|
رواية للفتيان بدر البدور طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7763 - 2023 / 10 / 13 - 20:48
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
بدر البدور
طلال حسن
" 1 " ـــــــــــــــــــ
بعد يوم طويل متعب ، قضاه الملك في إدارة شؤون المملكة ، مع الوزير وقائد الجند وقاضي القضاة ، عاد متعباً إلى القصر . وعلى غير العادة ، لم يرَ الملكة تسرع لاستقباله خارج جناحهما ، وخفق قلبه خشية أن تكون متعبة أو مريضة ، فهي منذ بضعة أيام ليست على ما يرام ، وكلما سألها : ما الأمر ؟ تطمئنه محاولة أن تبتسم : لا شيء ، يا مولاي . وأقبلت عليه وصيفة الملكة ، عند باب الجناح ، وانحنت له ، وقالت : مولاي . وتوقف الملك متسائلاً : أين الملكة ؟ فردت الوصيفة بصوت خافت : الملكة في جناحها ، يا مولاي . وحدق الملك فيها ملياً ، ثم قال : كان عليك أن تكوني معها الآن . فقالت الوصيفة بصوتها الخافت : الملكة صرفتني منذ قليل ، يا مولاي ، وأرادت أن تبقى وحدها . وقبل أن تنتهي الوصيفة من كلامها ، مضى الملك عنها مسرعاً ، ودخل إلى الجناح ، واتجه مباشرة إلى غرفة الملكة . وفوجىء الملك بالملكة تقف جامدة قرب النافذة ، تتطلع إلى حديقة القصر ، فأسرع إليه ، وهو يقول : لن أسألك ما الأمر ؟ لأني أعرف الردّ . والتفتت الملكة إليه متنهدة ، دون أن تتفوه بكلم ، فقال الملك : من عادتك أن تستقبليني بباب القصر ، فتزيلي بحفاوتك وابتسامتك تعبي وهمومي . وبدل أن تعتذر مازحة ، وتبتسم على عادتها ، قالت بصوت تخنقه الدموع : مولاي . وسكتت مغالبة دموعها ، فأخذها بين ذراعيه ، وقال : حبيبتي ، أنت وحدك كلّ حياتي . وانسلت برفق من بين ذراعيه ، وقالت : لن يكون لك مني .. ولي العهد . ومال الملك عليها ، وقال : ولمَ العجلة ..؟ وقاطعته الملكة بصوت باكٍ : لقد مرّ على زواجنا حوالي خمس سنوات . وقال الملك بصوت هادىء : لننتظر ، نحن مازلنا في مقتبل العمر . وهزت الملكة رأسها ، وقالت : لقد حاولت كثيراً ، لكن لا فائدة ، مولاي .. وقاطعها الملك قائلاً : هذا مستحيل . وقالت الملكة من بين دموعها : لا ، يجب أن يكون لك ولي عهد ، ومادمت قد عجزت عن .. ومرة أخرى ، أخذها الملك بين ذراعيه مربتاً على ظهرها ، فقالت الملكة بصوت تبلله الدموع : بل يجب أن .. تتزوج .
