أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد رباص - فرضيات حول مستقبل االإنسان















المزيد.....



فرضيات حول مستقبل االإنسان


أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)


الحوار المتمدن-العدد: 7713 - 2023 / 8 / 24 - 03:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ما تريد، صديقي إبراهيم، التعبير عنه من خلال منشورك هذا هو أنك تتمنى أن تعيش ما تبقى من حياتك بطريقة مختلفة عن الطريقة التي تعيش بها الآن، وبعبارة أخرى تريد أن يكون حالك مختلفا عن الحال التي أنت عليها اليوم.
أول ما يلاحظ على قولك أنك لم تحدد ما إذا كنت تريد أن تكون حياتك المستقبلية أحسن أو أسوأ. كل ما تراهن عليه هو أن يكون هناك اختلاف بين حياتك في الماضي وحياتك في المستقبل. ولنفرض أنك تتمنى أن تكون في الزمن المتبقي والآتي أحسن من الزمن المنصرم والفائت.
لكن قبل إغلاق القوس، أستبعد بالمطلق كونك تحصر الاختلاف في حيز يقع بين درجات سوء الأحوال، لأن هذا لم تتمناه. ولا يعقل بتاتا أن يتمنى المرء تغيير مصيره من حال إلى حال؛ لأنه أمر معطى من تلقاء ذاته، وإنما يأمل أن يكون المآل أفضل من الحال.
وما يؤكد تأويلي ذاك ختمك لتدوينتك بعبارة "لله". هنا، استحضر ذهني دعاء رائجا بين أهالينا المسلمين: الله يجعل آخرتنا أحسن من أولنا.
بعد إغلاق القوس أعلاه، لا يسعني، صديقي إبراهيم، إلا أن أعبر لك عن أمتناني لك على تدوينتك تلك لكونها أسدت ككوة إلى دماغي خدمة التمهيد للدخول في موضوع فلسفي عنوانه الأبرز: "افتراضات حول مستقبل الإنسان".
هذا، يا صديقي، موضوع يكتسي، بالنسبة لمن كان ديدنه الدؤوب تعقب حركة الفكر عبر تموجاته وانسياباته وتأملاته، أهمية بالغة تهون معها أتعاب البحث والتنقيب. ولحسن حظنا، نحن المخضرمين، وفرت علينا التكنولوجيا الجهود واختصرت لنا السبل. لهذا، يمكنني أن أقترح قراءة بحث في هذا الموضوع المحدد عنوانه سلفا: "افتراضات حول مستقبل الإنسان".
لعلمك، صديقي العزيز، قام بهذا العمل مشكورا جان ديدييه فانسان ونشره في مجلة الموقع الأكاديمي المختص "cairn.info" ضمن مواد العدد (30) الصادر سنة 2010.
"ليس الموت هو ما يشكل المأساة الأصلية للإنسان بقدر ما هو حقيقة معرفة أنه محكوم عليه بالموت، هذه الفاكهة المسمومة المنتزعة من شجرة المعرفة على مرأى ومسمع من الجميع. إن كونية الموت لدى جميع الكائنات الحية تقابلها خصوصية الإنسان الذي يجمع بين التفرد الشديد والحاجة إلى حضور الآخر ليكتسب مكانة الإنسان.
يوجد الموت في قلب كل حياة بشرية. يأتي الإنسان إلى العالم وفي معدته خوف. صرخته الأولى تعبر بالفعل عن رعبه المطلق أمام الموت. وهو لا يعرفها بعد. سيأتي اكتشافه مع إدراكه لذاته الفريدة، لكنه سيواجه نفس المصير الكارثي مثل مصير الآخرين. إن ما يعود إلى الإنسان تحديدا هو إدراكه للزمن. مكنه تطور القشرة الدماغية، وخاصة المناطق الأمامية، من قياس المدة، وتصور بدايتها ونهايتها، والتساؤل عما يوجد قبل البداية وبعد النهاية.
يكتشف الإنسان موته في موت الآخر. لذا فإن الموت المشارك ينتمي إلى الحياة الاجتماعية للإنسان العاقل. ولكن لا يستبعد أن يكون الإنسان المنتصب وبعض البدائيين الآخرين عبروا عن مخاوفهم وتساؤلاتهم بشأن مصيرهم بعد الموت، وهذا ما تشهد عليه المقابر وبقايا الطقوس. يحتل الموت، تماما كشريكه الجنس، مكانة مركزية في النفس البشرية. ليست الفلسفة وليس الدين سوى تأملات في الموت.
كما يقول أوريجانوس: “عندما يهلك العدو الأخير [الشيطان] الذي يُدعى الموت، لن يكون هناك حزن في ما بعد، ولن تكون هناك مقاومة لأن العدو سيكون قد اختفى. لن يتم تدمير هذا العدو الأخير بمعنى أن جوهره الذي صنعه الله سوف يُفنى، ولكن بمعنى أن انحراف إرادته التي كانت تعمل وليس إرادة الله سوف يختفي". وماذا لو اختفت، على وجه التحديد، الضربة السيئة الأخيرة للشيطان؟ وهذا هو مجمل الرهان في الطوباويات التي اختارت مواجهة الموت.
لا تتمتع الطوبى بفرصة البقاء إلا إذا كان هناك جزء من الممكن، مهما كان صغيرا، في داخلها. إن جميع الطوباويات، سواء الموروثة من العالم اليوناني أو اليهودي أو المسيحي، تتعامل مع الغايات النهائية للإنسان والعالم. تكشف هذه "القيامات" عن قدوم ألف عام، لا يقتصر على ألف عام، بل يقترب من الأبدية بإلغاء الديمومة، أو من خلود تسكنه إنسانية طيبة وسعيدة تماما. هذه المساعي الألفية، الخاصة بفترات اليأس الشديد لدى الناس، غالبا ما تؤدي إلى مغامرة جماعية تحت قيادة نبي كاذب لا يكتسب مكانته كنبي إلا عندما تتحول الطوبى إلى دين. هذه الأديان، حتى لو وعدت بالخلود، دون أي ضمان آخر غير الإيمان، لا يمكن اعتبارها طوبى بقدر ما تقوم على مجموعة من المعتقدات المشتركة بين مجموعة من الأفراد، تنظم فيها معطيات معرفية قابلة للموضوعية، ولكنها غير قابلة للتكذيب. باختصار، تخص المسألة الأولياء وليس العلماء. في نهاية القرن السادس عشر، تتلاشت الإيحاءات الألفية مفسحة المجال أمام الطوباويات القائمة على العلم. في كتابه "أتلنتس الجديدة"، وصف فرانسيس بيكون ستة 1626 مجتمعا طوباويا تكنوقراطيا يحكمه علماء هدفهم المعلن هو "معرفة الأسباب والحركة السرية للأشياء، وتوسيع حدود السيطرة البشرية لتحقيق كل شيء ممكن". وبعد عشر سنوات، جاء رينيه ديكارت في كتابه الشهير «خطاب في المنهج» ليجذر الطوبى العلمية من خلال الإشارة إلى أنه من الممكن “التوصل إلى المعرفة المفيدة جدا للحياة […]. يمكننا استعمالها بنفس الطريقة في جميع الاستخدامات المناسبة لها، وبالتالي نجعل أنفسنا أسيادا ومالكين للطبيعة، [من خلال] اختراع عدد لا نهائي من الحيل، التي تسمح لنا بالاستمتاع، دون أي ألم، من ثمار الأرض وجميع متعها."
