أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - دلور ميقري - مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 2 / 2















المزيد.....


مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 2 / 2


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 1728 - 2006 / 11 / 8 - 11:08
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


عبْرَ الحيّ الكرديّ

" وبالقرب من المكان السابق ، توجد قرية تسمى ( الصالحية ) ، تقبع على منحدر هضبة ، حيث ينبسط من هناك مشهد الريف كله ، وكم هو جميل وغنيّ ومتنوّع . وفي الصالحية هذه ، يمتلك غالبية أعيان دمشق بيوتاً للنزهة ، وهي جميلة ولطيفة جداً ، سواء للمشهد الذي تطل عليه ، أو للحدائق التي تجاورها ، ناهيك عن المياه العذبة الرقراقة الجارية في جميع أنحاء الهضبة " (1) . هكذا يلخصُ الرحالة الفرنسي ، دارفيو ، مشاهداته في الصالحية . وبغض الطرف عن مبلغ إعجابه بمناظر تلك الضاحية الدمشقية ، الجميلة ، تستوقفنا هنا ملاحظة هامة : وهيَ أنّ الصالحية ، في زمن رحالتنا هذا ، ما كانت أكثر من " قرية " ؛ ملاحظة ٌ تلخصُ ، بدورها ، ما طرأ على أحوال ضاحيتنا ، إثرَ مرور قرن واحدٍ حسب ، على الإحتلال العثماني لسورية . لنتذكرَ وصفَ إبن بطوطة ، الرحالة المغربيّ من القرن الخامس عشر، لأرباض دمشق ؛ وفيه قوله عن الصالحية ، بأنها : " مدينة عظيمة ، لها سوق لا نظير لحسنه " (2) ، كيما نقدّر ما ألحقه الأتراكُ من مضرة فادحة بهذه الحاضرة الأيوبية ، العريقة . هذا ، دونما إغفال حقيقة اخرى ؛ وهيَ أنه في زمن بني عثمان هؤلاء ، تحديداً ، أضحَتْ الصالحية هيَ النواة الاولى للحيّ الكرديّ ، " ركن الدين " ، الواقع في الحدّ الشرقيّ منها .

