محمود شقير
الحوار المتمدن-العدد: 7781 - 2023 / 10 / 31 - 14:26
المحور:
الادب والفن
اقتراح
اسمها سُكَيْنة.
قلت لها: أنتِ في غزّة وأنا في القدس؛ أكتبُ عنك وعن القدس وغزّة، فكيف نلتقي في ظلّ هذا الحصار؟ قالت: نستعين بخدمات الانترنت، ونفعل كلّ شيء، نملأ الدنيا صخبًا، ونتزوّج إن شئت. قلت: رائع، وسيكون لنا ثلاثة أطفال. قالت: أنت في غاية الاستعجال، فأين يسكنون؟ قلت: في غرف الدردشة. وحينما لا يكون ثمّة قصف جوّي أو اعتقالات، نصعد بهم إلى أسطح المواقع الإلكترونية، يلعبون مثلما يريدون، ونجلس أنا وأنت على حافّة أحد المواقع متلاصقيْن، نُدندلُ أرجلنا، يهتزّ بنا سطح الموقع ويميد ولا نبالي، نمعن في تأمّل الشعوب وهي تحيا حياتها مثلما تريد.
ماء الخيال
قبضتُ على يد سُكَيْنة وقلت لها: هيّا اركضي. ركضت معي وركضت معها حتّى نال منّا التعب. سألتها: هل تعبت؟ قالت: تعبت. قلت: علينا أن نبحث عن جرعة ماء.
تجوّلنا في بعض المواقع الإلكترونية الغاصّة بالنساء. نساء من كلّ الأعمار، في كامل عريهن. وضعتْ يدها على عينيها وقالت: أشعر بالخجل. قلت: لا داعي للخجل، فأنت أيضًا تتعرّين في السرير وفي الحمّام وعلى سطح الدار. قالت في محاولة لإنهاء هذا الحوار: من أين نحصل على جرعة ماء؟ قلت: نسأل تلك المرأة الواقفة في شرفة ذلك الموقع الإلكتروني الذي تشعّ من نوافذه الأضواء.
حيّيتُ المرأة بإشارة من يدي، وقلت: هل لديك جرعة ماء لي ولامرأتي؟ ردّت بعدم اكتراث: لا نقدّم هنا ماء لأحد. ثم أضافت: اشرب أنت وامرأتك من ماء خيالك.
شكرتها لأنّها نبّهتني إلى أمر غاب عن البال.
ابتعدنا، وكان ماء خيالي يتدفّق مثل شلال.
فجأة؛ وعلى غير توقّع منّي، اختفت سُكينة.
وجهًا لوجه
جاءتني سُكَيْنة.
جاءت فعلًا لا افتراضًا.
تنسدلُ خصلٌ من شعرها على الجبين. قلت لها: انتظرتك حتى يئستُ من ظهورك. فتّشتُ عنك مواقع إلكترونيّة عدّة، وتوسّلت القاصي والداني لكي أظفر بخبر عنك، فأين اختفيت؟ ولماذا غبت؟ وكيف جئتني الآن؟
ابتسمتْ وكانت لابتسامتها معانٍ شتّى، ثمّ راحت تتحسّس وجهي وشعر رأسي ويديّ وقدميّ. ما الذي تفعلينه يا امرأة؟ أريد التأكّد من أنّك لست شخصًا افتراضيًّا. أنا من لحم ودم يا امرأة، هل اقتنعت؟ نعم، اقتنعت. وأين اختفيتِ؟ لم أختف، وأنا أجيء الآن من غزّة إلى القدس. جئتِ متسلّلة بالتأكيد! نعم، جئتُ متسلّلة. سيقتادونك إلى السجن. لا يهمّني، ولن تختلف الحال عليّ. كانت تتشمّم باشتهاء روائح المدينة، وتتأمّل بشغف حيطانها وشبابيكها وأبوابها وكلّ شيء فيها.
قبّلت خدّيها وأنفها وشفتيها (لكي أطمئنّ إلى أنّها امرأة من لحم ودم) ثمّ قبضتُ على يدها ومشينا معًا في المدينة وتجوّلنا في كلّ اتّجاه، ولم نتوقّف عن المشي إلا حينما اصطدمنا وجهًا لوجه بالجنود الغزاة.
#محمود_شقير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