|
دماء على ساحل المتوسط .. ما قبل السابع من أكتوبر.
يوسف حداد
الحوار المتمدن-العدد: 7795 - 2023 / 11 / 14 - 15:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المشهد الأول: على أحد سواحل العاصمة الأذربيجانية "باكو" دار حوار بيني وبين أحد الأذربيجانيين. أذربيجان الدولة المتصارعة مع ذاتها حول هويتها الحقيقية، بين الجذور التركية والماضي السوفييتي الروسي والحاضر الذي يجنح نحو الحداثة على النمط الغربي. قال لي يومها: "نحن نميل لإسرائيل وليس لفلسطين لأن اسرائيل تمدنا بالسلاح في صراعنا مع أرمينيا، بينما العرب لا نرى منهم سوى السياح القادمين بغرض النوادي الليلية والدعارة". كلامه بطريقة أو أخرى اغلق بوجهي كل أبواب النقاش، فالواقع بشكل عام هكذا. اسمه "حسين" وهو مسلم ملتزم لدرجة معينة بحسب قوله، في بلد تتأرجح بين العلمانية والإرث الإسلامي. في بلد أغلب سكانها هم أتراك مسلمون شيعة، يرتبطون بروابط حديدية مع الجمهورية التركية "الشقيقة الكبرى" من ناحية القومية والعرق ويختلفون من الناحية الدينية المذهبية مع تركيا ذات الأغلبية المسلمة السنية الحنفية - شيء لا يمكن الحلم به في العالم العربي -. سألت حسين يومها عن رأيه في الدماء التي تسكب في فلسطين من عشرات السنين فكانت اجابته: "لإسرائيل الحق في الأرض كما للفلسطينيين الحق" شيء أشبه بمخرجات أوسلو ولكن بلهجة أكثر ركاكة. تساءلت طويلا عن الأسباب التي تجعل هؤلاء الناس يفكرون بالطريقة هذه، أهي المسافات؟ أهو ضعف حيلتنا في نشر سرديتنا الفلسطينية حول العالم؟ أهو الإعلام الليبرالي الغربي المسيطر على كل قنوات الاتصال؟ لم أجد الاجابة حتى الآن، ولكني أعلم يقين العلم أن اشتباكنا مع قضيتهم المتعلقة بالأرض مع الأرمن لا يقل جهلاً عن اشتباكهم مع قضيتنا العربية. المشهد الثاني: كانت في إحدى الصباحات "العَمَانية" المشمسة بحكم العادة. لم يمضِ على جريمة اغتيال "شيرين أبو عاقلة" سوى القليل من الأيام. أتابع نشرة الأخبار كالعادة مع فطور الصباح السريع قبل المضي في قطار الروتين اليومي والذهاب للعمل. الأخبار محملة كما دوماً باقتحام لأحد مخيمات الضفة الغربية. استشهاد بضعة فلسطينيين واعتقال البعض الآخر. لا شيء جديد. يمر الخبر في الشريط الاخباري كأنه خبر عن أسعار الخضار اليوم. فطور مغمس بالدم. صوت السيارات في الخارج كالنشاز، كمقطوعة موسيقية كتبها هاوٍ سيء الذوق. في قطار الروتين اليومي خطر السؤال ببالي: "كيف وصلنا لهذه الدرجة من التدجين؟". لا شيء يحدث، الناس تتقاتل من أجل الوصول لأعمالها، الأزمات المرورية المفتعلة بحسب رأي أحد سائقي التطبيقات الذكية المشهورة. قلة الأدب المعروفة كل صباح. وكوب من القهوة السوداء من مقهى ممتلئ بالطلاب الجامعيين الذين يجمعهم تخصص ما. لا حراك شعبي ولا مظاهرة ولا أي مظهر من مظاهر الاهتمام بالأخبار القادمة من هناك غرب النهر. "كيف وصلنا إلى هنا؟" السؤال يلمع ببالي طول الطريق. أهي الأنظمة والحكومات؟ أهو التعليم؟ أهي التنشئة؟ أهو الخدر السياسي والاجتماعي الشامل؟ اثنا عشر عامًا مضت على تلك السنة التي حملت رياح التغيير الثورية في كل أصقاع العالم العربي. واليوم كل شيء كما كان، بل أسوء بكثير. تلك الحناجر التي بحت وتلك الأيادي التي اعتقلت. مسيل الدموع والهراوات. لحظة خوف شاسع اجتاحت كل الحكومات. تيار واسع من الأمل الذي ذهب مع السنين. أين كل ذلك وأين نحن الآن؟ لا شيء يحدث ولا شيء سيحدث. سيقتلوننا كل لحظة ونحن نتنافس على لحظات من الوهم في كرة القدم أو في إحدى المسابقات الغنائية. المشهد الثالث: اليونان، قبلة السياحة العالمية، مصيف العشاق المحرم ومعتكف النساك الأرثوذكس. أشياء لن تجدها إلا هناك، حيث البحر المتوسط الذي يحتضن سواحلها ويحتضن سواحل غزة. في إحدى فيديوهات الحرب الدائرة حالياً يظهر المتوسط من بعيد بزرقته الساحرة. مشهد سوريالي يجمع صوت القنابل والدمار وزرقة البحر. يصدح صوت أحد المقاومين "لا مش من هون" بلكنة فلسطينية جميلة قبل إطلاق أحد الصواريخ على إحدى الدبابات الصهيونية. في أحد الأيام اليونانية الجميلة، كنت في انتظار قهوتي من أحد المقاهي العالمية. أنا أشبه بإنسان ذائب بشكل كامل بكل ما تمثله القيم الغربية، لا شيء تبقى مني سوى اسمي