ساحة " شمدين آغا " ، هيَ بطنُ الأم الاولى ؛ الصالحية ، الذي حملَ جنين حيّنا . من هذا المكان ، تتنوّق جولتنا الشارعَ المعروف في محكيتنا بـ " الطريق السلطاني " . لربما تقمّصَ الشارعُ نعتَ السلطان الأيوبيّ ، الناصر ؛ بما أنه ما فتأ يحملُ إسمَ عمّه الكبير " أسد الدين شيركوه " . وعلى كل حال ، لا بدّ من العودة إلى عصر أكثر تأخراً ، ما دامتْ خطانا تتنقلُ رخية ً ، مطمئنة ، عبرَ حيّنا الكرديّ هذا . قلنا أنّ ساحة شمدين آغا ، في طرف الحيّ الغربيّ ، القصيّ ، كانت موئلَ جولتنا . فلنغذ السيرَ ، إذاً ، خلل الطريق السلطانيّ المتناثرة على جانبيه ظلالُ المحلات المتنوعة ؛ من دكاكين ومتاجر ومطاعم ومكاتب .. وغيرها . هدوءٌ من المنازل القديمة ، الوادعة ؛ بشرفاته ومشربياته وأشجاره وتعريشاته ، يتراءى من خلف تلك المحلات الضاجّة بصخب حركتها ، التجارية . ثمة عمارتان ، عملاقتان في نسبة عمارتنا المحلية ، يرخي كل منهما أناقته ، وعجرفته ربما ، على ما يحيطه من مبان سكنية . في أصل هذا المكان ، تتجذرُ ذكريات بيت عريق ، دمشقيّ ، عجلتْ بنهايته ، المحزنة ، عشوائية التخطيط السكنيّ ، الحكوميّ ، المتحالف مع جشع الإنسان : ها هنا طيفٌ من شمدين آغا ؛ الزعيمُ الكرديّ ، الذائع الصيت في تذكرات التواريخ العثمانيّ لمدينتنا ؛ طيفُ منزل ، لا أكثر . أتذكرُ رهبة طفولتنا ، في مرورها بهذا المكان . كان البيتُ آنئذٍ شبه مهجور ، يسدلُ على أسراره الحجرية بجدران عالية ، صمّاء ، ذات عيون ملغزة لشبابيكه الرثة ، المتشابكة قضبانها الحديدية ، والمطروقة رؤووسها كأسنة الرماح . يبدو أنّ شكلَ البيت قد تواءمَ أكثر من مرة ، مع قدَره . ففي إحدى جولات منشئه ، التاريخية ، كاد أن يغيب في إندثار كامل إثرَ حريق أتى على معظمه . حصل ذلك في الثلث الأول من القرن التاسع عشر ، حينما غزا دمشقَ الفاتحُ المصريّ إبراهيم باشا ، فإنصاع لإرادته العامّة والخاصة : وحدهُ ، شمدين آغا ، من تحدى ذلك الفاتح ، خضوعاً لإرادة الباب العالي (3) . إلا أنّ تعويل َ الآغا الكرديّ على مقام سلطانه في الآستانة ، كان فيه كثير من سوء التقدير . المهم ، أنّ منزل شمدين آغا هوَ الذي دفع ثمن عصيان صاحبه ، الغائب ، الملتجيء لحمى العثمانيين . بيدَ أنّ الأمر سويّ بين المتخاصمَيْن ، بوساطة ما . ليتناهض من ثمّ المنزلُ " الشمدينيّ " ، من ركام إندثاره إلى تمام أثاله وإزدهاره : وبلغ في ذلك شأواً متشامخاً ، أنّ قاعته الرئيسة ، المزخرفة ، كانت هدية شخصية من الفاتح المصريّ ، الذي أمر ببنائها كنسخة مطابقة لمثيلتها في قصره ، القاهريّ ؛ حتى أنّ المسؤولين عن آثار دمشق ، إرتأوا في مستهل سبعينات القرن المنصرم ، نقلها إلى المدينة القديمة ؛ لتعرف الآن بإسم " القاعة الشامية " . (4)

