منذ أن لفظ الشاعر الضحية جان دمو ﺁخر أنفاسه ليستكين إلى الموت بعدما أشبعته الحياة بؤسا وتهميشا وضياعا ، سارع العديد من الكتاب والأدباء ، وجمع من المتزلفين ، وكذلك أصدقاؤه للكتابة عن حياة الرجل الهارب من تقاويم الانحطاط وبلادة الانسحاق الشعري والكياني ، إلى الحياة بكل أشكال عنفها، و انفلاتها ، وتشردها ، ليس إنحطاطا لآدميته بل اعتراضا وتمردا على ﺁدمية وتعاليم وقوانين منحطة .
لذلك كثيرا ماروى الجميع عن تلازم هذا الشاعر المثخن بالخيبات بالسكر والنكوص إلى حانات ليستعذب غيابه الذهني ، تعويضا عن ذهن توخزه الحقائق المشوهة في وطن ليس لك من خيار فيه سوى الذهاب إلى الحروب ، أو المقابر الجماعية ( مقابر دون أسماء أو شواهد ) ، أو إلى الجنون .
لم تكن استكانة جان إلى الخمرة والسكر عبطا ، أو تفاهة ، أو فراغا ذهنيا ، بل نوعا من الاحتجاج على زمن أهوج ، زمن الوجع العراقي ، زمن تغييب النبلاء ( نبلاء الكلمة والموقف ) ، زمن تسيّد الرداحين والوشاة وكتاب التقارير . لقد كتب البعض بحب عن جان ، ولكن البعض الآخر كتب بهامشية أساءت لجان ، حيث وصفه البعض بالمتسول يستطعم تصدّق الآخرين عليه ويستجدي ( بونات الأكل والشرب ) في المهرجانات من المدعوين العرب ، و قد تثير مثل هذه الذكريات المفبركة ( أقرّ بصدق ضياعه ) قرف من لايعرف من هو جان دمو.
لم يتحدث أحد من ملازميه عن شاعريته أو ثقافته المغيبة في ظل ثقافة السلطة ، لم يتحدث أحد من أصدقائه عن إحتجاجاته على الأسماء المزيفة وسلاطين ثقافة المدح ، أو عن سبب جوعه وفقره وعريه الأبدي وهو الشاعر والمترجم الفذ والمثقف ( وكثيرا ماترغب السلطة بأمثاله وتغدقهم بنعيم الحياة كي تستعير خطابهم الثقافي ، خصوصا وأن أي سلطة قمع تفتقرلأي خطاب ثقافي بل تستعيره من المثقف الذي يعرض بضاعته للبيع ) .
ألم يكن سبب عذاباته هو رفضه الخضوع للبيع في سوق النخاسة وعكاظ المزايدات على الانبطاح وتشويه الضمائر ؟ .
ألم يكن سبب تذمره وهروبه من عالم اليقظة إلى السكرة والحانات ، هذا الكم الهائل من أدباء الزيف وجمع الأميين من مثقفي السلطة ونباحهم وعنجهيتهم المخابراتية وتشويه واقع الثقافة وقيمة الإبداع العراقي ؟.
ألم يكن سامي مهدي ، وحميد سعيد ، والجبوري ، وخالد علي مصطفى ، وعبد الرزاق عبد الواحد ، وعدنان الصائغ ، ولؤي حقي ، ورعد بندر ، وﺁخرون من مثقفي المؤسسة القمعية للسلطة ، ومروجي خطابها الدموي الداعر سببا في غيابه وانكفائه الحياتي الذي أوصله إلى هذا الموت المبكر ؟.
لقد كتب الشاعر الشاب حسن النواب عن علاقته بجان دمو وصعلكته وتوالت سلسلته ( حياة باسلة ) التي حاول فيها أن يؤرخ لزمن صعلكته مع جان وﺁخرين ، ورغم أن حسن النواب ومن خلال ماقرأته كان ملازما لجان ، لم تخرج مدونته لفترة ملازمته هذه عن لغة ذكريات الحانات والعرق المغشوش ، وتشردهم ، واستمرت سلسلته بهذه الذاكرة الهامشية للأصدقاء وحياة السكر والقيء ، ولكن هنالك دائما عذرا للمفجوع بموت صديق ، وربما تناصت ذاكرته لماض جميل من وجهة نظر النواب ، ولكن مايهمني هنا هو مصداقية كتابة الذاكرة ، لأنها مصداقية كتابة التاريخ ، ففي سلسلته التي تحمل الرقم 11 كتب حسن النواب عن عبد الزهرة الركابي كأحد فرسان مجموعتهم ، وصعلوك ينتمي لعالمهم وهو غير عالم السلطة بكل تأكيد ويذكر النواب الشاعر السلطوي الصائغ بنفس السلسلة : ( المرة الاولى التي التقيت بها الشاعر المبدع عدنان الصائغ ..كانت في نقابة العمال في كربلاء حيث جاء مصادفة لمتابعة التمارين لمسرحية دعبل الخزاعي وهي من تأليفه وأخراج سلام الخاقاني وبطولة الشاعر هاشم معتوق ..الغريب ان المؤلف من الكوفة والمخرج من النجف والفرقة المسرحية من كربلاء ..فسألته لم أخترت كربلاء لعرض المسرحية ..تفحصني الصائغ بعينين مرتبكتين وغمغم بجواب مبهم لم أتمكن من فك رموزه ..وكان له الحق فهو لايعرفني ..وخلال التمارين سأل أكثر من شخص عن هويتي .. ولما أيقن من صفاء سريرتي ..قال لي هامسا وهو يودعني الرقابة علينا هنا أخف .. وأفترقنا ..بالطبع لم يكن يومها الشاعر الصائغ معروفا ..بل في ذلك الوقت لم يكن قد نشر حتى قصيدة واحدة ..لكن اسمه سطع بشدة خلال الحرب مع ايران .. ... وتدفقت أشعار عدنان الصائغ .. وزاد من بريقها يوسف نمر ذياب عندما كتب مقالا نقديا في جريدة الثورة .. وعلى صدر صفحتها الثقافية ..وكان معجبا حينها بالمقطع ..تستفيق البنادق ..وتلاه الناقد الراحل البصري ثم صيحة عبد الاله الصائغ في ملتقى تموز الشعري أنتبهوا ..انه شاعر خطر ..وأنا أعني ما أقول .. وزاد العنفوان الشعري مدني صالح عندما جعل الصائغ بمنزلة السياب !!! ) .
ثم نقرأ وبنفس اليوم مقالة للركابي وهي تستعير ذاكرة الأصدقاء الصعاليك : ( وعلى أثر الحادثة الآنفة تصاعدت نبرة التحريض ضدي وخاصة من جلاوزة النظام السابق في الحقل الثقافي والصحفي وكذلك من قبل منافقي الثقافة أمثال الشاعر الإكذوبة عدنان الصائغ الذي تنكر لي وكتب عمودا" جنجلوتيا" في مجلة ( حراس الوطن ) جاء بعنوان ( من يحمي الأدباء ؟ ) والذي ورد فيه تلفيقا" وتفاصيل من نسيج خيال الشاعر الإكذوبة 00 وها أنا أعترف نادما" حيال إشادتي بشعره في إحدى كتاباتي أو أكثر على ما أذكر ، وبالتالي فإن الإعتراف بالخطأ فضيلة مثلما يقول المثل الشائع 0 وقد كنت أتحرق غضبا" لتعنيف الصائغ وليس لمعاتبته خصوصا" وانه ذكر في كتابته عني تفاصيلا" كاذبة وعلى سبيل المثال لا الحصر ( وفر الجاني بسيارة خاصة ) لكنه في ذلك الوقت كان موفدا" من قبل النظام الى القاهرة في ( مهمة ثقافية ) إلا ان لعبت الصدفة دورها عندما عثرت عليه في معرض للفن التشكيلي وكان برفقة زوجته حيث أسمعته أمامها كلاما" يليق بالنماذج الهزيلة التي هي من على شاكلته ، بينما هو راح يتحجج من كونه لا يعلم بأني كنت طرفا" في الحادثة وقد رددت عليه مفندا" 00 وكيف تكتب زورا" وبهتانا" عن طرف لم تعرفه؟ ! 0 الشاعر عدنان الصائغ ( الشاعر الإكذوبة ) وأمانة لتأريخ القمامة في فترة ما راح يراجع عباس الجنابي سكرتير المجرم عدي صدام لمدة شهر كامل محاولا" إستدرار عطفه من أجل أن يمهد له الطريق كي يقابل عدي بغرض إهدائه دواوينه الشعرية وقد تسنى له ذلك من خلال موافقة عدي على لقائه وتقبله إهداء الصائغ ، هذا وقد ظهرت المقابلة بالصورة والصوت ، وكان الصائغ يبدو فيها منتشيا" بالفرح والسرور سيما بعد أن تلمس الصائغ ( كرم ) المجرم عدي وأستلم ( المقسوم ) المادي 0 إذا" الثقافة العراقية أبتليت بمثل هذه النماذج الهزيلة والمتلونة والمنافقة – روحا" وممارسة – بدليل ان عدنان الصائغ جسد عمليا" هذا الهزال وهذا الإنحطاط معا" ، وإلا كيف نفسر رقيّ الشعر أو إنحطاطه عندما يتم إهداؤه الى مجرم مثل عدي الذي هو يتربع على روث الإنحطاط ، وبالتالي كيف يكون تقييمنا لمثل هذا الشاعر ؟ ! 0 )
من أكثر مصداقية في سرد الذاكرة وقول الحق، بحق المرحلة والوطن والأشخاص ومواقفهم النواب أم الركابي . وكيف يمكن لمن يعتبر نفسه منتميا للآخر أن يزور حقيقة رواها الآخر بسطوعها المعروف للجميع ، ولماذا يحاول النواب أن يصف الشاعر السلطوي عدنان الصائغ ( وهو أحد الذين تتعارض سيرته مع سيرة جان دمو ) وكأنه ثوري ومناضل متمرد على زمن البعث ( عدنان كان يشغل تحرير مجلة حراس الوطن وصحيفة القادسية التابعة للتوجيه السياسي في زمن الحرب ، وأي معتوه في العراق يعرف معنى هذا المنصب ) ، وذلك من خلال الإيحاء بجرأة وتحدي عدنان للسلطة بعرض مسرحيته في كربلاء وخوفة وارتباكه ممن يظنّهم وشاة ومخبرين وذوي نية سيئة في السؤال ، لا أعرف هل كربلاء كانت خارج نطاق سلطة البعث ، وهل مسرحها كان ينتمي لأحزاب المعارضة ، حتى تحاول الإيحاء بموقف لعدنان مخاصم لموقف السلطة ، كونه اختار مخرجا من النجف ، وكأن النجف وكربلاء ليستا كباقي مدن العراق في كثافة أجهزة الأمن والمخابرات والمخبرين ومنفذي القتل الجماعي بالعراقيين ، ثم أنك تؤكد سطوعه بقوة في زمن الحرب مع ايران ، هل هو مدح أم ذم للصائغ ؟
