أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - حسين خيرالله نهار - حوار مع اوس حسن















المزيد.....


حوار مع اوس حسن


حسين خيرالله نهار

الحوار المتمدن-العدد: 7738 - 2023 / 9 / 18 - 16:44
المحور: مقابلات و حوارات
    


أوس حسن:.. الفلسفة هي الذات المفكرة والفاعلة في الوجود الإنساني وجميع مناحي الحياة

حاوره:..حسين خير الله- بغداد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وكاتب مسرحي من مواليد 1984 ..له العديد من المقالات والدراسات في الصحف والمجلات العراقية والعربية والمنصات العالمية المختصة بالفكر والفلسفة
له نتاجات في السرد والكتابة المسرحية والتمثيلية.
مثلت مسرحيته الظل في عدة بلدان عربية وكانت مشروعا ً لتخرج عدد من الطلاب والطالبات في كليات ومعاهد الفنون الجميلة في العراق.
عضو الاتحاد العام للكتاب والأدباء في العراق
كاتب وباحث في الفلسفة وعلم النفس
له العديد من المحاضرات والندوات في الأندية والملتقيات الفكرية والثقافية، إضافة إلى المحطات الإذاعية والتلفزيونية.
صدر له في الشعر
فجر النهايات (2014)_بغداد
الغريب الذي نسي ظله (2018) سلسلة منشورات الإتحاد العام للكتاب والأدباء في العراق.
كتاب الأخطاء / دار النهضة العربية في بيروت / سلسلة أصوات الشعرية 2022
رسائل من أرشيف الموتى ( منولوجات سردية) عن منصة غراند ليبراري في لندن عام 2023.
السقوط في العدم ( يصدر قريبا ً)/ شذرات ونصوص فلسفية/ سلسلة منشورات الاتحاد العام للكتاب والأدباء في العراق.
وله مخطوطات فلسفية قيد الطبع ستصدر في الأعوام المقبلة.

عرفنا أوس حسن باحثا ً ومفكرا ً وشارحا ً لأهم أفكار الفلاسفة بأسلوبه الخاص ولغته السردية، يضيف بعضاً من أفكاره على ما يمس واقعنا الإجتماعي وواقع الإنسان الفرد، لكن ما الذي يحد من المشتغلين في الفكر والحقل الفلسفي في أن يبدعوا مفاهيمهم الخاصة، وإن يمتلكوا نظرة شمولية لما يمر به العالم الآن والإنسان الذي يعاني من انعدام المعنى، وما هو دور الجديد المنوط بالفلسفة أمام تحدياتنا الراهنة، حول مفاهيم الأخلاق / التكنولوجيا / العلم / الحضارة الرقمية والإنسان كان لنا هذا الحوار و هذه النزهة الفلسفية مع أوس حسن

