ماجد المذحجي
الحوار المتمدن-العدد: 1726 - 2006 / 11 / 6 - 10:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ينشئ معظم الناس اطمئنانهم عبر أكثر من اختيار، كجزء من فعالية غير منتظمة أو غير مقصودة، لترميم هامش الأمان الذي يعيشونه، ويعانون من تآكله ضمن ظروف متعددة، تجعلهم الطرف الأضعف في الاختبار اليومي مع الحياة. إن الإحساس العالي بالهشاشة، والعيش ضمن منطقة الحاجة، والانتظام الدائم في دائرة القلق، شأن يؤبد الافتقاد للامان، ويعزز الرغبة في إنشاء تعبيرات اطمئنان مستمرة، تغلب عليها الصفة الدينية والروحية ، اعتماداً على كون الحيز الديني داخل الأفراد " البسطاء " هو حيز الأمان والمقاومة الأخيرة، الذي يمكنهم من الاستمرار. ويتميز هذا الحيز بكونه مليء بالوعود، وغير مقتصر على فكرة المواساة فقط، فهو يؤكد اطمئنان الأفراد على مصير أفضل مُعلق بـ " حياة أخرى "، ستضمن تعويضاً مجزياً عن ضنك " الحياة الحالية "، ضمن منطق يمتص بفعالية أي نزعات احتجاجية مفاجئة لديهم، قد تهدد ضرورة نقاء الإيمان من الاحتجاج أو الشك. إن إنشاء الاطمئنان اعتماداً على هذه الحيز الإيماني الداخلي، يأخذ تعبيرات واسعة في أشكال مختلفة من التدين " البسيط "، ذو الهوية " الشعبية "، والتي تتمثل في تكرار مشافهات دينية، مُعلقه في موضعها إلى موقع قائلها من الغرض الذي يُريده منها، فهي اتكاليه أحياناً، أو ذات طابع تسليمي، أو ربما احتجاجية ومطلبيه؟؟.فـ ( على الله اتكلنا )، و ( الحمد لله على كل شيء )، و( الهم يسر لي أمري )، و ( ربي أكشف عني همي )، و و و...الخ، هي تأكيدات شفهية يومية توسع دائرة الاطمئنان المحدودة، التي يصعب تعزيزها بوسائل أخرى، في ظل انعدام القدرة المباشرة لدى الأغلب من الناس على تأمين حاجات اليوم المعاش فقط. لكن كون دائرة الاحتياج مفتوحة دوماً، وتميل إلى الاتساع لا التقلص، وحين يزداد الإحساس بالضعف، يميل الناس إلى محاولة تعزيز تعاقداتهم مع " الوعود الدينية "، بما يكفل ترسيخ اطمئنانهم للخلاص الذي تضمنه لهم، أو لكي تضمن منافع مباشره وآنية، أو لتعزيز يقين ما متزعزع، وهذه شؤون مهمة تحتاج إلى أكثر من " التكرارات الشفهية " اليومية. وهنا تُخلق الحاجة إلى " وسيط " أكثر ثقة، تنتمي فعاليته إلى ذات منطقة " الوعود الدينية "، ويتميز باكتمال شروط المعرفة, والتقوى، والقدرة، ويكون منصتاً للاحتياجات، متفهماً لها، وقادر على إنشاء حلول لها, غير مرهونة بوعود مؤجله، أو مُعلقة على صبر مُفترض، كونها لا تحتمل ذلك!.
يحضر الصوفي في الوعي العام هنا ضمن دائرة هذا الطلب، ويسوق نفسه اعتماداً على هذه الحاجة الشديدة إليه، ويتم إنشاء تعاقد غالب بين الناس على الثقة به، كونه صاحب " حظوة " دينية استثنائية، مؤسسة بشكل قوي على فكرة " الكرامات " التي كافأه بها الله، على " معرفة لا محدودة "، و " التقوى " و " انضباط تعبدي " و " الزهد " فوق العادة. إن اجتماع الأربعة به ( المعرفة، والتقوى، والتعبد، والزهد ) هو اكتمال لشروط القرب من " الله"، الأمر الذي يتيح له الحصول على التفضيل الإلهي له بـ " الكرامات "، استثناءاً بين " العباد ". وهو الأمر الذي يقرن أفعاله الدينية أو العامة بـ " نفحة المباركة الربانية "، وتصبح " وعودة " أكيدة التحقق، و " رؤاه " بشارةً للخير، أو نذيراً للشؤم، كونها مؤيدة في كل الحالات بـ " معرفة لدنية "، لا يتوفر عليها نظراء " الصوفي " من " المشايخ " و " الفقهاء " التقليدين، الذي أؤكل لهم الوعي العام التصريف اليومي للشؤون اليومي فقط، رغم أن " الصوفي " ينازعهم في هذا الموقع أحياناً، حين يتضخم موقع احد " الصوفيين " في الانتباه اليومي للناس، لشيوع الأخبار عن تقواه، وعلمه، وزهده.. وكراماته بالطبع.