" 2 " ــــــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي ، وبعد انصراف الملك إلى شؤون المُلك ، أرسلت الملكة الوصيفة إلى أختها ، لتذهبا معاً إلى الساحرة العجوز ، التي تعيش وحيدة ، في كوخ منعزل ، وسط الغابة . وعادت الوصيفة وحدها بعد قليل ، وقبل أن تنطق بكلمة ، قالت الملكة متضايقة : يبدو أن أختي لا تريد أن تأتي معنا . فقالت الوصيفة : مولاتي تعتذر ، وتقول إنها متعبة . واتجهت الملكة إلى الخارج ، وهي تقول : هذا شأنها ، لنذهب أنا وأنت هيا . وسارت الوصيفة في أثر الملكة ، وقالت : لقد أعدّ السائس لنا حصانين قويين ، وهو يقف الآن بانتظارنا بباب القصر . وما إن رأى السائس الملكة مقبلة ، ومن ورائها الوصيفة ، تقدم بالحصانين ، وقال مخاطباً الملكة : مولاتي ، سأرافقكما إذا أردت . وامتطت الملك الحصان ، وقالت : لا ، أشكرك ، سترافقني وصيفتي . وانطلقت الملكة على حصانها ، والوصيفة على حصانها تنطلق في أثرها ، حتى عبرتا بوابة المدينة ، وانطلقتا بشيء من السرعة نحو الغابة . وتباطأتا على حصانيها ، حين دخلتا الغابة ، وتوغلتا بين الأشجار المتكاثفة ، وأخيراً لاح لهما كوخ الساحرة العجوز ، يربض وسط أجمة كثيفة الأشجار . وتوقفت الملكة أما باب الكوخ ، وترجلت عن الحصان ، وقالت لوصيفتها : أطرقي الباب . وترجلت الوصيفة عن حصانها مسرعة ، وهي تقول : أم مولاتي . وتقدمت من الكوخ ، وطرقت الباب ، و وقفت جانبا ، وهي تنصت ، ثم قالت : إنها قادمة . وفتح باب الكوخ بهدوء ، وأطلت الساحرة العجوز ، أشبه بهيكل عظمي ، محنية الظهر ، تتوكأ على عكاز غريب الشكل ، فمالت عليها الوصيفة ، وقالت : أيتها الجدة .. وأشارت لها الساحرة العجوز أن تسكت ، دون أن تنظر إليها ، فسكتت على الفور ، وتطلعت الساحرة العجوز إلى الملكة ، وقالت : عرفت أنك ستأتين . وتنحت قليلاً ، وقالت : تفضلي ، يا جلالة الملكة . ودخلت الملكة الكوخ متخوفة ، وهي تقول : أردت أن تأتي أختي معي ، لكنها .. وقاطعتها الساحرة العجوز : أختك مثلك ، لكنها ليست مثلك ، إنها لا تصدق قدراتي . ودخلت الوصيفة في أثر الملكة ، فأغلقت الساحرة العجوز الباب ، وقالت : الكوخ مظلم ، وهذا لا يهمني كثيراً ، فأنا أكاد لا أرى . ونظرت الملكة إلى الساحرة العجوز ، وقالت : أيتها الجدة ، جئتك لأمر هام ، وأتمنى .. وقاطعتها الساحرة العجوز ، وهي تغمض عينيها الكليلتين ، وقالت : أعرف لماذا جئتِ .. ورفعت رأسها ، دون أن تفتح عينيها ، وأضافت بصوت مرتعش : أختك .. التي لم تأتِ .. وقالت الملكة : إنها مثلي . وتابعت الساحرة العجوز قائلة بنفس الصوت المرتعش : سيكون لها طفل . وقالت الملكة بصوت مضطرب : وأنا ؟ وأطرقت الساحرة العجوز رأسها ، وقالت : صبراً .. أيتها الملكة .. صبراً .. صبراً .. لن تبقي محرومة من الطفل . وصاحت الملكة بنفاد صبر : متى .. متى ؟ وارتعشت الساحرة العجوز ، كأنه شجرة نفضية ، تضربها عاصفة ثلجية عنيفة ، ثم تراجعت ، وارتمت فوق سريرها ، كأنها جثة هامدة . وانحت الملكة عليها ، وقالت : أيتها الجدة . وردت الساحرة العجوز بصوت شبه ميت ، دون أن تتحرك : اذهبي أيتها الملكة ، أريد أن أنام .