هذا المشروع العلمي، الذي يضع الفيزياء وعلم الفلك والرياضيات في المقدمة، هو بمثابة أساس للنزعة ألإنسانية، هو موقف فلسفي يتمثل في الحفاظ على الإيمان بالإنسانية مع الأمل في إمكانية تحسينها يوما ما وفي رجاء الخير لها؛ وهو، أخيرا، موقف عرف أوجه في ما يعرف بعصر التنوير، الذي جعل الناس ينسون الموت لمدة قرنين تقريبا. وحتى يستعيد الموت مملكته، كان لا بد من انتظار إحياء علم وظائف الأعضاء مع كلود برنار الذي طرد الحيوية من مدينة العلوم وأكد أن “أي مظهر من مظاهر الحياة يرتبط بالضرورة بالتدمير العضوي".
إن نظرية التطور كما اقترحها داروين وقبلتها أغلبية العالم العلمي تعترف بقدرة الموت على الحفاظ على التدفق الدائم للحياة على سطح الأرض، وهذا ما يسمى ب "المحيط الحيوي". في نهاية القرن التاسع عشر، أعاد الفيلسوف جان ماري غويو، في مقالته “فرضيات حول الخلود في فلسفة التطور”، الخلود إلى مكانة علمية استبقت منذ ما يقرب من قرن اكتشاف جينات الموت في أصل الموت المبرمج للخلية الحية. إن شعار "الموت للموت" الذي يستجيب لوصية الكاهن والشاعر جون دون: "الموت لن يكون في ما بعد: أيها الموت، عليك أن تموت" لن يعود برنامج بحث غير قابل للتحقيق.
يوجد هذا البرنامج في قلب ما يعرف باسم "ما بعد الإنسانية" (transhumanism). تأخذ هذه النزعة في الاعتبار نقائص النوع البشري وتقترح علاجها، أولا عن طريق زيادة قدراته (الإنسان المعزز)، ثانيا عن طريق قمع الموت، وبالتالي انتزاعه من الحيوانية (الإنسان الخالد).
لكن ها ذا العلم الآن، وهو يهز حدود الطوبى، يهاجم الموت نفسه، بفضل الإمكانية التقنية التي منحت له فرصة صنع الحياة: "حياة مصطنعة" باختصار. وفقا لمسلمة "العلم الجديد" التي صاغها جان باتيست فيكو في القرن السابع عشر، "لا يمكننا أن نعرف بشكل حقيقي إلا ما فعلناه"، تؤدي السيطرة التقنية على الحياة بالضرورة إلى التحكم في الموت. وأمام هذا البرنامج تتعالى كلمات الرعب التي تختلط فيها أصوات العقلانيين على اختلاف مشاربهم الساخطين باسم العقل؛ علمانيا كان أو دينيا، وأولئك الروحانيين الذين يحتقرون الجسد، عميانا أمام موت الموت هذا الذي مع ذلك يجب أن يعني لهم انتصار الروح.
لنحتفظ بأقدامنا على الأرض، إذاجاز التعبير، ولنفترض أن الطوبى ستصبح ذات يوم حقيقة، ما هو الثمن الذي يجب دفعه مقابل اختفاء الموت؟ ربما يكون التغلب على هذا الأخير أسهل من التغلب على الفقر. وسيكون الاستنساخ والخلود مقتصرين على الأقوياء (الترف الأسمى)، وسيظل التكاثر (بالطريقة القديمة) حكرا على المتواضعين والمعوزين. فضلا عن ذلك، إذا أتيحت في أفضل الأحوال إمكانية عدم الموت للجميع، فقراء وأغنياء، فإن تكلفة الموت ستصبح باهظة، إلا إذا انتهت البشرية إلى الموت من الملل والبطالة. يسخر الشيطان مقدما: "قدم الحياة الأبدية، فيصير الموت ثمينا".
لا يقتصر برنامج ٠ما بعد الإنسانية على السير القسري نحو الخلود في الوقت الذي يتعذر فيه الوصول إليه بشكل واضح، فهي تهتم على نطاق أوسع بمستقبل الجنس البشري. لا يختزل الجنس البشري هنا في الإنسانية. ومن الممكن أن تستمر في ظل فقدان الإنسانية بأكملها، الأمر الذي يشكل فوق ذلك نتيجة محتملة لما بعد الإنسانية. إن النوع البشري، مثل جميع الأنواع، يتطور ويخضع للانتقاء الطبيعي. ولذلك يمكن توجيهه خلال المراحل التالية من تطوره، ومن خلال استكشاف إمكانات مستقبل أفضل، مدفوعا بعلوم التكنولوجيا، نجح مفهوم التحسين في التغلب على مفهوم الإصلاح.
سأذكر بإيجاز المسارات العلمية الأربعة التي تتقارب نحو ما بعد الإنساني والتي بفضلها سيتمكن الإنسان من القيام بعمل أفضل مما تمكنت الطبيعة من القيام به بنجاح أكثر أو أقل.
هذه هي التقنيات الحيوية – أول من فتح الباب أمام ما بعد الإنسانية – وتكنولوجيات النانو التي تجر العربة، وتكنولوجيا المعلومات، وأخيرا العلوم المعرفية. توجد هذه التخصصات في البرنامج العلمي الواسع الذي أطلقته الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة عام 2002 والذي خصصت له عدة مليارات من الدولارات، تحت اسم Converging Technologies ، المعروف بالاختصار NBIC (علم النانو والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المعلومات والعلوم المعرفية). هذا المشروع الملتزم به على نطاق واسع اليوم هو بطريقة ما حجر الأساس الرسمي لما اتفق الأتباع على تسميته "ما بعد الإنسانية" والذي ليس أكثر من خطوة وسيطة نحو خلق نوع بشري جديد.. لذلك، لم نعد مع أنصار ما بعد الإنسانية في إطار الطبيعة الطبيعية (natura naturans) عند ديكارت، بل في إطار المصنوعات اليدوية (per artem artefact)،أي الطبيعة التي ستكون نتاج المصنوع نفسه، حيث يتوقف الإنسان عن أن يكون مصنوعا من أجل لن يصبح صانعا.
