بأشجار الغابة ، وهمت بالو أن تخوض في الماء ، وتملأ جرتها ، فقال لها شنوه : بالو ، توقفي . وردت بالو قائلة ، دون أن تتوقف : أستطيع أن أملأ هذه الجرة ، لقد ملأتها مراراً . ووضع شنوه جرته على رمال الشاطىء ، وأسرع إلى بالو ، وأخذ منها الجرة ، وقال : البحيرة خداعة ، يا شنوه ، وأخشى أن تنزلق قدماك ، فتجذبك مياه البحيرة إلى الأعماق . وابتسمت بالو ، وقالت : هذا أفضل ، ففي الأعماق عالم جميل ، رائع ، اسمه .. دلمون . ونظر شنوه إلها ، فقالت بالو مبتسمة : هذا ما قلته لي أنت ، يا شنوه . وملأ شنوه جرة بالو ، ودفعا لها ، وقال : خذي جرتك ، وانتظري حتى أملأ جرتي . وملأ شنوه جرته ، وحملها على كتفه ، وخرج من البحيرة ، وقال : أعطيني جرتك لأحملها عنك . ورفعت بالو الجرة ، ووضعتها على كتفها ، وقالت مازحة : إحملني أنا والجرة إذن . وابتسم شنوه ، فقالت بالو : أتذكر ، طالما حملتني من البحيرة حتى أطراف القرية . وتوقف شنوه متحدياً وقال : تعالي ، سأحملك الآن أنت وجرتك . وسارت بالو أمامه ضاحكة ، وقالت : أعرف أنك تستطيع هذا ، وتفعله أيضاً . ثم حثت خطاها ، وقالت : هيا ، إن زوجة أبيك تنتظرك ، وأنت تعرف لسانها . وسار شنوه حتى لحق بها ، وقال : على العكس من أمي ، فقد كانت تنتظرني دائماً بالأحضان . واقتربت بالو منه ، وقالت : شنوه . ونظر شنوه إليها ، وقال : نعم . فقالت بالو : اللية سيكون القمر بدراً . ونظر عامر إليها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقالت درة : سأنتظرك الليلة عند البحيرة . وتوقف عامر ، وقال : لا ، لا تذهبي وحدك ، انتظريني حتى أمرّ ببيتكم ، والحقي بي .
" 2 " ـــــــــــــــــــــ
من بعيد ، لمح شنوه ، وبالو تسير إلى جانبه ، مجموعة من الرجال والنساء والأطفال ، يتزاحمون مضطربين عند باب بيتهم . وهذا ما رأته بالو أيضاً ، فتوقفت قلقة، ونظرت إلى شنوه بتوجس ، وقالت : شنوه ، أنظر ، إنني خائفة ، ترى ماذا يجري ؟ وانطلق شنوه مسرعاً ، وماء الجرة يتناثر من فوهتها ، على ظهره وكتفيه ، وقال بصوت مضطرب خائف : لابد أن أبي .. وأسرعت بالو في أثره ، وجرتها تتقافز على كتفها ، وهي تقول بصوت مرتعش : لا تقلق ، يا شنوه ، أبوك بخير بعون الآلهة جيد . ودخل شنوه البيت ، وفي أثره دخلت بالو ، والجميع رجالاً ونساء ، وحتى الأطفال ، ينظرون إليه في اشفاق ، وعند باب الغرفة ، رأى زوجة أبيه واقفة بين عدد من النسوة ، فتساءل قائلاً : ما الأمر ؟ فأشاحت زوجة أبيه عنه ، وقالت : ادخل الغرفة ، وانظر بنفسك . ودخل شنوه الغرفة ، وإذا أبوه الحطاب ، متمدد على فراشه ، شاحب الوجه ، متقطع الأنفاس ، فمال عليه متمتماً بصوت باك : أبي . لكن أباه لم يرد عليه ، وبدا أنه في غيبوبة عميقة ، فهتف شنوه ثانية من بين دموعه : أبي .. أبي . وأنهضه رجل ، كان إلى جانبه ، وقال له : تعال ، يا شنوه ، تعال . واعتدل شنوه ، وعيناه غارقتان بالدموع ، فقال الرجل : أبوك مريض ، يا شنوه ، وما كان لكم أن تدعوه يذهب إلى الغابة هذا اليوم . ونظر شنوه إليه ، ماذا يقول له ؟ هل يقول إن زوجته الجديدة ، لا ترحمه ، ولا ترحم أباه ؟ وأنها هي التي دفعته للذهاب إلى الغابة ؟ وربت الرجل على كتف شنوه ، وقال : رأيته في الغابة ، ملقى على الأرض ، يكاد يغمى عليه ، فوضعته على حماره ، وجئت به إلى البيت . وقال شنوه بصوت تخنقه الدموع : أبي مريض ، يرقد في الفراش ، منذ أيام . ومال الرجل عليه ، وقال بصوت خافت : من الأفضل أن تذهب إلى المرأة العجوز الطبيبة ، لتأتي وتعالجه ، فهي امرأة مباركة . لم يحر شنوه جواباً ، فأخذه الرجل إلى خارج الغرفة ، وقال : أبوك مريض جداً ، أسرع إلى الطبيبة ، فلعلّ وعسى . ومضى شنوه راكضاً ، يتعثر بدموعه ، وقصد بيت المرأة العجوز الطبيبة ، ورأته بالو ، وكانت تقف حزينة مقطبة ، مع بعض النسوة في فناء الدار ، فأسرعت في أثره ، وهي تهتف : شنوه . لم يتوقف شنوه ، بل لم يتباطأ هذه المرة ، وقال بصوت تخنقه الدموع : إبي مريض جداً ، يا بالو ، وسأذهب إلى المرأة العجوز ، لعلها تأتي ، وتعالجه . ولحقت بالو به ، وقالت ، وهي تركض إلى جانبه : سآتي معك . ووصلا بيت المرأة العجوز الطبيبة ، وتقدم شنوه إلى باب البيت ، وطرقه عدة طرقات ، وهو يصيح وهو يصيح : أيتها الطبيبة .. أيتها الطبيبة . ويبدو أن المرأة العجوز الطبيبة عرفته ، فصاحت من الداخل : أدخل ، يا شنوه ، الباب مفتوح . ودخل شنوه ، ومعه دخلت بالو ، وكانت المرأة العجوزالطبيبة ، جالسة في الفناء ، فنظرت إلى شنوه ، وقالت : أرجو أن لا تكون صحة أبيك الحطاب قد تدهورت ، يا شنوه . فقال شنوه ، وعيناه غارقتان بالدموع : نعم ، لقد أغمي عليه في الغابة ، تعالي ، إنه بحاجة إليك . وهزت المرأة العجوز الطبيبة رأسها ، ثم نهضت متحاملة على نفسها ، وأخذت عكازها ، وقالت : امسح دموعك ، يا شنوه ، لا تبكِ ، أنت رجل . وسارت متوكئة على عكازها ، وهي تقول : تعال ، يا شنوه ، أعرف أن همومك ومصاعبك كثيرة ، ولكن ليس أمامك إلا أن تتحملها وتواجهها . وسار شنوه وبالو ، يتقدمان المرأة العجوز الطبيبة مرة ، ويسيران على مقربة منها مرة أخرى ، دون أن يتفوه أحدهم بكلمة واحدة . ووصلت المرأة العجوز الطبيبة ، متعبة إلى بيت الحطاب ، ودخلت مباشرة الغرفة ، حيث يتمدد الحطاب مطبق العينين في فراشه ، وما إن رأته حتى هزت رأسها ، ثم حدجت الزوجة بنظرة قاسية ، وقالت : قلتُ لك ، يجب أن يبقى في فراشه ، عدة أيام . وخرجت الزوجة منزعجة من الغرفة ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، وانحنت المرأة العجوز الطبيبة على الحطاب ، وفحصته جيداً ، واعتدلت واقفة ، ثم خرجت من الغرفة ، متوكئة على عكازها . ولحق شنوه بالمرأة العجوز الطبيبة ، منقبض الصدر ، دامع العينين ، تتبعه بالو ، ووقف أمامها ، وقال بصوت مرتعش النبرات : أيتها الطبيبة ، أرجوك ، عالجي أبي ، ولا تتركيه وحده . ونظرت المرأة العجوز الطبيبة إليه ملياً ، ثم قالت : أبوك بين يدي الآلهة ، يا بنيّ ، وهي وحدهاقادرة على انقاذه مما هو فيه .