1-...في ظل العشوائية واللامركزية التي يعيشها العالم، هل أنت من المؤيدين لمقولة موت الفلسفة؟ ..وهل هناك أمل لولادة فيلسوف كبير على غرار الفلاسفة المبدعين الذين عرفناهم في التاريخ؟
إن هذا السؤال يأخذنا إلى آفاق ومحاور عديدة تتضمنها الفلسفة، أولها إشكالية المفهوم التعريفي للفلسفة، والثاني هو مهمة الفلسفة في كل عصر من العصور، ومن هنا يجب أن ننطلق إلى الفضاء الخصب الذي يساهم في تكوين العقل الفلسفي، وآليات التفكير الصحيح التي تؤسس لولادة الفيلسوف، لكن قبل كل شيء دعنا نتوقف عند بعض الأمور التي يجب أخذها بعين الاعتبار في هذا الزمن الذي يسوده التشظي والتبعثر، والمعنى فيه دائم الانفلات والانزلاق من كينونة الإنسان:..أولاً إن أي فيلسوف هو نتاج عصره وزمانه، فلا يمكن للفيلسوف أن يهرب من واقعه المعاش بالمثاليات المجردة، ولا بالتذمر والشكوى من الابتذال والتفاهة اللذان يتغلغلان في عمق عالمه. الفيلسوف الحقيقي هو الذي يعوم على التفاهة بنفس الآلية التي يغوص فيها إلى الأعماق، وبهذا تتحدد شمولية الفلسفة وانتشارها في العديد من المسارب والبنى اللامرئية التي تتحكم بحيواتنا، إن كل المشكلات التي تمس صميم الحياة من اقتصاد وسياسة وفن ورياضة ودين، لا يمكن أن ينبري لها إلا عقل فلسفي قادر على الخلق والإبداع، وقادر على انتاج الفعل في الحياة، والعقل الفلسفي ليس حكرا ً على الفلسفة أو الحقل المعرفي، وإنما من الممكن أن تكون تلك المجالات قادرة على التفكير أيضاً عندما ينبثق هذا العقل من المجالات المتعددة التي ذكرناها، وبناء عليه يمكن للفلسفة أن تتحرر من النسق الذي هي فيه، ومن إشكالية التعريف نفسه الذي ظلت مقيدة به لآلاف السنوات، الفلسفة هي رحيل دائم في كل مناحي الحياة والإقامة فيها، بل أن الفلسفة هي غياب دائم لكل مركز أو أصل، وانطلاقا ً من هذا المفهوم يجب أن نحرر الفلسفة أيضا ً من النزعة الفردية ومن الاحتكار المعرفي لشخص بعينه، لأن عملية التفكير لا يمكن أن تتم بشكل فرداني مطلق، فنحن نفكر بواسطة الأشخاص والمجتمع والتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي.
إذا آمنا بديمقراطية التفكير وحررنا أنفسنا من أوهام العقل والقصور الفكري، يمكن أن تولد فلسفة حقيقية، مفهوم ابداعي خلّاق تنتجه مجموعة من العقول التي تتسم بالطبيعة التشاركية للمعرفة.

-2...اين هو موقع الفلسفة أمام هذا الغزو العلمي الذي يجتاح العالم والكون، وكيف يمكن أن تؤثر جدلية العلم والفلسفة في الواقع الذي يعيشه الإنسان الفرد؟أ
بعد أن غادرت الفلسفة المنطقة التي كانت تربطها بتفسير الظواهر الطبيعية والكونية، ومن ضمنها الفيزياء والرياضيات وعلم الفلك، اصبحت هذه المنطقة منوطة بالعلم وبالتجارب العلمية وحدها، لكن العلم في عصرنا الحديث استفاد كثيرا ً من التفكير الفلسفي ومن التجربة الفلسفية التي رافقت الإنسان على مدى القرون السابقة، فالعلم الآن ليس مقصوراً على تحليل الظواهر ولا على ثنائية الصواب والخطأ. إن القيم الروحية والإبداعية التي ينطلق منها العلم في عصرنا الراهن هي قبل كل شيء محاولة للإجابة عن اسئلة تتقاطع مع الدين والشعر والفلسفة، فأسئلة من قبيل " هل نحن وحدنا في هذا الكون؟ هل هناك حيوات سابقة لكوننا؟
هل هناك حضارات ذكية خارج كوكبنا أو مجرتنا ؟ هي أسئلة تثبت أن العلم قد غادر طابع الميكانيكية والجمود، ولم تنبثق في العلم تلك المرونة والمخيلة اللامتناهية، إلا بعد مرحلة تأسيسة سابقة في الأدب والفلسفة، وما تلاها من اكتشافات نظرية هائلة في ميكانيكيا الكم ونسبية أينشتاين، وفرضية الأكوان المتوازية وغيرها، وينسحب هذا الأمر أيضاً على العلوم الحديثة في كوكبنا المتمثلة في الهندسة الوراثية وتقنية النانو والذكاء الإصطناعي، لكن المعضلة التي تبقى قائمة هي في الذات الوجودية التي لا يمكنها أن تفهم العالم فهما ً منطقيا ً ومتسلسلاً، بل أن العقل البشري معرض للسقوط في الرعب والصدمات عندما يكتشف هذا التناقض المفجع بين الإنسان والعالم، لذلك فإن جميع الاكتشافات العلمية و التفسيرات الفيزيائية للظواهر، وما يرافقه من محاولات لتشييد بناء منطقي للعالم، لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن ينفذ إلى عمق التجربة الإنسانية المعاشة وإلى واقع الحياة، ولا يمكن أن يجد الحلول لذلك الإنسان الذي يتهدده المرض والفقر والشيخوخة والموت.
إن التجربة الذاتية عند كل إنسان تختلف من إنسان لآخر، والقيم والمعاني ومفاهيم الآخلاق لا يمكن أن تكون متشابهة عند جميع البشر، لكن المشكلات التي تمس الواقع والإنسان هي في أغلبها متشابهة ومتقاطعة مع بعضها، لذلك فإنا افضل الفلسفة القارية وأميل إليها أكثر من الفلسفة التحليلية، لأنها تجسيد حقيقي للذات المفكرة والفاعلة في الوجود الإنساني.
إن القيمة المشتركة التي يمكن أن نستخلصها من العلم والفلسفة، هي ذلك النشاط العقلي أو الجهد الذهني الذي يجعل العقل يغادر منطقة الراحة والكسل، وبالتالي سيكسبه هذا المران قدرة على تحطيم المركزيات والأوثان المقدسة والتي قد يصادق عليها بعض الناس لفترة طويلة من الزمن على أنها يقينيات وحقائق مطلقة.

