|
العواصف تسقط الأوراق الميتة عن الشجر
منى نوال حلمى
الحوار المتمدن-العدد: 7789 - 2023 / 11 / 8 - 18:35
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أشعر بالعار من العالم ، عندما أدرك أن " الفقر " مازال يعربد فى مناطق كثيرة ، بل ازداد فى بعض المجتمعات البائسة . بينما البذخ ينفق على كماليات وانتاج الأسلحة لاعلاء قيمة سفك الدماء ، وعلى تكثيف بناء دور العبادة ، على مستحضرات التجميل ، وعلى المنشطات الجنسية ، والدجل والشعوذة وطرد الجن والعفاريت ، والحفلات والأفراح والجواهر والأزياء ، التى تبعثر الفلوس بشكل يثير الشفقة ، لا يدل الا على التعاسة ، وفقدان التوازن ، وهشاشة وتفاهة النظر الى الحياة . جرائم البشر فى السِلم ، أكثر بشاعة من جرائمهم ، فى الحروب المعلنة والخفية . ماذا نسمى قتل الفتيات والنساء ، على أيدى ذكور الأسرة ، لفقدهن غشاء البكارة ، رمز الشرف فى الأسرة الأبوية ؟؟. أشعر بالأسى ، لأن هناك على كوكب الأرض ، بلاد لا تجعل يوم يمر ، دون أن تحسن نوعية الحياة لشعوبها ، من تعليم وصحة وثقافة وفن وحريات عامة وحريات شخصية وقوانين ملزمة للجميع ، دون أى أساس عنصرى . بينما نحن فى بلادنا العربية الاسلامية ، مازلنا نكافح من أجل " بديهيات " ، عطلت مسيرتنا الحضارية الانسانية ، وجعلت الغالبية ونحن فى الربع الأول من القرن الواحد والعشرين ، مازالت تفكر بأسلوب العصور الوسطى . وعندما أتأمل هذه الفجوة الشاسعة بيننا ، وبين البلاد الأخرى ، أجد أن أحد الأسباب الرئيسية هى " تمجيد ثقافة الماضى " بكل عاداته وأعرافه وتقاليده ، والتى أغلبها ثقافة موت وليست ثقافة حياة ، ثقافة تغييب وليست ثقافة وعى ، ثقافة استعراض الشكليات وليست ثقافة الزهو بالجوهر ، بدلا من ازالة التراب المتراكم تحت السجاجيد والتعرض للشمس والهواء النقى ، نبقى الأشياء على ما هى عليه ، ونستنشق هواء مستهلكا منذ قرون . نحن لا يهمنا منفعة الناس ومصلحتهم وسعادتهم ورقيهم ن بقدر ما يهمنا الحفاظ على ما ورثناه من عادات وتقاليد وأعراف منذ مئات السنوات . بلادنا أسيرة العادات والتقاليد والأعراف ، ولا تريد التحرر والانعتاق . والأكثر خطورة ، القول بأن هذه العادات والتقاليد والأعراف ، هى " مقدسات " ، لا يمكن المساس بها . وتغييرها أو التفريط فيها ، هو خيانة للوطن ، وافساد للمجتمع ، وابتعاد عن الله ، وكفر بتعاليم الدين ، وتشبه بالغرب الكافر المنحل ، ومسح للهوية نعتبرها " هوية الوطن " و " خصوصية المجتمع ". اتهامات معلبة جاهزة موروثة ، مثل العادات والتقاليد والأعراف ، لا دليل حى أو ميت على صحتها ، وعقلانيتها . بل على العكس ، فالأدلة المادية الملموسة ، تثبت أننا مازلنا فى دوامة استهلاك عادات ، وتقاليد ، وأعراف الموتى . وما نشهده بشكل متكرر من من ردة ثقافية ، ونكسة حضارية ، وتأخر فكرى ، وتعصبات دينية طائفية ومذهبية ، وتضخمات ذكورية ، هى النتاج المباشر للجمود ، وعدم التفاعل الصحى السوى مع متغيرات الحياة ، والتشبث بالروح والدم بأزمنة ، انتهت صلاحيتها . بعض الناس يتكلمون ليل نهار ، عن " تغيير العالم " ، وهم عاجزون عن تغيير ملاءات الأسرة التى ينامون عليها . وهناك البعض الذين ينتظرون اللحظة المناسبة للتغيير ، ولا يدركون أن القضية ، أن نصنع نحن اللحظة المناسبة . فالتغيير لا ينزل من السماء ، ولا يحدث بالمصادفة ، وهو ليس منحة من أحد . التغيير " ارادة واختيار " . وهناك البعض ، وأعتقد أنهم الغالبية ، يرحبون بالتغيير . لكنهم يشترطون أن التغيير لا يجب أن يمس العادات والتقاليد والأعراف الموروثة . أنا لا أفهم ، كيف نتغير ، دون المساس بالعادات والتقاليد والأعراف ؟. ماذا سنغير اذن ، اذا كنا سنبقى على العادات والتقاليد والأعراف ، التى وُلدنا ووجدناها تتحكم فى حاضرنا ومستقبلنا ؟؟. العادات والتقاليد والأعراف، هى التى " تشكل " الحياة ، بكل تفاصيلها ، وفى جميع مجالاتها ، وهى التى تعكس أفكارنا ، ومعتقداتنا ، وعواطفنا ، وأخلاقنا ، وتحيزاتنا الوجدانية . وهى التى تنتج بالتالى ، الأحكام ، والادانات ، والعنصريات ، والتعصبات ، والتحالفات السامة التى تعطل تقدمنا الحضارى . ان الرقي الحضاري ، أو النهضة الفكرية ، والثقافية ، التى تحررنا من هذه التحالفات ، هو بالتحديد الخروج من سجن العادات والتقاليد والأعراف ، التي ورثناها من الموتى ، و التى نمنحها " القدسية " ، و " الثبات " ، ونعطيها حق اعتقال هويتنا فى قوالب حديدية ، تتستر وراء الفضيلة ، والتدين . العادات والتقاليد والأعراف الموروثة ، ليست مقدسة ، وليست ثابتة . والدليل على ذلك ، أن البشر على مر العصور ، قد قاموا فعلا ، بتغيير عاداتهم ، وتقاليدهم ، وأعرافهم . هناك الذين يتاجرون بالأديان والوطنية والشرف ، وهناك منْ يتاجر بالعادات والتقاليد والأعراف ، فهى بضاعة مربحة ، تريح الكثيرين ، العاجزين المحبطين . ان " الخوف " أشرس أعداء البشر وأخبثهم . والاستسلام له معناه الشلل الكامل . فلا حياة مع الخوف . الخوف من التغيير اذن ، تحت أى مُسمى ، أمر طبيعى ، ومفهوم . فالتغيير ينطوى على " مخاطر " مجهولة . لكننا لا يجب أن نخاف التغيير . فالتغيير هو الحياة . ومهما كانت مخاطره ، فهو أفضل من الجمود . نخاف العواصف ، رغم أنها تسقط الأوراق الميتة عن الشجر . وفى رحلة الصعود ، يكون السقوط واردا . لكنه ليس نهاية المطاف . فالرحلة بدأت . والبداية دائما هى الجزء الأصعب . نرفض تحكم الأحياء في مصير الأحياء ، كيف إذن نقبل تحكم الموتى في مصير الأحياء ؟. كيف لمنْ يرقد تحت التراب ، أن يكسر أجنحة منْ يريد التحليق ؟؟. لقد علمتنا الفلسفة ، أنه لا شئ " ثابت " ، الا " التغير " المستمر ، وان لم نشعر به . قال الفيلسوف اليونانى هيرقليطس ، أن التغير هو الجوهر الأساسى فى الكون ، وعبر عن ذلك قائلا : " أنت لا تنزل فى النهر الواحد مرتين .. فى المرة الثانية أنت لست أنت ، والنهر ليس هو النهر ". ان أكثر الناس حباً لأوطانهم ، هم الذين يغيرون .. هم الرواد والرائدات . التغيير ، دون المساس بالعادات والتقاليد والأعراف الموروثة ، أشبه بمنْ يريد النزول الى البحر دون أن يبتل ، أو بمنْ يريد صحة جسده ، مع الابقاء على بيئته الممتلئة بالأمراض .
#منى_نوال_حلمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- حماس - الجهاد المقدس لاتأسيس خلافة اسلامية عالمية
-
لنتجنب الخطر الأكبر
-
- مايسترو - جسدى .. قصيدتان
-
ماذا بعد ؟؟ .. قصيدة
-
القلب الخرب ... قصيدة
-
البيوت تُخرب لعدم التوزيع العادل للحريات والمسئوليات
-
مئوية ميلاد د . شريف حتاتة
-
القطة وأنا .. 8 قصائد
-
كل المنتجين قالوا لى : - آسفين نوال السعداوى جريئة والرقابة
...
-
سنغزو أوروبا بأرحام النساء
-
قضيتى .. وبيت القصيد الذى أتوق الى كتابته
-
أمى وأنا نتنافس على حب رجل واحد
-
عزيزى الرجل : - اقعد فى البيت اذا لم توفق بين بيتك وشغلك -
-
ما أهمية الفحولة الجنسية ؟
-
22 مايو 2023 الرحيل السادس لأبى شريف حتاتة عشت عمرى معه ولم
...
-
رد شرف الراقصة
-
التنميط والبرمجة لافتعال الفرح فى الأعياد
-
لا أحد يحب الفقراء الا أمهاتهم
-
حتى - فساتينى التى أهملتها - فرحت بى وأنا أكتب لذكرى ميلاده
...
-
كانت أمى .. قصيدة فى يوم ذكرى الرحيل الثانية
المزيد.....
-
وصفته بـ-وزير الإبادة-.. لحظة مقاطعة سيدة لكلمة بلينكن
-
آخر تطورات فاجعة حرائق لوس أنجلوس وأين يقف عدد الوفيات
-
أسفلها فضاء فارغ.. شاهد مغامرة أردنية معلقة بالهواء في سلطنة
...
-
هاجمته بكلام لاذع.. فيديو لحظة مقاطعة بلينكن خلال كلمة يشعل
...
-
استطلاع: واحد من كل ستة ألمان ينامون أثناء العمل من المنزل
-
-سبيس إكس- تطلق أول قمر صناعي لـ-بيرقدار- التركية
-
مستشار ترامب: اتفاق السلام بين إسرائيل والسعودية أولويتنا ال
...
-
-كراسنايا زفيزدا- تنفي استخدام صاروخ -كينجال- من قبل القاذفة
...
-
الغرق في -العسل الأسود-!
-
-إنفوبريكس-: لم يبق أمام زيلينسكي سوى خيارات قليلة
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|