ثمة دور عديدة ، في حيّنا ، لم تقلّ رفعة عن منزل شمدين آغا ؛ كبيت محمود باشا بوظو ، أمير الحجّ الشاميّ ، وبيت علي زلفو آغا ، الوجيه المعروف . الأول ، ما زال قائماً حتى اليوم ، وقنطرته المميزة هيَ بمثابة مدخل للزقاق الصاعد إلى الساحة الشمدينية تلك . يخيّل للمتأمل عمارة البناء ، أنه بإزاء قلعة حصينة ؛ بما يطالعه من واجهته العالية ، الكامدة ، وأجزائه المتعددة المطل بعضها على كرم كثيف للصبار ، المحدقُ بدوره بضفة نهر يزيد : كانت مدرسة " ستّ الشام " ، ( الحاملة إسم شقيقة صلاح الدين ) ، متركنة في أحد أجزاء بيت بوظو هذا ؛ المدرسة الإبتدائية ، الأولى في الحيّ ، الأثيرة ذكرياتها لدى جيل أمهاتنا . هنا ، في غربتنا السويدية ، تستعيدُ والدتي مشهدَ أحد العصاري ، حينما أصرّت صديقتها ، الحميمة ، ملك زلفو ، على أن تصطحبها إلى دارها ، الواقع في جادة " بكَاري " . تنزلق وزميلتها هذه من سيارة العائلة ، الخاصة ، بمعونة من السائق الأسمر البشرة ، ثمّ تدلف إلى حرمة المنزل ، المنيف ، الذي تطأه للمرة الأولى من عمر صداقتها لإبنته . ثمة ، في الباحة المرخمة ، كان علي زلفو آغا في إستقبالهما وهوَ متكأ على حافة البحرة الكبيرة ، المتراقصة الأمواه . وهناك أيضاً ، إجتاح أمي إحراجٌ متماهٍ بخجل ماحق لسنوات عمرها الست أو السبع ، فيما كانت تتلقى أسئلة الآغا ، المجاملة ، دونما ان تجرؤ على التطلع إلى هيئته المتسمة بالهيبة والصرامة . تدور الحياة في دورتها ، المعتادة ، وأجدني بعدئذٍ في نفس عمر أمي الطفوليّ ، تقريباً : ألجُ المنزل نفسه ، الذي كانت الدولة قد إستأجرته من أصحابه وحوّلته إلى مدرسة إبتدائية ، حملت إسم " محي الدين إبن عربي " ؛ قطب الصوفيّة . المنزل يقومُ على دورَيْن ، علوي ؛ ويصعد إليه بوساطة درج حجريّ ، ضيّق ، يؤدي إلى عدد من الحجرات ، التي كانت مختصة على ما يبدو برهن " الحريم " لعزلة شبه مطلقة . أما الدور الأرضيّ ، فهوَ يستقبل الداخل إلى الدار بباحته الصغيرة ، المرخمة بحجر المرمر الناصع . تكاد هذه الباحة لا تحوي سوى غرفة لا تقل صغراً عنها ؛ شُغلت في زمن سنتي الإبتدائية ، الأولى ، كمقر للإدارة : ذلك المكان الغريب ، الموحش ، غيرَ الممكن لي نسيانه ، والذي شهدَ مدافعتي لأبي على بابه ، فيما كنتُ باكياً ملتاعاً مروّعاً ، أستعطفه إعادتي إلى طمأنينة بيتنا . إنه نفسُ المكان ، المقدّر لي إثرئذٍ أن أخلد فيه إلى الهدوء المُطمْئِن نوعاً ، وخاصة بعيدَ ملاطفة من المدير ، الأستاذ عز الدين ملا ، صديق والدي . ومن رهبة الخطوة الأولى ، إلى ما تلاها من خطىً أكثرَ ثقة ، فيما كنت يومئذٍ أتنقل من باحة المدرسة الصغرى ، هابطاً الدرجات العريضة ، إلى باحتها الكبرى ، التي كانت على الترخيم ، الفخم ، ذاته : بحيرة بيضوية ، على جانب من السعة ، تتوسط تلك الباحة ، وتقابل الإيوان الفسيح ، المسقوف ، والفاصل بقوسه الخشبيّ بين حجرتيْن كبيرتيْن . ثمة حجرات اخرى ، أقل شأناً ، في محيط المكان ؛ ربما إستعملت في زمن الآغا ، السعيد ، كغرف للمطبخ والخدم والمؤونة . دورة المياه ، القذرة دوماً ، يفضي بابها الخلفيّ إلى جنة الدار ؛ الحديقة الغناء ، المنقسمة إلى جزئين . كان الجزءُ العلويّ ، على شكل مصطبة مستطيلة ، متربة ، معدة لألعابنا الرياضية . أما الجزء السفليّ ، فمترع حتى حافة ثمالته ، بالأنواع المختلفة من الشجر المثمر ؛ كالتين واللوز والأكيدنيا والتوت والحمضيات والتفاحيات ، علاوة على الخمائل والعرائش المترامية حتى أحضان ضفة نهر يزيد : لم يبق أثرٌ لذلك الجمال ، جميعاً ؛ لا الدار ولا دررها . حلتْ علبُ الإسمنت المسلح ، بمَحل المنزل الدمشقيّ هذا ، الأثريّ ؛ وغطتْ فظاظتها ، أيضاً ، على آثار طفولتنا .

