مريم الحسن
الحوار المتمدن-العدد: 7705 - 2023 / 8 / 16 - 20:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
" كلما اتسعت الرؤيا .. ضاقت العبارة .. لأن العبارة ستر..فكيف ما نُدبت إليه؟ "
محمد بن عبد الجباربن الحسن النفّري
عارف متصوف زاهد, ومتميز. عرف فأبصر و وَفى لما إليه وصل. فاعتزل العبارة و اكتفى بالإشارة. لأن العبارة حجب وضلال, وعائق في سبيل غيره في الوصول إلى ما وصل هو إليه. فأدب العبارة بأن عرّفها حين ألزمها حدودها, وحدودها بين اثنين:
ناطق نطق بها
و سامع تأولها
و هنا سر ضلالها ومكمن تحوّلها إلى ستريحجب الحقيقة. لأن الحقيقة في رؤيا الناطق غيرها الحقيقة في تأويل السامع, وستظل محجوبة عن السامع ما لم يصل إليها هو بنفسه. و حين يصل إليها وتتجلى له بسعيه هو وبتمظهرها له.. سيعتزل العبارة و يلتزم بالإشارة, وعند التقاء الإشارتين تظهر الحقيقة واحدة .. ويُكشف الغطاء.
عاش محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفّري في العصر العباسي في القرن الرابع الهجري الموافق للقرن العاشر الميلادي .. وهو من مواليد بلدة نفّر أو نيبور ( Nippur ) العراقية. وكما أشرنا في تقديمه هو كان متصوفاً زاهداً, والزهد في الفكر الصوفي يعني الفكاك من أسر التعلق بكل ما هو مادي, والتحرر من كل أنواع العلائق في دنيا الوجود الحسي, للانطلاق روحياً، وبحرية، في رحلة خاصة من التفكر الروحاني, بهدف تنقية الذات, والارتقاء بها معرفياً عن طريق النهل المعرفي الاشراقي, بهدف الوصول إلى الغاية الأسمى لكل عارف متصوف وهي: تواحد المحدود باللا محدود و الفناء في حضرة اللا متناهي. وبسبب هذا الزهد ، غلب على سلوك النفّري طابع الانعزال عن الناس, و تغليب صمته على الكلام، واقتصر في انتاجه الفكري على الإشارات الاشراقية و الشذرات الأدبية فقط. فقل اختلاطه بالناس و كثر ترحاله, فما كان يقيم طويلاً في مكان واحد, وكل ما عُرف عن حياته أنه تنقل بين العراق و مصر حيث توفي فيها عام 354 هـ.
والنفّري لم يدوّن بيده أي من إشاراته و شذراته في كتاب, لكن يُنسب له كتابان هما "المواقف و المخاطبات", تم جمعهما في كتاب واحد بعد وفاته، بعد أن قام حفيده و بعض تلامذته أو محبيه بتدوين ما استذكروه من كلامه. ولولا عثور المستشرق الانكليزي (آرثر يوحنا أربري) على نسخة من هذا الكتاب في ثلاثينيات القرن العشرين، ونشره له، لما عرفنا شيء عن النفري، و لما كان وصلنا منه شيء إلا بضع عبارات أشار بها ابن عربي إليه في كتابه الفتوحات المكية. ولولا ذكر محيي الدين بن عربي للنفري في كتابه "الفتوحات المكية"، وإشارته فيه إلى كتاب "المواقف" لما كان بالإمكان تثبيت نسب الكتاب للنفري, و لما كان بالإمكان التعرف على أسلوب تصوفه الخاص الذي تمايز به عن باقي الطرق الصوفية, مع الإشارة إلى أن ابن عربي ذكر في كتابه "الفتوحات" فقط كتاب "المواقف" و لم يذكرأبداً كتاب النفري الثاني "المخاطبات". لذا يظل نسب المخاطبات للنفري أمرغيرمؤكد تاريخياً إلا بالدراسة و التحليل و بالمقارنة بين متن المواقف و متن المخاطبات.
و كتاب المواقف عبارة عن سبعة و سبعين موقفاً فلسفياً روحانياً، منظومة بأسلوب نثري, كثيف الرمز وعميق المعنى، يلتقي بفنه كثيراً مع غموض ورمزية الصور الشعرية في الشعر الحديث، لهذا، بعض الدراسات الأدبية اعتبرت أسلوب النفّري الملهم الحقيقي, والمنبع الأدبي الأول الذي منه استقى رواد الشعر الحديث شكل ورمزية قصيدتهم النثرية. لكن رغم هذا الالتقاء و التشابه الفني بين الأدبَين، فإن أسلوب النفّري يفترق و يختلف عن أسلوب القصيدة الحديثة من حيث المتن و المضمون, ويتفوق على أهل صنعتها بقدرته على اصطياد غزالة المعنى من دون أن يجرحها أو يلوي عنقها, وذلك طبعاً لاختلاف مقاصد أهل الأدب عن مقاصد أهل العرفان و التصوف. ووجه الاختلاف هذا يتجلى واضحاً في نصوص النفري، لاسيما بتلك القدرة البلاغية الواسعة، القادرة على سبرعمق المعنى المقصود من الفكرة، والإشارة إليه بإيجازأعمق يقوم على استجلاء المعنى من نظام التضاد الذي يحويه المعنى في ذاته، بسلاسة هادئة وتفنيد منظوم من دون أي إخلال في وحدة المعنى المطلوب, ومن دون أي تناقض يُذكر في تسلسل أفكار الطالب. ما حمل شارح كتابه، عفيف الدين التلمساني المتصوف المعروف، على القسم بأسماء الله الحسنى جميعها بأنه ما رأى في مكتوب و لا سمع في مسموع أفصح عبارة من النفّري (أي تفوق فصاحته على فصاحة باقي المتصوفين في التعبيرعن التجليات الاشراقية). فأثنى على بلاغته واصفاً إياه "بفصيح العبارة و معجز الإشارة".