" 3 " ــــــــــــــــــــ
لبث شنوه جاثياً ، على مقربة من أبيه ، حتى حلّ الليل ، فمالت عليه احدى النساء المسنات ، المحيطات بفراش أبيه ، وقالت بصوت خافت : شنوه . لم يتحرك شنوه ، فمالت عليه المرأة المسنة ثانية ، وقالت : بنيّ شنوه . وعندئذ رفع شنوه عينيه الغارقتين بالدموع إليها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقالت وهي تنهضه برفق : تعال إلى الخارج ، يا بنيّ ، أبوك نائم الآن ، لندعه يرتح بعض الوقت . وقادته المرأة المسنة ، إلى فناء الدار ، وقالت : ابقَ هنا ، لابد أنك جائع ، إنهم يعدون الطعام ، لابد أ تأكل شيئاً ، ثم تخلد إلى النوم في غرفتك . وابتعدت المرأة العجوز عنه ، وهي تقول : انتظر هنا ، سآتيك ببعض الطعام . لم يبقَ شنوه في الفناء طويلاً ، ولم ينتظر أن تأتيه المرأة العجوز بالطعام ، رغم أنه لم يأكل سوى لقيمات طول النهار ، وتسلل من البيت ، ومضى تحت جنح الظلام ، متوجهاً دون ارادته إلى البحيرة . ووقف على الشاطىء الرملي لحظات ، ثم جلس تحت الشجرة ، التي طالما جلس تحتها مع بالو ، كلما جاءا إلى البحيرة ليلاً أو نهاراً . وتراءت له أمه ، وهي تعانقه ، ثم وهي تعمل رغم مرضها ، ثم وهي طريحة الفراش ، والمرأة العجوز الطبيبة منحنية عليها تفحصها ، وتعتدل وقد بدا اليأس عليها ، ثم تهز رأسها . وتململ شنوه ، وبل أمه تراءى له أبوه ، متمدداً على فراشه ، والمرأة العجوز الطبيبة منحنية عليه تفحصه ، ثم تعتدل ، وتهز رأسها . لقد رحلت أمه ، وها هو أبوه ، راقد على فراش المرض ، ينتظر .. ماذا ينتظر ؟ آه . ومن أعماق البحيرة ، وكأنما السحر ، راح القمر يشق الماء ، ويصعد شيئاً فشيئاً ، وحين اكتمل صعوده ، وبدا وكأنه يتسلق الأشجار ، تناهى إليه وقع أقدام على الرمال ، والتفت وإذا بالو تقبل نحوه . وتوقفت بالو على مقربة منه لحظات ، تتأمل القمر ، الذي بدا الآن معلقاً فوق أشجار الغابة ، ثم جلست إلى جانبه ، وقالت : بحثت عنك بين المتواجدين في البيت ، ، لم أجدك ، وتملكني الخوف والقلق ، وتذكرت أخيراً موعدنا هنا . وأطرق شنوه رأسه ، ثم قال : لم أستطع البقاء ، وأبي يرقد في فراشه هكذا . وقالت بالو ، وهي تغالب دموعها : أبوك انسان طيب ، يحبه