مشاهدٌ اخرى ، منذورة للحنين ، هيَ ذي ؛ منبجسة ٌ من الضباب المهيمن على الذاكرة . هكذا رأيتني ، أعودُ بأجنحة عقدَيْن من الأعوام ، التائهة ، لأحلق في سماء مسقط رأسي ، حاطاً من ثمّ على هضبة حيّنا ، الأعلى ، المحتضنة تربة " النقشبندي " . ثمة ، بين الأضرحة الرخامية والحجرية والإسمنتية والترابية ؛ هناك ، بين ألوانها الموزعة بمساواة على تدرجات الأبيض والأخضر ، كانت خطى جولتي متسامقة نحو المقام الأكثر بروزاً وهيبة وجلالاً : مقام قطب النقشبندية ؛ الشيخ خالد الشهرزوري الكردي ( توفي عام 1826 ) . قبته الخضراء ، تتشامخ على ما يحيطها من خلاء ؛ قبة ٌ ، كرأس أبي هول ، حجريّ ، يحرسُ موتانا . " يا أيها الزائر الكريم ، إقرع الباب " : جملة ٌ مستحدثة ، مدهونة بخط أسود ، قبيح ، تستقبلكَ قدام باب المقام . أقرعُ إذاً ذلك الباب الحديديّ ، المقوّس ، ذي الصبغة البنيّة ، ليفجأني ظهورُ رجل بمقتبل العمر ، أناقته لا تنتمي بصلة لعالم المتصوفة ، وكان يحفّ به موكبٌ من الأطفال : " يا الله ، يا الله ! .. ، إفتحوا الطريق ! " ، يوجهُ رجلنا نداءه إلى من في الداخل ، من الحريم ، قبل أن يفسح ليَ موطئاً للدخول إلى حرمة المقام . طريقة النداء ولهجته الدمشقية ، المعتقة ، أوحتا إليّ بأنّ الدار مقطونة من عائلة أو أكثر ؛ من سلالة النقشبنديّ ، ربما ، أو من أخلافه المعينين على شؤون وقفه . صراخ الأطفال من حولي ، أيقظ في ذاكرتي صراخاً مماثلاً ، إلا أنه أشدّ لوعة ومرارة . كنتُ بعمر أصغر أولئك الصبيَة ، حينما تناوبتْ كلا عمتيّ على إصطحابي إلى المقام المقدّس ، الأثير لدى الأهلين بشفاعة شيخه ، قدّس سرّه . لم أفقه وقتئذٍ سبباً لذلك البحران النائح ، من لدن هذه العمة أو شقيقتها ، المستصرخ روحَ الحضرة : فيما بعد ، حينما طوت التربة نفسها جسدَ الواحدة منهما تلوَ الآخر ، جازَ لعلمي الإحاطة بمأساة عائلية ، متكررة في كلّ مرةٍ ، كلعنة .