العربي ذو الجذور العبرية. رجل وزوجته كبيران في السن وبحسي العربي أهم بمساعدتهم لكيفية استخدام أزرار الأرقام الموضوعة على باب الحمام. كلمة سر لدخول الحمام! أشياء غربية بحتة. نحن العرب لا نضع أرقام سر على ضمائرنا وأرواحنا فكيف نضع كلمة سر لدخول الحمام؟! أخبرها بالرقم بالإنجليزية فتخبر زوجها بالأرقام في العبرية. اللعنة! أعرف كل الأرقام العبرية منذ كنت طفلاً. من قنواتهم التلفازية التي كانت تصل للأردن بكل سهولة. من متابعة الجميع للأفلام وأخصها الأفلام ذات الطابع الإباحي. شيء من السلام المؤقت بين العرب واليهود يجمعه الأفلام الإباحية. تجمدت في مكاني. دخلوا وخرجوا وأنا انتظر بكوب القهوة اللعين. "ثانك يو" مع تربيت سريع على الكتف من الرجل العجوز. تجمدت في مكاني. لم أعلم كيفية التصرف. السؤال الحاضر في البال هو "هل أنا مطبع الآن؟"، والإجابة جاءت حاضرة ومغلفة "لكن كلهم سبقوني لذلك!". المشهد الرابع: تكاد سنة 2023 تتفوق بالقذارة على سنة 2020. أصبحت أكره الرقم 20 بسبب تلك السنة. العالم كله كان محوره فيروس "الكورونا". سحقت حريتنا سحقاً في تلك السنة. وأعادوها لنا كما كانت قبل تلك السنة مع دخول طبيب الأطباء، لقاح اللقاحات، الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في حرب مع أوكرانيا. كل شيء في العالم بعد ذلك الدخول الروسي اختلف. كل القيود "الكورونية" تم فكها. كل اللقاحات رميت بعيداً ومعها كل الكمامات. لا إجابة واضحة حتى الآن، ولكن ذلك ما حدث بحذافيره. في تلك السنة المقيتة وفي أحد أشهر الصيف التي أعشقها فكت القيود قليلاً عن المطاعم. وكانت النتيجة هجمة شاملة وغير منهجية على المطاعم العالمية "ما غيرها" التي تندرج تحت حملات المقاطعة المنتشرة هنا وهناك حالياً في قنوات الاتصال الاجتماعي. أكاد لا أنسى تلك الطوابير الطويلة في انتظار وجبة سريعة من البرجر المحفوظ صناعياً. طوابير أطول من طوابير الخبر في غزة. أطول من قوافل النزوح من الشمال للجنوب. "عمركم مش ماكلين؟!" كان التساؤل الحاضر في ذهني كلما مررت بإحدى هذه المطاعم. اليوم تبدو نفس هذه المطاعم خاوية في انتظار مسلسل جديد. المشهد الخامس: الأردن وإن كانت لا تملك سواحل على البحر المتوسط إلا أنها امتداد طبيعي وجغرافي وثقافي لحوض البحر المتوسط. قيل لي أن جدي كان يمشي من شمال الأردن إلى سواحل حيفا على قدميه، شيء أشبه بالخيال في الواقع الحالي المخيف. البحر المتوسط الذي شهد ولادة العديد من الحضارات وفناءها. البحر الذي قذفت فيه آلاف، بل ملايين الجثث على مر التاريخ. بحر اللغات والثقافات والأديان والتاريخ. هو أولى بمسمى البحر الأحمر لكثرة الدم على جوانبه. البحر ذاته حمل للعالم كل هذا الزخم العلمي والحضاري والثقافي، وهو البحر ذاته الذي تحتضنه غزة اليوم. فيه الغاز والألغاز. وفيه ربما كل أسرار هذه الحرب الدموية. في نفس الوقت الذي تكتب فيه هذه المقالة تجتمع في الرياض كل القيادات العربية والإسلامية. لن أدخل في بحر التحليل والشتم والتخوين لكني أتمنى أن يخرج من هذا البحر نفسه تسونامي يغسل قلوب الغزيين ويحملهم بعيداً عن هذا الجنون. يضعهم في جزيرة ما قرب اسبانيا حتى تنتهي هذه الحرب. يومها تلتقي المقاومة بالصهاينة وجهاً لوجه، بلا طائرات، بلا دبابات، بلا ناقلات جنود، بل حتى بلا حاملة الطائرات الأمريكية والغواصة النووية. عندها فقط ستعود للبحر المتوسط قيم الحرية والكرامة.
#يوسف_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الملكة رانيا تهنئ الأمير هاشم بعيد ميلاده العشرين
-
انتشال 30 جثة حتى الآن لضحايا كارثة مطار ريغان في واشنطن
-
الدفاع الروسية تعلن حصيلة جديدة لخسائر قوات كييف في كورسك
-
فوائد -مكملات الحمل- في تقليل مضاعفات الولادة
-
ماذا نعرف عن وحدة الظل في كتائب القسام المسؤولة عن تأمين الر
...
-
-مخاوف من سيطرة دينية على الحكم في سوريا- - جيروزاليم بوست
-
سانا: الرئيس أحمد الشرع سيلقي خطابا موجها للشعب السوري مساء
...
-
شاهد: فرحة أسرة الأسيرة أغام بيرغر بعد أن أفرجت عنها حماس
-
انهيار صخري في أعماق كاليفورنيا يكشف أسرار تكوّن القارات
-
سر -طبيب الموت- ولغز -عاصمة التوائم-!
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|