إن جزء أساسي من العناصر التي تنتج الوعي بالصوفي، تكمن في تلقي واسع يؤكد على استئثاره بمعرفة " دينية " و " روحية " مُعقدة، غير مُتيسرة للعموم، أو حتى لصفوتهم التقليدية. إنها معرفة مُعقدة، تتيح له الاطلاع على أسرار مخصوصة، يعجز عن كشفها غيره، كاصطفاء سماوي له لـ " زهده ". وهو تفصيل يخلق إغراءاً شديداً حوله، ويحول الانبهار الأولي به إلى حاجه شديدة تعتمد في تصريف ذاتها على حلوله، وتركن إلى مقولاته، والاطمئنان الذي يشيعه. كل هذا يُنشئ له أفعال، ووظائف " خارقة " ضمناً في الوعي العام، تعزز من رفعة موقعه بين " العامة"، فلمسته مباركه، وتكفل الشفاء " الإلهي " مثلاً ، خصوصاً حين يعجز الاستشفاء بالبشري،طبعاً هذا يأتي لكونه مؤيداً من " الله " دوماً بإسرار وتفضيلات غير متاحة إلا لمن يحضر " الله " لديه بسره وعلنه!؟. كما انه أيضاً يستطيع أن يكشف ما استتر عن الأخريين، الأمر الذي يكفل له معرفة " سارق " ما، فبصيرته متصلة بالبصيرة السماوية التي ترى ما لا نرى، وهو أيضاً يُقرب البعيد، ويضمن المحبة، ويفك النحس، و الأذى، و " السحر "!!؟. إنه نموذج مدهش للناس، فهو يبدد خوف الناس من " الغيبيات "، كونه يحتكر المعرفة بها، ويسيطر عليها ضمناً بتيسير رباني. إنه الوحيد الذي يستطيع الولوج في هذه المنطقة المفزعة بإرادته لتيسير المنافع للناس، الأمر الذي يعزز من قيمة أفضاله عليهم، ويعزز أيضاً من كثافة الاعتقاد به، وهو الاعتقاد الذي سينشط من ذيوع أخبار " الصوفي " أو " ولي الله "، ويعمل على تعميمها في دائرة أوسع بين الناس.
إن حضور الصوفي, ورواجه الشديد، يعتمد على استثماره الناجح في الحاجات البسيطة للناس، وعدم تأجيل منافع الإيمان، ولكونه معززاً بالصلة مع " الله"، فعبره يُصبح القرب من السماء أيسر، والثقة باستجابتها أعلى، كون الدعاء أو الحاجة تُصبح مُعلقة بمن أحبه " الله " وفضله، ولم يرد له طلباً. بالإضافة إلى انه يُحضر كمعادل لفكرة الزهد، والزهد معمار للثقة، بالإضافة إلى أن جزء أساسي من تحقق القيمة الإيمانية في كافة الأديان، تكتمل بالاقتران بفكرة التعفف عن الملذات، وإجبار الذات على البعد عن " الدنيا " و تأكيد التعلق الروحي الخالص - غير المرهون بالمنافع الدنيوية، وفي بعض الحالات " المتطرفة " المنافع الأخروية أيضاً، حيث يصبح فعل التعلق الروحي مبني في جوهرة على فكرة المحبة الخالصة تماماً للذات الإلهية - بالدين. وهو ما يتجلى في نموذج " الصوفي " في الدين الإسلامي، و " الراهب " في الدين المسيحي مثلاً.
ينتج " الصوفي " محبين، و مريدين، كما يُنتج أعداء، ومناوئين، يرون فيه على الأغلب " دجالاً " و " كافراً " يطعن في صحيح الدين، وهو عداء يحضر بشده لدى نظراء " الصوفي " من رجال الدين، الذي يرون فيه منازع غير شرعي على " الجمهور "، يقوم بتظليلهم عن " الحق الواضح "، ولكونه ينطلق ضمناً من معرفة معقدة لا يمتلكونها، ويعمل بشكل غير مُقيد مع الناس، فهو يستطيع تجاوز الظاهر في النصوص حيث يقفون ويعجزون، نتيجة ابتكاره لمبررات باطله كما يرون، لا سند لها في " السلف " وفي الأخبار المتواترة عنهم، كما انه يمتلك وسائل أكثر نجاحاً بالنسبة للعامة في التعامل مع الغيبي ومشكلاته، تنتمي إلى ذات منظومة هذا الغيبي، بينما يقتصر فعلهم في ذات الموضوع ضمن شروط، وبوسائل مُقيدة إلى ارث منضبط في المتون المدونة، أو الأخبار الموروثة!!. كما أنه يستنفر عداء ذي التفضيل " العلمي" في التعاطي مع الحياة، ومع المشكلات اليومية للناس، كونه يُعطل تواصل هؤلاء الناس مع " المعارف العلمية " ، ويعزز من تفضيلهم لوسائل " غيبية " لم يتم التحقق منها، الأمر الذي يعزز من مزاج شائع يمنح الأولوية للاطمئنانات الروحية، بأبعادها الغيبية، على الاطمئنانات التي تؤسسها المعارف والممارسات العلمية، و كنموذج لهذا كما يرون، يحضر تفضيل الناس مثلا للتداوي على يد صوفي حين إصابتهم بإمراض عصبية أو نفسية، رغم إنه يُفترض بهم الذهاب لطبيب نفسي مثلاً!!.
إن الصوفي نموذج ذكي لأسلوب ناجح في خلق تعاقدات واجماعات عامه حول فرد، وهو فرد يؤسس هذا الإجماع، وهذا التعاقد عليه، عبر الاستثمار في الاحتياجات العامة والبسيطة بشكل ما، وتقديم شكل من المنافع غير المكلفة، والمؤسسة ضمناً على نفوذه في الغيبي، كما انه يعزز كل ذلك لكونه يتداخل مع الرغبة الضمنية للناس في رؤية نموذج زهد اقرب لصورة الإيمان الحقيقي المستبطنة في وعيهم، وكونه يتجاوز شكل رجل الدين التقليدي الذي تقضم من رأسماله الرمزي بين الناس محدودية قدراته قياساً بالصوفي، وعدم اقتران الكرامات به، ولحضور اتهام ضمني له بالتبرير لـ " ولي الأمر "، والانتفاع منه، والانشغال عن الناس إلا في ما ندر.
#ماجد_المذحجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