أتجاوز على أيّ حال ، المدخلَ . تلوحُ لي بركة مستطيلة الهيئة ، يبدو من وسع حجمها أنها إستعملتْ كميضئة ، فيما مضى . ويعزز هذا الإعتقادُ كونَ التكية ، تاريخياً ، بصفة المسجد المقتصر إرتياده على المريدين ؛ أولئك الدراويش المجذوبين ، ذوي الأسمال المهلهلة ، المخصص لإقامتهم مقصورات مناسبة . بيدَ إننا للحقيقة ، لا نعلمُ متى أقفر المقام من دراويشه ، فكفتْ من ثمّ أناشيدُهم الشجية ، الغامضة ، عن التناهي إلى الأزقة والحواري ، المشمولة بالعتمة . ولكننا على علم بالتواريخ ، على الأقل ، والمفيدة بأنه سبق للسلطان عبد المجيد الثاني أن تكرم على رعيته من أتباع الطريقة ببناء هذا المقام في عام 1847 (5) ؛ الطريقة النقشبندية ، التي كانت زمنئذٍ واسعة الإنتشار في عموم السلطنة ، حتى ويقالُ أنّ الباب العالي نفسه ، كان من مريديها . وفي هذا المقام ، يمكن التأكيد بأن النموذج العثماني لبناء التكية ، على شيء من التأثر بما سبقه من النموذج الأيوبي / المملوكي . إنّ خلوَ ذلك المقام من الزخارف والعقود ، علاوة على المادة الخشبية للقبة المرتكزة على قاعتها الحجرية ؛ كل ذلك يشي بتدهور المستوى المعماري في دولة عثمان . إلا أننا سنكون على حذر ، لدى إطلاق أحكام تعميمية . يسترعي كذلك إنتباهنا هنا ، أنه في هذه الدولة ، الهمايونية ، قد أستعيض بالتكايا عن المدارس ، المميّزة للعصر الأيوبي / المملوكي . مع أنه تبقت بعض المدارس من زمن العثمانيين ، إنشيء معظمها في عهد ولاة أسرة " العظم " ، المعروفة ( القرن الثامن عشر ) . ومن تلك المدارس ، ما كان منها في سوق ساروجة ، الحيّ الأرستقراطيّ ؛ كمدرسة المرادية ، وكان شيخها يُدعى أبو قميص الكردي . وفي المدينة القديمة ، مدرسة الشيخ عبد الرحمن الكردي ، في محلة القباقيبية (6) . هذا مع الجزم بأن التكايا ، ( أو " الخانقاهات " ، بلفظ ذلك العصر ) ، المخصصة للطرق الصوفية ، ليست إبتداعاً عثمانياً . ولدينا شهادة الرحالة الأندلسي ، إبن جبير ، الذي سبقت جولته جولتنا هذه بأكثر من ثمانية قرون . ها هوَ يتنعّم برؤية دمشق ، في زمن صلاح الدين ، وينوّه بفضل السلطان على الصوفيين ، حدّ المبالغة بالقول أنهم : " الملوك بهذه البلاد ، لأنهم قد كفاهم الله مؤن الدنيا وفضولها .. وأسكنهم في قصور تذكرهم قصور الجنان " (7) . ومفردة " خانقاه " ، التي تأخذ بالعربية معنى التكية ، محرفة من الكردية " خانكَه " ؛ وتعني زاوية ، رباط . وكانت الخانقاهات شائعة في زمن بني أيوب ، كزوايا للدراويش ؛ ومنها الخاتونية والناصرية ، في حيّ الصالحية . غير أنه تبقى الحقيقة ، المفصحة عن كون هذا النمط من المعمار الإسلاميّ ، أضحى سمة لما نعرفه عن المنشأة الدينية ، العثمانية : ولنتذكر أنّ التكية السليمانية ، المشهورة في دمشق ، هيَ نسخة مطابقة بهذه الدرجة أو تلك ، للتكية السنانية في إستانبول ؛ بقبابها المتعددة ، الرقيقة ، ومآذنها النحيلة . ولا يمكن للحديث عن العمارة العثمانية ، أن يكون بمعزل عن تقليد بناء نزل التجار ( أو " الخانات " ، بلفظ ذلك الزمن ) ، الذي كان مزدهراً وقتها : ومن الذين إهتموا بعمارتها ، كان الوالي أسعد باشا العظم ، الذي يحمل إسمَه الخانُ الكبير في محلة البزورية . جدير بالذكر ، أنّ لامارتين ، الشاعر الرومنتيكي الفرنسي ، كتب بإعجاب عن هذا الخان ، اثناء رحلته المشرقية ، بحدود العام 1760 . (8)

وكما تنتهي الأجسادُ الإنسية ، الفانية ، في ملكوت الموت ؛ هاهيَ جولتنا بدورها ، تتناهى إلى خاتمتها على طريق اليقين هذا : أجدني في محيط المقام ، النقشبندي ، أين تتناثر بكثافةٍ مشهودة ، مشاهدُ وأضرحة " كراد الحارَة " ، وتغطي التلّ العملاق ، المترامي الأطراف . تجلبُ الإنتباهَ أضرحة خلفاء مولانا خالد ، النقشبنديين ، الملتصق بعضها بجدران مقامه . وعلى بعد أمتار قليلة ، يثوي جدث بدرخان باشا ( توفي عام 1868 ) ، أمير " بوطان " الشهير ، الذي أماد الجبال الكردية تحت أقدام السلطنة العثمانية . حفيداً إثرَ الآخر ، إنضمّ جلادت بك وزوجه ، روشن خانم ، إلى رقدة جدهم الكبير هذا . كذلك يحدقُ بالضريح نفسه ، قبورُ بعض صانعي النهضة الكردية ، التي شهدتها دمشق في النصف الأول من القرن العشرين ؛ قبورٌ ، شاءت وصايا قاطنيها ، في حياتهم ، أن تحمل شواهدها كتابة وقصائد ، كردية ، مرقشة بأحرف لاتينية . مقام مولانا ، إذاً ، ذاكرة لأكثر من عصر . فما فتأت إحدى حجراته الرطبة ، الضيقة ، تأتلفُ بآثار " نالي " ( توفي عام 1857 ) ؛ أكبر شعراء الكرد الكلاسيكيين ، المتغنين باللهجة السورانية ؛ ومن كان مجاوراً في المقام لسنين ثلاث ، قبيْل إرتحاله ، الأخير ، إلى الآستانة . وبعكس تلك الرحلة ، شاءَ قدَرُ الأمير جلادت بدرخان ( توفي عام 1951 ) ، أن تكون ولادته في الآستانة نفسها ؛ في قصر عمّه الباشا ، المتنفذ في البلاط ، ليلتجيء من ثم ّ في شبابه إلى الشام ، وبعد حياة حافلة يغمض عينيه أبداً ، تحت سمائها . ثمة في المكان المخضوضر ، على ضفة يزيد ، جذورٌ متبقية من ذكرى أميرنا هذا ، متواشجة مع جذور أشجار دار زلفو آغا ؛ أين قضى الأول في ضيافتها ، الأشهر الأولى من إقامته بدمشق .

