كاترين ميخائيل
الحوار المتمدن-العدد: 1729 - 2006 / 11 / 9 - 11:38
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
استلقينا سيارة الى مدينة حدودية متاخمة لسوريا, ومن هناك انحدرنا الى احد الشوارع وبحوزتنا قليل من الطعام والماء بانتظار شخص يأتي الينا ليساعدنا في العبور في وقت متفق عليه وهو منتصف تلك الليلة. كان برفقتنا دليل كردي, تركي الجنسية, قادنا الى مزرعة للحنطة, كان الربيع قد احالها الى قطعة خضراء مكتظة بارتفاع يتجاوز المتر فاستطعنا الاختفاء فيها بانتظار المهرب الذي كان من المفروض ان يصلنا منتصف الليل. ولى الليل وانبلج الصباح دون ان يصلنا ذلك الشخص واصبحنا في حيرة من امرنا, لا نستطيع مجرد رفع رؤوسنا فاقل ما كان يمكن ان نلاقيه هو محاسبة اصحاب ذلك الزرع الذي كسرنا سيقانه الخضراء .
نهار آخر انقضى دون نتيجة ونحن لا نقوى على القيام باية حركة, لا طعام لدينا, وفي الليل يشتد البرد فاضطررنا الى ارتداء كل ما وقع تحت ايدينا من ملابس. كيف ينقضي الوقت في انتظار, وترقب كل لحظة بانتظار ما سيحدث من تطورات. كان معي قاموس انكليزي صغير بدأت بتقليب صفحاته لقتل الوقت الرتيب. في اليوم الثالث لاحظنا حوامة تطير باتجاهنا قدرنا انها طائرة زراعية تقوم برش المبيدات على الحنطة. كانت الطائرة ترش المبيدات منطقة اثر اخرى, ونحن ايضا نتحول كلما ابتعدت لنختار مكانا آخر ضمن المزرعة. لقد انقذتنا خبرتنا في كردستان وعلمتنا كيفية الاختباء عن الانظار وخاصة قائد الطائرة. كنا نزحف ببطء شديد على الركبتين واليدين, كلما ابتعدت الطائرة عنا, وصادف ان حلق الطيار فوقنا فكورنا انفسنا بطريقة فنية واضعين فوق رؤوسنا ملابسنا ذو اللون الترابي ودون ان نقوم باية حركة. كنا منتشرين في بقعة تفصلنا الواحد عن الآخر, بحيث يتهيأ للطيار انه يرى اكوام تراب او اكوام حجارة.
بعد ان غادرت الطائرة, كانت رائحة المبيد تذكرنا بسموم القنابل الكيمياوية التي القيت علينا في كردستان العراق, مما جعل الرفيق زيا يعلق على الموقف بقوله:" نجونا من كيمياوي صدام لنقتل بكيمياوي الحشرات في تركيا!" بدأت طاقاتنا تخور, لا ماء لا غذاء, لليوم الثالث على التوالي, انهكنا الانتظار, وفي الحادية عشرة مساء جاء الشخص المطلوب ومعه آخر, وحثنا على التهيؤ للانطلاق, وكان معه قنينة ماء مع قليل من الخبز تقاسمناها. بعد مسيرة ساعتين وصلنا طريقا ترابيا يرتفع عن الارض بحدود المتر وتليه مباشرة الاسلاك الشائكة. لدى عبورنا الشارع ظهرت امامنا فجأة مدرعة وانوارها الكاشفة تحركها يمينا وشمالا الى الامام والخلف. التصقنا بالارض وكأننا كومة حجارة. كان الشخصان المكلفان بتهريبنا مسلحين ببندقيتين سريعة الطلقات من نوع كلاشنكوف, سحبا الاقسام استعدادا للمجابهة, لكن المدرعة مرت دون ان تلاحظنا.
انطلقنا مع الدليلين الى نقطة العبور عبر الاسلاك الشائكة التي تم قطع قسم منها بمقص كبير حمله المهرب في حزامه. ونحن نزحف تحت الاسلاك تلك علقت جواربي بالاسلاك واضطررت لسحب قدمي بقوة لافسح المجال للشخص الذي بعدي فنصحني المهرب الفقير قائلا: "لا تمزقي جواربك, اسحبي ساقك بهدوء." ضحك زيا لذلك الموقف, قال: "انظري الى هذا المسكين! انه يفكر بالجوارب ولا يدرك مدى الخطر الذي يحيط بنا!" ونحن نترقب عودة المدرعة تلك بين لحظة واخرى, بعد اجتيازنا للخط الاول من الاسلاك الشائكة, صادفتنا اسلاك اخرى مكورة ومتراصة ومتداخلة الواحدة تلو الاخرى, يبلغ عمقها خمسة دوائر, قام المهرب بقطعها جميعا ليهيء منفذا نستطيع عبوره. خرجنا سالمين وسرنا في طريق مظلم منبسط نشعر بملامسة الحشائش لاحذيتنا دون ان تصدر اصواتا, متوغلين داخل الاراضي السورية. شعرنا بالاطمئنان نوعا ما. وعندما وصلنا الى ينبوع ماء شربنا منه ولشدة عطشنا لم نكن واثقين بان كل ما في الينبوع من ماء يستطيع ان يروي ظمأنا! سقطت على الارض من شدة الاعياء ومن كثرة شرب الماء ثم رفعني الرفاق ابو روزا الجنوبي مع زيا .
كنا اربعة مع مهرب, هم انا وزيا وسالم وابو عراق, ابو روزا , بينما كان ستة آخرون مع مهرب آخر وصلوا قبلنا. تمزق حذائي وبدأت اسير باقدام لا تقيها غير الجوارب بالرغم من وجود احذية اخرى معي لكنها كانت ذات كعب عال, كنت قد ادخرته لحين وصولي الى المدينة. كنت قد هيأت ملابس خاصة حين وصولنا الى القرية السورية (وهي بدلة نسائية وفستانين احدهما بلون بني والآخر احمر داكن, في الصباح الباكر وصلنا الى احدى القرى. قصدنا الى الدار التي هيأت لاستقبالنا, فاعد لنا ساكنوها وجبة فطور لذيذة وارتشفنا اقداحا لا تحصى من الشاي الذي كنا متعطشين له. تهيأنا للرحيل الى المدينة ولكننا فوجئنا بسيارة شرطة واقفة امام الباب طوقونا على الفور وامرونا برفع ايدينا الى الاعلى والسير امامهم. عاملونا بقسوة وهمجية وخشونة وكأننا مهربي مخدرات او سلاح او تجار عملة. ودفعوا بنا الى السيارة. استجمع زيا شجاعته وقال لهم: "لماذا تعاملوننا بهذه القسوة قبل ان تعرفوا من نحن؟" اجاب احدهم: من تكونوا ؟ قطعت حديثهم مباشرة وقلت :" نحن بيشمركة هربنا من المعسكر المخصص لنا في تركيا. نحن من كردستان العراق " فقاموا بتفتيش حقيبتي بعد ان كانوا قد فتشوا البيت, فوجدوا فيها صورا مع جواز سفر احمله ولا يعود لي. قلت ان لدينا في سوريا اصدقاء ضمن منظمة حزبية معارضة للنظام العراقي وانتم تدعمون المعارضة العراقية لذا يجب ان لا تعاملوننا كمجرمين قبل ان تتأكدوا من هويتنا. نحن نقاتل ضد النظام في العراق ولكون ظروفنا في تركيا تعيسة لا تطاق قررنا الهرب واللجوء اليكم", قالوا: هل معكم آخرون؟" قلنا: لا نحن اربعة فقط". قادونا الى مخفر للشرطة ووضعونا في حديقة المخفر وجلبوا لنا الكراسي للجلوس لا يسمح لنا الحديث بيننا كل واحد في زاوية وبدأوا يعاملوننا باقل شدة .
بعد ساعة نودي علي وسألوني هل انت من عناصر البيشمركة؟" قلت: نعم" وسألوا عن تلك الصور, قلت انها صوري التي تثبت صحة كلامي التقطت في اماكن ومناسبات مختلفة في مناطق عملياتنا. وعن الجواز الذي بصحبتي؟ انه لرفيقة لي استشهدت واعتز به لانه ذكراها الباقية لدي. سألوني عن اسم الرفيقة فاعطيتهم اسما مستعارا واشرت اليها ضمن الصور التي كانت بحوزتي. واستمر التحقيق عن عملي فاستغربوا كيف تكون في صفوف البيشمركة فتاة بهذه الدرجة العلمية, قلت لهم انها قناعتي واسلوب الحياة الذي اخترته لنفسي. سألوني ايضا عن كيفية العبور من الحدود واسم الشخص الذي تعاون معنا, وبدأوا باستجواب بقية الرفاق كل على انفراد.
في هذه الاثناء جرى الاتصال بمنظمتنا الحزبية وسألوهم هل لديكم استاذة جامعية اسمها د. سعاد ضمن قوات البيشمركة؟, كان الرفيق لا اتذكر اسمه على الخط معهم, اجاب بالايجاب: فاخبروه بانها في معسكر اللاجئين في تركيا . ثم اردف قائلا انها هنا عندنا. لم يسمح لي بالتدخل والتكلم معه.
بعد ساعة كان الرفيق قد وصل وكانت الساعة الثانية بعد الظهر واستقبلنا بقبلات حارة وحفاوة بالغة, اطمأن الضابط المسؤول باننا لا نكذب عليه فسمح للرفيق باصطحابنا. اخذني مباشرة الى بيت ابو جوزيف توما توماس حيث استقبلتني ام جوزيف بفرح غامر واستغربت لهيأتي وملابسي التي شبهتها برأس لهانة! لشدة الاهمال وارتدائها الواحدة فوق الاخرى كيفما اتفق تجنبا للبرد. قضيت بضعة ايام عندهم استعدت فيها قواي واستمتعت بتغذية جيدة ونوم مريح وهي المرة الاولى التي انام على سرير, بحيث لم يغمض لي جفن في الليلة الاولى الا بعد وقت متأخر. فقد كنا اعتدنا النوم على الارض طيلة الفترة التي قضيناها في صفوف البيشمركة. خرجت بعد ذلك الى السوق لابتاع فرشاة اسنان ومعجون, كانت فرحتي كفرحة الطفل عندما يقتني شيئا جميلا وذلك عندما فرشيت اسناني في ذلك اليوم. بعد مضي عدة ايام غادرنا الى دمشق بطائرة, (حيث كان لدي جواز قديم في دمشق مما ساعدني في استعماله للمغادرة عن طريق الجو لاحقا).
استقبلني ايضا الرفيق ابو عامل وعاصمة في مسكنهم في برزا انا ورفاق آخرين. في اليوم الثاني ذهبت مع عاصمة الى السوق لشراء بعض الحاجيات الضرورية: قميص نوم, حذاء صيفي, ملابس داخلية, منشفة … الخ. وبقينا في البيت نفسه لمدة شهر زارنا فيه ضيوف من مختلف الدول, كنت اثناء وجودي هناك مستمرة بالاتصال مع اخي ازاد المتواجد في ايران ومحاولة اخراجه من هناك لانه متضايق لدرجة كبيرة. كان قد خرج من المعسكر ليسكن مع امرأة آثورية ايرانية تحترمه كثيرا وكانت قد اخبرتني بانها تحاول مساعدته في الحصول على تأشيرة سفر الى اية دولة, كنت دائمة الاتصال بهما وكانت مسرورة لهذه المبادرة.
خلال ذلك زارتنا عائلة المرحوم نعوم زورا من كاليفورنيا. والملفت للنظر انه بالرغم من تهيئتنا كل اسباب الراحة لتلك العائلة وسعينا لمراعاتهم بدقة, وتنظيم جولات سياحية لهم, الا ان ولدهم خالد, وعمره 14 عاما, (يبدو انهم ربوه تربية امريكية خالصة) كان دائم الشجار مع والده. سألته مرة: ماالذي يزعجك؟" قال انه لا يرغب في زيارة الدول العربية! كان يناقش والده بجدية وكنت اصغي انا للحوار بانتباه. انه متعصب, الى العظم, لامريكا ونمط تفكيره لا يخرج عن ان العالم كله يجب ان ينقاد الى امريكا التي هي سيدته! ولا شئ يسعده غير امريكا .
بعد ثلاثة ايام وفي الثانية بعد منتصف الليل توعكت صحة اخته نانسي حيث اصابها مغص معوي شديد نقلت على اثره الى المستشفى وشخص الطبيب الحالة بانها بسبب الماء الذي يختلف عما تعودته معدتها. في الصباح قرر الاب السفر الى الاردن بصحبة اولاده ومن ثم الطيران الى امريكا. كان خالد مسرورا للقرار فهو سيتخلص من سوريا التي لم يشعر نحوها باية مودة على الاطلاق! ودعناهم في التاسعة صباحا بعد ان تحسنت صحة نانسي قليلا.
بعد ايام وصلت ابنة خالتي كفاح من الجزائر ومعها كتاب الموافقة على قبولي استاذة في احدى الجامعات الجزائرية. كانت فرصة كبيرة لي ولكن مشكلتي في الحصول على الجواز. بعد جهود مضنية حصلت على جواز عراقي جديد من خارج سوريا وبواسطته حصلت على تأشيرة السفر الى الجزائر.
اعتدنا استقبال الضيوف يوميا, فمنهم من هو قادم من موسكو عادل او بلغاريا اخي المرحوم باسل مع زوجته لينا او من اوديسا عامل مع عائلته. كانوا جميعا مسرورين لنجاتنا من الموت. وفي هذه الاثناء بدأت اعمل الترتيبات اللازمة للسفر الى الجزائر. كان الاقرباء في كندا وامريكا يرسلون لي الملابس, ولكني كنت بحاجة ماسة الى النقود لشراء تذكرة الطائرة الى الجزائر وسعرها 450 دولار وكذلك كان لا بد من شراء بعض اللوازم الضرورية. فطلبت من المنظمة اقراضي مبلغ 1000 دولار كدين اعيده بعد مباشرتي العمل في الجزائر, ولكنهم رفضوا طلبي مما حز في نفسي, وآلمني هذا الموقف السلبي. كان ذلك بمثابة ضربة موجعة لي, طيلة فترة النضال والسنوات السبع في جبال كردستان لم يدر في خلدي يوما ان افكر بالمال, ولكن الواقع فرض نفسه الآن, ولو كان احد القياديين قد طلب المساعدة لوهبت له كمنحة دون مقابل!
سبب ذلك الموقف كثيرا من الاحراج للرفيق ابوعامل, وهو شخص قيادي, وآلمه كثيرا ولم يجد ما يرد به اما غضبي واستيائي وتهجمي على تصرفات القياديين تلك. وهذه احدى الممارسات التي لا تحصى ولا تعد تضيف الى مجمل السلبيات التي كانت تشخص دون ان تلقى الحل الايجابي السليم.
07/11/2006
#كاترين_ميخائيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