إن الإنسانية السيبرانية المقترحة لنا تطرح بعد ذلك مشكلة التفرد التي تظل الثقل المضاد الضروري للسمة "الاجتماعية المتطرفة" للإنسان. لا يوجد شيطان غامض يفكر ويعمل داخل الدماغ البشري سوى الذات نفسها: هذه الانا الواعية أو اللاواعية التي تستمد وجودها من وجود الآخرين. إنها بطبيعتها نظام التواصل التذاوتي، وبالتالي فإن أي تقدم في التواصل بين الأفراد (التطور المتسارع للشبكات) يجب أن يؤدي إلى زيادة قوة الأنا وزيادة فضيلتها، وبالتالي التقدم نحو التضامن العالمي. مثل هذه المدينة الفاضلة السخية تجلب معها عكسا شريرا: تخيل آلة تحتوي على أرواحنا، عندها ستكون الآلة هي أنفسنا ويأخذ الشيطان الجسد المادي، الذي يصبح غير مجد وعندنا الآن آلة تدوم إلى الأبد. حتى لو فشلت، ستكون لدينا إمكانية استنساخ أنفسنا (عقولنا) على مفتاح USB وإعادة شحنها في جهاز آخر (سوسمان في دورته التدريبية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا).
من الواضح أن العديد من العقبات ستقف في طريق هذا المشروع. وعلى المستوى الديني، سيتم اتهام مشروع "ما بعد الإنسانية" بإنكار وجود الله. إن ما حد من التلاعب بالإنسان، إلى حدود كانط، كان يكمن في الواقع في وجود التعالي. المس بالإنسان يعني المس بصورة الله. ولذلك فإن هذا المشروع يتطلب قلب الافتراضات الدينية، في كل الأحوال، إذا أردنا الحفاظ على فكرة الإله.
ومع ذلك، فإن بعض قادة ما بعد الإنسانية حريصون على التوفيق بينها والدين. كان الصانع غير مهتم بمصنوعه، وكان هذا المصنوع غير الكامل مكلفا بمهمة تزويد هذا الإنسان بالصفات اللازمة للتوجه نحو الكمال. اقترح كورزويل، زعيم تيار ما بعد الإنسانية ومؤلف الكتابين: "Humanité 2-0" و"Humanité 3-0"، في هذا الموضوع مفهوم "التفرد" الذي يمكن تعريفه بأنه إمكانية تجاوز الإنسان لكل ما جعله كائنا عاديا ليصبح متفردا. لم يعد هذا التحسن يحدث على نمط خطي ولكن بسبب الانتقال إلى النمط المتسلرع. هذه هي الطريقة التي "نتجاوز بها ما لا يمكن تجاوزه" و"نجعل المستحيل ممكنا"، كما كتب بنبرة تذكرنا بلهجة المستقبليين الإيطاليين، وعلى وجه الخصوص مارينيتي، الذين توقعوا أن يؤدي هذا الفجور التكنولوجي إلى تحول الإنسان.
يقول كورزويل: "نحب أن نعيش ونتطور مرة أخرى ودائما بشكل أسرع وأبعد. نريد أن نصبح أصل المستقبل، أن نغير الحياة بالمعنى الحرفي وليس بالمعنى المجازي، أن نخلق أنواعا جديدة، أن نتبنى مستنسخات بشرية، أن نختار أمشاجنا، أن نصقل أجسادنا وعقولنا، أن نروض جيناتنا، أن نلتهم الولائم المعدلة وراثيا، أن نتبرع بخلايانا الجذعية، أن نرى الأشعة تحت الحمراء، أن نستمع إلى الموجات فوق الصوتية، أن نشم الفيرومونات، أن نزرع جيناتنا، أن نستبدل خلايانا العصبية، ان نمارس الجنس في الفضاء، أن نتناقش مع الروبوتات، أن نمارس تنويع الاستنساخ إلى ما لانهاية، أن نضيف معاني جديدة، أن نعيش عشرين عاما أو قرنين من الزمن، أن نسكن القمر، الأرض السابقة على المريخ، أن نتعرف على المجرات. نحن نحمل في داخلنا الأكثر تحضرا والأكثر وحشية، الأكثر تهذبا والأكثر همجية، الأكثر تعقيدا والأكثر بساطة، والأكثر صرامة والأكثر عاطفية".
سيكون "ما بعد الإنساني" نتيجة لعملية التحول الذاتي للمادة الحية وإرادة صنع كائنات حية تتصف بخصائص الحياة. وبالتالي فإن هذه الحركة تعني صنع مواد جديدة و"التفكير في ما لا يمكن تصوره"، أي اختراع ذكاء جديد. يتعلق الأمر بتحسين أجهزة الكمبيوتر. تعمل أجهزة الكمبيوتر اليوم بسرعة كبيرة، ولكنها لا تعطي جميع النتائج المتوقعة لأنها تنطلق من مادة خطية. في المقابل، يعمل الدماغ البشري ببطء شديد. تبلغ سرعة التدفق العصبي مترا واحدا في الثانية، ولكن بما أنه يحتوي على مليارات المليارات من الاتصالات، تبقى إمكانياته مهمة جدا. ويعتمد التطور المعاصر بشكل خاص على أجهزة كمبيوتر كوانتية أو آلات موازية تجعل من الممكن الاقتراب من طريقة معالجة الدماغ.
إن مشروع ما بعد الإنسانية هو انعكاس لتحول أساسي. يصبح المصنوع صانعا. يهدف ال "ما بعد إنساني" إلى تجاوز الإنسان. ومن اجل توصيف عصرنا الحالي، تناول غونتر أندرس هذا الانقلاب في كتابه عن العار البروميثوسي،، ووصفه بأنه "العار الذي يسيطر على الإنسان بسبب الجودة المهينة للأشياء التي يصنعها بنفسه".