يبدأ النفري دائماً كل موقف من مواقفه بجملة "أوقفني" ثم يسمّي الموقف، و يتبعها بجملة "و قال لي" و بعدها يتلو فكرته و يستفيض في تفنيدها بادئاً كل تفنيد بجملة "و قال لي". والوقفة عند النفّري ليست مكانية و لا زمانية, ولا جدلية حوارية أو ثنائية تخاطبية بين ذاتين اثنتين. ففي جميع مواقفه لا يشير النفري البتة لا إلى أين المكان ولا إلى متى الزمان, ولا ألى ماهية الفعل أو العمل الذي أوقف عنه, ولا إلى "مَن" الذات الاخرى التي استوقفته. مع أن عبارة اوقفني تتضمن في معناها الأول, الذي يتبادر أولاً إلى ذهن القارئ, معنى التوقف عن السير، وفي معناها الثاني البديل التوقف عن الاسترسال في شيء ما، كلامٍ ما أو عملٍ ما. لكن النفري, "الدرويش و جواب الآفاق و المغامر في أقطاب الأرض، المحمول على الحدس والخيال و الرمز" كما وصفه المستشرق الانجليزي رينولد ألين نيكلسون، لم يكن سائحاً مرتحلاً بين المدن يطلب أسرارها، بل كان زاهداً متصوفاً مرتحلاً في ذاته و معتزلاً في وجدانه و في أفكاره، غواصاً في بحر استرساله الباحث عن المعنى ، بل عن عمق معنى المعنى.
لذا كانت المواقف. والمواقف من الوقفة. والوقفة هي الإنتباه. والتوقف المنتبه هو استدراك، ثم مراجعة و تحليل لما سبق، ثم إعادة تموضع والتحضر لاستكمال ما سبق أن تُوقِّف عنه، ومن ثم استكماله على أفضل وجه ممكن. فمواقف النفري إذن، و هو السائح في رحلة وجدانية ذاتية معرفية استشراقية باحثة عن المعنى الحقيقي بقصد تحقيق فنائه في حضرة المعنى الأول، ما هي إلا محطات وقفة مع الذات أي مع نفسه هو, لمراقبة ما سبق له من فهمٍ غير دقيق للمعاني، ووقفة استنتاج العِبرمن تجربة استكشافه لها و انكشافها له، وإعادة تنقية لما وصل أليه من مراتب المقامات العرفانية, وعملية تصويب للمعاني فيها, واستخراج اعمق ما فيها من معاني, بما يتلائم مع إيمان حدسي فطري اشراقي يقوم على استخراج المعنى من مرآة ضده، ومقابلته به, ليتواحد معه بتوازن مضبوط لا يخل حضور واحدهما بتمام كماله بالآخر. فيتناسب الضدان باتحادهما معاً ليصيرا "كُلاً واحداً", تماماً كرمز اليين واليانج في الفلسفة الطاوية القديمة, فينبلج من هذا الاتحاد المعنى المطلوب وبالنسبة المطلوبة لكل موقف من مواقف تقابلهما.
و لتتوضح الصورة أكثر, أنقل فيما يلي " موقف القُرب " و معناه كما وصفه النفري في المواقف :
أوقفني في القرب و قال لي ما مني شيء أبعد من شيء, و لا مني شيء أقرب من شيء, إلا على حكم اثباتي له في القرب و البعد.
و قال لي البعد تعرفه بالقرب، و القرب تعرفه بالوجود. وأنا الذي لا يرومه القرب، ولا ينتهي إليه الوجود.
و قال لي أدنى علوم القرب أن ترى آثار نظري في كل شيء, فيكون أغلبَ عليك من معرفتك به.
و قال لي لا بعدي عرفت ولا قربي عرفت, ولا وصفي كما وصفي عرفت.
و قال لي أنا القريب, لا كقرب الشيء من الشيء، و أنا البعيد, لا كبعد الشيء عن الشيء.
و قال لي قربك لا هو بعدك و بعدك لا هو قربك، و أنا القريب البعيد قرباً هو البعد و بعداً هو القرب.
و قال لي القرب الذي تعرفه مسافة، والبعد الذي تعرفه مسافة، وأنا القريب البعيد بلا مسافة.
و قال لي أنا أقرب إلى اللسان من نُطقه إذا نطق، فمن شهدني لم يذكر, ومن ذكرني لم يشهد.
و قال لي الشاهد الذاكر إن لم يكن حقيقةً ما شهده, حجبه ما ذكر.
و قال لي ما كل ذاكر شاهد و كل شاهد ذاكر.
و قال تعرّفت اليك و ما عرفتني, ذلك هو البعد. رآني قلبك و ما رآني, ذلك هو البعد.
و قال لي تجدني و لا تجدني, ذلك هو البعد، تصفني و لا تدركني بصفتي, ذلك هو البعد، تسمع خطابي لك من قلبك, وهو مني, ذلك هو البعد، تراك و أنا اقرب إليك من رؤيتك, ذلك هو البعد.
#مريم_الحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