" 3 " ـــــــــــــــــــ
في أعماقها ، شعرت الملكة ببذرة صغيرة تتخلق ، لكن في أعمق أعماقها ، التي جففها اليأس ، لم تشعر بتلك البذرة بتاتاً . أما أختها ، الأميرة نور الزمان ، ورغم فتور مشاعرها تجاه الساحرة العجوز ، وما تتنبأ به ، شعرت بفرحة تدغدغ قلبها ، وتمنت من كلّ قلبها ، أن تتحقق نبوءة الساحرة العجوز . ومرت أيام وأسابيع وشهور ، وكاد اليأس يستبد بالملكة وأختها نور الزمان ، وإذا بالأمل ينبثق فجأة ، فقد أفاقت الأميرة نور الزمان مبكرة ، ذات صباح ، وقالت لزوجها الأمير : إنني حامل . وقهقه الأمير ضاحكاً من لهجتها ، وقال : يبدو أنك رأيتِ هذا في المنام . فقالت الأميرة نور الزمان : لقد جاءتني في المنام .. الساحرة العجوز . وكفّ الأمير عن الضحك ، وقال : أنتِ لم تري هذه الساحرة من قبل . وردت الأميرة نور الزمان قائلة : هذا صحيح ، لكن حين جاءتني في المنام عرفتها على الفور . ثم نظرت إلى الأمير ، وقالت : إنني حامل ، يا عزيزي ، وسترى . وقد رأى الأمير ذلك ، وتأكد منه ، خلال أيام ، بعد أن زارت عدة نساء خبيرات بالحمل والولادة ، الأميرة نور الزمان وأكدن لها ، بأنها حامل فعلاً . وبقدر ما فرحت الأميرة نور الزمان وزوجها الأمير بهذا الأمر ، فرح الملك والملكة ، فقد راود الملكة الأمل في أن تتحقق نبوءة الساحرة العجوز ، وتحمل الملكة كما حملت أختها نور الزمان . ومرت الأيام والأسابيع والأشهر ، رخاء هذه المرة ، والنفوس مفعمة بالأمل ، وفي الموعد المحدد ، عمت الفرحة الجميع ، وفي مقدمتهم الملك والملكة ، فقد وضعت الأميرة نور الزمان طفلاً جميلاً ، أسموه .. محمد . ولم تدم الفرحة طويلاً ، فقد ذهب الأمير ، على رأس جيش من الفرسان الشجعان ، لصد عدوان قام به الأعداء على إحدى الثغور ، ودحرهم وألحق بهم شرّ هزيمة ، لكن يد الغدر والانتقام طالته بسهم مسموم ، لم يمهله طويلاً ، فرحل دون أن يهنأ بطفله الصغير .. محمد . وعمّ الحزن المملكة هذه المرة ، رغم ما تحقق من انتصار ساحق على الأعداء ، فقد كان ثمن هذا الانتصار غالياً جداً . وانكب الملك والملكة على الأميرة نور الزمان وابنها الأمير الصغير .. محمد ، وراحا يرعيانه كما لو كان ابنهما فعلاً ، مما خفف من هموم وأحزان الأميرة نور الزمان
" 4 " ـــــــــــــــــــ لم يكد عمر الأمير الصغير محمد ، يقترب من السنوات الثلاث بشهر أو شهرين ، حتى شعرت الملكة بحياة جديدة تتخلق في أعماقها . ورغم فرحها الغامر ، لم تخبر الملك بشعورها ذاك ، حتى أرسلت سراً ، إلى العديد من النساء الخبيرات المجربات ، أكدن لها جميعاً أن شعورها له ما يبرره ، وأن طفلها المنتظر لن يتأخر طويلاً . وغمر الفرح الجميع ، وفي مقدمتهم الملك ، وكذلك أختها الأميرة نور الزمان ، وطالما همست لأختها الملكة : أريد ابن عم لابني الأمير محمد . فكانت الملكة تجيبها فرحة : هذا ما أريده أنا أيضاً . لكن بدل ابن العم ، جاء للأمير محمد ، بعد أشهر تسعة ، ابنة عم ، ففي ليلة ربيع دافئة ، القمر فيها سطع بدراً وسط السماء ، ولدت الملكة طفلة جميلة ، وما إن رأتها الأميرة نور ، حتى هتفت فرحة : يا لله ، إنها كالبدر . وأقبل الملك فرحاً ، وأخذ الطفلة بين يديه ، وراح يتأملها ، وقال : حقاً إنها كالبدر . فقالت الملكة : لنسمها إذن .. بدر البدور . وضحك الملك فرحاً وقال : بدر البدور ، اسم جميل يليق بها ، هذا اسمها منذ الآن . وبمجيء بدر البدور ، راحت الأيام والأسابيع والأشهر تمر رخاء ، لا يكاد أحد يشعر بمرورها ، وكما الزهرة ، أخذت بدر البدور تنمو ، وتتفتح ، وتنشر عطرها وجمالها على من حولها . وبقدر تعلقها بأمها الملكة ، وأبيها الملك ، تعلقت بخالتها الأميرة نور الزمان ، وكذلك بابن عمها ، الأمير محمد ، الذي غدت مع الأيام لا تكاد تفارقه . وكبر الأمير محمد ، وإلى جانبه كبرت الأميرة بدر البدور ، وبدل أن تنصرف الأميرة إلى اللعب مع الفتيات اللواتي في عمرها تقريباً ، راحت تلعب مع ابن عمها وحده ، الأمير محمد . وحين كان الأمير محمد ، يتدرب وحده ، أو تحت إشراف مدرب متمرس ، على ركوب الخيل ، أو استعمال السيف أو القوس والسهام ، كانت الأميرة بدر البدور ترافقه ، بل وأحياناً تتدرب معه ، حتى تعلمت بعض ما كان يتدرب عليه . بل ، وعلى سبيل المزاح ، كانت تتحداه ، فيبارزها ضاحكاً ، أو يسابقها باستخدام القوس والسهم ، أو ركوب الخيل ، داخل المدينة ، وأحياناً قليلة ، كانا يتجاوزان الأسوار ، عبر إحدى البوابات ، لكنهما كانا دائماً يتوقفان عند حد معين ، ولا يمضيان بعيداً عن أسوار المدينة . وذات يوما ، خرجا بحصانيهما بعيداً عن أسوار المدينة ، حتى لاحت الغابة من بعيد ، وبدت للأمير محمد ، عالماً غامضاً مخيفاً ، وخاصة لأن الأميرة بدر البدور معه ، فتوقف بحصانه ، وقال : بدر البدور . وتوقفت بدر البدور ، وعيناها متعلقتان بالغابة ، وقالت : محمد ، لنذهب إلى الغابة . وردّ الأمير محمد قائلاً : لا يا بدر البدور ، لقد تأخر الوقت ، لنعد إلى المدينة . ونظرت الأميرة بدر البدور إلى الأمير محمد ، وقالت : عدني أن تأخذني مرة إلى الغابة . ولاذ الأمير محمد بالصمت ، فقالت الأميرة بدر البدور : لم نعد صغيرين ، يا محمد . واستدار الأمير محمد بحصان ، وسار به نحو المدينة ، وهو يقول : أنا لم أعد صغيراً . واستدارت الأميرة بحصانها أيضاً ، ولحقت بالأمير محمد ، وقالت : أنا أيضاً لم أعد صغيرة ، لقد تجاوزت الرابعة عشرة من عمري
" 5 " ـــــــــــــــــــ تحير الأمير محمد .. ما العمل ؟ الأميرة بدر البدور تريده أن يأخذها إلى الغابة ، ويتجول بها في شتى أرجائها ، لكنه يخاف عليها من مجاهل تلك الغابة ووحوشها الخطرة . ولم يمر عليهما يوم ، خرجا يلعبان فيه ، أو يمتطيان حصانيهما ، وينطلقان بهما متضاحكين ، داخل المدينة أو خارجها ، إلا وذكرته برغبتها في الذهاب إلى الغابة ، والتعرف على مجاهلها . وذات يوم ، اجتازا بوابة المدينة بحصانيهما ، وانطلقت الأميرة بدر البدور بحصانها ، وكأنها تريد أن تصل إلى الغابة ، فانطلق الأمير محمد في أثرها ، حتى أدركها ، وقال لها ، وهو يحاول أن يعترض حصانها بحصانه : كفى ، يا بدر البدور ، توقفي . وتوقفت الأميرة بدر البدور بحصانها ، وعيناها المسحورتان مازالتا متعلقتين بالغابة البعيدة ، وقالت : محمد ، خذني إلى الغابة . فتوقف الأمير محمد بحصانه قرب حصانها ، وقال : لم أجنّ بعد . فقالت الأميرة بدر البدور بنبرة تهديد مازحة : محمد . واستدار الأمير محمد بحصانه ، وقال : هيا نعد من حيث أتينا . واستدارت الأميرة بدر البدور بحصانها ، وسارت به إلى جانب حصانه ، وقالت : عِدني . وانطلق الأمير محمد خبباً ، وهو يقول : سأجن ، ولكن ليس اليوم . ولحقت الأميرة بدر البدور به ، وقالت : محمد ، لا تنسَ ، هذا وعد . ويبدو أن الأمير محمد ، لم " يجن " بالسرعة التي تمنتها الأميرة بدر البدور ، فقالت له ، وهي تقف معه خارج المدينة ، وعيناها مسمرتان بالغابة البعيدة : محمد ، لقد وعدتني . ونظر إليها الأمير محمد صامتاً ، فقالت : إذا لم تأخذني إلى الغابة ، سأذهب إليها وحدي . وفكر الأمير محمد ، أن بدر البدور هذه قد تقدم على ما تصرّ عليه ، وتمضي وحدها فعلاً إلى الغابة ، وقد يحدث ما لا تحمد عقباه ، فقرر أن يذهب هو أولاً إلى الغابة ، ويتجول فيها ، ويطمئن إلى خلوها من أي خطر ، قبل أن يأخذ بدر البدور ، ويحقق رغبتها فيخول الغابة ، والتجول فيها . وذات أمسية ، وكانت الأميرة بدر البدور تتجول كالعادة مع الأمير محمد ، في حديقة القصر ، توقفت في مواجهته فجأة ، وقالت : إنذار أخير . وتوقف الأمير محمد ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقالت الأميرة بدر البدور : حسن ، سأذهب وحدي . ونظر إليها الأمير محمد ، وقال : ستراك الدامية أو الديو أو .. فقاطعته الأميرة بدر البدور قائلة : ليكن .. وقال الأمير محمد : بدر البدور .. وقالت بدر البدور : لن يخسرني أحد غيرك . وصمت الأمير محمد ، فأضافت الأميرة بدر البدور : وهذا ما لن تتحمله . فقال الأمير محمد : أمهليني يوم واحد فقط . ونظرت الأميرة بدر البدور إليه مفكرة ، دون أن ترد عليه بكلمة واحدة .