وأعتقد أن هذا العار البروميثوسي هو خير مثال على الوضع الذي يواجهه الإنسان المعاصر، وأنه سوف يتوسع. الا يمكن أن نفسر الأزمة المالية الحالية (لنتذكر أن المقال منشور عام 2010، ملاحظة المترجم) باعتبارها تجسيداً لهذا العار البروميثوسي؟ ألا يغمرنا الخجل أمام هذا التفشي الافتراضي، وأمام تبعات التصرفات والأدوات المالية المحوسبة التي أفلتت من سيطرة المتلاعبين بها؟ هذه الحالة التي يبدو فيها كل شيء لنا متماثلا، والتي لم نعد ننجح خلالها في فصل ما له معنى عما لم يعد له أي معنى، توضح هذا الوضع الجديد. ومن هنا شعور القادة الذين لا يجرؤون على قول أي شيء أو فعل أي شيء.
هكذا يواجه الإنسان شعوراً بالخجل؛ الخجل من كونه "صائرا" بدل من كونه "مصنوعا". نحن "نتاج الترقيع"، وحياتنا البيولوجية سوف تظل دائما هشة. مع ما بعد الإنسانية، هذا هو الوضع المراد تجاوزه.
فهل يمكن أن نختتم بطريقة عملية وقصيرة المدى، مع ترك الجانب الفلسفي والقلق الذي ينبثق عنه جانبا؟
لا شك أن إمكانيات محددة للغاية ستفتح بفضل تطور التقنيات. ومن الآن فصاعدا، سيكون من الممكن تصنيع الروبوتات من الحمض النووي أو الجزيئات ذاتية التكاثر. وبالتالي، سيكون لدى الأشياء إمكانية التكاثر والتجمع والتفكير، وذلك بفضل الحواسيب الصغيرة التي يتم حقنها داخل الكائنات الحية. من المرجح أن يتمتع إنسان المستقبل بعمر مديد وقد يتخلص من جينات الموت من خلال الاستنساخ. وسيتم اختياره على أساس أداء الأمشاج التي سيتم استخدامها لتصنيعه. ستكون هناك أيضا كل هذه الكائنات التي تسمى الروبوتات النانوية، وهي عضيات صغيرة يمكن أن تصبح جنودا، كتعزيزات للجنود من البشر أو ما بعد البشر.
من المحتمل أن تكون لديها قدرات فكرية كبيرة جدا. بل إن البعض يتصور إنشاء عقل جماعي، وهو ما أصبح ممكناً بفضل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات. هذه هي الطريقة التي ربما سنشهد بها نوعا من التحسن التدريجي للبشر.
وفي ما يتعلق بالخيال العلمي والمستقبلية المجنونة، أود أن ألفت الانتباه إلى أن أنصار تيار ما بعد الإنسانية – تمكنت من مقابلة بعضهم – لا ينتمون إلى فئة العلماء المجانين، بل هم أشخاص عاديون وأكفاء للغاية في تخصصهم. البعض متحدون في مؤسسات الفكر والرأي، شركات الأقمار الصناعية الصغيرة التابعة لمؤسسات وادي السيليكون الكبيرة. التقيت على سبيل المثال إليعازر يودكوفسكي، الذي نجح مؤخرا في إنشاء بعض الخوارزميات التي تسمح بتفعيل مناطق من الدماغ، وربما الأدمغة بأكملها. سوف تمتلك هذه الأخيرة بعد ذلك قدرات فكرية متفوقة، ومن خلال التفرد، سوف تسمح لهم "بالتفكير في ما لا يمكن تصوره". بفضل هذه الخوارزميات التطورية، سيكون من الممكن التفكير في الرياضيات بما يتجاوز ما كنا نتوقعه. سوف يتم ابتكار الرياضيات بدلاً من اكتشافها بفضل هذه الآلات الفائقة التي يمكن زرعها في أدمغة الناس. عندما يرتبط هذا الدماغ بسلسلة كاملة من أجهزة الاستشعار وأجهزة الإرسال التي ستسمح له إما بالتصرف في العالم الحقيقي، أو باستقبال عالم سيكون في حد ذاته افتراضيا، سنكون بعد ذلك في عالم الروح. سيتم الوصول إلى نوبة الحلم الهيغلي وقد نكون قادرين على تجنب كل المخاطر: حرب الروبوتات النانوية والمخلوقات التي تهرب من صانعيها.
كما أجريت مقابلة مع مؤسس حركة ما بعد الإنسانية، نيك بوستروم، في أكسفورد، حيث يعمل أستاذا في معهد الفلسفة الملحق بالجامعة، ومع ويليام سيمز بينبريدج، مدير مؤسسة العلوم الوطنية في الولايات المتحدة. تقوم هذه المؤسسات، بفضل الوسائل المهمة، بإجراء دراسات حول علم الأعصاب بطريقة رسمية، وبطريقة أقل رسمية، حول مشروع ما بعد الإنسانية. في رأيي، من المهم جدا عدم الاستهزاء بهذا التيار ما بعد الإنساني. لا يتعلق الأمر يطوائف ولا بحركة طوباوية. يتمتع هذا التيار بموارد مالية وفكرية كبيرة جدا. ومن الضروري ألا تتخلف فرنسا، التي هي حاليا في طليعة علوم الأعصاب والتي لديها تفكير أخلاقي غني جدا، عن هذا الموضوع.
في الوقت الذي تستعد فيه البشرية لمواجهة أكبر أزمة في تاريخها، حيث أصبح وجودها ذاته على المحك في مواجهة الاصطدام الحتمي بين الانهيار الاقتصادي المالي والانهيار البيئي، وحيث أثبتت التدابير الوقائية والتصالحية عدم فعاليتها أو من المستحيل تنفيذها، وسيكون من القاتل أن ننحي "التأثير" التكنولوجي جانبا باعتباره الملاذ الوحيد لإنقاذ الجنس البشري، وربما على حساب هذه الهشاشة واللامحدودية التي تصنع عظمته.
المصدر: فرضيات حول مستقبل االإنسان

ما تريد، صديقي إبراهيم، التعبير عنه من خلال منشورك هذا هو أنك تتمنى أن تعيش ما تبقى من حياتك بطريقة مختلفة عن الطريقة التي تعيش بها الآن، وبعبارة أخرى تريد أن يكون حالك مختلفا عن الحال التي أنت عليها اليوم.
أول ما يلاحظ على قولك أنك لم تحدد ما إذا كنت تريد أن تكون حياتك المستقبلية أحسن أو أسوأ. كل ما تراهن عليه هو أن يكون هناك اختلاف بين حياتك في الماضي وحياتك في المستقبل. ولنفرض أنك تتمنى أن تكون في الزمن المتبقي والآتي أحسن من الزمن المنصرم والفائت.
لكن قبل إغلاق القوس، أستبعد بالمطلق كونك تحصر الاختلاف في حيز يقع بين درجات سوء الأحوال، لأن هذا لم تتمناه. ولا يعقل بتاتا أن يتمنى المرء تغيير مصيره من حال إلى حال؛ لأنه أمر معطى من تلقاء ذاته، وإنما يأمل أن يكون المآل أفضل من الحال.
