|
غزة والتاريخ الراسمالي للعنف.
مظهر محمد صالح
الحوار المتمدن-العدد: 7795 - 2023 / 11 / 14 - 00:35
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
1- تمهيد :العنف ليس مسجلا في جيناتنا البشرية كما تقول الدراسات العلمية الحديثة بل اتّضح لنا اليوم أن الصورة التي تُظهر الإنسان في عصر ما قبل التاريخ على أنه وحشيّ ومحارب، إنما هي أسطورة مُحاكة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ونشوء النهب الاستعماري لثروات الامم والذي اسس للراسمالية الصناعية ثوابت التراكم فيها . اذ بينت الأبحاث الأثرية أن العنف الجماعي ظهر فعليًّا مع استقرار المجتمعات وتحولها من اقتصاد النهب إلى اقتصاد الإنتاج الراسمالي . ففي كتابه (دور العنف في التاريخ )يرى الفيلسوف فردريك انجليس (1820- 1895 ) بان العنف هو مُولد التاريخ ، اذ لامس على سبيل المثال تجربة بسمارك في نشأة المانيا الحديثة بكونها تجربة ليست منفصلة عن تطوير وسائل العنف وتطور الاسلحة الحديثة لاخضاع الاخرين ، بل جعلت من العنف ووسائله ليست مولدة للتاريخ فحسب بل حفارة قبره كما يذكر انجليس. فالعنف هو ليس طبيعة بشرية،و
ليس هناك في الحقيقة ما هو أكثر سطحية من الفكرة التي تقول أن العنف هو غريزة بشرية وأن الإنسان، كالحيوان بالضبط، تحركه غرائزه العدوانية. اذ استندت هذه الفكرة إلى عدد من الأوهام والتلفيقات. فهي تدعي أن التعصب والعنف والاعتداء الجماعي هم صفات وراثية. اذ يتهم على سبيل المثال ,أنصار هذه الفكرة ,المدرسة الماركسية بأنها (تنكر الأساس الوراثي البيولوجي لفظائع المجتمع الحديث ) وتركز فقط على عوامل ثانوية هي البيئة والظروف الاجتماعية التاريخية. 2- ان ما يجري من فظائع القتل في غزة اليوم بلا رحمة واقتلاع سكان البلاد الاصليين من الجذور وسحقهم حتى العظم دون التفريق بين طفل او امراءة او دار مسنين او مدرسة او حوض ماء تمارسها آلة الغطرسة العسكرية الاسرائيلية المحتلة وادواتها الحربية الشديدة الفتك ازاء غزة اليوم ، هو لا يختلف عن تاريخ الاستيطان الراسمالي ازاء سكان البلاد الأصليين فيما سمي باكتشاف العالم الجديد او الجنوب الافريقي وغيرها من بقاع الارض من عنف غير رحيم في القرون الثلاثة الماضية والذي رافق نشوء الراسمالية الصناعية المركزية. 3- قد ينتهي العنف المبتكر في غزة الى استحواذ ممنهج على موارد الارض وفرض واقع قمعي جديد من مظاهر الراسمالية والنهب الامبريالي ، حيث تخضع غزة اليوم لعملية عنفية تقوم على اساس القتل بالاسلحة الرقمية Digital weapons الشديدة الفتك وهي وسائل تلائم المعطيات التكنولوجية لعسكرة القرن الحادي والعشرين وموارده الاقتصادية (وهي مرحلة مابعد الامبريالية ) . فالجذر التاريخي الاقتصادي للعنف الراسمالي الاسرائيلي المدعم بالاساطير البالية والذي يمارس اليوم على ارض فلسطين هو جزء لايتجزاء من منظومة القتل الاستعمارية الاستيطانية التي تسعى نحو تاسيس نظام راسمالي شرق اوسطي لما بعد الامبريالية. اذ يؤشر التأريخ الاقتصادي للعنف ، بان مايحصل في غزة اليوم من تدمير غير رحيم للاسر الفلسطينية الآمنة هي عملية تلقائية للتوسع الاستيطاني لنهب ثروات غزة و فلسطين في الارض والمياه وهو الشي نفسه الذي حصل في القرون الثلاثة او الاربعة الماضية على بقاع الارض وفي اكثر من قارة .
