سَبْعِيامْ دَالْبَاكُورْ

عبد الله خطوري

الحوار المتمدن-العدد: 7696 - 2023 / 8 / 7 - 09:34
المحور: الادب والفن
    

بعد الغذاء مباشرة، راوَدَنِي خاطرُ مراودة جنبات هضبة البلدة التليدة مُشَجَّعا بجو آب الحار المخضب بمويجات من العواصف الصيفية المتناثرة عبر المرتفعات تبرق بروقها هنا هناك ترعد بأصوات تزمجر قريبة تارة بعيدة؛ وفور جلوسي في حِضن السفح الحاد في منحدر شاهق يطل على الوادي رأيتُني ذات مصيف في زمن ما خلا غاطس في الغياب مستلقيا في جُسَيْمِ فتى نحيف مجدور الوجه ثقيل اللسان مرتبك الحركات يخشى ظِلُّه من ظله مُنْزَوٍ في زاوية داخل إحدى الغرف الدافئة ببرودة منعشة تثير النوم في العيون .. رأيتُني أتحينُ آنجلاء زحمة المتزاحمين حولي وقد غطتْ وجهي يدااي وجاكيتتي التي أُخرِجَتْ من بين حوائجي كي تقيني برد ليلة الصمايم على حد قول خالتي لطيفة التي جعلت تذكرني بما أوْصَتْ به جدتي (تاهْرِيدَانْتْ) من ضرورة آلتزام الحذر والتحلي بالرصانة وآلابتعاد عن آفتعال المشاكل في بلاد الناس ..

_لا تقولي لها إني هنا ..

قلتُ أستعطفُ خالتي لإخفاء مكاني ..

_إنها ليلة قمراء لا تَخْشَ شيئا .. جدتك تعرف كل شيء لا عليك لا تتوجس تَلَّا تَزْرَى كولشي غير كُونْ هاني سْكَنْفَا هَللِّي (١) ..

قالت باسمة تهدئ قلقي .. ثم أَرْدَفَتْ ..

_لماذا مَكَثْتَ وحدك في الظلام لِمَ لا تلعب والأقران في رحبة العرس مايَنَّخْ تَقِّيمَتْ دَكْسُولُلوسْ وَحْدَشْ مايْمي أورْتُورَارَتْ أَكْدْ إيقرينَنَّشْ دي الرْحَبْتْ نْ إيسلانْ غيمْ دا هاشَكْ آتراحَتْ آني هانتشْ دَاغْيا آدَوْلَغْ .. (٢)