وما يؤكد تأويلي ذاك ختمك لتدوينتك بعبارة "لله". هنا، استحضر ذهني دعاء رائجا بين أهالينا المسلمين: الله يجعل آخرتنا أحسن من أولنا.
بعد إغلاق القوس أعلاه، لا يسعني، صديقي إبراهيم، إلا أن أعبر لك عن أمتناني لك على تدوينتك تلك لكونها أسدت ككوة إلى دماغي خدمة التمهيد للدخول في موضوع فلسفي عنوانه الأبرز: افتراضات حول مستقبل الإنسان.
هذا، يا صديقي، موضوع يكتسي، يكتسي، بالنسبة لمن كان ديدنه الدؤوب تعقب حركة الفكر عبر تموجاته وانسياباته وتأملاته، أهمية بالغة يهون معها البحث والتنقيب. ولحسن حظنا، نحن المخضرمين، وفرت علينا التكنولوجيا الجهود واختصرت لنا السبل. لهذا، يمكنني أن أقترح قراءة بحث في هذا الموضوع المحدد عنوانه سلفا: " افتراضات حول مستقبل الإنسان".
لعلمك، صديقي العزيز، قام بهذا العمل مشكورا جان ديدييه فانسان ونشره في مجلة الموقع الأكاديمي المختص "cairn.info" ضمن مواد العدد (30) الصادر سنة 2010.
"ليس الموت هو ما يشكل المأساة الأصلية للإنسان بقدر ما هو حقيقة معرفة أنه محكوم عليه بالموت، هذه الفاكهة المسمومة المنتزعة من شجرة المعرفة على مرأى ومسمع من الجميع. إن كونية الموت لدى جميع الكائنات الحية تقابلها خصوصية الإنسان الذي يجمع بين التفرد الشديد والحاجة إلى حضور الآخر ليكتسب مكانة الإنسان.
يوجد الموت في قلب كل حياة بشرية. يأتي الإنسان إلى العالم وفي معدته خوف. صرخته الأولى تعبر بالفعل عن رعبه المطلق من الموت. وهو لا يعرفها بعد. سيأتي اكتشافه مع إدراكه لذاته الفريدة، لكنه سيواجه نفس المصير الكارثي مثل مصير الآخرين. إن ما يعود إلى الإنسان تحديدا هو إدراكه للزمن. مكنه تطور القشرة الدماغية، وخاصة المناطق الأمامية، من قياس المدة، وتصور بدايتها ونهايتها، والتساؤل عما يوجد قبل البداية وبعد النهاية.
يكتشف الإنسان موته في موت الآخر. لذا فإن الموت المشارك ينتمي إلى الحياة الاجتماعية للإنسان العاقل. ولكن لا يستبعد أن يكون الإنسان المنتصب وبعض البدائيين الآخرين عن مخاوفهم وتساؤلاتهم بشأن مصيرهم بعد الموت، وهذا ما تشهد عليه المقابر وبقايا الطقوس. يحتل الموت، تماما كشريكه الجنس، يحتل مكانة مركزية في النفس البشرية. ليست الفلسفة وليس الدين سوى تأملات في الموت.
كما يقول أوريجانوس: “عندما يهلك العدو الأخير [الشيطان] الذي يُدعى الموت، لن يكون هناك حزن في ما بعد، ولن تكون هناك مقاومة لأن العدو سيكون قد اختفى. لن يتم تدمير هذا العدو الأخير بمعنى أن جوهره الذي صنعه الله سوف يُفنى، ولكن بمعنى أن انحراف إرادته التي كانت تعمل وليس إرادة الله سوف يختفي". وماذا لو اختفت، على وجه التحديد، الضربة السيئة الأخيرة للشيطان؟ وهذا هو مجمل الرهان في الطوباويات التي اختارت مواجهة الموت.
لا تتمتع الطوبى بفرصة البقاء إلا إذا كان هناك جزء من الممكن، مهما كان صغيرا، في داخلها. إن جميع الطوباويات، سواء الموروثة من العالم اليوناني أو اليهودي أو المسيحي، تتعامل مع الغايات النهائية للإنسان والعالم. تكشف هذه "القيامات" عن قدوم ألف عام، لا يقتصر على ألف عام، بل يقترب من الأبدية بإلغاء الديمومة أو من خلود تسكنه إنسانية جيدة وسعيدة تماما. هذه المساعي الألفية، الخاصة بفترات اليأس الشديد لدى الناس، غالبا ما تؤدي إلى مغامرة جماعية تحت قيادة نبي كاذب لا يكتسب مكانته كنبي إلا عندما تتحول الطوبى إلى دين. هذه الأديان، حتى لو وعدت بالخلود، دون أي ضمان آخر غير الإيمان، لا يمكن اعتبارها طوبى بقدر ما تقوم على مجموعة من المعتقدات المشتركة بين مجموعة من الأفراد، تنظم فيها معطيات معرفية قابلة للموضوعية، ولكنها غير قابلة للتكذيب. باختصار، تخص المسألة الأولياء وليس العلماء. في نهاية القرن السادس عشر، تتلاشت الإيحاءات الألفية مفسحة المجال أمام الطوباويات القائمة على العلم. في كتابه "أتلنتس الجديدة"، وصف فرانسيس بيكون ستة 1626 مجتمعا طوباويا تكنوقراطيا يحكمه علماء هدفهم المعلن هو "معرفة الأسباب والحركة السرية للأشياء، وتوسيع حدود السيطرة البشرية لتحقيق كل شيء ممكن". وبعد عشر سنوات، جاء رينيه ديكارت في كتابه الشهير «خطاب في المنهج» ليجذر الطوبى العلمية من خلال الإشارة إلى أنه من الممكن “التوصل إلى المعرفة المفيدة جدا للحياة […]. يمكننا استعمالها بنفس الطريقة لجميع الاستخدامات المناسبة لها، وبالتالي نجعل أنفسنا أسيادا ومالكين للطبيعة، [من خلال] اختراع عدد لا نهائي من الحيل، التي تسمح لنا بالاستمتاع، دون أي ألم، من ثمار الأرض وجميع متعها."