4-وعلى الرغم من ذلك، فان تجربة سكان البلاد الاصليين في القارة الامريكية قد لا تختلف في الحصيلة عما تعرض اليه السكان الاصليون تحديداً في الارجنتين وجنوب افريقيا واستراليا.وقد لا يقتل الاستيطان بالضرورة سكان البلاد الاصليين كافة ربما يبقى على شتات منهم ،ولكن غلبة الصراع التاريخي بين الطرفين تظهر على الدوام ان سكان البلاد الاصليين لا يملكون سوى دفاعات ضعيفة بسب الفارق التكنولوجي في ادوات الحرب والقتل، لاسيما بعد ان ينتزع المستوطنون اراضيهم المشاعة، ليقيموا عليها ما يسمى بحقوق الملكية الخاصة التي تؤسس تحت ذريعة قوانينهم الوضعية و نيران اسلحتهم الحديثة نواة الراسمالية المستحدثة في تعظيم عملية التراكم الاولي لراس المال. فمنذ ان ازيلت الاسس الاقتصادية للمجتمع الاصيل ،غدا سكان البلاد الاصليون منزوعي القدرة على منافسة تلك القوى الاوروبية المستوطنة المهاجرة الشديدة التنظيم . اذ تسلح القادمون الجدد بالقواعد الاقتصادية و آليات السوق والقوانين العسكرية، وقاموا من فورهم بتحويل الارض التي استوطنوها الى استعمالات اقتصادية متعددة غزيرة العائد النقدي وتعاظم الربح. فالحبوب الاميركية ولحوم العجول الارجنتينية واستخراج الذهب والماس من مناجم جنوب افريقيا، فضلا عن الصوف الاسترالي، قد دخلت جميعها رحاب السوق العالمية وامست مصدر غنى وعيش رغيد لملايين المنتجين والمستهلكين من القوى الاقتصادية المستحدثة لما وراء البحار. 5-وعلى الرغم من محاولات اقناع سكان البلاد الاصليين ممن سحقتهم آلة احتلال ارضهم وقبولهم بالامر الواقع في التاريخ الاقتصادي للعنف الراسمالي ،الا ان ما يجري في غزة اليوم من تدمير عنيف هو بداية منظمة لنهب ثرواتها الطبيعية في الارض والمياه ولاسيما جرفها القاري البحري الغني بالغاز الطبيعي ، فهو في محصلته احتلال استيطاني راسمالي مركزي يقوم على تفسير دور العنف في التاريخ الاقتصادي للراسمالية ذلك بإخضاع بقايا سكان البلاد الاصليين للعيش في دواليب الملكية الخاصة وبناء الراسمالية و بادوات من التكنولوجيا الرقمية الحديثة تحيطها ايديولوجيا معبئة باساطير واوهام دينية تعود لمرحلة قد تلامس التاريخ الاقتصادي للاستبداد الشرقي Oriental Despotism . 6- ختاماً ، ان العنف الاسرائيلي في غزة ما هو الا بداية لقيام نظام اقتصادي شرق اوسطي جديد في تراتبية مع بدايات عسكرة الطاقة والثروات الطبيعية في عالم اسمه ما بعد الامبريالية .
#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حرب غزة : هنتغتون والامبريالية Huntington and imperialism
-
العراق والمسالة الفلسطينية: اغتراب التطبيع و حفر الدم
-
عنف اللادولة:غزة و الميكافيلية الجديدة.
-
المسألة الفلسطينية: المعادلة الايديولوجية .
-
الرأسمالية المركزية الموازية :بين الوجود والانصهار
-
المعادلة السياسية المشرقية في القرن العشرين : الحزب- الدكت
...
-
الاحزاب المشرقية من داخل وخارج مصفوفة نضالاتها السرية .
-
الاقطاع السياسي الموازي : تراجع الدولة- الامة.
-
انشطار الوعي على جدران العقد الاجتماعي.
-
الإِستِبدَال الثنائي السالب : بين العالم المركزي ومحيطه.
-
الاحتواء الموسع :الكانتونية الجديدة -New Cantonism
-
التَّضحِيَة…كربلاء انموذجاً
-
الصديق الخائن..
-
صبيحة الثورة في عيون الفتية: 14 تموز 1958
-
حوار النقد والاستجواب:النقد الاجتماعي والدولة
-
حرق الكتب السماوية:حرب ناعمة جديدة.!!!
-
التغيير الاجتماعي والسياسي الهجيني : ديناميات المجتمع المأزو
...
-
الدمعة الناطقة: طفرة في جذور المدرسة التفكيكية المشرقية
-
الحفلة التعاونية: بين المطرقة والسندان
-
السرد وملامح علم الدلالات :( السيمائيات-Semiotics )في الفكر
...
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|