3-..هل يمكن للإنسان أن يحقق الحرية الكاملة أم أن هناك قيودا ً طبيعية أو اجتماعية تحد من ذلك؟
أولا ً دعني اتوقف عند كلمة أو مفهوم " الحرية" رغم أنني كتبت كثيرا ً عن الحرية وتناولتها في مقالاتي ودراساتي عن الفلاسفة الوجوديين، إلا أنني الآن اكتشفت أن الحرية هو مفهوم ميتافيزيقي، كيان لغوي مجرد وغير فاعل في الوجود إلا بما تقتضيه الرغبة الإنسانية، قد لا يستسيغ الكثير من القراء هذه العبارة، لأنني سانطلق قبل كل شيء من الدوافع الأولية عند الإنسان، من غريزة الحياة نفسها.
إن الخوف هو انفعال متجذر وأصيل في الكائن الإنساني أكثر من الحرية نفسها، فأسلافنا الأوائل كانوا في صراع دائم مع الطبيعة وظواهرها المرعبة، وركبوا المخاطر وخاضوا الحروب مع الحيوانات المفترسة ومع بني جنسهم أيضا ً، وكان الإنسان يقبل احتمالية تعرضه للموت والفناء الحتمي
في سبيل ماذا؟ في سبيل غريزة البقاء التي أوجدتها الطبيعة في ذلك الإنسان.
هل عرف إنساننا الأول الحقد والانتقام والكراهية، وهل عرف الحرية كما نعرفها نحن اليوم؟
كلا إن الإنسان كان يريد أن يبقى فحسب. إن ظهور الحرية ترافق مع تمدن الإنسان ومع التطور الحضاري والفكري، وكان هذا متزامنا ً مع تطور القشرة الدماغية عند الإنسان قياسا ً إلى جهازه الحوفي.
إن الحرية التي تندرج تحت المسميات السياسية والاجتماعية والذاتية، هي مجرد أوهام وقانون عكسي لإرادة القوة يسير به نحو العبودية والانحطاط، إن العبودية المختارة تحت قناع الحرية هي أسوء الأخلاق وأشدها فتكا ً بالإنسان والحضارة.
وبغض النظر عن الحتمية البيلوجية والوراثية التي تسحق الإنسان وتمنعه من حرية الاختيار فالشخص الذي يكون في حالة من الإنسجام الداخلي والتوازن الذاتي، أو ذلك الذي تستقر في أعماقه سكينة من نوع خاص تكبح فيه جماح الرغبة المتاججة للموت أو للتدمير، ليس بحاجة إلى الحرية، لأن شهوة البقاء وطاقة الحياة عنده في أوجها، وهذا ما سيقودنا إلى أن الحرية منقوصة دائما ً لأن قانون الحرية ينفي نفسه بنفسه في كل مرة.
الحرية التي سأتحدث عنها تنشأ من الضرورة، تحركها عاصفة من التمرد الخالق والحدس الإبداعي، إنها القيمة القصوى ، لكنها ليست قيمة ذاتية أو مشتركة بين الناس كما يذهب سارتر وكامو، القيمة هنا هي الصيرورة الفاعلة في الوجود والتي تجعل العالم يقز خطوة أو خطوات عديدة إلى الأمام.
وإذا كان لا بد لنا أن نحني للحرية ونبتهل لها، فالنتذكر سقراط، برونو، كوبرنيكوس، غاليليو وغيرهم ..

