|
العلم جمالية العقل
سالم العوكلي
الحوار المتمدن-العدد: 1739 - 2006 / 11 / 19 - 10:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
عندما حاول أحد المواطنين الليبيين أن يصنع طائرة عمودية بدائية من الخردة تلقفت الصحف آنذاك الخبر ونشرته كأنه ابتكار جديد .. حدث هذا بعد ظهور طائرات الأباتشي والكوبرا ، فما سر هذا الاحتفاء بالمحاولة ، هل كان وراء ذلك محاولة لتوطين العلم عبر تسلق النخلة من الأسفل ؟ أم أن هذا يأتي ضمن منظور التعبير الشعبي الدارج (البصيص في بلاد العميان طرفة) وهل لهذا علاقة بمقارنة محمد المفتي بين ما شاهده في مدينة ليدز وما في ذاكرته من صور استخراج الملح من سباخ بنغازي وطاحونة الجمل في شارع المهدوي وتسلق النخيل في اللثامة كما ورد في مقدمته لكتابه ( توطين العلم والتقنية .. الطموح والواقع ) الصادر عن الهيئة القومية للبحث العلمي ، والذي سأحاول قراءته عبر حلقات في هذه الزاوية نظراً لأهميته القصوى ، ولكونه أول كتاب فكري في ثقافتنا ينطلق من منهاج التفكير العلمي التجريبي ، والأهم من ذلك أنه يضع الإصبع على الجرح الدامي في أزمة نهضتنا .. ينطلق المفتي في الفصل الأول من كتابه عبر سرد أركيولوجي لسيرة الاكتشافات العلمية الفاتحة في الغرب باعتماده المألوف على روح البحث وتوظيف الوقائع التاريخية وموازنته الحاذقة بين حقول المعرفة المختلفة في تطورها المتناغم مع الدين والعلم والفلسفة والفن ، وإذا كان بعض المفكرين يعتبرون ان الصدمات المهمة التي تعرض لها العقل الغربي تتمثل في إنجازات فرويد وكوبرنيكوس وداروين ، فإن المفتي يعتبر النقلات المهمة كانت مع لوثر المصلح الديني ، ونيوتن وديكارت واكتشاف المحرك البخاري ، وهي النقلات المتوازنة التي كانت تهيئ المجتمع لقابلية الحراك الاجتماعي وتطور العقل العلمي والتقني الذي لم يكن بمعزل عن مصادرات العقل النقدي المحاذي له بأطروحاته الأخلاقية من المذهب الرومانسي إلى فلسفة الأخلاق ، والفوضوية ، والعبث ، وصولاً إلى خطاب ما بعد الحداثة المعاصر الذي يدحض قداسة العلم ويضعه كنشاط عقلي خالص في حقل الارتياب .. ينحاز المفتي إلى توطين العلم والتقنية كأساس لأي مشروع نهضوي ويفسر بالمقابل أزمتنا بكوننا مجتمعاً استهلاكياً ، وأعلق هنا : ألم يكن الاستهلاك أحد مقومات نجاح الحضارات فوق الأرض ؟ ويبقى السؤال عن ماهية الاستهلاك المنتج الذي يتطور حسب النظريات الاقتصادية العلمية ويراكم خبراته الكفيلة بخلق مؤسساتها الفاعلة ،فدول مثل اليابان وكوريا الجنوبية مثلا ليس في تاريخها اختراعات مهمة ، لكنها استطاعت أن تطور أنماطها الاستهلاكية بشكل يضعها في صميم السوق والحداثة عبر المشاركة الفعلية في توسيع وتطوير الاختراعات الغربية .. أتساءل أيضاً ماذا لو ولدت عبقريات مثل نيوتن وديكارت وانشتاين وغيرها في منطقتنا ؟ مما يحيلنا إلى فكرة المناخ الذي تولد فيه ، فهل نحتاج إلى لوثر إسلامي ؟ أو بمعنى آخر لماذا أخفق لدينا مشروع الإمام الغزالي الإصلاحي الذي يقارنه المفتي كظاهرة بلوثر ؟ ذاهباً إلى أن ( جوهر الإصلاح اللوثري يكمن في إقرار أن الإيمان مسألة خاصة وشخصية ، وأنه ليس من حق البابا أو القسيس أن يشكك في إيمان أحد أو أن يكفره أو يعاقبه وبهذه الروح استطاعت البروتستانتية التعايش مع العلم الجديد ومع قيم التسامح والديمقراطية .. ) إن التقدم يعني توطين العلم كما يقول المفتي وهو هنا يطرح علاقة جدلية مازالت تشتغل في الفراغ وسنحاول البحث عن مأزقها الجدلي في الفصول القادمة من هذا الكتاب المثير للنقاش . ( تلك عناصر الإبداع العلمي .. عقول ذكية ، تنمو كما البراعم على سيقان نبتة .. قد تثريها شرارة برق بالغيث والسماد ، لكن لا غنى عن تربة خصبة ) بهذه العبارة ينهي محمد المفتي الفصل الثاني من كتابه توطين العلم ، هذا الفصل الذي يرصد فيه آليات الإبداع العلمي الذي يعتبره قابلاً للتحليل من أجل اكتشاف عناصره ومراحله أكثر من الإبداع الأدبي محاولاً أن يحصر هذه الآليات في مسميات تنقل هذا الحقل البرهاني إلى حقول الأدب بما فيها من غموض المصادر وسحرية الأداء ، ويبدأ رصد هذه العناصر التي صيغت من قبل العقل المأخوذ دائما بأسطرة مثل هذه الأشياء وإصباغ الجو السحري والدرامي عليها .. يتساءل هل هو الإلهام أو الصدفة أو الاستبصار أو لأن الحاجة أم الاختراع ، ما كان وراء ومضات العلم والاكتشافات المفصلية ، وفي الوقت الذي لا يقلل فيه من شأن كل هذه العناصر المرتبطة بإمكانات العقل الإنساني إلا أنه يرى أن هذه الإشراقات لا بد وان تولد في مناخ لا يجعلها تنطفئ ( نعم يلعب الخيال وبارقة الإلهام التي تمنح الحل الصحيح دورهما في عملية الإبداع العلمي .. لكن إشراقة الإلهام لا تأتي إلا للعقل المهيأ … والملم بمادة موضوعه ، والإلمام بمادة الموضوع يفترض خبرة ودربة من خلال الدرس والتحصيل والإصرار والانقطاع الذي يقارب الوسواس القهري هو الذي كرس صورة العالم المهموم بنظريته إلى حد الجنون ) أو بمعنى آخر إن العالم الذي يملك هذه المقومات لا يمكن أن يبصر أبعد مما رأى غيره إلا بوقوفه على أكتاف عمالقة سبقوه كما يستشهد بعبارة نيوتن ، ولا ينفك المفتي يلح على أهمية البيئة التي يولد فيها المبدع أو العالم مثيراً نفس السؤال الجدلي الذي لا ينفك يجر معه الأسئلة الصغيرة ويتورم عبر الكتاب مثل كرة الثلج .. من أين نبدأ وهل توطين العلم هو الذي يخلق البيئة المناسبة لتطوره أم البيئة المناسبة هي التي ستعمل على توطين العلم ؟ وهل كلمة توطين ستنسحب على قيم نهضوية أخرى مثل التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها من المفردات الحضارية التي مازالت تدور داخل هذا الجدل ؟ وهل المناهج التي درسناها والكوادر الفنية التي تم إعدادها والتقنية التي أصبحت جزءاً من حياتنا مازالت بعيدة عن هذا المفهوم وإنه علينا ان نبدأ من جديد؟ وهل هجرة العقول ناتجة عن تعاملنا الاستهلاكي مع ما تنتجه العقول الغربية من علوم وإبداع وتقنية دون التفكير في توطين هذه المنتجات ؟ أقول هذا رغم عدم وضوح مفردة توطين حتى الآن والتباسها في ذهني مع مفهوم تكوين العقل العلمي .. لقد أحال الصادق النيهوم في مقالته ( أين خسرنا ولماذا ) كل أزماتنا إلى تاريخ المصرف الحر واضعاً المسألة الاقتصادية في واجهة عناصر النهضة .. مفكرو النهضة العرب يحيلون كل الأزمة إلى ارتباك المشروع التنويري العربي وإلى عدم علمنة المؤسسات التي يجب أن تقود عبر نخبها المستنيرة مجتمعاتنا .. المفتي يضع مشروعه الأساسي (توطين العلم ) في صدارة عوامل النهضة والتقدم مع إشارته المهمة التي تأتي في أماكن عدة لتأثير ظاهرة لوثر في تطور ذهنية الغرب وآلية تفكيره .. ويستمر السؤال الملح : من أين نبدأ وكيف ؟ إذا كنا مصرين حتى الآن عن البحث عن البداية في الألفية الثالثة . إن التراكم المعرفي الذي يشكل خاصية المجتمع القابل للتطور يبقى الوسيلة الهامة لوضع الأسئلة المفصلية في مختبر العقل الشغوف بمزيد من المعرفة وبمزيد من الرغبة لتحويله كجهاز في خدمة الإنسان وتطور أنماط حياته، وحسب أطروحة المفتي فإن هذا التراكم لا يمكن أن يتم إلا عبر توطين العلم والتقنية ، ومفردة توطين تعني حسب سياقها الفكري الذي تتكرر فيه تعني بديلاً للاستهلاك أو التوريد أو العلاقة العابرة معها والتي لا تثير سوى الدهشة والإعجاب ، وهي علاقة ميتافيزيقية تجعلنا نكتفي بقولنا سبحان الله أمام كل اختراع جديد .. علاقة بعيدة عن التساؤل والابتكار وشغف الضلوع في معرفتها وبالتالي الإسهام في إنتاجها أو تطويرها أو الدخول إلى مغامرات العقل الاختراعية وملكاته الاستبصارية والإلهامية ، لكن الكشوفات والاختراعات كما يقول المفتي : ( لا تحدث بسبب هذه الملكات فقط ، فلابد من العقل المدرب ، ولا بد من بيئة علمية تطرح التساؤلات وتتيح النقاش وتوفر إمكانات البحث ، ولهذا نقول إن الإبداع العلمي ظاهرة اجتماعية تراكمية ) وهذه العبارة الأخيرة التي تعتبر الإبداع العلمي ظاهرة اجتماعية تضعنا هي أيضاً في مأزق منهجي إذا ما اعتبرنا الشعوذة والظلامية هي في مجملها ظواهر اجتماعية ، فالتطور العلمي والتقني الذي أنجزته النخب المختلفة في المجتمعات المتطورة لم يكن في بدايته ظاهرة اجتماعية ، لكن تأثيره التحديثي المتوازي مع تأثير الحداثة التي تتم في مجالات الأدب والفكر والفن سيتحول إلى ظاهرة اجتماعية تعكس مفهوم توطين العلم في علاقة المجتمع بالتقنية وفي قدرته على التعامل مع الآلة والزمن والمكان .. يصبح العلم حاضراً في المطبخ وطريقة الأكل وعناصر الوقاية والسير في الطرقات والذي في مجمله يشكل ما أسميناه العقل العلمي الذي يمنعنا من تكوين رأي حول قضايا لا نفهمها كما يقول باشلار ، وهذا المبدأ الدوغمائي سينعكس جلياً على مفهوم الرأي لدينا وعلى موضوعية الحوار وعلى نظرتنا إلى الديمقراطية والتسامح والاختلاف،التي يتم التعامل معها عبر عقل انفعالي تغلب فيه العاطفة على الحكمة ، بينما الإنسان المدفوع بالعقل العلمي يرغب دونما شك في أن يعرف ولكن لكي يحسن التساؤل والاستجواب معاً ، من هذا المنطلق كان الجدل عل أشده في تراثنا الفكري بين عديد الثنائيات مثل العرفان والبرهان ، والعقل والنقل ، والأصالة والمعاصرة إلى غيرها من المتضادات التي لم تستطع خلق أي برنامج للخروج من هذا السجال النظري إلى صياغة مشروع عملي لتجاوز هذا المأزق أو بمعنى آخر نحتاج إلى فكر نهضة بدل فكر أزمة . إن الجلي في كتاب توطين العلم هو الحرقة التي يكتب بها المفتي .. يمارس منهجه الطبي في تحليل وتشخيص واقعنا المريض واقتراح العلاجات التي يراها له ، وفي كل ذلك يحرص على حضور عقله العلمي مبتعداً قدر الإمكان عن ممارسة الشعوذة التي تسقط فيها كثير من كتاباتنا الفكرية ، أو الدوران بعيداً عن مكمن العلة والامتثال للعديد من المقولات الشائعة في أنماط تفكيرنا والتي تغذيها