الجميع ، وكذلك كانت أمك . ونظر شنوه إلى القمر ، وقال : رحلت أمي ، وكم أخشى أن يلحق بها أبي أيضاً . وصمت لحظة ، ثم قال : ما أشد قسوة الحياة ، وخاصة على أمثالنا . وصمت لحظات طويلة ، راح خلالها يتأمل القمر ، وهو يسبح في أعماق البحير ، وكأنه يسبح في السماء ، ثم قال ، دون أن يحيد ببصره عن القمر : بالو .. وردت بالو : نعم ، يا شنوه . وقال شنوه : أنظري إلى القمر ، وهو يسبح في أعماق هذه البحيرة . ونظرت بالو إلى القمر ، وهو ينير في الأعماق ، كما ينير المصباح في عتمة الليل ، وقال شنوه : تقول جدتي ، التي رحلت منذ سنين عديدة ، أن في أعماق هذه البحيرة ، يوجد عالم ، ليس كهذا العالم . وصمت شنوه ، وكأنما يتأمل العالم ، الذي تحدثت عنه جدته ، ثم استأنف كلامه قائلاً : إنها ، كم وصفتها جدتي ، دلمون الأعماق ، حيث لا ينعق غراب ، والأسد لا يفتك بالغزال ، والعقاب لا يطارد الحمامة ويفتك بها ، ويعيش فيها كلّ الأحبة الذين رحلوا ، سعداء ، لا يشيخون ، ولا يمرضون . وقالت بالو بصوت حالم : هذا عالم يطيب فيه العيش ، يا شنوه ، وليس كعالمنا الذي نعيش فيه . وواصل شنوه كلامه قائلاً ، وكأن بالو لم تتكلم : وتقول جدتي ، إن الفتيان والفتيات ، الذين تضيق بهم الحياة ، يلجأون إليه ، هرباً من عالمهم . ونظرت شنوه إليه صامتة ، وفي أعماقها تمور مشاعر متضاربة ، ووضع شنوه وجهه بين كفيه ، وراح يردد بصوت تغرقه الدموع : أمي .. أمي . وصمت شنوه ، وبدا وكأنه يحاول أن يتمالك نفسه ، فاقتربت بالو منه ، وقالت : شنوه . ورفع شنوه وجهه المبلل بالدموع من بين كفيه ، لكنه لم يلتفت إليها ، فقالت : يبدو أننا تأخرنا ، وأخشى أن يفتقدونا ، ويرسلوا من يبحث عنا . ونهض شنوه ، وقال : فلنعد . ومضى يصعد الشاطىء الرملي ، فنهضت بالو ، ولحقت به ، وقالت : دلمون الأعماق ، التي تحدثت عنها جدتك ، رائعة حقاً ، لكن لا تنسَ ، يا شنوه ، إن عالمنا هذا أيضاً رائع . وسار شنوه ، وسارت بالو إلى جانبه ، دون أن يتبادلا كلمة واحدة ، وحين اقتربا من القرية ، لمح شنوه من بعيد ، عدداً من الرجال والنساء ، متزاحمين عند باب بيتهم ، وتناهى إليهما صوت عويل يتعالى في صمت الليل ، فتوقف شنوه جامداً ، يتمتم : أبي !