جعلتْ تنصَحُني بعدما لاحظَتْ ترددي في آقتحام مهامه ما يروج في حفل العرس من لغط وصخب وهرج ومرج بدعوى الفرح الجماعي بمناسبة عزيزة على الجميع .. بَخْ .. لم أكن أحبذ آستعراض الأبدان بتلك الطريقة التي يفتعلها المشاركون تَحْضَى قَبولا من لدن الحاضرين .. لا مانع لديهم الآن من بعض التجاوزات مادامت لم تتخطَّ الخطوط المسموح بها في الأعراف المتبعة .. كنتُ أرى فرحا مبالغا في تداعياته الهوجاء، فمن كلام سمج إلى إشارة في غير موضعها إلى زعيق نشاز الى سلوك محموم فج غير رصين .. بَدَأَتْ حركاتهم البهلوانية ترعنُ تَعْدُو تنطُّ تتدافع تتزاحم عبر مساحة رقص مخصصة لِسِيرْ وَاجي (٣) حتى كاد الحال يخرج في بعض الأحيان عن السيطرة لولا تدخل أصحاب الشأن من مُسيري الحفل .. آهيا الواشون قالتنغ زكسورواط دو بَنْغورْ إيلْ ضياعت إيسلان (٤) .. ورغم أن الأمور سرعان ما تعود إلى سابق عهدها عندما يلج صفوف المُحَيْدسين (٥) شيوخ رقص محترفين يشهد لهم الجميع بطول باعهم في الميدان، خصوصا عندما يتدخل شيخ شاعر فحل وسط صف فتيان مدشره القادمين من القرية يسوي سلوك وهندام الفتية متبرما _ إيييهْ ماينْ قاع سَخْلاقَن الواشونا (٦) _ يستدرك يشرف على مهمة المراقبة والتوجيه التي يرى أن عليه مسؤولية إتمامها إلى نهايتها كي لا يفلت شيء من زمام المعقول وما يجب أن يكون آحتراما لأعراف وتقاليد أعراس الأعالي .. ولأن تعليقات العارفين آزداد تذمرها بصوت مرتفع تتعالى مبدية ملاحظاتها بخصوص ما يجري _ آماني تلليتْ آلشيخ لَحْسَنْ فَّاغْ غَرْ وين تسطفارت سَكَّدْ الشغلْ (٧) _ طفق خبير العَرْض يصرخ يؤنب يحث على الالتزام بضوابط الأرياف المعروفة، يصرخ في وجه هذا يربت على كتف ذاك يعدل من وضعية الراقصين في صفهم ومايزال كذلك حتى خف وطيس الاندفاع بسلاسة رضخ فيها المقصودون صاغرين يولون الاهتمام لتعليمات الشيخ لا يخرجون عنها خصوصا لما آنظم في صفوفهم يتوسطهم يقود حركاتهم يضبطها يسير بها وَفق سنن أمَنْدَاهْ الرصينة (٨) ... ورغم أن السخرية والاستهتار آنقلبتا إلى جدية سَعَتْ جهدها لإنجاح المشاهد المتتالية المتتابعة عبر مقاطع تبدأ بهز إيزْلي ترفعه عاليا أصوات نخبة حناجر الإنشاد تعيده فرقة منافسة التي تمثل قبيلة أخرى أتت من سهول مجاورة لتبدأ مرحلة يدق فيها شيوخ دف آلُّلون على بناديرهم بإيقاعات تتواتر سرعتها كلما توغل الراقصون المنشدون المرددون في طرحهم الذي تشتعل سخونته شيئا فشيئا حتى يصل ذروته بزلزلة (سُوزَلْزي) جماعية يقودها الشيخ تصرخ فيه الفرقة كلها بصوت واحد .. (٨) آحيدوووس .. ورغم أن الرضى لوحظ على وجوه أرباب المناسبة بعد أن آنضبط الشغل وغدا كل شيء على ما يرام، ورغم أن المقام يقول لسان حاله هذه ليلة عرس فليفرح الجميع بها ورغم ... فإني ظللتُ ساهما شاردا أرنو إلى الوهدات المحيطة بالمكان وقد تفاقم ظلامها المدلهم المتراكم والنجوم هناك متعالية تتلألأ غير مبالية مثلي منشغلة بما يشغلها لم تكن تغريها أو تغريني هذه الطقوس العامرة بالصهد والتعرق والجلبة والتداول والتناوب وصداع تغيير الأدوار والاصطفاف والالتحام وفكه وإعادته بطرق معينة تكرر ما ألفه الناس من دخول في علائق تتجاور فيها الأبدان تتشابك الأيدي تتلوب الأرجل تعلو تنحدر بآنسجام أو غير آنسجام لم أك أهتم بكل ذلك ولم يشغلني يوما كل ما يستهوي فتيان سِني في مثل هذه الاحتفالات الجماعية .. لقد كنتُ أرى فيها ضجيجا أرْعَنَ يزيد حدة شقيقة الرأس ليس إلا، لذلك آخترت الانزواء عن كل ما كان يحدث في الرحبة وجوارها ودخلت جواي كما يقولون وَلَّيْتُ الأدبار صامتا ألتقط ما تناجيني به خواطري تهمس لي به نفسي .. لا يهمني لا يهمني ...
وها أناذا بعد هذه السنين كلها مازالتِ الفكرة نفسها في رأسي تؤكد تثبتُ نفسها .. كل تلك المناسبات سخافات خزعبلات .. ماذا أنتجَتْ بعيد مجادلات العرس وجلبة قيلِ قالِه .. ماذا بعد .. العرسان حديثو العهد بالزواج دخل بعضهم على بعض احتكت الأبدان بالأبدان سَبْعِيامْ دَالْبَاكُورْ مرت بسرعة البرق بردت الفحولة المزعومة مع توالي الأيام تعاقب الليالي سمجت العادات تآخت اللحوم والشحوم تآكلت الأبدان آهترأت البيولوجيا المقيتة وُلد من ولد نفق من نفق والزمن دوار والهضبة ببلوطها وسنديانها والأشجار نفسها تقريبا مازالت واقفة تشهد على ضآلة من عاشوا هنا هشاشة الذين قلبوا الدنيا ذات مصيف ذات شتاء بعنف عنفوان الحياة التي تخذل الأقوياء ترمي بالضعفاء على قارعة آلنسيان لا شيء دائم لأحد لا أحد يدوم لا شيء للماضين العابرين الغابرين لا شيء للاحقين كل شيء هباااااء لاشيء لي لا شيء لنا ...