العاطفة أكثر من العقل ،والأوهام أكثر من الواقع ، والنرجسية التاريخية أكثر من النقد الموضوعي للذات والقراءة الموضوعية للآخر الذي كثيرا ما نطرحه وفق سياق أخلاقي يخصنا وينطلق من منظورنا الرومانسي تجاه صراع أثبت التاريخ أن لا محرك له سوى القوة والقدرة على الهيمنة ، في الفصل الثالث يسعى المفتي لإعادة تعريف العولمة من منظور علمي تاريخي واقعي متحدثاً عن وقائع التاريخ والظواهر العلمية والثقافية التي كانت تحمل في ثناياها إرهاصات العولمة منذ اكتشاف الحديد وتشكيله ،واكتشاف الزراعة كبديل للصيد ، واستعمال الذهب ثم الورق نقداً ، وسيادة الثقافة الإغريقية ثم الرومانية ثم المسيحية والإسلامية إلى ثقافة أوروبا الصناعية القائمة على المحرك والآلة .. إلى ثورة الاتصالات الراهنة والطاقة الذرية وأسلحة الدمار الشامل والهندسة الوراثية، قائلاً في نهاية هذا السرد التاريخي ( ليس في ذلك أي خلل منطقي أو أخلاقي .. فالمعرفة قوة والعكس صحيح ) وهو هنا ينقل مفهوم العولمة المتداول بقوة إلى حقل آخر للتعامل معه بشكل موضوعي واعتباره ظاهرة إنسانية علمية بدل كونه موضوعاً أخلاقياً أو عاطفياً، منتقدا حالة الخلط الملتبس بينه وبين الهوية ( الخوف من العولمة بوصفها هيمنة وطيدة الصلة بالتعلق بالهوية الثقافية والخشية من الذوبان في النموذج الوافد ) وحقيقة هذا الخلط القسري هو ما يحرك العاطفة بدل العقل ، والانفعال بدل التحليل والتشخيص ، وينقل العولمة من كونها معركة تقنية علمية مرتبطة بالتقدم إلى كونها سجالاً أخلاقياً ، وساحة لصراع الخصوصيات ، تجعلنا أكثر تشبثاً بالماضي وأكثر إحساساً بالخوف ومن ثم التقوقع ، لذلك لا بد من إعادة طرح الأسئلة بهذا الشأن من جديد ، وهو طرح يحاول أن يعري به كثيراً من الأوهام التي تغذي خيالنا وترسم ردود أفعالنا .. يسأل : هل يمكن رفض العولمة حقاً وماذا سيكون الثمن ؟ المجتمعات القوية تحاول أن تحمي مصالحها في العالم من خلال استغلال ضعف وجهل المجتمعات المتخلفة وهل يلامون في ذلك ؟ هل ثمة رذيلة ؟ ولماذا نقلق نحن في العالم المتخلف أو الفقير ؟ وكيف السبيل للخروج من هذا المأزق ؟ ويعود ليقول : ( دعونا نعترف أولاً أن التعميمات القديمة لم تعد مجدية ، بل هي المسؤولة عن مآزق اليوم ، السؤال الذي يجب أن نسأله والذي يتردد على ألسنة الكثيرين منا هو : ماذا يعيقنا نحن حقاً؟ ) إن المفتي في ثنايا كتابه لا ينفك يطرح الأسئلة ولكن الأهم من ذلك هو طرحه للأجوبة أيضاً .. حيث استهوت ثقافتنا عادة طرح الأسئلة ومقت الإجابة التي أصبحت من المفردات المنبوذة لدينا كردة فعل ثقافية على اليقين السياسي الذي يملك الإجابة لكل سؤال ، لكن في الواقع لكل سؤال أصيل لا بد من إجابة أصيلة ، وربما العمل على دحض الإجابة بإجابة أخرى أفضل من متعة إنتاج الأسئلة المجانية التي استهوت أداءنا الفكري مراراً حتى أصبحنا نسبح في فقاعة من الأسئلة المتناسلة دون العمل على اقتراح أية برامج لتحويل هذه الأسئلة إلى برنامج عملي يجعل الأسئلة تنبثق من أخطائنا ونحن نعمل بدل أن تتناسل عن التباساتنا النظرية . ينطلق المفتي في كتابه من سرد وقائع شخصية من سيرته الذاتية في كل بداية فصل ، والوقائع المختارة تشكل مفتاح دخوله للأزمة التي يود مناقشتها فيما بعد ، وتتعلق هذه الوقائع بتجربة انتقاله إلى العالم المتمدن ودهشة تعرفه على أشكال جديدة من الحياة وشغفه بتتبع آليات الحياة ونظمها التي أوصلت إلى هذا التقدم ، وأيضاً البحث المضني في تاريخ الاكتشافات العلمية وتطورها التاريخي ، ليصل في النهاية لنتائجه الحاسمة التي ترفد رؤياه الخاصة لإمكانات التغيير والتقدم ، فيقول مثلاً : إن المجتمع محكوم بحجم حصيلته المعرفية ، وأن التقدم يعني توطين العلم ، وأن العلم يغير العالم ويمنح الازدهار والمتعة ، وان التغيير الذي يحدثه العلم والصناعة حاسم وقطعي .. في بداية الفصل الرابع يسرد الكتاب بعض الوقائع الخاصة والمتعلقة بمفهوم البحث العلمي في جامعاتنا والتي يعتبرها غير جادة لأن هدفها الأول هو الحصول على الترقية ، متطرقاً أيضاً إلى سيرته مع المعلم المحدود المعرفة والخيال في السنوات الأولى والذي يتبع أسلوباً تلقينياً سيكون كارثة حينما يستمر في المراحل الجامعية ( إن التلقين وحده لا يكفي ، ولابد من زرع الخيال وروح التساؤل لكي نربي جيلاً قادراً على الإبداع ) وهذا هو المدخل الذي يقترحه للولوج إلى موضوعه في هذا الفصل المتعلق بالباحث المفقود لدينا ومن ثم رصد حالة بؤس البحث العلمي في ثقافتنا العربية ، معتبرا واقعنا الأكاديمي وواقع جامعاتنا هو المسؤول عن قتل روح البحث العلمي لدينا ( في ثقافتنا العربية تضخم الحرص على الشهادات الجامعية على حساب روح البحث العلمي ) محدداً فيما بعد أسباب العقم الجامعي المتمثلة في ضحالة الإعداد الجامعي ، وغياب البرامج البحثية الرصينة ، وان البحوث مجرد أوراق للحصول على الترقية ، ومستهدفاتها قلما تكون محددة لتحقيق نتيجة واضحة ، ليصل في نهاية الفصل إلى وضع مقترحاته الناتجة عن خبرته الشخصية في هذا المجال ، كإعادة النظر في المناهج المدرسية الأساسية وتطعيمها بروح النقاش والحوار ، والتركيز على التعليم العملي ، وتغيير طرق الامتحانات ، وتحويل مؤسسات التعليم العالي إلى مراكز للبحث العلمي ، وضرورة توخي الصرامة في تقييم مستوى الأطروحات المقدمة لنيل الدرجات العلمية ، وتوفير مصادر تمويل ثابتة للبحوث .. إذاً كما يقترح لا بد من وجود إمكانات ومناخ لتطور العقل العلمي ومساهمته في التقدم وإلا فسيكون مصير هذه العقول الذبول والموت في تربتها الجافة أو الهجرة إلى حيث يحتفى بها وتقدم لها كل السبل كي تبدع في مجالها ، وهذا ما يطرحه كتاب المفتي في الفصل الخامس الذي يعنونه بسؤال جارح : لماذا نفقد عقولنا ؟ والذي يعتبر خلاله إن الثقافة العربية بيئة طاردة للكفاءات ويرجع ذلك لكونها بيئة تعمل على تهميش رجال العلم وتحرمهم من دورهم الاجتماعي الفعال ومساهمتهم الجادة في خطط التنمية ( إن علماءنا بتهميشهم وحرمانهم من المساندة لممارسة تخصصاتهم يتقلصون إلى مجرد مدرسين في جامعة أو مدراء في مؤسسات أو شركات وبالتالي ينسلخون مع السنين عن علومهم ) وفي النهاية يصل المفتي إلى اقتراحاته لوقف هذا النزيف العقلي بتطوير مخططات البحث العلمي وخلق مراكز ذات ميزانيات ومستهدفات محددة واستثمار ما تقود إليه من نتائج ، مشيراً إلى المعضلات الشائكة التي تقف دون ذلك ، لكن بقاء المجتمع العربي ـ كما يقول ـ مرهون بجهد حقيقي نحو معالجة كل أوجه الخلل التي تحدثنا عنها حتى لا نفقد عقولنا ولا نفقد وجودنا . من جانب آخر يبرز سؤال عام عن دور العلم .. هل هو مجرد منتج للتقنية التي تبعث على زيادة الإنتاج والرفاهية الاقتصادية ، أم له علاقة وثيقة بتغير القيم ونمط العلاقات ومن ثم طبيعة العقل المفكر بواسطته ؟ بمعنى آخر هل سيصل بنا العلم إلى إنجاز قيم إنسانية هامة لتشكيل المجتمعات الحديثة مثل التسامح والحوار والديمقراطية ، وبالتالي بنى المجتمعات المدنية التي نربطها دائماً بالفكر السياسي النظري والتطور الاقتصادي والثورات ، هذه الأسئلة هي ما جعلته يذهب إلى الفصل السابع من الكتاب ـ العلم والتسامح ـ والذي يطرح فيه محددات العلاقة التاريخية بين السلطة والمعرفة ، والتناسب العكسي بينهما ، فبقدر ما تقل المعرفة تطبق السلطة خناقها على المجتمع باحتكارها الأجوبة عن ظواهره ومعضلاته ، ضارباً مثاله التاريخي باحتكار الكاهن للمعرفة الذي هدده فيما بعد التخصص الحرفي معتبراً أن (المعرفة كانت بداية تجزئة السلطة داخل المجتمع البشري البسيط) ومن ثم كان ظهور التيار الإنساني الذي شدد على الدراسات الإنسانية بدلاً من الدينية هو بداية النهضة وازدهار الاختراعات والفنون والمعمار ، وكان في الوقت نفسه المحفز على تحكيم العقل وعلى التسامح الذي انبثق من قدرة الإنسان على الإبداع وعرضته للخطأ ، وليكون الباب مفتوحاً فيما بعد للموضوعية كي تأخذ مكانها بدلاً من الإطلاقية والمرجعيات الغيبية المغلقة الطاردة للحوار والابتكار ، الموضوعية التي يعرفها المفتي بعدم خروج النقاش عن نطاق البيانات المتاحة وإقرار مبدأ النقد والاختلاف في وجهات النظر المتأتي من احتمالية الأحكام والنظريات والقوانين العلمية ، واستبعاد الانفعال بالرجوع إلى القياسات ونتائج التجربة ، وأخيراً استبعاد ردود الفعل القائمة على الانطباعات والتحيزات بتحاشي التقييم المسبق لصاحب الرأي سواء أكان هذا التقييم منطلقاً من اعتبارات إثنية أو أخلاقية . وبهكذا تشخيص ستكون الموضوعية هي الحقل الفسيح الذي تنمو فيه قيم التسامح وما يتبعها من آليات اجتماعية وسياسية بقدر ما تراهن على قدرات الإنسان الإبداعية بقدر ما تحترم إنسانيته ، فالإنسان انتقل من كونه غاية لتحدي الشيطان وألعابه إلى كائن يعرف ويغامر ويقدم معجزاته على الأرض ، وهذا المفهوم الجديد هو الذي أعطاه قداسته ومن ثم حقوقه الإنسانية ، إن الكائن الخطاء أصبح يراكم من معرفة أخطائه بنيانه الحضاري والأهم أن الخطأ غدا وليد التجربة والطموح الشرعي ولم يعد إثماً يقاصُّ بسببه ، لذلك كما يقول المفتي : (لم يكن صدفة أن يقنن التسامح لأول مرة في إنجلترا لأنها كانت آنذاك مهد الثورة العلمية والتقنية ) قاصداً هنا قانون التسامح الذي صدر عام 1687 في البرلمان البريطاني والذي يبيح حرية المعتقد وقانون حقوق المواطن بما فيها حقه في مقاضاة الدولة ، وبهذا التشخيص لم يعد التسامح مجرد قيمة أخلاقية ، لكنه غدا قانوناً ملزماً ترعاه مؤسسات عدة ، وهذا لم يتم بخيار السلطة السياسية أو الكنيسة آنذاك ، لكنه نتيجة الضغوط التي فرضها الإنجاز العلمي والتحرر من احتكار المعرفة والذي قدم مقابله تضحيات كبيرة ، وهذا الجدل التاريخي بين المعرفة والسلطة هو الذي يطرح من خلاله المفتي إجاباته عن سؤاله الملح : (هل ثمة علاقة بين العلم وهذه القيم الجديدة .. الدولة المدنية ، الاستنارة ، التسامح الديني ، وحقوق الإنسان؟) وهو السؤال الذي تجاوزه المشروع النهضوي العربي الذي راهن على إمكانية النهضة انطلاقاً من الفكر الإنساني التنويري النظري ، دون الانتباه إلى فكرة الجدل المنهجي بين التحديث الذي يتم في أطر التقنية والعلم والاختراع والحداثة التي تتم في أطر الفكر والفن والأدب ، وهذا ما يجعله وكعادته دائما في تقديم الإجابات يقدم بعد هذا التشخيص الواقعي جداً والعلمي يقدم روشتته : ولهذا وحتى نحقق آمالنا في مجتمع مدني ينعم بالتسامح والحرية وحقوق الإنسان .. علينا أن نواجه كل هذه العوائق ، وعلينا أن ننتبه إلى الحلقة المفقودة في ثقافتنا ، ألا وهي العلم مصدر التقدم ومنبع التسامح الاجتماعي ، وهنا مرة أخرى لا يعني العلم لديه إنشاء المدارس والجامعات فقط ولا إرسال البعثات الدراسية للدراسة في الخارج ، ولا استيراد أحدث وسائل التقنية ، لكنه مشروع لتوطين العلم يلخصه في الآتي : أن نسعى لوضع جدول زمني محدد لإعادة صياغة المناهج الدراسية لتشمل مادة حقوق الإنسان ولتفسح مساحة أكبر للعلوم الطبيعية وتاريخها إضافة إلى رعاية البحوث العلمية الجادة باعتبار روح البحث تعني المراجعة المستمرة لكل المواضعات والقناعات في ضوء ما يستجد … وهنا لا يتطرق المفتي لطرق التدريس والوسائل التعليمية الحديثة التي تجعل من الطالب مشاركاً أكثر من كونه وعاءً للتلقين ، إضافة إلى أن معظم البحوث في العالم المتطور تجرى في الشركات الخاصة أكثر من الجامعات بسبب التنافس الاقتصادي ومتطلبات السوق وهذا متأت عن الثورة الصناعية الكبرى وترك مبدأ المبادرة للقطاع الخاص كي يطور آليات ونوعية إنتاجه . لكنه يعود في الفصل التاسع لتدارك هذا المفهوم عبر اختصاره لمحصلة ما أشار إليه في عدة نقاط تتعلق بضرورة تأسيس قاعدة معرفية محلية تحقق تآلف المواطن مع العلم والتقنية ( فتوطين العلم لا يتم فقط باستعارة المناهج الدراسية ، أو حتى المصانع والعلم ليس مجرد كاتولوجات ، أو أدوات تستعمل بجهل كامل لآليتها وطرق صيانتها وكيفية إصلاحها) ـ كما أنه لا بد من الالتفات إلى البيئة الحاضنة بكل أبعادها ( وهذا يعني غرس قدر هام من التسامح والانفتاح الإيجابي نحو الآخر الأجنبي مع الحفاظ على المصلحة القومية ) إن خلق النفسية الشعبية الجديدة التي يشكل التفكير العلمي والتقنية جزءاً من تكوينها وإتاحة المناخ الثقافي العام لاحتضان هذه الذات تشكل لدى المفتي مفاصل التطور الحضاري بكل أبعاده ، حيث العقل العلمي عميق الصلة بقيم أخلاقية عديدة تنتج في مجملها مجتمعاً على قدر وافر من التطور وانضباط السلوك ، وهذا ما يذهب إليه باشلار في كتابه ـ تكوين العقل العلمي ـ حيث يقول : (لابد لحب العلم من أن يكون نشاطاً نفسانياً ذاتي التوارث ، وفي حالة التقنية التي يحققها تحليل نفساني للمعرفة الموضوعية يعتبر العلم جمالية العقل) وهذه الجمالية البناءة هي ما يسعى إليها كتاب توطين العلم الذي مراراً كان يكرر برنامجه لتحويل العلم إلى جزء من تكوين وجدان المجتمع وأخلاقياته ، وكل هذا كما يقول المفتي ، يتطلب وجود نخبة ذات ولاء لمجتمعها متفتحة ومستنيرة في كل قناعاتها . وأخيراً فإن هذه المعادلة الصعبة تجعلنا في حيرة منهجية