4- هل لديك رؤية فلسفية مختلفة لمنظومة الأخلاق في العصر الحديث؟
إن عصرنا الحديث يعاني من معضلة فقدان المركزية، هناك فراغ في القيمة والمعنى لم ينجح الإنسان في ملأه حتى الآن ، ويعود السبب الأول إلى مرحلة ما بعد الحداثة التي أقصت العقل كمنظومة شمولية ميتافيزيقية في التعامل مع مشاكل عصرنا وأهمها مشكلة المعنى وما تبعها بعد ذلك من انهيار فعلي لسرديات كبرى في الفكر والسياسة والدين والفن، لذلك فإن العصر الذي نعيشه هو عصر يتسم بالتخلخل وعدم الثبات، إنه عصر اللايقين، والعدمية في اقصى تجلياتها ورعبها المتوحش. ومن هنا لجأ الإنسان في مواقع التواصل الاجتماعي إلى خلق مركزياته الخاصة، وهي مركزيات صغيرة تعبر عن قيم فردية تتراوح بين الملل والتفاهة والابتذال من جهة، وبين العمق والاغتراب المعرفي والبحث عن الهوية الإنسانية من جهة أخرى. إن هذا التعدد والاختلاف والتشظي هو الجذمور الدال على حضارتنا الرقمية المتفجرة الذي خلق بدوره جذامير صغيرة ذات طابع سايكولوجي دائم القلق تحاول أن تسد ذلك الفراغ العقيم في الحضارة بتعددها ومساربها المعرفية، لكن هذا الفراغ هو فجوة يزداد عمقها ولا نعرف لها قرار أو مستقر كلما قمنا بسدها أو ملئها، لان الحقائق ما إن تظهر حتى تختفي بسرعة، الأمر الذي يجعل كينونة الإنسان دائمة السيلان والتدفق، فما أن تمسك بحقيقة ذاتية أو خارجية حتى يكون مصيرها الانفلات والانزلاق من تلك الكينونة، وولادة حقيقة أو حقائق جديدة مكانها وهكذا دواليك.
أما بالنسبة لمسألة الأخلاق في عصرنا الحديث فهي مسألة متشابكة نوعا ً ما.
إن الإنسان كتلة متناقضة وهو في حالة موت وولادة دائمة، وهو مزيج من الخير والشر، لكن بنسب ودرجات متفاوتة
وسأقوم وفقا ً لذلك بتصنيف مجموعة من الأخلاق وفقا ً لتجربتي الذاتية، وهي الأخلاق الدينية والاجتماعية والطبيعية والكونية
إن الأخلاق الدينية والاجتماعية تعتمد في مبدأ عملها على آلية التكرار وعلى العادة البشرية المتوارثة والسائدة، وهذه الأخلاق تفتقر إلى البعد الإنساني الحقيقي وإلى القيم الروحية والكونية، لأنها غير مقرونة بالتجربة الحقيقية المعاشة للذات وصيرورتها الوجودية، وبالتالي فإنها لن تمنع الإنسان من الوقوع في الشر بوصفه النقيض الأخلاقي الذي يعطي ديمومة أخرى وفاعلة في هذا الوجود. والأخلاق الدينية والاجتماعية تستند إلى منظومات ثقافية راسخة وجدران متينة من الميتافيزيقيا، وهذه الأخلاق في قسم كبير منها هي أخلاق العبيد التي قام نيتشه بتحطيمها في كتابه ما وراء الخير والشر، ورأى أن الأخلاق الحقيقية هي أخلاق السادة التي تتصف بالقوة والشجاعة والجمال، وهي أخلاق غير مكتسبة ولا مشوهة لأنها وليدة الفطرة الإنسانية السوية، والحياة العارية للفرد أمام الطبيعة بلا تزويق أو رتوش، والإنسان بقدر ما تحركه إرادة القوة والرغبة العارمة في البقاء والسلطة، بقدر ما يملك شعاعا ً متوهجا ً من الجمال والإبداع والتناغم مع إيقاع الطبيعة وقوانينها اللامرئية. إن الإنسان هنا لا يتبرىء من جسده ومن غرائزه المادية الأساسية، لأنها يدرك أن الجزء الحيواني فيه هو جزء اصيل وحقيقي وهبته له الطبيعة، وعندما يكون الجسد سليما ً ومعافى من الأمراض؛ فإن العقل سيكون سليما ً وصحيا ً وله القدرة على إدارة مبدأ التوازن والإنسجام، والذي بدوره سيؤدي إلى طريقة صحيحة في التفكير والعمل.
أما الذي يحاول كبت حاجات الجسد والتنصل من غرائزه الأساسية فإنه سيكون معتل الجسد والعقل، والكبت هو الذي يولد الأوهام والخيالات غير الواقعية المتمثلة في عوالم الدين والميتافيزيقيا والمثل المجردة. إن مفاهيم مثل / العدالة / المساواة / الديمقراطية / الحرية / التضحية / الشفقة / الذنب/ هي تشبه تماما ً الشرور المكتسبة التي أبتدعتها أخلاق العبيد كالمكر والانتقام والكذب والكراهية، لأن الجسد المريض ينتج عقلاً مريضاً، والعقل المريض هو السبب في أن تمرض الحضارة برمتها وتسقط في العدمية كما يعتقد نيتشه.
اما الأخلاق الكونية فهي مرحلة يبلغها الإنسان تصل به إلى ما فوق الأخلاق البشرية، وهي تنبع من الوعي الكوني ومن نظرة العقل الشامل للأحداث والأمور، أخلاق تعلو على الوجود والزمن، لكن لا يمكن للإنسان أن يبلغ تلك المرحلة من الأخلاق إلا بعد صيرورة من الألم والتجارب القاسية، وبعد أن يكون محققا ً لجميع احتياجاته المادية والغرائزية، فيستطيع أن يكون متجاوزا ً للحيوان الذي في أعماقه، فالأخلاق الكونية لا تأتي بقفزة مفاجئة عن طريق الوعظ أو الزهد والتأمل الباطني، وإنما تسبقها مراحل ديالكتيكية يكون الإنسان منغمسا ً فيها بالخطايا والشرور واللذائذ الحسية وما يرافقها من قلق وانهيارات وعوالم سوداء من الاغتراب والعزلة.
إن الأخلاق الكونية التي أتحدث عنها ليس لها غاية أو دافع ولا تبشر بقيمة ذاتية أو مشتركة، لذلك فهي لا تهدف إلى السعادة أو تحقيق الفضيلة وتجسيدها، فالسعادة قد تكون متحققة في أعمال الشر، والمنحرف أو الخارج عن العرف الإجتماعي قد يمتلك من الخير والفضائل ما لم يمتلكه شخص متزن وقويم السلوك اجتماعياً. تتحرك الاخلاق الكونية وفقا ً لقانون الواجب والضرورة، لكنه ليس الواجب على الطريقة الكانطية، كما أنها لا تؤدي إلى كينونة عليا تقذف الإنسان في أحضان الإيمان كما هو الحال عند كيركيغورد. من يتحلى بالأخلاق الكونية لا يوجد في ذهنه مفاهيم عن الخير والشر، أو اللذة و الألم . إنه مصاب بسحر اللاجدوى وحر من أدنى الارتباطات والتعلقات في هذا العالم.
الأخلاق الكونية تنبثق مثل شعاع في لحظات من الإلهام والتجلي، وما يدفعنا لتلك الأخلاق هو النقص الذي يعتري العالم والكائنات والإنسان، فالمحبة والصبر والتعاطف الوجداني والتضامن الكوني في الكوارث والآلام الإنسانية، لا يمكن أن يعيشها الإنسان إلا بعد أن يتحول جوهر المعاناة من الفردي والذاتي المحض إلى الكوني والمتعالي، فتصبح هذه الأشياء حتمية ومقدرة تدفعها فطرة الوعي الأسمى للحركة والدوران والاستمرارية، تماماً مثل حركة الفصول وتعاقب الليل والنهار ومثل كل الأشياء التي تتحرك وتدور دائما ً كالأرض والكواكب والمجرات، وذلك النور الذي يخترق أوردة الظلام في كوننا الفسيح والأكوان الأخرى البعيدة. الأخلاق الكونية هي العتبة الأولى لأن يصبح الإنسان وعيا ً محضا ً عندما يشعر بوجوده يتجلى ويفيض خارج كينونته المادية وإدراكه الحسي المحدود.