☆إشارات :
١_تَلا تَزْرَى كولشي : إنها تعلم كل شيء
_غير كُونْ هاني :لا تتوجس
_ سْكَنْفَا هَللِّي : ارتح فقط
٢_مايَنَّخْ تَقِّيمَتْ دَكْسُولُلوسْ وَحْدَشْ :
لماذا بقيتَ وحدك في الظلام
_مايْمي أورْتُورَارَتْ أَكْدْ إيقرينَنَّشْ : لماذا لا تلعب مع أقرانك
_دي الرْحَبْتْ نْ إيسلانْ : في رحبة العرس
_غيمْ دا : اجلس هنا
_هاشَكْ آتراحَتْ آني : اياك ان تذهب الى أي مكان
_هانتشْ دَاغْيَا آدَوْلَغْ : سأعود بسرعة
٣_سيرْ واجي : اشارة الى حركة رقص الراقصين بجلابيب بيضاء متجانسة في صف طويل تتشابك فيه الأيادي ذهابا وايابا
٤_آهيا الواشون : يا فتيااان
_قالتنغ زكسورواط دو بنغور : كفى حركات هوجاء تثير الغبار على الحاضرين
_إيلْ ضياعتْ إيسلانْ : لا تفسدوا حفل العرس
٥_المحيدسين : نسبة الى رقصة آحيدوس الأمازيغية
٦_إيييهْ ماينْ قاع سَخْلاقَن الواشونا : اووووه ما هذه الحركات الهوجاء التي يفتعلها هؤلاء الفتية
٧_آماني تلليتْ آلشيخ لَحْسَنْ فَّاغْ غَرْ وين تسطفارت سَكَّدْ الشغلْ : أينكَ يا شيخ لَحْسَنْ/ (شاعر زجال) تكلم مع تابعيكَ لتنظيم حالهم في رحبة العرض
٨_ هي طقوس رقصة ( أحِيدُوسْ ) الشهيرة عند قبائل آيت وراين الأمازيغية .. يعرضها العارضون بشكل جماعي بمشاركة الرجال أولا تلحق بهم النساء أثناء آحتدام وطيس الرقص وبلوغه ذروته .. و(آحيدوس) تكون في أغلب الأعم في شكل فرقتين تتناوبان على ترديد لازمة ما من خواتم أبيات شعرية (إيزْلي) التي تنشد بالمناسبة ..
٩_سَبْعِيامْ دَالْبَاكُورْ : مثال بلسان مغربي دارج شعبي بمرجعية فلاحية قروية مستوحًى من الزمن القصير جدا الذي تنضج فيها ثمار شجرة التين الأولى (الباكور) شهري حزيران تموز يعقبها بعد ذلك نضج ثمار متأخرة شهري آب وأيلول يطلق عليها (الكرموس) باللسان المغربي العربي الدارج و (تازارتْ) بالأمازيغية .. يضرب المثل للتعبير عن لحظات حبور عابرة خاطفة سرعان ما تعود الأمور بعيدها إلى سُنتها التي جرت بها عادات الحياة وأعرافها ...

#عبد_الله_خطوري (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات