|
الجنوب واله المدينة والشريعة ( 8 )
اسماعيل شاكر الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 7707 - 2023 / 8 / 18 - 10:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الجنوب ( 8 ) الجنوب واله المدينة والشريعة الجزء الثاني من : الجنوب والدولة القومية
( آ ) لم تكتب حضارات وادي الرافدين : ادبَ الملاحم ، الَا بعد ان بدأت تخامر قادة المعبد : فكرة تحويل اراضي السهول الزراعية المُشاع الى ملْكية خاصة لاله المدينة ، يديرها كهنة المعبد باسمه . وبسبب من ذلك : نشبت الحروب بين دويلات المدن السومرية . قدمت ملحمة الخلْق البابلية ( إنوما إليش ) التي هي تتويج لملاحم سومرية واكدية سابقة : احداثها في اطار من الثنائيات : ( النظام / الفوضى ) ( الفوق / التحت ) . ( القوي / الضعيف ) . ( المقدس / المدنس ) . ( النور / الظلام ) . ( الجميل / القبيح ) . ( الخير / الشر ) . يشمل النظام كل ما هو : فوق وقوي وطاهر ومقدس ونور وجميل وخير ، وتشمل الفوضى كل ما هو : تحت وضعيف ووسخ ومُدّنس وقبيح وظلام وشر . تجري الحرب ( وهي ثيمة ملحمة الخلق الاساسية ) بين النظام بصفاته المشرقة الخيّرة والفوضى بصفاتها الشريرة المظلمة ، وتنتهي الحرب بانتصار النظام فتزول الفوضى . ويقوم الاله المنتصر ؛ مردوخ ، بفصل الارض عن السماء . وبهذا الفصل الوجودي تتكون الحياة التي من اجل تنظيمها سيوحي كبير آلهة المدينة : مردوخ ، الى نائبه في الارض : الملك حمورابي بشريعة عامة وشاملة ( 282 بنداً ) ، تتناول تنظيم جمع اركان الحياة … ( ب ) لقد انتهت ملحمة الخلْق بانفصال الكون الى وجودين : ارضي بديره الملك ، ووجود سماوي يضم آلهة تملك قدرات خارقة : فهي تملك قدرة العيش والتنقل في السماء من غير ان تسقط ، وهي قادرة على الخلق وابتداع ما لم يكن موجوداً ، وتملك قدرة زيارة العالم الارضي والتأثير في احداثه والتنبؤ بما سيحدث . وهي توحي للكهنة قدراً من المعارف الضرورية للحياة ، وتنبئهم بالاحداث الآتية . هذه المعتقدات التي بثتها الآداب والملاحم الرافدينية : جعلت سكان وادي الرافدين يوقرون سكنة السماء ويقدسونهم ، ويقدمون اليهم الاضاحي والنذور لكسب تعاطفهم وتجنب غضبهم … ( ج ) لا يوجد رمز في فنون حضارات وادي الرافدين : يضاهي الجناح في قوّة فصاحته الناطقة بدلالة : القوة والعنفوان وتجاوز حواجز الزمان والمكان والسكن في الاعالي وعدم السقوط . وهذه الدلالة النابعة من عبادة القوة في مجتمعات الحضارة الزراعية : تحوَّت في ايامنا - منذ حمامة بيكاسو - لتشير الى السلام ومشتقاته من : الدعة والسكون والتسامح واحترام الآخر كما اخرجته لنا تفاعلات احداث التاريخ ، كما هو بعاداته ولغاته وثقافاته ودياناته المتعددة : في رد ماحق على منطق القوة الذي ساد العلاقات الدولية بعد الاستعمار ، وبعد تبلور التشكيلة الاقتصادية الرأسمالية … ( د ) صوَّرَت حضارات بلاد الرافدين : بنيةَ الكائنات السماوية : بأجنحة ، للاشارة الى تحررها من قوانين المكان والزمان الارضية ، وقدرتها الخارقة على الطيران وعدم السقوط ، وعلى قطع المسافات البعيدة برمشة عين ( كما هو ظاهر من مشاهد الحرب في الملحمة ) . فالجناح يرمز الى قدرة صاحبه على القيام بمعجزات . وقد صور فنان الحضارات الرافدينية : الحيوانات الارضية ذات القوة والبأس كالاسد والثور بأجنحة ، للربط بين القوة والتحرر من حواجز الزمكان الارضية : وقد حفظ لنا الزمن نحته عن الحيوان المجنح الذي عرج بالملك السومري ( أيتانا 2200 ق. م ) الى العرش السماوي ، كما وصلنا نحته البديع للآلهة المجنحة ( الانانوكي ) ، مثلما وصلتنا رسومات متعددة لحيوانات مجنحة عرّجت بالكثير من الانبياء