|
دول جمهوريات الموز
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 7719 - 2023 / 8 / 30 - 04:50
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
استخدم المثقفون في الألفية السالفة، في عصر اليسار والشيوعية والاشتراكية تعبير (جمهوريات الموز) للإشارة إلى الدول الديكتاتورية المحكومة بالطغاة وأصحاب رؤوس المال، ممن كانوا يُعادون الديموقراطية والاشتراكية، فقد كان مثقفو العرب يصفون بعض دول العرب بأنها جمهوريات موز أي حكومات ديكتاتورية! اقتُبس مصطلح (جمهوريات الموز) من الروائي الصعلوك والكاتب الأمريكي الساخر، أوليفر هنري المولود عام 1862 والمتوفى عام 1910م، وكان اسم الرواية التي ظهر فيها مصطلح، جمهوريات الموز هي رواية (الملفوف والملوك) The Cabbages and Kings كتبها عام 1904م. عاش الكاتب تجربة ديكتاتورية الحكام في ظل حكام دول أمريكا الجنوبية، رصد خلال إقامته في تلك البلدان بسخرية مُرَّة كيف قررت أمريكا أن تحتل هذه الدول وتسخرها لخدمتها بلا جيوش أو معارك حربية، فقط باستخدام سلاح شركات التجارة الأمريكية، اقتبست أمريكا هذه التجربة الاحتلالية من بريطانيا في القرن التاسع عشر، حين استخدمت بريطانيا شركة الهند الشرقية لاحتلال بعض الدول، ففي عام 1840م زرعتْ هذه الشركة مخدر الأفيون في الهند وباعته في أسواق الصين لإذلال الصينيين، ونشر إدمان المخدرات! وقد برزت فكرة جمهوريات الموز في ذلك العصر حينما طُرح سؤالٌ أمريكي إقطاعي: لماذا يُتعب الأمريكيون أنفسَهم، ويخصصوا مساحات واسعة للزراعة وينفقوا عليها الأموال، ويستهلكوا أرضهم، وفي الوقت نفسه هناك بديلٌ رخيص الثمن؟! كانت الإجابة على السؤال هي أن تتولى شركات أمريكية خاصة احتكار زراعة الموز والفواكه في تلك البلدان، وأن تُسقِط هذه الشركات حكام تلك البلدان بالرشاوى والفساد، وتحولهم إلى حكام يسعون للكسب المادي هم وعائلاتهم، وليسرقوا شعوبهم ويحكموا أهلهم حكما ديكتاتوريا! هذا المصطلح الساخر (جمهوريات الموز) لم يعد ساخرا في عصرنا بل هو السياسة المطبقة حاليا في أكثر دول العالم، لأن معظم دول العالم أصبحت جمهوريات موز! نحن نعيش اليوم في عهد (أم شركات الاحتكار في العالم) وهي منظمة التجارة العالمية، فهي اليوم تحتكر كل مجالات الحياة؛ الطعام، والدواء، والكساء، وما حكامُ معظم دول العالم سوى بائعي موز يقومون بتنفيذ سياسات هذه المنظمة بوسائل مختلفة، بعضهم يشجب الشركات في العلن ولكنه يمنحها الترخيص في السر، وبعضهم يرفع شعارات الوطن خطابيا، غير أنه يبني مملكته الخاصة خارج الوطن، وبعضهم يُركز دعائم هذه المنظمة ويتقاضى منها الربح الوفير بعد أن يحول شعبه إلى قطيع من المستهلكين! أصبح معظم رؤساء العالم يؤمنون بأن بقاءهم في الحكم مرهونٌ بمقدار ولائهم لهيمنة أباطرة التجارة في العالم! هذه المنظمة الدولية الكبيرة لم تكتفِ بالهيمنة التجارية والاقتصادية، بل إنها ابتدعت جمهوريات أخرى جديدة لتُحكم قبضتها على كل رقاب العالمين وتحدد مصيرهم، لهذا ابتدعت جمهورياتٍ رقميةً جديدة تعزز هيمنتها على كل دول العالم، فاستحدثت منظومة جمهوريات شبكات التواصل الرقمية، لتسخرها لمصلحتها، ولتهيمن على العالم أجمع! فهناك جمهورية الفيس بوك وهذه هي الجمهورية