عبر سؤال جدلي طالما راود المفكرين في منطقتنا ، هل التقدم العلمي وروح الابتكار والتطور التقني هي التي تؤسس للتسامح والديمقراطية أم العكس ، أم هي علاقة متوازنة ومتوازية وفي هذه الحالة من أين نبدأ .. إنني أرى شخصياً أن ثورة الاتصالات الهائلة التي نعيشها الآن والتي تمثل الصدمة الرابعة للعقل الإنساني ستعمل على تفتيت بنى الأنظمة الشمولية عبر نشر المعرفة والخبر باعتبارها تكسر احتكارهما وتجعل العقول بما فيها العقول المستهلكة في حالة صدام مباشر مع إنجازات العلم المبهرة كما أنها تهدد بامتياز نرجسيتنا التاريخية البيانية وتطرح قيم إنسانية بديلة عن التي نتغنى بها ، وتنعش حالة الشك في تاريخنا الذي يحتاج إلى إعادة قراءة من شأنها أن تغير الصورة المغلوطة عن الذات وعن الآخر ، إن ثمة سلطات متعددة في مجتمعاتنا يشكل التطور الاجتماعي تهديداً لكيانها ومصالحها وستدافع بما أوتيت من قوة على تكريس واقع التخلف والاستكانة ، لكن لا يمكن أن تصمد أمام هذا الانسياب المعرفي ورغبة العالم في التوحد عبر مكوناته الأساسية ، من المواد الخام ، والتقنية، والسوق ، والتي في مجملها ستجرف الجيوب المعزولة والحدود التي تحمي الدكتاتوريات بحجة السيادة ، فلا إمكانية الآن لنبقى أحياء إلا بالاندماج في اقتصاديات العالم وتنميته وهذا لن يتأتى إلا بالاندماج في آلياته السياسية الحديثة بكل قيمها التي هي في الواقع وليدة كل الاجتهادات البشرية التي شاركت فيها الحضارات كافة فوق هذا الكوكب ، إن أهم ما في كتاب المفتي أنه يضع إصبعه على الجرح النازف في وجداننا وأنه يذهب مباشرة ودون مواربة لطرح أسئلته الهامة وأجوبته الإجرائية دون عواطف وبلغة علمية ، والأهم من ذلك يعتبر ـ دون تردد ـ أن الحضارة الغربية هي نموذجه الأهم الذي يجب الاستفادة مما حققه حيث تجارب مثل اليابان وسنغافورة أثبتت إمكانية هذا التوجه عبر التخلص من عديد الأوهام التاريخية والعاطفية في نظرتها لذاتها وللآخر الغربي ، ذاهباً إلى أن الإسهام في العلوم والتطور التقني أو ما يسميه توطين العلم يؤكد على التمسك بالهوية والروح القومية ، بينما الاستهلاك المجاني لمنتجات الغرب كما يحدث الآن هو الذي يهدد في الواقع هويتنا واحترامنا للذات .
#سالم_العوكلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لغة الهيمنة: هيمنة اللغة ،
-
اليوتوبيا والدكتاتورية
-
من أول السطر
المزيد.....
-
لاستعادة زبائنها.. ماكدونالدز تقوم بتغييرات هي الأكبر منذ سن
...
-
مذيع CNN لنجل شاه إيران الراحل: ما هدف زيارتك لإسرائيل؟ شاهد
...
-
لماذا يلعب منتخب إسرائيل في أوروبا رغم وقوعها في قارة آسيا؟
...
-
إسرائيل تصعّد هجماتها وتوقع قتلى وجرحى في لبنان وغزة وحزب ا
...
-
مقتل 33 شخصاً وإصابة 25 في اشتباكات طائفية شمال غرب باكستان
...
-
لبنان..11 قتيلا وأكثر من 20 جريحا جراء غارة إسرائيلية على ال
...
-
ميركل: لا يمكن لأوكرانيا التفرّد بقرار التفاوض مع روسيا
-
كيف تؤثر شخصيات الحيوانات في القصص على مهارات الطفل العقلية؟
...
-
الكويت تسحب جنسيتها من رئيس شركة -روتانا- سالم الهندي
-
مسلسل -الصومعة- : ما تبقى من البشرية بين الخضوع لحكام -الساي
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|