محمد المهدي السقال
الحوار المتمدن-العدد: 1727 - 2006 / 11 / 7 - 10:38
المحور:
الادب والفن
حين عرض عليها قصته الجديدة تحت نفس العنوان , استغربت اختياره ,
ليس لأن الكلاب لا تُعرف برقصة معينة,
ولكن لأنه مازال متأثرا مثل كثير من قراء الستينيات من القرن الماضي , برواية " اللص والكلاب " لنجيب محفوظ .
حاول تبرير استعمال الكلاب في الجملة , بالأثر النفسي الذي يحدثه توظيف الاستعارة كما تعلمها في دروس البلاغة:
أنا نفسي لم أسمع برقصة مخصوصة للكلاب على الحقيقة , غير أن القارئ سيميز منذ الوهلة الأولى بين كلاب الوفاء وكلاب الغدر .
لم تبال بكلامه , لطالما حز في نفسها إصراره على مواصلة ما يسميه نقد وفضح كلاب هذا الزمان ,
و بقدر ما كانت حريصة على إبعاده عن رفاق الحزب الذين ظلوا رافضين لدعوة التوبة , بقدر ما كان مصرا على العيش بذاكرته ,
ألا ترى أن الخطوبة قد طال أمدها , متى سيجمعنا سقف واحد ؟
أمسك عن الرد عليها , وفي نفسه رغبة جامحة للإعلان أمامها , بأن القصة موضوع الحوار واقعية , وأنه عاش تفاصيلها الوقحة على مرأى ومسمع حضور تلك الحفلة المقيتة ,
كيف يشرح لها أنه كان في أسوأ وضع لا يتمناه حتى العدو لعدوه ؟
انشغلت عنه بالاستعداد للالتحاق بالكلية , فوجد مخرجا من سخريتها الباردة ,
ليـتها أدركت ما يعانيه بعد انتهاء كل يوم ,
يسلم رأسه للوسادة , فيغلي كالمرجل في دائرة مغلقة.
يتحدث عن الليلة الليلاء بين الكبار في حفل تكريم وزير , يقولون انتهت مدة توليته , ويقول انتهت مدة صلاحيته ,
لم تكن لتتاح له فرصة رؤية الوزراء بقدهم وقامتهم الحقيقيتين ,
لولا انتقالُه إلى العاصمة , بحثاً عن عمل كيفما كان , بعد أن ضاقت به السبل , وغُلِّقَت في وجهه كل احتمالات الوصول إلى وظيفة في الإدارة , عَقِبَ تخرُّجه بامتياز , من المعهد العالي للتدبير السياسي ,
وصل مبكرا ضمن عمال متعهد الحفلات , بعد ليلة معاناة مع التفكير في اتخاذ قرار , يحسم في القبول أو الرفض , استدعاه " المعلم " بنفسه , ليطلب منه الحضور باكرا ,
افْرَحْ أسِيدي , سيحصل لك شرف توزيع الشاي على الوزراء ,
وأضاف أنه قد وقع الاختيار عليه , اعتماداً على الهيئة التي يتمتع بها , طول وعرض و وسامة ,
ابتسم قبل أن يستدرك, أريدك أنيقا أكثر من اللازم ,
أريد أن " تُـحَـمِّـرَ " لي وجهي بين السادة الوزراء , سيختار لك " عباس " ما يناسبك من اللباس , كي تبدو منسجما مع الجو.
كدت أسأله عما إذا كنت سأقوم بمهمة أخرى غير النادل الذي كنت , لولا أنني لجمت فمي اتقاء غضب " المعلم " ,
تذكرت أمي حين كانت تقول بأن فمي يأكلني , لا أطيق صبراً لمجرد التلميح , ناهيك عن التصريح , و أتعجب الآن كيف صرت أستطيع لجم فمي , خوفا من استشاطة " المعلم" ضدي ,
عانده النوم فاشتد به الأرق , وهو يتمنى لو يخلد لنومة عميقة تعفيه من الاستمرار في الانشغال بموعد الغد ,
نظر إلى بدلته اليومية ملتصقة بالجدار , وجه إليها أصبعه الأوسط , ثم ما لبث أن وجد نفسه يرد الأصبع إلى صدره,
تسمَّع في فضاء الغرفة الوحيدة في سطح العمارة , صوتا يتسلل من ثوب البدلة البنية :
على الأقل , معي كنت محتفظا بكرامتك , واستوقفه الحرف الأخير في مقدمة الحلق ,
كان يحدث نفسه بصوت مرتفع ,
حكى لي عن تلك الليلة و ما تلاها , فتفهمت كيف ظلت كل التفاصيل محفورة في ذاكرته ,
لم يكن يتصور يوما أن يكون ضحية عرض رخيص في حفل تكريم الوزير ,
وصل مبكرا ضمن شباب لم يسبق أن كانوا ضمن عمال المتعهد , هل كان أكبرهم سنا , من الصعب التمييز , لكن ما يميز المجوعة من سبعة أفراد , اشتراك في وسامة الوجوه ,
قال له " عباس " وهو يدعوه لقياس لباس اختاره له , بأن اللون الأخضر يناسب بشرة محياه ,