الشعبوية العامة، تجاوز مفعولُها القارات والمحيطات، وكذلك جمهورية التويتر وهي جمهورية الخاصة من الساسة والمتنفذين والرواد، وهناك جمهوريات منافسة أخرى جديدة! أصبح مسيرو هذه الجمهوريات الرقمية هم أصحاب (لجام)السيادة والسيطرة، فهم ديكتاتوريو الألفية الثالثة، يُسيِّرون جمهورياتِهم برموت كونترول عن بعد، يتقاضون أرباحهم من صيدهم الوفير، يراكمون أرباحهم من الزبائن والمستهلكين، هؤلاء أكملوا دائرة السيطرة، فتحوا سجونهم الخاصة، وفرضوا العقوبة على كل من يخرج عن تقاليد كل جمهورية من الجمهوريات، وعقوباتهم في عالم اليوم ربما هي الأقسى من عقوبات جمهوريات الموز السابقة، لأنهم اليوم يغتالون الفكر والثقافة بلا أسلحة، ويُقصون ثقافات الوعي، ويخنقون المخالفين على مقاصلهم بمنع الأكسجين عن حناجر المبدعين بطريقة سهلة ميسورة وهي، الحجب والمنع وإغلاق الصفحات، وتوقيع العقوبات على المعارضين، وإصدار أحكام الإعدام على الشاذين عن القطيع والمبدعين! إنَّ أفظع أشكال اغتيال مستقبل الأوطان؛ أنهم ينتقون المبدعين والأكْفَاء ويمنحونهم جوازات سفر ومكافآت مادية ومعنوية كبيرة بشرط أن يُسخروا إبداعاتهم لتحقيق أهداف مشغليهم، وهم بهذا يُفرغون أوطانهم من الكفاءات، لتظل تلك الأوطان دفيئات لتربية وتسمين البشر لذبحهم على موائد الكبار! للأسف، لم ينجح معارضو سياسة جمهوريات الموز، وجمهوريات الشبكات الرقمية، حتى اليوم، في ابتداع جمهوريات حريات وديموقراطيات تلائم ألفيتنا الراهنة، كمقدمة ثورية لعصر النهضة والتحرر من أغلال جمهوريات الموز وجمهوريات التكنلوجيا الرقمية!
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصتان من علم النفس!
-
ميدالية، باروخ غولدشتاين الإرهابية!
-
من يقف خلف الإصلاحات القانونية في إسرائيل؟!
-
هل هناك جامعات حزبية؟!
-
سيناريوالحرب الأهلية في إسرائيل!
-
ضحايا الذكاء الصناعي!
-
أهلا بكم في مملكة (غلعاد)!
-
أنقذوا إسرائيل من مخيم جنين!
-
لماذا يبصقون علينا؟
-
مرض التشاؤم والإحباط!
-
المستجيرون بالنار!
-
كيف يعاقبون منتقدي إسرائيل؟!
-
صور لا توجد إلا في غزة!
-
هجرة يهود كولومبيا إلى إسرائيل!
-
غزل في صواريخ غزة!!
-
جاك ما برفسور في جامعة تل أبيب!
-
أنواع المنفرات في صفحات التواصل!
-
لأنه يساري لم يؤبنه نتنياهو!
-
هل شهر رمضان شهر الشهوات؟!
-
جمعيات تستقطب إلى الأوطان، وجمعيات تطرد أهل الأوطان!
المزيد.....
-
الجيش الأوكراني يتهم روسيا بشن هجوم بصاروخ باليستي عابر للقا
...
-
شاهد.. رجل يربط مئات العناكب والحشرات حول جسده لتهريبها
-
استبعاد نجم منتخب فرنسا ستالوارت ألدرت من الاختبار أمام الأر
...
-
لبنان يريد -دولة عربية-.. لماذا تشكّل -آلية المراقبة- عقبة أ
...
-
ملك وملكة إسبانيا يعودان إلى تشيفا: من الغضب إلى الترحيب
-
قصف إسرائيلي في شمال غزة يسفر عن عشرات القتلى بينهم نساء وأط
...
-
رشوة بملايين الدولارات.. ماذا تكشف الاتهامات الأمريكية ضد مج
...
-
-حزب الله- يعلن استهداف تجمعات للجيش الإسرائيلي
-
قائد الجيش اللبناني: لا نزال منتشرين في الجنوب ولن نتركه
-
استخبارات كييف وأجهزتها العسكرية تتدرب على جمع -أدلة الهجوم
...
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|