5-..كيف يمكن للفلسفة أن تساهم في فهم العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا في عصر الذكاء الاصطناعي والربوتات المتقدمة ؟
دعني هنا أستعين بمفهوم هام جدا ً للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، وهو الإطار، والإطار يشير إلى نسق العالم وتشكلاته التي تقطن الكينونة البشرية وتكون سابقة على وجودها، فالعالم التكنولوجي هو الإطار الذي يحدد طريقة الكينونة البشرية في هذا العالم. لذلك فعلى الإنسان أن يغير من طريقة فهمه للكينونة عندما يكشف عن حدث أصيل ومتميز تعي فيه الكينونة وجودها الخاص واختلافها. لقد كتبت مرة شذرة فلسفية عن الإنسان والوجود الثالث، فمع العالم الرقمي الذي أصبح حقيقة واقعة، لا بد أن نعيد صياغتنا للمفاهيم الفلسفية مرة أخرى، بل وإبداع مفاهيم جديدة لا تنفصل عن واقعنا المعاش.
لقد صنفت الفلسفة ولقرون عديدة نوعين من الوجود:..وجود ذاتي للفرد، ووجود موضوعي يمثل العالم العارجي. لكن لم يلتفت أحد في عصرنا الحديث للوجود الافتراضي أو الخيالي. هذا الوجود الافتراضي هو الذي يجمع الوجود الذاتي مع الوجود الموضوعي، بل أنه يمثل تجليات الكينونة ومجمل النشاط البشري في العالم.
أما بالنسبة للتكنولوجيا، فهي ليست وليدة عصرنا الراهن، التكنولوجيا وجدت مع الإنسان الأول وكانت تدفعها الحاجة والضرورة لتطويع الطبيعة، فالتكنلوجيا بدأت من تطوير وصناعة أدوات الصيد إلى وسائل الإنتاج بكافة أنواعها، ثم تشييد الحضارات وبناء المدن والقصور والسيارات والطائرات والسفن العملاقة الضخمة والأقمار الصناعية.
إن الإنسان في كل مرحلة من تاريحه الانتاجي كان قادرا ً على التأقلم والتكيف مع وجوده الجديد، فتحفزت عنده الكثير من المهارات الاجتماعية واليدوية والفكرية، وفي عصر الموبايل والحواسيب المتنقلة نلاحظ أن أجسادنا وطريقة تفكيرنا أصبحت متكيفة وأكثر سلاسة في التعامل مع تلك الآلات ومع ذلك لم نفقد هويتنا الإنسانية .
إن الفلسفة دائما ً حاضرة بقوة وقادرة انتاج المعنى والحياة، ومثلما وجدت عند الإنسان الأول في أعماق الكهوف، فهي موجودة عند إنسان المستقبل في الفضاء أوذلك المتطور من سلالتنا وجيناتنا البشرية.



#حسين_خيرالله_نهار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار مع اوس حسن
- البحث عن المعنى الفلسفة الهندية إنموذجاً


المزيد.....




- 450 عامًا.. عمر صناعة الحبر الياباني بالأقدام.. ماذا نعرف عن ...
- ضبط عشرات الألعاب النارية في حقيبة محمولة بمطار في أمريكا
- بتصاميم مبهرة.. أنفاق مائية تربط جزرًا نائية بين أيسلندا واس ...
- أذربيجان: -عوامل خارجية مادية وفنية- وراء تحطم طائرة الركاب ...
- مدفيديف: لا يمكن التسامح مع ما فعلته السفينة النرويجية
- عشرات القتلى والمفقودين.. الجيش الإسرائيلي يدمر منزلا على رؤ ...
- عراقجي يكشف عن أهم أهداف زيارته للصين
- ألمانيا ـ دعوات لتكثيف المراقبة لمكافحة جرائم السكاكين
- أوكرانيا تخسر 600 جندي في محور كورسك خلال آخر يوم وإجمالي خس ...
- الرئاسة الفلسطينية تدين إحراق الجيش الإسرائيلي مستشفى كمال ع ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - حسين خيرالله نهار - حوار مع اوس حسن