مثل : " زرادشت " الى الاله : اهورامزدا ، وعرجت بسواه الى آلهتهم … ( هـ ) عمّمت كتابة الملاحم والاساطير : رهبة عامة وشاملة لدى السكان من الآلهة : ابطال الملاحم والاساطير ، والخوف من قدراتهم الخارقة . فهذه الكتابات صوّرت قدرات تلك الكائنات العلوية بطريقة ساحرة عجائبية : اثارت الكثير من التساؤل والاستغراب : واجَّجَت حولها مشاعر متناقضة : من الحب والتقديس الى الخشية والخوف ، لكن ممثلي هذه الآلهة على الارض : من كهنة وشعراء وسياسيين وقواد جيش وموظفين ، الذين يلتقون الناس يومياً ، ويسمعونهم ما ينسبونه الى الآلهة من وصايا واوامر ، وما تبيحه شرائعهم وما تنهي عنه : غلبوا جانب الخوف من الآلهة على جانب الحب والعشق والهيام ( الذي سيختص به لاحقاً : الغنوص والعرفانيون والمتصوفة ) : حين بدأوا بتلقين المتعبدين قصائد تمجيد الآلهة والتسبيح باسمائها ، الذي تطور لاحقاً الى منهج الدعاء والاعتماد الكسول على آلهة السماء في قضاء حاجيات بني البشر . واستمر هذا الكسل البشري في الاعتماد على آلهة السماء في تدبير شؤونهم الى انبلاج شمس الثورة الصناعية 1760 م ، التي اعتمدت المنهج العلمي وقطعت الصلة بمنهج الدعاء : الذي اخترعه : كهنة المعابد السومرية . لقد غلّبت الملاحم والاساطير ( بسبب من مبالغتها في وصف صفات الآلهة السماوية الخارقة ) مشاعرَ الخشية والخوف من الآلهة على مشاعر الحب ، وهذا ما جعل الناس : كلٌ في مدينته ، يطيع شريعة المدينة خوفاً - وليس حباً - من عقاب اله مدينته . وذلك هو الهدف الكبير الذي كان يتغيّاه : الكهنة والشعراء من كتابة الملاحم والاساطير : اطاعة شريعة المدينة ، على انها شريعة اله المدينة . وبهذا تكون هذه النصوص التي كتبها الشعراء باشراف : الملوك - الكهان ، قد تحولت في وعي المستقبلين لها الى نصوص مقدسة . وحين تحضر القداسة يولد الدين : الذي لا يحتاج الملك بعده الى حمل الناس بالقوة على بناء المشاريع الضخمة كالاهرامات والزقورات ، وشق الانهار والحرث والزرع والسقي والحصاد ، فكل تلك الاعمال الثقيلة كان اله المدينة قد اوصى بها في الشريعة ، وقد نقشها الملك - اجلالاً واحتراماً - على صخور البازلت على شكلٍ اسطوانة تحفظها الى ابد الآبدين … ( هـ ) استخدم ملوك دول حضارات بلاد الرافدين ، الذين جاؤوا بعد السومريين : المعتقدات السومرية ذاتها : لما لها من تأثير حاسم في حمل الناس على الطاعة : طاعة القوانين والتشريعات الموحى بها من السماء . لقد قدسوا النصوص السومرية ، فحفظوها لنا في مكتبات خاصة ، اذ كانت الآداب السومرية : آلة صهر عظيمة في ايديهم ، يصهرون بها جموع الناس الغفيرة ويخرجونهم باعتقاد واحد وعبادات وطقوس واحدة ، فيسهل عليهم قيادتهم وتوجيههم . لقد انتجت دولة المدينة السومرية : اول استراتيجية في التاريخ لقيادة القطيع البشري نجحت في الوصول الى جعل الكائن البشري : كائناً مطيعاً ، والطاعة هي اول هوية للانسان صنعتها دولة المدينة السومرية : واضافتها الى مجموعة هوياته السابقة واللاحقة : هويته ككائن ناطق ، وهويته كصانع ادوات ، وهويته ككائن ديني أو باحث عن المعنى … ( و ) انصح بقراءة “ شرق المتوسط “ لعبد الرحمن منيف ، ونص : القسوة ، لعامر بدر حسون ، وجمهورية الخوف لكنعان مكية . تدور ثيمة هذه الكتب المكتوبة في النصف الثاني من القرن العشرين : حول صراع الانسان من اجل انتزاع حقه في ان يعيش الحياة باختيار حر لمعتقداته ، والتعبير عنها من غير خوف ، لكن السلطان لا يمنح هذا الحق بسهولة من غير اعلان الطاعة والولاء لنظامه . ورغم آلاف السنين الفاصلة بين هذه الكتب التي تناولت ضحايا طغاة القرن العشرين ، وبين زمن تأليف ملحمة جلجامش ، الّا