|
الجولان... ذاكرة الألم
إياد العبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 1734 - 2006 / 11 / 14 - 05:23
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كان ذلك في عام( 2003)، عندما قدمت إلى سوريا بعثة تلفزيونية فرنسية تعمل لحساب قناة(arte) الناطقة باللغتين الفرنسية والألمانية، لتعد برنامجاً عن سوريا عموماً، والشباب السوري خصوصاً؛ أو بكلمة أخرى برنامجاً عن سوريا في عيون أبناءها وبناتها من الجيل الشاب. وخصوصاً أن تلك الأيام كانت قد شهدت جلجلةً رسمية توحي بأن سورية مقدمة في عهد رئيسها الشاب على ما يشبه الثورة تحت مسميات من مثل " التطوير والتحديث"، مع أن شيئاً في الواقع لم يحدث حتى الآن، ولا يلوح في الأفق ما يبعث على الأمل!!. كان على هذه البعثة أن تقابل شباناً وشابات، كان من بينهم شاب وفتاة يدرسان في جامعة دمشق، و تجمعني بهما صداقة وطيدة، وكان قد رشحهما لأجل ذلك دكتور جامعي، فوافقا بعد أن اشترطا أنهما لن يكونا أبواقاً لأحد. ثم رافقا البعثة إلى العديد من الأماكن في سوريا حسب مخطط البرنامج. أذكر أنه قد صادف وجودي في دمشق أثناء الإعداد لهذا البرنامج، وكنت ألتقي بأصدقائي ليلاً لنتسامر ونتحدث عن سير الإعداد لهذا البرنامج، عن الأماكن التي زاروها ونوع الأسئلة التي وجهت لهما وكيف أجابا عليها... إلخ. إلى أن جاء يوم وقالا لي أنهما غداً سيرافقان البعثة إلى الجولان. قالا ذلك وهما مشتتين أمام رهبة هذا الاسم، أستطيع أن أقول أن هذا التشتت يجد له العديد من المصادر، فلهذه الكلمة خصوصية في وجدان معظم السوريين، فهي تشير إلى جرح يحفر عميقاً في الذاكرة السورية الصامتة- أوالمحكوم عليها بالصمت- و خصوصاً أنها مصادرة لصالح خطاب أحادي استطاب له أن يستبيح ذاكرة البشر والحجر والشجر...إلخ. كم كانا فرحين وخائفين؛ فرحين لأنهم أخيراً سوف يكحلون العيون برؤية هذا البعيد ـ القريب الجليل.. الجولان، وخائفين من هذه المواجهة، كيف سينظرون إليه؟ ماذا سيقولون إذا سئلوا عنه ؟ هل سيكفي أن يعتمدوا على معلوماتهم التي وردت في درس للجغرافيا عن " هضبة الجولان " وبعض الدروس المبسترة في مادة التاريخ ؟ أم على مادة " التربية القومية الاشتراكية " وما فيها من شعارات ما أغنت يوماً ولا أسمنت من جوع ؟ أم على البرنامج التعليمي " أبناءنا في الجولان"؟ كم كانوا فرحين وخائفين، وكم كنت أحسدهم في لحظات، وأخاف مثلهم من هكذا مواجهة... !! في الصباح ذهبوا، وفي المساء عادوا ومعهم أفراد البعثة التلفزيونية. كان يبدو أن شيئاً غير طبيعي قد طرأ عليهم جميعهم. " ماذا حدث ؟ كيف هو الجولان ؟ " بادرت بالسؤال. حزيناً كان جواب صديقي " إنه جميل، بل رائع... لقد شاهدنا الإسرائيليين، كانوا أمامنا، إنهم من الجيش... "، حولت نظري باتجاه السيدة سليمى معدة البرنامج، وهي فرنسية من أصل جزائري، ابتسمت وقالت: " الشباب متأثرين.." وتابعت " معهم حق، كان شيئاً مؤثراً ومؤلماً.."، بقيت ساهماً فيها، وكأني أطلب منها أن تتابع، وهذا ما فعلته " لقد ذهبنا من هنا ويرافقنا أستاذ في قسم الصحافة، تم تكليفه بهذا لكي يوضح لنا بعض الأمور، وبعد أن خرجنا من دمشق وقطعنا مسافة معينة أخبرنا أنه بعد هذه النقطة لا يوجد تواجد للجيش السوري حسب اتفاقية فصل القوات 1974، لا يوجد إلا بعض المخافر والدوريات للشرطة، وعندما وصلنا إلى الجولان، إلى الأسلاك التي تفصلنا عن الجولان المحتل، كان أول ما يسترعي انتباهك هو ذلك الفارق بين القسم الذي كنا فيه، والقسم المحتل،..." تدخلت هنا وسألت " كيف يعني "، تابعت سليمى " الطبيعة.. التنظيم.. البيوت.. كل شيء مختلف، في المكان الذي كنا نقف فيه لا يوجد سوى الفوضى.. يوجد الإهمال، الطبيعة فقيرة رغم أنها توحي بأنها لم تكن كذلك، هناك كانت الأمور على العكس، تصور أننا بحثنا عن علم سوري كي نصوره، وعندما وجدناه كم كان بائساً، الألوان باهتة، وقد حلّت فتداخلت الألوان ببعضها، صغير يرفرف بحياء.." قاطعتها " هل صورتيه" أجابت " نعم... العلم الإسرائيلي لم يكن كذلك.. لقد كان شيئاً مزعجاً بالفعل.." مازحتها " إنه أصلك العربي، لقد ظهرت حميته.." ابتسمت وتابعت " توجهت إلى مرافقنا أسأله هل من مبرر لهذا، لكنه هرب.. " قلت لها " ماذا سيقول؟ إن هذا العلم يعكس واقع الحال عندنا.. في سورية". تدخل أحد أفراد البعثة " ألا يرى الجولانيين ذلك، فمالهم يريدون العودة!!" ما كاد أن ينتهي من قول هذا حتى علت عليه الأصوات من كل حدب وصوب، سليمى وأصدقائي وبعض الحضور وأنا، تستنكر وتستغرب مما قاله، كل واحد منا بدأ في رده من فكرة إلا أنني أذكر أنها كانت تدور كلها حول الحرية و الوطن والهوية والاغتصاب والحلم والسيادة والتاريخ. ومن سياق هذه العاصفة التي هبت فهمت أنهم ذهبوا أيضاً إلى القنيطرة، فسألتها عن ذلك، قالت مستغربة " لا تستطيع الدخول إلى هناك بدون تصريح أمني.. " قلت لها " إنه استيلاء على الذاكرة.." قالت " كيف؟ ماذا تعني؟ " أجبت " في أقبية الأمن توجد الذاكرة السورية، إن التاريخ السوري الحديث يوجد هناك، أتذكر الآن قصة طريفة أن الباحث العراقي حنا بطاطو استعان بالأمن لإنجاز أحد كتبه، وهكذا نحن فالذاكرة هناك، وبالتالي لن يسترجع السوريون ذاكرتهم إلا بعد أن يسوّى هذا الأمر، أي بالديمقراطية والحرية واحترام الإنسان "، ابتسمت، ثم تابعت حديثها عن القنيطرة و الدمار الذي ألحقه الصهاينة بها، وكيف أن ما بقي منها يشير إلى أنها كانت مدينة جميلة، وأنه يجب على السوريين أن يذهبوا إلى هناك ليشاهدوا ما فعله الصهاينة. فقلت " أي يجب أن نمر بالأمن... " فقاطعتني مازحة " جيد، أي تمرون في الذاكرة.." ابتسمت وقلت " بل في فقدان الذاكرة، هذا إذا سمحوا لنا بذلك، يبدو أن القنيطرة يراد لها أن تتحول إلى ذاكرة خارجية بمعنيين.. الأول ذاكرة باتجاه العالم، المجتمع الدولي، تستعرض مكنوناتها أمامه بغية تحصيل بعض المواقع في المفاوضات أو في غيرها، أي كورقة يجري الدفع بها وقت اللزوم؛ والثاني ذاكرة خارجية بالنسبة للسوريين، أي كشأن لا علاقة لهم به، فهناك من يتدبر هذا الموضوع وما عليهم إلا أن يكونوا مرتاحي البال. وأعتقد أن الأول فشل بسبب الثاني فنسي العالم الجولان والقنيطرة لأنهما صودرا من وعي وإرادة وذاكرة السوريين، ودفع بهما إلى أعماق اللاشعور، أو إلى مملكة الصمت الرهيبة... ". غادرت سليمى ومعها البعثة والجميع، بعد أن قالوا أن الغد سيكون اليوم الأخير، وأن التصوير سيكون في بيت صديقي مع مجموعة من الشباب والشابات على شكل حوار؛ وبقيت أنا مع صديقي الذي لاذ بالنوم هرباً من تعب يوم حافل، ومني لما قد أسببه له من تعب وألم من وراء فضولي وأسئلتي، فالإجابة على الكثير منها صعبة ومؤلمة.
#إياد_العبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشباب السوري ولعنة الاغتراب
-
سورية الوطنية..سورية الديمقراطية
-
شذرات من وحي الشهيدة هدى أبو عسلي
-
الشباب الجامعي السوري: محاولة تصنيف
-
الشباب السوري.. السياسة والانتماء
-
الشباب السوري: بين جهاد الإقصاء وجهاد الحضور
-
الحوار/المظاهرة... وموضة الإساءة إلى السوريين
-
حلفاء الفراغ...
-
المجتمع السوري في وعي نخبه
المزيد.....
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
-
نجل شاه إيران الراحل لـCNN: ترامب و-الضغط الأقصى- فرصة لإنشا
...
-
-لقد قتلت اثنين من أطفالي، فهل ستقتل الثالث أيضا؟-: فضيحة وف
...
-
كيم: المفاوضات السابقة مع واشنطن لم تؤكد سوى سياستها العدائي
...
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|