" 4 " ـــــــــــــــــــــ
رحل الحطاب . وقد رحلت قبله أم شنوه . ورحل بعده شنوه . الجميع يعرفون أين رحلت أم شنوه . ويعرفون أين رحل الحطاب . لكن لا أحد يعرف ، أين رحل شنوه . وتساءل العديدون : ترى أين هو ؟ أين شنوه ؟ قالت المرأة المسنة ، التي أرادت أن تقدم له الطعام في الفناء : رأيته يخرج راكضاً من البيت ، حالما عرف برحيل أبيه . وقال رجل ، في أواسط العمر ، وهو حطاب ، طالما رافق أباه في العمل داخل الغابة : لقد رأيته ، يسير مسرعاً ، نحو الغابة . وقال صياد سمك ، سبق وأن رآه مراراً على شاطىء البحيرة : أنا رأيته يقف على شاطىء البحيرة ، يحدق في الأعماق . كلّ هذا وغيره ، سمعته بالو ، خلال الساعات الأخيرة ، لكنها لم تكتفِ به ، بل راحت تبحث عن شنوه في كلّ مكان ، ولم تقع له على أثر . والغريب أن أكثر من اهتم لغياب شنوه ، بعد بالو طبعاً ، زوجة أبيه ، وكأنها ليست هي التي كانت تحصي عليه أنفاسه ، وتقسو في معاملتها له . ومن يصدق ، أنها رغم طباعها الحادة النكدة ، كانت تفاجئها مشاعر طيبة تجاهه ، ربما حاولت هي نفسها التغاضي عنها ومقاومتها . كانت لا تحبه ، بل وتقسو عليه ، ربما لأنها لم يصر لها ولد من أبيه ، زوجها الحطاب ، ومع الأيام اكتشفت أنها بدأت تحبه لنفس السبب ، وخاصة بعد رحيل زوجها الحطاب . لكن أين هو ؟ أين شنوه ؟ وأين ذهب ؟ ومتى يعود ؟ ربما ظن شنوه أنها ستقسو عليه أكثر ، بعد احيل أبيه ، لا ، هذا ما لا يمكن أن تفعله ، فليس له أحد الآن غيرها ، وهي نفسها ، لم يعد لها ، في هذه الدنيا ، أحد غيره ، فكيف يمكن أن لا تحبه وتحنو عليه ؟ وفي كلّ لحظة ، من اليوم ، في الليل أو في النهار ، كانت بالو تنتظر ظهور شنوه ، ليزيل مخاوفها، وتطمئن عليه ، لكن دون جدوى . وفي الليلة الثانية لغيابه ، لم تستطع بالو أن تنام ، وجلست في سريرها ، تنظر عبر النافذة ، دون أن ترى أي شيء غير .. شنوه . وانتبهت فجأة ، وإذا القمر ، الذي لم يعد بدراً كاملاً ، يتسلق الأشجار ، ثم يبتعد عنها شيئاً فشيئاً ، في مسيرته الليلية المعتادة بين النجوم . وتراءى لها القمر ، يسبح منيراً في أعماق البحيرة ، فأبعدت الغطاء عنها ، ونزلت من السرير ، وأنصتت ، لابد أن أمها نائمة الآن ، وكذلك أبوها . وبهدوء شديد ، خرجت من غرفتها ، وركضت بخطوات لا تكاد تسمع عبر الفناء ، ثم فتحت الباب الخارجي ، وتسللت إلى الليل . وسارت بالو في العتمة ، التي يخفف منها ضوء القمر الشاحب ، وكأنها تسير في نومها ، متجهة نحو البحيرة ، التي تحف بها الأشجار من جميع الجهات . ورغم أنها كانت تسير وحدها ، في عتمة الليل ، لم تشعر بالخوف ، فشنوه كان يسير معها ، خطوة بعد خطوة ، سواء كان موجوداً أو غير موجود . ولاح لها القمر ، من بين الأشجار ، ينير في أعماق البحيرة ، وتراءى لها شنوه ، يجلس إلى جانبها ، على رمال الشاطىء ، ويحدثها عن دلمون الأعماق ، التي حدثته عنها جدته الراحلة . ترى أين شنوه الآن ؟ وتجاوزت بالو الأشجار ، وانحدرت نحو الشاطىء ، ووقفت على الرمال تتلفت حولها ، وكأنها تتوقع أن ترى شنوه ، يبرز من مكان ما ، في أية لحظة ، ويهتف : ها أنا ، يا بالو . لكن شنوه لم يبرز من أي مكان ، ولا أثر له ، لا بين الأشجار ، ولا على الشاطىء ، وظل السكون حولها ، يشمل الليل والقمر والغابة والبحيرة ، وتقدمت بالو من الشجرة ، التي كانا يجلسان تحتها غالباً ، في الليل أو في النهار ، وجلست تحتها وحيدة ، وكأنها تنتظر شنوه ، فهي دائماً على موعد معه ، تحت هذه الشجرة . وحدقت بالو في القمر ، الذي ينير في الأعماق ، وكأنه مصباح ينير في عتمة الليل ، لعله ينير دلمون الأعماق أيضاً ، كما ينير السماء والأرض . ترى أين شنوه الآن ؟ لقد حدثها مراراً عن دلمون الأعماق ، ترى هل ذهب إليها ؟ من يدري فأمه وأبوه ينتظرانه معاً هناك ، لكن هي أيضاً تنتظره ، تنتظره تحت هذه الشجرة ، وستبقى دائماً تنتظره ، مهما طال غيابه . يا للحيرة ، ما العمل ؟ وأفاقت بالو على أمها ، تهزها برفق وتهتف بصوت خافت : بالو . واعتدلت بالو ، وقالت مترددة : ماما . وابتسمت الأم ، وقالت : لم أرك في سريرك ، وخمنت أنك هنا . ونهضت بالو ، وقالت : عفواً ماما ، لقد أقلقتك . وأمسكت الأم يدها ، وسارت بها برفق ، وقالت : تعالي نعد إلى البيت ، قبل أن يفيق أبوك .