ان الحضور الشامل للطاغية : جلجامش ، يطل علينا من بين سطور الملحمة . لقد سوَّر مدينة اوروك على ساكنيها وطالبهم بالتقيد بممارسة حياتهم وفقاً لشريعة دولته ، ثم خرج لوحده باحثاً عن الصداقة ، وقاتلاً للوحوش ، وشاقاً لعباب الماء لاكتشاف سر الخلود . لا تشعر - اثناء القراءة - بوجود بشر فاعلين ، يصنعون الاحداث بل تشعر برواية سلسلة من الاحداث : يصنعها ويديرها جلجامش وصديقه انكيدو ، ثم يديرها جلجامش لوحده - بعد موت صديقه : - بغياب تام لسكان المدينة التي يحكمها : والذين ظلوا على طول الملحمة ، غائبين وراء اسوار المدينة ، ينتظرون عودة جلجامش . ولكن جلجامش لم يكن يشبه الصياد الذي يعود الى المدينة بالصيد الثمين بل جاءهم : كما هي عادة كل الطغاة باجوبة مأساوية عن صدماته المتكررة : في الصداقة ، وفي الوقوف المأساوي امام ظاهرة الموت ، وفي فشله بالاحتفاظ بعشبة الخلود ( بدلاً من تجربة الطاغية جلجامش ، واستسلام شعبه التام لما يرويه من اقدار اعترضت طريق رحلته ، يمكن ان نتذكر ساحة الاجتماع العام لاحرار اثينا 400 ق . م ، الذين يصوتون على جميع قرارات المدينة ، ومن ضمنها قرارات الحرب والسلام ) . ويبدو ان الطغاة في التاريخ ، لا يتمكنون من صناعة مغامراتهم وانجاز بطولاتهم الفردية ، الّا على حساب حرية شعوبهم وطاعتهم الجماعية له . لقد فعلت معتقدات الحضارة السومرية : فعلها في انصياعهم الجماعي لطاعة قوانين وتشريعات الاله المقدسة : فتمكن من القيام بسلسلة من البطولات والمغامرات ، كما قام صدام حسين - الذي اطبق على انفاس الناس وخنقهم بمؤسساته الامنية المتكاثرة - بسلسلة من الحروب العبثية …
#اسماعيل_شاكر_الرفاعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجنوب والدولة القومية ( 7 )
-
لقد امر السلطان العثماني : اردوغان بهذا ، فماذا انتم فاعلون
-
الجنوب ( 6 ) / الجنوب ومفهوم الدولة الحديثة
-
الجنوب / 5 ، الجنوب والفعل الحضاري
-
الجنوب ( 4 ) الجنوب والسوق - الى حقي الرفاعي
-
الجنوب / 3 : السوق والهويات
-
الجنوب ( 2 ) الى : حقي الرفاعي
-
الجنوب ( 1 ) الى الصديق حقي الرفاعي
-
هل يوجد مجتمع سياسي حديث في العراق ؟ الجزء الرابع
-
سلم رواتب شعبين لا شعب واحد
-
اوهام الاغلبية ، الجزء الثالث من مقالنا عن : قيادة مقتدى الص
...
-
الجزء الثاني من : في قيادة مقتدى الصدر
-
عن تجربة مقتدى الصدر في القيادة
-
قوات العم السريع السودانية والحشد الشعبي العراقي
-
في سياسة رئيس مجلس الوزراء العراقي
-
عيد العمال العالمي
-
واهداني الكاتب احمد الفارابي هدية العيد
-
هل كانت امريكا هي التي تثير التناقضات الطائفية بين السعودية
...
-
- المحتوى الهابط - في طريقة اختيار رئيس مجلس الوزراء العراقي
-
اليمين الاسرائيلي واليمين الفلسطيني وجهان لعملة واحدة
المزيد.....
-
طبيب أمريكي كان في غزة 6 مرات يوجه رسالة مؤثرة عند سؤاله عما
...
-
-تصعيد خطير ضد مؤسسات الدولة-.. الرئاسة السورية تدين الهجوم
...
-
رأي.. عمر حرقوص يكتب: سوريا بين الساحل العلوي والهجمات ضد ال
...
-
بوتين يؤكد عدم حاجته إلى منبه للاستيقاظ في الصباح
-
القوات الروسية تدمر 10 زوارق مسيرة أوكرانية في مياه البحر ال
...
-
علماء روس يرصدون تفكك المذنب -إيستر-
-
خبير لا يستبعد مشاركة عسكريين من كوريا الشمالية في معارك دون
...
-
تايلاند تطلب دعم روسيا للحصول على العضوية الكاملة في مجموعة
...
-
الحوثيون: العملية العسكرية في حيفا نفذت بصاروخ باليستي فرط ص
...
-
زعيم فيتنام ينطلق في زيارة لروسيا وبيلاروس وكازاخستان وأذربي
...
المزيد.....
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
المزيد.....
|