|
فهم تجربة الصين وأهميتها للعالم العربي (فهم العالم المعاصر ـ4)
لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل
(Labib Sultan)
الحوار المتمدن-العدد: 7679 - 2023 / 7 / 21 - 16:11
المحور:
الصناعة والزراعة
1. المقدمة تمثل الصين تجربة خاصة من نماذج النهوض الاقتصادي الفائق النمو الذي شهدته جنوب شرق اسيا منذ بداية الستينات في اليابان، ولحقتها منذ بداية السبعينات مايدعونه نهضة النمور الاسيوية الاربعة ، تايوان وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية وسنغافورة، التي حققت قفزات سريعة مذهلة ايقظت الصين لتبدا بعقد بعدها، وتصبح النمر الخامس، الذي اعتقد الجميع انه حصانا مترهلا هرما ويستحيل نهوضه، ولكنه نهض اعتبارا من عام 1978 ليثبت انه من اقوى النمور وثبا للامام ، ومنها حدثت المعجزة (كيف تحول الحصان الهرم الى نمر جامح) . انها حقا معجزة اقتصادية حيث تضاعف حجم الاقتصاد الصيني تسعون مرة خلال اربعة عقود من 150 بليون دولار عام 1978 الى 15 تريليون عام 2018، والدخل القومي بحساب الفرد من 156 دولار في عام 1978 ( كانت الصين واحدة من بين افقر دول العالم بتصنيف 107 ذلك العام، قفز الى قرابة 11 الف دولار سنويا للفرد عام 2018 بتصنيف 44)، انها ارقاما مذهلة بلاشك. ان الدراسة والبحث في تجربة الصين الاقتصادية له اهمية خاصة لبلداننا العربية، وخصوصا لأربعة منها على الاقل: العراق، وسوريا، ومصر والجزائر. ان هذه البلدان اليوم هي حُصُناً هرمة مترهلة اقتصاديا مثلما كانت الصين عام 1978 ، فهل يمكن ايقاظها والاستفادة من تجربة الصين؟ ومنه اهمية الموضوع وهو محوره ولأهمية هذه التجربة لعالمنا العربي، لابد من الوقوف عليها وتحليل وفهم اسباب هذا النمو الخارق ومعرفة الظروف التي هيأت له وألآليات التي جعلته ينطلق بهذه القوة وهذا النجاح، خصوصا وان هناك ظروفا متشابهة بين بلداننا العربية والصين عام 1978 . أولها ان نظم الحكم متشابهة فيها رغم اختلاف العقائد ، فهي نظما ديكتاتورية ، وكذلك اشتركت البلدان الاربعة مع الصين في اعتماد سياسات اقتصادية مستنسخة او معدلة من النموذج السوفياتي في الادارة المركزية للاقتصاد وسيطرة الحكومة على قطاعات الاقتصاد الرئيسة ، بجميع مرافقها في الصين (لمرحلة قبل عام 1978) ، وعلى أغلب القطاعات في الدول العربية، ومنها اهمية دراسة تجربة الصين وفهم اليات وظروف نجاحها . ان المنهج في هذه الدراسة المختصرة هو اولا على تشخيص بعض الاسس والمبادئ التي سارت عليها الصين في الاصلاح الاقتصادي ، وثانيا كيف هيأت الظروف وماهي الاليات طبقتها لتحقيقها وأدت لهذا لنجاح الكبير والخارق. هناك مبدأين قامت عليه التجربة الصينية. ألأول يمكن صياغته "الفصل بين الاقتصاد والايديولوجيا " والذي يمكن ترجمته "اترك الايديولوجيا تحكم، ولكن دع الاقتصاد ينمو ويتطوربقوانينه دون تدخلها وتأثيرها" ، وهو ماطبقته الصين بابقاء نظامها السياسي الايديولوجي دون تغيير جذري والتوجه نحو الاصلاح الاقتصادي بعيدا عن اطروحات الايديولوجيا "الماركسية ". والمبدأ الثاني انتهاج قرار الصين بالتحول لنموذج ادارة المؤسسات وفق "اقتصاد السوق " (أي وفق قوانين اقتصاد ادم سميث القائم على قوانين السوق الحر والمنافسة والتوسع الاستثماري للارباح في الانتاج) . لقد شكل كلاهما أهم اسس منهج الاصلاح الصيني للاقتصاد، ووقف كلاهما وراء النمو المذهل للاقتصاد الصيني. كانت نقطة الانعطاف عام 1978 عندما قررت الصين رسميا التخلي التدريجي من الاقتصاد المركزي الادارة ( الذي سارت عليه منذ تأسيسها عام 1949، والتحول التدريجي الى نموذج ادارة الاقتصاد وفق قوانين " السوق". في الواقع انها سارت وفق هذين