" 5 " ـــــــــــــــــــ
قالت لها أمها مراراً : ـ درة ، لم تعودي صغيرة . وذكرتها غير مرة : ـ عمرك حوالي الثالثة عشرة . وقالت لها مرة : ـ أنا تزوجتُ ، وعمري خمسة عشرة سنة . كلّ هذا لتقول لها ، أن تبتعد عن شنوه . وردت مرة ، والدموع تجول في عينيها : ـ وأين هو شنوه ؟ نعم ، أين شنوه ؟ لا أحد يعرف ذلك . وها قد مرّ أكثر من أسبوع ، ولا أثر لشنوه ، لا في الحي ، ولا في البيت ، بل ولا حتى في شاطىء البحيرة ، حيث كانا يلتقيان . وبالو تعرف كلّ هذا ، لأنها في كلّ يوم ، تراقب الحيّ من نافذة غرفتها ، وتتسلل أكثر من مرة ، في اليوم الواحد ، وتحوم حول بيتهم ، بل وتذهب حتى شاطىء البحيرة ، ولكن ما من أثر . وغالباً ما تلجأ ، رغم معارضة أمها ، إلى الحوم حول بيت شنوه ، لعلها تتنسم خبراً عنه ، وكيف تتنسم ذلك ، والباب يكاد يكون مغلقاً على الدوام . وذات يوم ، كانت أمها تخبز على التنور ، فاقتربت منها ، وقالت : ماما . وردت الأم ، دون أن تتوقف عن الخبز : نعم . وقالت درة : خبزنا يبدو اليوم شهياً ، ما رأيك أن آخذ عدة أرغفة لأم شنوه . وتوقفت الأم ، ونظرت إلى درة ، وقال : أم شنوه ! قالت درة : إنها إمرأة مسكينة ، وهي بمثابة أمه . بعد قليل ، كانت بالو تدق باب بيت شنوه ، وبين يديها عدة أرغفة من الخبز الحار ، وجاءها صوت زوجة الحطاب من الداخل : الباب مفتوح . ودفعت بالو الباب برفق ، ودخلت إلى الفناء ، حيث كانت زوجة الحطاب تجلس على حشية ، فاقتربت درة منها ، وقالت : أمي تسلم عليك ، يا خالة ، وأرسلت لك هذا الخبز الحار . ومدت زوجة الحطاب يديها ، وأخذت الخبز ، ثم تطلعت إلى بالو ، وقالت بصوت دامع : شنوه .. وصمتت ، وحنكها يرتعش ، فقالت وهي تغالب دموعها : سيأتي . وهزت زوجة الحطاب رأسها ، وقالت : هذا ما أتمناه ، فلم يعد لي غيره . ولاذت بالو بالصمت لحظة ، ثم قالت : أمي تنتظرني ، لابد أن أذهب . وقالت لها زوجة الحطاب : تحياتي إلى أمك . وتلك الليلة ، والقمر قد تآكل نصفه تقريباً ، تسللت بالو تحت جنح الظلام ، إلى شاطىء البحيرة ، وجلست تحت الشجرة ، التي طالما جلست تحتها مع شنوه . ومرة أخرى ، وبدل أن تنظر إلى بقايا القمر ، وهو يسبح في السماء بين النجوم ، نظرت إلى الأعماق ، ونصف القمر مازال يضيء ، لو أن في الأعماق دلمون حقاً ، وأن فيها الآن شنوه .. وانتبهت إلى أن الماء ينشق على مقربة من الشاطىء ، وكما لو