الهوامش

1 ـ الفارس دارفيو ، وصف دمشق في القرن السابع عشر ـ الطبعة العربية في دمشق 1982 ، ص 52 2 ـ رحلة إبن بطوطة ، تحقيق وطبع ـ القاهرة 1967 ، ص 61 ج 1
3 ـ يوسف جميل نعيسة ، مجتمع مدينة دمشق ـ دمشق 1986 ، ص 480 ج 2
4 ـ عز الدين ملا ، حيّ الأكراد في مدينة دمشق ـ بيروت 1998 ، ص 59
5 ـ الشيخ الشطي ، أعيان دمشق في القرن الثالث عشر ـ تحقيق وطبع في دمشق 1973 ، ص 291
6 ـ الشيخ البديري ، حوادث دمشق اليومية ـ تحقيق وطبع في القاهرة 1959 ، ص 144
7 ـ رحلة إبن جبير ، تحقيق وطبع ـ بيروت 1964 ، ص 256
8 ـ يوسف جميل نعيسة ، مصدر مذكور ، ص 184 ج 1



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 1 / 2
- رحلاتٌ إلى مَوطن الجرمَان 1 / 3
- الحارَة ؛ بابُها وبشرُها
- مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 2 / 2
- زبير يوسف ؛ في منحَتِ الحَديد والتحدّي 2 / 2
- مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 1 / 2
- زبير يوسف ؛ منشدُ الأزمان القديمة
- إسمُ الوردَة : ثيمة الجريمة في رواية لباموك
- أورهان باموك والإشكالية التركية
- معسكراتُ الأبَد : شمالٌ يبشّر بالقيامَة 2 / 2
- العثمانيون والأرمن : الجينوسايد المتجدد
- غزوة نوبل ، العربية
- معسكراتُ الأبَد : إلتباسُ التاريخ والفنتاسيا
- مقامُ المواطَنة ، سورياً
- الوحدة الوطنية ، المفقودة
- حوارُ أديان أمْ حربٌ صليبيّة
- نصرُ الله والعَصابُ المُزمن للفاشية الأصولية
- سليم بركات ؛ الملامحُ الفنيّة لرواياته الأولى
- خيرُ أمّةٍ وأشرارُها
- إعتذار بابا الفاتيكان ، عربياً


المزيد.....




- نخب -صداقة العمر-..4 صديقات يُعدن إحياء صورة لهنّ بعد 35 عام ...
- السعودية تتقدم على مصر ودولة عربية تلحق بهما.. ترتيب القوة ا ...
- -الكتاب الأبيض-.. استثمارات الصناعة العسكرية والدفاع في أورو ...
- اليوم العالمي للنوم: إليك خمس نصائح إن فعلتها في الصباح تمنح ...
- كالاس: واشنطن وعدتنا بعدم قبول أي شروط روسية حول أوكرانيا إل ...
- علاج بطعم الموت لمدة 10 دقائق
- مصري يدخل موسوعة غينيس ويحطم رقما جديدا خلال صيامه
- عاصفة مدمرة في كاليفورنيا (فيديو)
- المجلس الوطني الكردي يرفض الإعلان الدستوري السوري المؤقت
- أرمينيا وأذربيجان تتوصلان إلى -اتفاق سلام- بعد نحو 40 عاما م ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - دلور ميقري - مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 2 / 2