" 6 " ـــــــــــــــــــ قبل شروق شمس اليوم التالي ، تسلل الأمير محمد من غرفه ، ثم اجتاز ممرات القصر ، على رؤوس أصابعه ، ومضى مسرعاً إلى الإسطبل . وبهدوء هيأ حصانه ، وقاده إلى خارج الإسطبل ، وهو يربت برفق على عنقه ، ويداعب معرفته الجميلة ، ثم امتطاه ، وانطلق به نحو بوابة المدينة ، دون أن ينتبه ، إلى أن السائس العجوز ، كان يراقبه خفية . واجتاز الأمير محمد شوارع المدينة ، شبه الخالية على حصانه ، ثم عبر بوابة المدينة ، وانطلق مسرعاً نحو الغابة ، وقد بدأت الشمس تطل بأشعتها الذهبية الدافئة ، من فوق أشجار الغابة . وتوقف الأمير محمد بحصانه ، عند مشارف الغابة ، وتلفت حوله متيقظاً ، وكأنما يتوقع فعلاً أن يرى الدامية أو الديو أو الغول ، أو أي وحش آخر ، يمكن أن يشكل خطراً على بدر البدور . وتقدم الأمير محمد بحذر شديد ، متوغلاً شيئاً فشيئاً في أعماق الغابة ، وتوقف بين الأشجار الكثيفة الأغصان ، فقد خيل إليه أنه سمع ما يشبه وقع أقدام حصان ، أم أنه غزال أو .. من يدري . وتلفت حوله منصتاً ، لا شيء ، لعل حواسه المستوفزة خدعته ، نعم ، فهو متوتر بعض الشيء ، أم أنه خائف ؟ وهزّ رأسه ، إنه حذر ، وهذا أمر طبيعي ، لكنه ليس خائفاً ، فهو .. الأمير محمد . وفكر الأمير محمد أن يعود من حيث أتى ، لكنه بدل أن يستدير بحصانه ، مضى به قدماً ، وراح يسير ببطء وحذر ، وعيناه اليقظتان تركضان أمامه ، مستطلعة الطريق ، متهيئة لكل طارىء . وتوقف بحصانه فجأة ، حين وقعت عيناه على كوخ صغير ، بدا وكأنه مختبىء ، بين أجمة كثيفة من الأشجار ، وقبل أن يقرر ما ينبغي أن يفعله ، فتح باب الكوخ ببطء ، وأطلت منه الساحرة العجوز . لم تبدر حركة من الأمير محمد ، فتطلعت الساحرة العجوز إليه ، ثم قالت : أهلاً بالأمير محمد . وردّ الأمير محمد ، دون أن يتحرك بحصانه خطوة واحدة : أنت على ما يبدو تعرفينني . فقالت الساحرة العجوز : وأعرف أمك نور الزمان ، وخالتك الملكة . وصمتت لحظة ، ثم قالت : وأنا من تنبأ بمولدك ومولد ابنة عمك بدر البدور .. وهزت رأسها ، وقالت بصوت متشنج : آه من .. بدر البدور . ومن بعيد ، ارتفع صت مختنق ، خائف ، مستغيث ، يصيح : محمد . واشتعلت أعماق الأمير محمد ، بنيران كحمم البركان ، وقال : إنها بدر البدور . واستدار بحصانه ، وانطلق بأقصى سرعته ، صوب مصدر الصوت ، وهو يصيح بأعلى صوته : بدر البدور .. بدر البدور . لكن لا من مجيب ، وتوقف منهكاً منهاراً ، وسط أشجار الغابة ، أهي بدر البدور من صاحت باسمه ؟ عجباً ، وما الذي يمكن أن يأتي بها إلى الغابة . وعند غروب الشمس ، عاد الأمير محمد إلى القصر في المدينة ، وكله أمل أن يكون ما سمعه في الغابة مجرد وهم ، أوحت له به تلك المرأة العجوز .