أنه حلم ، ينبثق من وسطه ، مضاء بنور ما تبقى من القمر ، شنوه . وهبت بالو واقفة ، لا تكاد تصدق عينيه ، وهتفت من بين دموعها : شنوه ! وتقدم شنوه منها ، والماء يقطر منه ، فقالت درة : دلمون الأعماق ! وهزّ شنوه رأسه مبتسماً ، فقالت درة : لو كنت أعرف أنك هناك للحقت بك . ونفض شنوه الماء عنه ، وقال : عرفت أنك كنت نائمة ، أو كالنائمة ، فتسللت إلى الماء ، وغطست حتى وصلت إليك ، ثم خرجت ، وكأني آت من الأعماق . وأشرق وجهها بالفرح ، وقالت : يالي من حمقاء ، كدت أرمي نفسي في البحيرة ، و .. وصمتت لحظة ، ثم قالت متسائلة : أين كنت كلّ هذه المدة ، يا شنوه ؟ وقال شنوه : في بيت خالي ، وهو كما تعرفين ، يقع في قرية بعيدة . وصمت لحظة ، ثم قال : حين رحل أبي ، لم أحتمل البقاء في القرية ، فخرجت على غير هدى ، ثم خطر لي أن أذهب إلى خالي . ونظر أليها ، ثم قال : وعلمت أنك تسألين عني .. ونظرت إليه متعجبة ، فقال : لم يخبرني بذلك أحد طبعاً ، أم إنك لم تسألي عني ؟ فقالت بالو : أنظر ، يا شنوه ، إنني أجلس هنا كلّ يوم تقريباً . ونظر شنوه إليها طويلاً ، وقال : ولهذا جئت إلى هنا مباشرة ، يا بالو . ونظرت بالو إليه ، وقالت : أمك مهمومة ، وهي تسأل عنك دوماً . وقال شنوه : نعم ، إنها رغم كلّ شيء أمي . ومدّ يده ، وأمسك بيدها ، وقال : هيا نعد إلى القرية ، يا شنوه .
دلمون هي الجنة في تصور السومريين ، ويُظن أن موقها في البحرين .
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسرحية ريم للاطفال
-
رواية للفتيان الغابة طلال حسن
-
رواية للفتيان دموع رينيت طلال حس
...
-
قصة للأطفال آتٍ مع الشمس
-
رواية للفتيان ايتانا الصعود إلى سماء آنو
...
-
رواية للفتيان بدر البدور
...
-
قصة للأطفال اليمامة البيضاء والجرافة قصة
...
-
دموع رينيت كتاب جديد للفتيان
-
رواية للفتيان الرحلة الثامنة
...
-
رواية للفتيان المعجزة
...
-
رواية للفتيان الغيوم السوداء طلال
...
-
رواية للفتيان صخرة آي طلال حسن
-
مسرحية للفتيان اورنينا
...
-
رواية للفتيان الغزالة
...
-
رواية للفتيان السندباد البحري طلال
...
-
رواية للفتيان دروفا ـ نارانا
...
-
رواية للفتيان سامو وسومو
...
-
رواية للفتيان النمر
...
-
رواية للفتيان البديل طلال حسن
-
رواية للفتيان الزواج المقدس
...
المزيد.....
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|