|
قصة التشمال و ذو هِراوتينِ ..
احمد الحمد المندلاوي
الحوار المتمدن-العدد: 7732 - 2023 / 9 / 12 - 23:20
المحور:
كتابات ساخرة
# قبلَ أنْ يأوي الى فراشه،أحضر هِراوتينِ كبيرتينِ من أغصان الجوز،أخذ ينظفهما ويصقلهما جيداً؛ثم أتى بخنجرينِ كبيرينِ أيضاً،نظرَ اليهما بإمعانٍ ودقّة مهمهماً مع نفسه بكلماتٍ أقرب الى نشيد حماسي،كما يجري في مقدّمات ذكر الملاحمِ التاريخية و الوطنية.ثم وضع رأسَه على وسادة قديمة مملوءة بريش الدجاج و الأوز،ظهرت نتوءات من بعضها للعيان كدبابيس صغيرة تخدشُ الجسم من فوق الملابس أحياناً،ردّد مع نفسهِ: - غداً سترونَ بأسي و شدّة ضربي،أيُّها الطامعون الأنذال بضيعتي،و أملاكي،سأجعلكم جذاذاً,وهشيماً تذروه الرياح في كلِّ وادٍ،وعبرة لمن اعتبر،أيّها السفلة..يا جرذان،أخرجُوا من جحوركم و أنفاقكم ..سأقتلعكم غداً من جذوركم المتهرئة النتنة .. سكتَ قليلاً،وانقطع عن الكلام..وتنفّس عميقاً.. وشرع مامه دو كورز و - هذا لقبه - بالكلام ثانيةً: - هذه التلول و المرتفعات – يشيرُ بسبّابته اليمنى الى الجهة الشرقية من المنازل- لي ورثتها من أجدادي القدامى و أنتُم تريدون سلبها مني..هيهات هيهات لن تكونَ لكم أبداً ما دمتُ حيّاً!! ما أنتُم إلا ريش في مهب هاتينِ الهراوتين، أنظروا..ها هما تحتَ هذه الوسادة السميكة – يرفعها قليلاً..لينظر إليهما ببهجة - و يواصل كلامه الشبيه بالبلاغ العسكري: - إنَّهُما هنا تريدانِ إشارةً خفيفة منّي كي تهجما عليكم ..يا أوباش ..يا جِيَف..يا قليلي الحياء..إنَّهما قويّتانِ كصاحبهما – مدَّ يدَه اليمنى الى شاربه المفتول - ثم ضرب برؤوس أصابعِهِ على صدرِه من الأعلى كَمَنْ ينقرُ على بابٍ خشبيّ، و ليكمل خطابه،قائلاً: - ألم أقلْ لكم إنّي بطل مغوار؛ لا أعرف المداهنة و لا المساومة ،و لن أعترف بالصلح معكم ..اسمَعوا جيداً..أنا والإسكندر الكبير كنّا في أكاديمية الفروسية العليا معاً .. لقد مرَّ من هنا و علمتُهُ بعض الأمور الحربية التي فاتتْه من فنونِ الكرِّ و الفرِّ؛و لكنْ غدر به الزمان؛ و بقيتُ أنا لأقاوم أمثالكم أيّـها الأنذال..صمتَ قليلاً،و تابع حديثه: - غداً سترون بأسي و... صوته جهوريٌّ مسموع لكنّه لا يخرج من فضاء الطارمة (قاعة أشبه بالمضيف)..ولا يكترث أحدٌ من أهله الذين طالما قد تعوّدوا على سماع هذا الصراخ ،و هذه التهديدات و الوعيد..نام على نبرة أنغامه البطولية كالطفل الذي ينامُ على هدهدة أمّه..وأحياناً يفزُّ من النّوم متمتماً بها. نهض مبكراً،جلس بقرب الموقد الطيني آخذاً رغيفاً من الخبز الحار مع كوب من الحليب و بيضتينِ..وقام مسرعاً ماسكاً بهِراويتيه،بعدما علّق خنجريه في شالِهِ العريض ..سأله كبير الأسرة: - الى أين يا مامه ؟ أجاب بشيءٍ من الغضب و الإنفعال : - ألا تعلم؟؟..الى هؤلاء الذين لا يفقهون ..أنذال ..خفافيش .. سيرون بأسي ..و شدّة ضربي..لا أُبقي لهم باقية..هذا يوم الحسم معهم. وكانَ في الدار ضيفٌ كريم ..ينصتُ الى همهمةِ هذا الرجل بتعجب، و لكنْ آثر السكوت على البوح بسؤالٍ يراوده منذ جلوسه للفطور،أيظل صامتاً؟ أم يسأل؟! ربما يحتاج هذا الرجل الى مساعدة ما و عونٍ..و هو وحده سيقاوم هذا الجمع الذين يهددهم منذ ليلة أمس حتى الآن،أجل لابدّ من السؤال..قبل أن يهمَّ صاحبُنا بالذهاب الى ساحة المعركة،هذا ما كان يتحدثُ به الضيف مع نفسه،في هذه الأثناء همَّ (مامه دوو كورز) بالخروج،وهو يتمتم بتلك التهديدات العنيفة حاملاً هراوتيهِ و خنجريهِ..و قربةً صغيرة مع زوادة متواضعة..وضعها على كتفه بعدما علّقها بنهاية إحدى هراوتيه. الضيف يحاورُ نفسه،دعْني أسألْ إذاً ، و إلا ستفوتُ الفرصة،و ربما تقع له كارثة لا تُحمد عقباها: - الى أينَ سيذهب عمُّكم هذا ؟ و هل يحتاج مساعدة ما،و عوناً منّا،لا تتركوه وحده في هذا المأزق. قهقهَ صاحب الدار بوقار،مخاطباً ضيفَه الكريم بلطفٍ: - لا تخش عليه إنَّه البطل الأسطوري الذي يحاربُ الشجيرات البريّة، و الأدغال،و عرق السوس،والشوك في أعلى تلك الهضبة،وفي تلك المرتفعات القريبة (أشار إليها بيده)..هذا ديدنُه يا عزيزي الحاج منذ أربعين عاماً إنَّه من أعمامي..إنّه مصابٌ بداء العظمة و مرض الوهم و الكبرياء .. سكت الضيف متأثراً بما سمعه من صاحب الدار،و أفكار تراوده عن هذا الرجل (مامه دو كورز..) إنَّه ذو قامة طويلة،ولون برونزي جميل،وشعر أشقر،ممتلئ الجسم..وللأسف مصاب بهذا الداء اللعين!!و هو مستمر في مخاطبة نفسه ..لابدّ من سبب في ذلك.مثلاً صدمة نفسية أو مرض طارئ..وأخشى أن أسأل أكثر فأُرمى بالفضولِ،أو التدخل فيما لا يعنيني،و أنا ضيف طارق،و لكن صاحبُ الدار كما يظهر لي من الأكارم و الأجاويد،ولا أظنّه يسيء بيَ الظنَ الى هذا الحدّ،إذاً سأتحدّث: - ما حكايةُ عمِّكم هذا؟ صاحب الدار و هو يلفُّ سيكارته المزبن من التبغ المحلي: - نظر اليه بنوع من التأمّل،بان عليه شيءٌ من التأسف و الحسرة..عمّيَ هذا الذي يُدعى (مامه دو كورز..) و اسمه محمد علي خان .كان من وجهاء الأسرة و صاحب مضيف ،متعلّم ،ثري،و يملأُ العين ،بل كان يحسده أقرانه على جمالهِ و كمالِه..شاء القدرُ أن يصادفَ فتاة غجرية جميلة فوقع في غرامها،و هام بها كالعشّاق الذين سبقوه من شيرين فرهاد،أو مجنون ليلى.. أراد الزواج منها ألا أن العرف القبلي و الطبقي لن يسمح بذلك ،و كان أمرُ زواجه منها أمراً مستحيلاً ..مما حدا برئيس القبيلة (التشمال) أن قام بطرد أولئك الغجر عن حياض ديارهم، خوفاً على فتى العشيرة من الهيمان و الولع بها أكثر. وما أن أحسَّ بذلك التآمر عليه حتى فقد وعيه ، وذاكرته ، و جنَّ جنونه، وأصيب بداء الوهم و العظمة،و يحمل هراوتين و بقية أسلحته كلّ صباح ليقاتل أعداءه الوهميين ..و في قرارة نفسه يبحث عن عشيقته الغجرية الراحلة،ولذا سمّي بـ (مامه دو كورز..) أي ذو هراوتينِ،و يتقمص أحياناً شخصيات أسطورية مثل البطل رستم زال،و أبو جاسم لر و نابليون وغيرهم..و نحن نراعي وضعه النفسي علَّ الله أن ينجيه من هذا الداء. الضيف ينصتُ بكلّ إمعان الى هذه الحكاية المأساوية،فأردف قائلاً : - صحيح ما تفضّلتم به .. و صناعة العدو الوهمي من اختصاص الحكّام الطغاة،ليسلبوا راحة المواطنين،ويمتصّوا خيراتهم في خلق معارك وهمية،و اصطناع الخطر،وذلك لمدّ نفوذهم و تثبيت سلطانهم ..تحت ذريعة سلامة البلاد و سيادتها،و ما أكثرهم في هذا الوقت!!.. نعم و لكن أخونا (محمد علي خان..) أشرف منهم بكثير،يبحث عن حبيبته بهذه الطريقة الطريفة دون أن يؤذي أحداً،وما أشبهه بـ (دونكيشوت) فارس الوهم في أوربا. أحمد الحمد المندلاوي 7/5/2013م * قصة قصيرة من وحي حكاياتنا الشعبية الكوردية .
#احمد_الحمد_المندلاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من أهداني.كتابا ..أعطاني بستانا
-
كريم حسن خانة
-
(باوه كورزين)...
-
قزلباشية من نيسابور الى مندلي
-
باقطنايا_ مندلي والمحلة المفقودة
-
الإنسان المعاصر بين التغابي و التذاكي...
-
صاحب الكردلوجيا حطَّ رحاله ..
-
أخبرني بهلول عن فلسفة الجمال..
-
وقار المدن الطيبة ..
-
أقد م شاعر كوردي فيلي مندلاوي ..
-
شاعر بندنيجي بأربع لغات
-
مؤلف قل نظيره في تاريخ العربية
-
تمهيد التماهيد ..
-
لواهج أحد المثابرين ...
-
نظرة على علم المكتبات ..
-
مائدة بلا طعام ..
-
قل للمليحة في مندلي..
-
حارات مندلي الحبيبة /ديالى
-
مقالة حياتية ترنو الى السعادة..
-
بصمات في ذاكرة الستينات ..
المزيد.....
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
-
الفيلم الفلسطيني -خطوات-.. عن دور الفن في العلاج النفسي لضحا
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|