" 7 " ـــــــــــــــــــ عرف الأمير محمد ، حين عاد إلى القصر ، بعد غروب الشمس ، بأن الأميرة بدر البدور ، ليست في القصر ، وهذا ما أفقده رشده . وسرعان ما عرف ، من أمه هذه المرة ، أن السائس العجوز ، اعترف للملك بأن الأميرة بدر البدور ، قد امتطت حصانها ، قبل شروق الشمس بقليل ، وانطلقت خارج القصر . وعلى الفور ، انطلق الأمير محمد ، نحو الإسطبل ، وأمه تركض في أثره قائلة : بنيّ محمد ، إلى أين ؟ تمهل ، وأخبرني بما تريد أن تفعله . لم يتمهل الأمير محمد ، ولم يخبرها شيئاً عما يريد أن يفعله ، ودخل الإسطبل ، وأمه الأميرة نور الزمان وراءه ، وصاح : أيها السائس . وأقبل السائس العجوز لاهثاً ، وانحنى للأمير محمد ، وقال : مولاي . وقال الأمير محمد للسائس العجوز : علمت أن الأميرة خرجت ممتطية حصانها . فقال السائس العجوز : نعم ، يا مولاي .. وسكت لحظة ، وقال بصوت مرتعش مذنب : بعد خروجك ، يا مولاي ، بنصف ساعة تقريباً . وحدق الأمير محمد فيه مفكراً منفعلاً ، لكنه قبل أن يقول له أي شيء ، أقبل الملك والملكة مسرعين ، وقد استبد بهما الخوف والقلق . والتفتت الأميرة نور الزمان ، وقالت : بنيً ، جاء الملك والملكة . وقال الملك منفعلاً : أين بدر البدور ؟ ونظر الأمير محمد إليه متحيراً ، وقال : مولاي ، لم أرَ الأميرة اليوم ، ولا أعرف أين هي . وقال الملك : لكنك ذهبت إلى الغابة . وقال الأمير محمد : ذهبت وحدي ، يا مولاي . وقالت الملكة بصوت تبلله الدموع : إنها معك دائماً ، طوال الوقت . ونظر الأمير محمد إليها ، وقال : لم تأتٍ معي إلى الغابة ، والسائس يشهد بذلك . ونظرت الملكة إلى السائس العجوز ، فتململ محرجاً ، ثم قال : نعم ، مولاتي بدر البدور لم تذهب مع الأمير محمد ، لكنها على ما يبدو لحقت به ، بعد حوالي نصف ساعة . ونظرت الملكة والملك إلى الأمير محمد ، فلاذ بالصمت برهة ، ورمق أمه نور الزمان بنظرة سريعة ، ثم قال : لم أرَ بدر البدور في الغابة ، لكن .. وصمت الأمير محمد ، فقال الملك : لكن .. لكن ماذا ؟ فقال الأمير محمد ، وهو يقلب النظر بين الملك والملكة وأمه : عندما كنت مع الساحرة ، تناهى إليّ صوت من بعيد ، كأنه صوت الأميرة بدر البدور .. وصمت لحظة ، وعيون الجميع متعلقة به ، فقل بصوت مرتعش : تصيح .. كأنها تستغيث .. محمد . وعلى الفور ، استدار الملك ، ومضى خارج الإسطبل ، والجميع يسرعون وراءه ، وصاح : ادعوا قائد الحرس ، وجميع الحرس ، لنذهب إلى الغابة ، ونبحث عن بدر البدور .. الآن . 2012
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة للأطفال اليمامة البيضاء والجرافة قصة
...
-
دموع رينيت كتاب جديد للفتيان
-
رواية للفتيان الرحلة الثامنة
...
-
رواية للفتيان المعجزة
...
-
رواية للفتيان الغيوم السوداء طلال
...
-
رواية للفتيان صخرة آي طلال حسن
-
مسرحية للفتيان اورنينا
...
-
رواية للفتيان الغزالة
...
-
رواية للفتيان السندباد البحري طلال
...
-
رواية للفتيان دروفا ـ نارانا
...
-
رواية للفتيان سامو وسومو
...
-
رواية للفتيان النمر
...
-
رواية للفتيان البديل طلال حسن
-
رواية للفتيان الزواج المقدس
...
-
رواية للفتيان رجل النار
...
-
شجرة الزيتون
-
رواية للفتيان فتاة الحلم طلال حسن
-
رواية للفتيان طيف الاهوار
-
اللبوة الجريحة
-
رواية للأطفال حي ابن الإنسان
...
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|