لكنه لم يفكر سوى في حرص المؤسسة على الظهور بما سيتناسب مع المقام ,
سيكون هناك الوزراء والكتاب العامون والولاة ,
و من يدري ؟ قد تحدث مفاجئات غير منتظرة , قالها " عباس " وهو يبتلع ريقه ,
طال انتظار لحظة بداية الاستقبال , بقي مسمرا في نفس المكان زهاء أربع ساعات ,
احتدت شدة الرغبة في الخروج , كيف يعلن عن حاجته الملحة للتبول , مع مَن سيتكلم ؟ اشتدت الحرقة أكثر ,
ذكر لي أنه قبل إطلاق سراحه بالصدفة , إذ هلَّ علي " عباس " , ليذكره بالابتسام العريض للمدعويين , أن بعض القطرات كانت قد تحررت من سيطرته على الممر , فنزلت دافئة يحضنها قماش مخصوص ,
وبعد العودة تسمر أكثر من ثلاث ساعات ,
قبل أن يهل أول طالع بحاشيته , اصطنع الابتسامة المنصوح بها , تنبه إلى متابعة الزائر بعينيه , تفاصيل هيئته ,
كاد يضطرب , ود لو كان أمام مرآة , ليتأكد من حسن اصطناعه لتلك الابتسامة العريضة ,
وصل الثاني والثالث والرابع والخامس , يسبقهم إعلان ترحيب المكلف الأول بالاستقبال ,
كلهم نظروا إليه من نفس الزاوية ,
لكنهم كانوا يبتسمون له ,
عادت إليه ثقته بنفسه, فصار ينحني برأسه قليلا للاستجابة إلى ما يشبه التحية منهم ,
لو لم تمر هذه المرحلة بسلام , لربما كان قد وجد نفسه مطرودا ملوما محسورا ,
لكن الله ستر , فقد اختير من بين السبعة , ليكون ثالث فتيان التحرك داخل القاعة المغلقة ,
يالله , " حمروا لي وجهي " ,
وانسحب " المعلم " , يشير بيده اليمنى للتأكيد على حسن الانضباط للجو ,
أثارتني حركة الفتى الأول وهو يرد بالإيجاب على " المعلم " , كدت أضحك من حركاته الأنثوية متوازية مع إيقاع صوته الرخيم ,
لم أكن أعرف أنه هو نفسه من سيتولى الإشراف على توجيهنا بين الموائد ,
ذكر لي صاحبي , أنه لم ينتبه لشيء , إلا حين فاجأته كف ناعمة تمرر أناملها على مؤخرته , لم يستدر خلفه للتثبت من الحكاية , لكن دهدهة السيد الوزير تبعت خطوه ,
أحس بالمهانة القصوى حين أدرك الموقف الذي حشر فيه ,
كيف يبدي مقاومة ما ؟
رمق الفتى الأول بين رجلين يبادلانه الحديث كأنه منهم , ركز بصره للتحقق , بدا له الفتى كأنه يترنح بين الأيدي المداعبة ,
فجأة , رفع الستار عن فرقة موسيقية من خمسة أفراد معـصوبي العيون , كيف سيعزفون ؟
جاءه الرد سريعا بالشروع في تسوية الأوتار بين العود والكمان ,
لعلهم يتهيأون لعزف مقطوعة " الأطلس " , كان يعرفها بافتتاح دقة " البندير " مفردة ,
انتهى توزيع الكؤوس التي لم يمسسها شاي , وفي نفسي سؤال عن السوائل التي سيتناولها الحضور الكريم ,
الأكواب معلومة , قطع حبل تفكيره الفتى الأول , وهو يمد إليه قنينة " الويسكي " :
أنتَ ستتكلف بالخدر على يسار الفرقة , انتبه , كن خفيف الرأس , هاوِدِ الضيوف الكرام , سايِرْهُمْ في نشاطهم , من يدري ؟ ربما تحظى بالقبول والرضاء , فتفتح لك ليلة القدر,
صعدتُ تنهيدة عميقة , امتزجت فيها رغبة في الضحك مرة أخرى من هذا الجسد المخنث في هيئة رجل , برهبة من توجس السوء به في هذا الحفل الموقر , لقد وقعت ,
وذكر لي صاحبي كيف مرت عليه لحظات احتمال تفاهات أحد الشخصيات المرموقة في البلد ,
ود لو أن الأرض ابتلعته , لئلا يتذكر كيف تركه يداعبه من الخلف ,
في البداية , وجد تبريرا في حالة السكر , فقد جرت العادة أن يفقد الشارب المنتشي صوابه , ليأتي ما لا يحتمل , لكنه في النهاية , أيقن أنه وسط شواذ بامتياز ,
قال لي بأنه إلى حد الآن , لا يعرف الفاعل من المفعول ,
ابتسمت لروايته , لم تنفعكَ حصيلة القواعد , رغم أنك حصلت فيها على شهادة الإجازة ,
بقي صاحبي جديا في حكيه عن تلك الليلة , وأضاف ,
كانوا يتقنون رقصة الكلاب
#محمد_المهدي_السقال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