هذا المشروع العلمي، الذي يضع الفيزياء وعلم الفلك والرياضيات في المقدمة، هو بمثابة أساس للنزعة أإإنسانية، هو موقف فلسفي يتمثل في الحفاظ على الإيمان بالإنسانية مع الأمل في إمكانية تحسينها يوما ما وفي رجاء الخير لها؛ وهو، أخيرا، موقف عرف أوجه في ما يعرف بعصر التنوير، الذي جعل الناس ينسون الموت لمدة قرنين تقريبا. وحتى يستعيد الموت مملكته، كان لا بد من انتظار إحياء علم وظائف الأعضاء مع كلود برنار الذي طرد الحيوية من مدينة العلوم وأكد أن “أي مظهر من مظاهر الحياة يرتبط بالضرورة بالتدمير العضوي”". إن نظرية التطور كما اقترحها داروين وقبلتها أغلبية العالم العلمي تعترف بقدرة الموت على الحفاظ على التدفق الدائم للحياة على سطح الأرض، وهذا ما يسمى بهذا "المحيط الحيوي". في نهاية القرن التاسع عشر، أعاد الفيلسوف جان ماري غويو، في مقالته “فرضيات حول الخلود في فلسفة التطور”، الخلود إلى مكانة علمية استبقت منذ ما يقرب من قرن اكتشاف جينات الموت في أصل الموت المبرمج للخلية الحية. إن شعار "الموت للموت" الذي يستجيب لوصية الكاهن والشاعر جون دون: "الموت لن يكون في ما بعد: أيها الموت، عليك أن تموت" لن يعود برنامج بحث غير قابل للتحقيق.
يوجد هذا البرنامج في قلب ما يعرف باسم "ما بعد الإنسانية" (transhumanisme). تأخذ هذه النزعة في الاعتبار عيوب النوع البشري وتقترح علاجها، أولا عن طريق زيادة قدراته (الإنسان المعزز)، ثانيا عن طريق قمع الموت، وبالتالي انتزاعه من الحيوانية (الإنسان الخالد).
لكن ها ذا العلم الآن، وهو يهز حدود الطوبى، يهاجم الموت نفسه، بفضل الإمكانية التقنية التي منحت له فرصة صنع الحياة: "حياة مصطنعة" باختصار. وفقا لمسلمة "العلم الجديد" التي صاغها جان باتيست فيكو في القرن السابع عشر "لا يمكننا أن نعرف بشكل حقيقي إلا ما فعلناه"، تؤدي السيطرة التقنية على الحياة بالضرورة إلى التحكم في الموت. وأمام هذا البرنامج تتعالى كلمات الرعب التي تختلط فيها أصوات العقلانيين على اختلاف مشاربهم الساخطين باسم العقل؛ علمانيا كان أو دينيا، وأولئك الروحانيين الذين يحتقرون الجسد، عميانا أمام موت الموت هذا الذي مع ذلك يجب أن يعني لهم انتصار الروح.
لنحتفظ بأقدامنا على الأرض، إذاجاز التعبير، ولنفترض أن الطوبى ستصبح ذات يوم حقيقة، ما هو الثمن الذي يجب دفعه مقابل اختفاء الموت؟ ربما يكون التغلب على هذا الأخير أسهل من التغلب على الفقر. وسيكون الاستنساخ والخلود مقتصرين على الأقوياء (الترف الأسمى)، وسيظل التكاثر (بالطريقة القديمة) حكرا على المتواضعين والمعوزين. فضلا عن ذلك، إذا أتيحت في أفضل الأحوال إمكانية عدم الموت للجميع، فقراء وأغنياء، فإن تكلفة الموت ستصبح باهظة، إلا إذا انتهت البشرية إلى الموت من الملل والبطالة. يسخر الشيطان مقدما: "قدم الحياة الأبدية، فيصير الموت ثمينا".
لا يقتصر برنامج ٠ما بعد الإنسانية على السير القسري نحو الخلود في الوقت الذي يتعذر فيه الوصول إليه بشكل واضح، فهي تهتم على نطاق أوسع بمستقبل الجنس البشري. لا يختزل الجنس البشري هنا في الإنسانية. ومن الممكن أن تستمر في ظل فقدان الإنسانية بأكملها، الأمر الذي يشكل فوق ذلك نتيجة محتملة لما بعد الإنسانية. إن النوع البشري، مثل جميع الأنواع، يتطور ويخضع للانتقاء الطبيعي. ولذلك يمكن توجيهه خلال المراحل التالية من تطوره، ومن خلال استكشاف إمكانات مستقبل أفضل، مدفوعا بعلوم التكنولوجيا، نجح مفهوم التحسين في التغلب على مفهوم الإصلاح.
سأذكر بإيجاز المسارات العلمية الأربعة التي تتقارب نحو ما بعد الإنساني والتي بفضلها سيتمكن الإنسان من القيام بعمل أفضل مما تمكنت الطبيعة من القيام به بنجاح أكثر أو أقل.
هذه هي التقنيات الحيوية – أول من فتح الباب أمام ما بعد الإنسانية – وتكنولوجيات النانو التي تجر العربة، وتكنولوجيا المعلومات، وأخيرا العلوم المعرفية. توجد هذه التخصصات في البرنامج العلمي الواسع الذي أطلقته الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة عام 2002 والذي خصصت له عدة مليارات من الدولارات، تحت اسم Converging Technologies ، المعروف بالاختصار NBIC (علم النانو والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المعلومات والعلوم المعرفية). هذا المشروع الملتزم به على نطاق واسع اليوم هو بطريقة ما حجر الأساس الرسمي لما اتفق الأتباع على تسميته "ما بعد الإنسانية" والذي ليس أكثر من خطوة وسيطة نحو خلق نوع بشري جديد.. لذلك، لم نعد مع أنصار ما بعد الإنسانية في إطار الطبيعة الطبيعية (natura naturans) عند ديكارت، بل في إطار المصنوعات اليدوية (per artem artefact)،أي الطبيعة التي ستكون نتاج المصنوع نفسه، حيث يتوقف الإنسان عن أن يكون مصنوعا من أجل لتصبح صانعا.
إن الإنسانية السيبرانية المقترحة لنا تطرح بعد ذلك مشكلة التفرد التي تظل الثقل المضاد الضروري للسمة "الاجتماعية المتطرفة" للإنسان. لا يوجد شيطان غامض يفكر ويعمل داخل الدماغ البشري سوى الذات نفسها: هذه الانا الواعية أو اللاواعية التي تستمد وجودها من وجود الآخرين. إنها بطبيعتها نظام التواصل التذاوتي، وبالتالي فإن أي تقدم في التواصل بين الأفراد (التطور المتسارع للشبكات) يجب أن يؤدي إلى زيادة قوة الأنا وزيادة فضيلتها، وبالتالي التقدم نحو التضامن العالمي. مثل هذه المدينة الفاضلة السخية تجلب معها عكسا شريرا: تخيل آلة تحتوي على أرواحنا، عندها ستكون الآلة هي أنفسنا ويأخذ الشيطان الجسد المادي، الذي يصبح غير مجد وعندنا الآن آلة تدوم إلى الأبد. حتى لو فشلت، ستكون لدينا إمكانية استنساخ أنفسنا (عقولنا) على مفتاح USB وإعادة شحنها في جهاز آخر (سوسمان في دورته التدريبية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا).