أما عن البصري ، وذياب ، ومدني صالح ، و صحبة الصائغ بحق عدنان ، كلّ هؤلاء كانوا في مشروع السلطة الثقافي وإن اختلفت اندفاعاتهم في هذا المشروع ، ثم إن المقالات التي كان ينشرها الصائغ في حراس الوطن لهؤلاء كانت تعود عليهم بمخصصات نشر ولك أن تعرف سرّ صناعة كذبة الشاعر الذي يضاهي السياب .
لا أعتقد أن من الأمانة أو حتى الأخلاص لروح جان دمو أن تقحم عالم الافاقين ورداحي السلطة والمنعمين بكرمها في تفاصيل ذكراه ، ففي الوقت الذي لايملك جان ثمن شراء تذكرة باص ، كانت مجاميع عدنان تذيل ب ( طبعت على نفقة الأستاذ عدي ) ، لا أعتقد أن من الأمانة أن تستعير شخص الصائغ وتصفه بالمبدع بينما تصف تاريخ جان وكأنه تاريخ سكر وتسول وهامشية ، هل أن جان هامشي كونه خرج إلى المنفى بفم أدرد ، ومجموعة شعرية يتيمة ساهم الأصدقاء بنشرها رغم عمره الأبداعي الذي يساوي عمر الصائغ الذي خرج بمجاميعه المطبوعة برخاء السلطة وبجوائزه الشعرية ( زمن قادسية الشؤم ) ، والمقالات التي كان جيش المستفيدين يكيلون مديحها بعضهم البعض ، خصوصا وأن الصائغ ابن بار لمرحلة السلطة وثقافتها .
لقد مات جان في المنفى وحيدا بائسا ، شاهدا على زمن العنف والزيف الذي عاشه ، مات جان مخلصا لوحدته وصمته النبيل وعذابه الثري ، بينما حصل الصائغ وبتزوير لتاريخ العذاب العراقي على جائزة ضحايا الأبداع الممنوحة له في هولندا ، بعدما زور ترشيحه لهذه الجائزة ناقد سلطوي وجمع من أصحاب الضمائر الرخيصة ، لا لشيء إلا لأن الصائغ كان رفيق مشروعهم وذاكرتهم وهم يردحون للسلطة ، لم يرشح رفاق الصائغ ( البعثيون ) جان دمو لجائزة ضحايا الأبداع والتي تليق بتضحياته في عدم الخضوع لسلطة العنف ، ولكنك رشحت الصائغ لمصطلح المبدع بينما استكثرتها على جان رفيقك في البؤس والصعلكة .
هل هو زمن الصائغ وتلاوينه هذا الذي نعيشه ؟ . وإلا ما الذي يجعل صحفا مثل طريق الشعب والثقافة الجديدة ومجلات وصحف معارضة ﺁخرى ، تمارس تنزيها لتاريخ الصائغ وﺁخرين ، وتمنحهم الصفحات ليدنسوها بتاريخ مزور عن عذاباتهم مع سلطة القمع ، بل يتطوع ( معارض ) مثل داوود الأمين ليكتب تاريخ نضال الصائغ وعبقريته الشعرية وفي جريدة طريق الشعب ، هذه الجريدة التي يمولها رفاق الأمين ممن يعيشون في منافي البؤس أو ممن سحقت عظامهم بمقابر جماعية في زمن الموت المجاني والجرائم السوداء للطاغية ، في نفس الزمن الذي كان يجلس فيه الصائغ على مكاتب مبردة في مؤسسات السلطة الثقافية الباذخة ( أليس من الواجب أن يمنح الأمين عظام رفاقه من الشيوعيين كلمة رثاء وفي صحيفة دفعوا حياتهم ثمنا لصدورها ) ؟ .
لقد رثى النواب جان فشكرا له ، وهو صديقه المخلص ، ولكن أتمنى على النواب أن لا يطعن جان بأمثال الصائغ بمماته ، بعدما طعنوه هؤلاء بحياته .