من الواضح أن العديد من العقبات ستقف في طريق هذا المشروع. وعلى المستوى الديني، سيتم اتهام مشروع "ما بعد الإنسانية" بإنكار وجود الله. إن ما حد من التلاعب بالإنسان، إلى حدود كانط، كان يكمن في الواقع في وجود التعالي. المس الإنسان يعني المس بصورة الله. ولذلك فإن هذا المشروع يتطلب قلب الافتراضات الدينية، في كل الأحوال، إذا أردنا الحفاظ على فكرة الإله.
ومع ذلك، فإن بعض قادة ما بعد الإنسانية حريصون على التوفيق بينها والدين. كان الصانع غير مهتم بمصنوعه، وكان هذا المصنوع غير الكامل مكلفا بمهمة تزويد هذا الإنسان بالصفات اللازمة للتوجه نحو الكمال. اقترح كورزويل، زعيم تيار ما بعد الإنسانية ومؤلف الكتابين: Humanité 2-0 وHumanité 3-0، في هذا الموضوع مفهوم "التفرد" الذي يمكن تعريفه بأنه إمكانية تجاوز الإنسان لكل ما جعله كائنا عاديا ليصبح متفردا. لم يعد هذا التحسن يحدث على نمط خطي ولكن بسبب الانتقال إلى النمط ا لمتسلرع. هذه هي الطريقة التي "نتجاوز بها ما لا يمكن تجاوزه" و"نجعل المستحيل ممكنا"، كما كتب بنبرة تذكرنا بلهجة المستقبليين الإيطاليين، وعلى وجه الخصوص مارينيتي، الذين توقعوا أن يؤدي هذا الفجور التكنولوجي إلى تحول الإنسان.
يقول كورزويل: "نحب أن نعيش ونتطور مرة أخرى ودائما بشكل أسرع وأبعد. نريد أن نصبح أصل المستقبل، أن نغير الحياة بالمعنى الحرفي وليس بالمعنى المجازي، أن نخلق أنواعا جديدة، أن نتبنى مستنسخات بشرية، أن نختار أمشاجنا، أن ننصقل أجسادنا وعقولنا، أن نروض جيناتنا، أن نلتهم الولائم المعدلة وراثيا، أن نتبرع بخلايانا الجذعية، أن نرى الأشعة تحت الحمراء، أن نستمع إلى الموجات فوق الصوتية، أن نشم الفيرومونات، أن نزرع جيناتنا، أن نستبدل خلايانا العصبية، ان نمارس الجنس في الفضاء، أن نتناقش مع الروبوتات، أن نمارس تنويع الاستنساخ إلى ما لانهاية، أن نضيف معاني جديدة ، أن نعيش عشرين عاما أو قرنين من الزمان، أن نسكن القمر، الأرض السابقة على المريخ، أن نتعرف على المجرات. نحن نحمل في داخلنا الأكثر تحضرا والأكثر وحشية، الأكثر تهذبا والأكثر همجية، الأكثر تعقيدا والأكثر بساطة، والأكثر صرامة والأكثر عاطفية".
سيكون "ما بعد الإنساني" نتيجة لعملية التحول الذاتي للمادة الحية وإرادة صنع كائنات حية تتصف بخصائص الحياة. وبالتالي فإن هذه الحركة تعني صنع مواد جديدة و"التفكير في ما لا يمكن تصوره"، أي اختراع ذكاء جديد. يتعلق الأمر بتحسين أجهزة الكمبيوتر. تعمل أجهزة الكمبيوتر اليوم بسرعة كبيرة، ولكنها لا تعطي جميع النتائج المتوقعة لأنها تنطلق من مادة خطية. في المقابل، يعمل الدماغ البشري ببطء شديد. تبلغ سرعة التدفق العصبي مترا واحدا في الثانية، ولكن بما أنه يحتوي على مليارات المليارات من الاتصالات، تبقى إمكانياته مهمة جدا. ويعتمد التطور المعاصر بشكل خاص على أجهزة كمبيوتر كوانتية أو آلات موازية تجعل من الممكن الاقتراب من طريقة معالجة الدماغ.
إن مشروع ما بعد الإنسانية هو انعكاس لتحول أساسي. يصبح المصنوع صانعا. يهدف ال "ما بعد إنساني" إلى تجاوز الإنسان. ومن اجل توصيف عصرنا الحالي، تناول غونتر أندرس هذا الانقلاب في كتابه عن العار البروميثوسي،، ووصفه بأنه "العار الذي يسيطر على الإنسان بسبب الجودة المهينة للأشياء التي يصنعها بنفسه".
وأعتقد أن هذا العار البروميثوسي هو خير مثال على الوضع الذي يواجهه الإنسان المعاصر، وأنه سوف يتوسع. الا يمكن أن نفسر الأزمة المالية الحالية (لنتذكر أن المقال منشور عام 2010 باعتبارها تجسيداً لهذا العار البروميثوسي؟ ألا يغمرنا الخجل أمام هذا التفشي الافتراضي، وأمام تبعات التصرفات والأدوات المالية المحوسبة التي أفلتت من سيطرة المتلاعبين بها؟ هذه الحالة التي يبدو فيها كل شيء لنا متماثلا، والتي لم نعد ننجح خلالها في فصل ما له معنى عما لم يعد له أي معنى، توضح هذا الوضع الجديد. ومن هنا شعور القادة الذين لا يجرؤون على قول أي شيء أو فعل أي شيء.
هكذا يواجه الإنسان شعوراً بالخجل؛ من الخجل من كونه "صائرا" بدل من كونه "مصنوعا". نحن "نتاج الترقيع"، وحياتنا البيولوجية سوف تظل دائما هشة. مع ما بعد الإنسانية، هذا هو الوضع المراد تجاوزه.
فهل يمكن أن نختتم بطريقة عملية وقصيرة المدى، مع ترك الجانب الفلسفي والقلق الذي ينبثق عنه جانبا؟
لا شك أن إمكانيات محددة للغاية ستفتح بفضل تطور التقنيات. ومن الآن فصاعدا، سيكون من الممكن تصنيع الروبوتات من الحمض النووي أو الجزيئات ذاتية التكاثر. وبالتالي، سيكون لدى الأشياء إمكانية التكاثر والتجمع والتفكير، وذلك بفضل الحواسيب الصغيرة التي يتم حقنها داخل الكائنات الحية. من المرجح أن يتمتع إنسان المستقبل بعمر مديد وقد يتخلص من جينات الموت من خلال الاستنساخ. وسيتم اختياره على أساس أداء الأمشاج التي سيتم استخدامها لتصنيعه. ستكون هناك أيضا كل هذه الكائنات التي تسمى الروبوتات النانوية ، وهي عضيات صغيرة يمكن أن تصبح جنودا، كتعزيزات للجنود من البشر أو ما بعد البشر.
من المحتمل أن تكون لديها قدرات فكرية كبيرة جدا. بل إن البعض يتصور إنشاء عقل جماعي، وهو ما أصبح ممكناً بفضل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات. هذه هي الطريقة التي ربما سنشهد بها نوعا من التحسن التدريجي في البشر.
وفيما يتعلق بالخيال العلمي والمستقبلية المجنونة، أود أن ألفت الانتباه إلى أن أنصار تيار ما بعد الإنسانية – تمكنت من مقابلة بعضهم – لا ينتمون إلى فئة العلماء المجانين، بل هم “ "أشخاص عاديون وأكفاء للغاية في تخصصهم. البعض متحدون في مؤسسات الفكر والرأي، شركات الأقمار الصناعية الصغيرة التابعة لمؤسسات وادي السيليكون الكبيرة. التقيت على سبيل المثال إليعازر يودكوفسكي، الذي نجح مؤخرا في إنشاء بعض الخوارزميات التي تسمح بتفعيل مناطق من الدماغ، وربما الأدمغة بأكملها. سوف تمتلك هذه الأخيرة بعد ذلك قدرات فكرية متفوقة، ومن خلال التفرد، سوف تسمح لهم "بالتفكير في ما لا يمكن تصوره". بفضل هذه الخوارزميات التطورية، سيكون من الممكن التفكير في الرياضيات بما يتجاوز ما كنت نتوقعه. سوف يتم ابتكار الرياضيات بدلاً من اكتشافها بفضل هذه الآلات الفائقة التي يمكن زرعها في أدمغة الناس. عندما يرتبط هذا الدماغ بسلسلة كاملة من أجهزة الاستشعار وأجهزة الإرسال التي ستسمح له إما بالتصرف في العالم الحقيقي، أو باستقبال عالم سيكون في حد ذاته افتراضيا، سنكون بعد ذلك في عالم الروح. سيتم الوصول إلى نوبة الحلم الهيغلي وقد نكون قادرين على تجنب كل المخاطر: حرب الروبوتات النانوية والمخلوقات التي تهرب من صانعيها.
كما أجريت مقابلة مع مؤسس حركة ما بعد الإنسانية، نيك بوستروم، في أكسفورد، حيث يعمل أستاذا في معهد الفلسفة الملحق بالجامعة، ومع ويليام سيمز بينبريدج، مدير مؤسسة العلوم الوطنية في الولايات المتحدة. تقوم هذه المؤسسات، بفضل الوسائل المهمة، بإجراء دراسات حول علم الأعصاب بطريقة رسمية، وبطريقة أقل رسمية، حول مشروع ما بعد الإنسانية. في رأيي، من المهم جدا عدم الاستهزاء بهذا التيار ما بعد الإنساني. لا يتعلق الأمر يطوائف ولا بحركة طوباوية. يتمتع هذا التيار بموارد مالية وفكرية كبيرة جدا. ومن الضروري ألا تتخلف فرنسا، التي هي حاليا في طليعة علوم الأعصاب والتي لديها تفكير أخلاقي غني جدا، عن هذا الموضوع.
في الوقت الذي تستعد فيه البشرية لمواجهة أكبر أزمة في تاريخها، حيث أصبح وجودها ذاته على المحك في مواجهة الاصطدام الحتمي بين الانهيار الاقتصادي المالي والانهيار البيئي، وحيث أثبتت التدابير الوقائية والتصالحية عدم فعاليتها أو من المستحيل تنفيذها، وسيكون من القاتل أن ننحي "التأثير" التكنولوجي جانبا باعتباره الملاذ الوحيد لإنقاذ الجنس البشري، وربما على حساب هذه الهشاشة واللامحدودية التي تصنع عظمته.
المصدر:
https://www.cairn.info/revue-la-pensee-de-midi-2010-1-page-42.htm



#أحمد_رباص (هاشتاغ)       Ahmed_Rabass#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلسفة سقراط عبر ثلاث مراحل (الجزء الأول)
- مشكلة الصحراء ترخي بظلالها على قمة البريكس
- لتعديل الوزاري في المغرب.. ملهاة وسيناريوهات
- عبد الرحيم بوعيدة ينطلق في معارضة الحكومة من قاعدة الأغلبية ...
- نبذة تاريخية عن التوسع العمراني لمدينة المحمدية خلال المائة ...
- هزة الجماع حسب وليام رايخ (الجزء الثاني)
- وظيفة هزة الجماع حسب ويليام رايخ
- -غياب- دي ميستورا ومحاولات الجزائر لحمل أمريكا على التراجع ع ...
- وظيفة هزة الجماع حسب ويليام رايش (الجزء الأول)
- ساركوزي: انتحاء ماكرون على الجزائر -يأخذنا بعيدا عن المغرب، ...
- إبراهيم غالي يدعو من مدينة بومرداس الجزائرية إلى -حرب شاملة- ...
- شذرات من سجل الشهداء
- الأمم المتحدة تكشف عن حصيلة مقلقة للقتلى الفلسطينيين
- المقاربة النظرية والبيروقراطية لمطلب التربية على القيم باءت ...
- الكذب حقيقة لا بد من ظهورها
- هل يمثل صعود المتدينين المتشددين إلى السلطة في إسرائيل مقدمة ...
- خمسة قتلى وأربعة جرحى حصيلة هجوم مسلحين بأيعاز من فرنسا على ...
- موقع ابن رشد الفيلسوف والقاضي والفقيه بين الإسلام والمسيحية ...
- موقع ابن رشد الفيلسوف والقاضي والفقيه بين الإسلام والمسيحية ...
- بوح الذاكرة: عبرات معلم مقبل على الانتحار شنقا


المزيد.....




- مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا ...
- وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار ...
- انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة ...
- هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟ ...
- حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان ...
- زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
- صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني ...
- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف ...
- الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل ...
- غلق أشهر مطعم في مصر


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد رباص - فرضيات حول مستقبل االإنسان