المبدأين متوازيا في تطوير اقتصادها منذ عام 1978. وسيتم طرح كيف هيئت الصين الظروف الملائمة للبدء بهما ، وما الاليات التي استخدمتها لتحقييق هذا الانتقال التدريجي لاقتصاد السوق. واذ ربما يواجه مثل هذا الطرح بالاستفادة من التحربة الصينية بالمعارضة على اعتبار ان بلداننا العربية تحتاج لأصلاح نظم حكمها أولا واقامة نظما ديمقراطية مؤسساتية ، واستحالة النهوض الاقتصادي بنظم الديكتاتورية ، وهو امر صحيح وهام بلاشك ، ولكن تجربة الصين قد اجابت عليه "انه ممكن" ووفق ظروف معينة سنحاول تعريفها ومناقشتها وفق ماعملته الصين باتخاذ قرار سياسي اعلى ملزم للدولة لاجراء الاصلاح الاقتصادي وهو ما لاتجرأ عليه الانظمة العربية على مااعتقد. ان هذا الطرح لايعني القبول بالنظم الديكتاتورية العربية او حتى في الصين، بل هو يمثل جزءً من حل للمعضلة التي وقعت فيها شعوبنا وتعاني الامرين من نظم الديكتاتورية من جهة ، والفقر والبطالة والتخلف الاقتصادي من جهة اخرى . ان التجربة الصينية تساهم في حل الجزء الثاني لهذه القضية ( التخلص من الركود والفقرالاقتصادي) . ولكن يمكن اعتبار ان الاصلاح الاقتصادي والتحول لاقتصاد السوق والانفتاح سيبقى ضروريا حتى لو استطاعت مجتمعاتنا من اقامة نظم ديمقراطية بديلة ( ربما انطلاق ربيع عربي ثاني ، او انتفاضة تشرين جديدة في العراق ينطلقان تحت ضغط الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة ، اولظروف خارجية او داخلية اخرى تحتاج لدراسة خاصة خارج هذا البحث) ، ونعود انه حتى لوقامت وكنست الانظمة ، فهي ستحتاج ايضا لاليات النموذج الصيني للتخلص من الركود والفساد، ومنه اهمية الموضوع لبلداننا. وعموما ، بالنسبة لبلداننا فان نمو الاقتصاد سيرفع على الاقل عن كاهلها الفقر ، كما رفعه عن الصين ، حتى وان بقيت الديكتاتوريات مسلطة عليها ،فهو يعني التخلص من واحد من الشَرَّيْن الجاثمين على شعوبنا ، وهذه ايضا من الدروس الهامة للتجربة الصينية. اضافة ان " تحرير الاقتصاد من الايديولوجيا " والتوجه للنمو وفق "اقتصاد السوق " سيخلق ربما مستقبلا ظروفا مؤاتية افضل للتحول للديمقراطية ( وهذا طبعا ما تعيه وتخشاه الصين وتخشاه النظم العربية) .
ان واحدة من اهم نتائج تجارب الصين ، والمفيدة جدا لبلداننا العربية خاصة ، هو امكانية التحول من نموذج " الاقتصاد المركزي الادارة " الى نموذج " اقتصاد السوق " بنجاح ، وهذه هي من اهم التجارب منذ ان وجدت الصين في فترة مبكرة والسوفيت متأخرا ان النموذج الايديولوجي " الادارة المركزية للاقتصاد الاشتراكي من الدولة " لم يعد يعطي مفعوله عندما بدأت به كلاهما وتم استخدام العمل القسري والحماس الثوري في تحقيق تقدما فيهما بداية ، ولكن سرعان ما دخل كلاهما في السبعينات في مرحلة الترهل والتراجع ، وكانت الصين هي الاذكى باتخاذ قرار الانعطاف التدريجي الطويل المدى. ان الغرض من هذا البحث هو تشخيص وتعريف الاليات التي اتبعتها الصين في عملية تحويل اقتصادها المتخلف الاداء من بعد عام 1978 . وستتم مناقشة امكانية تطبيق هذه الاليات والاستفادة منها ومن تجاربها لزحزحة الحصان او البغل الهرم النائم في بلداننا وتحويله ، حتى ولو الى حصان متحرك ، دعك عن الحلم ببروز نمرصيني في منطقتنا العربية (رغم توفر الظروف الموضوعية لذلك ، وفق رأيي، لنجاحه في مصر خصوصا من بين الدول الاربع). ان الظروف المتشابهة لبلداننا والصين قبل عام 1978 ، والتي ذكرتها اعلاه ( نظم ديكتاتورية واقتصاد مركزي راكد ) هو ما يشكل جوهر الاستفادة من التجربة الصينية في بلداننا. 2. نقطة البداية والانعطاف ـ عام 1978 يتفق الباحثون في دراسة النموذج الصيني ان عام 1978 يشكل نقطة البداية لنهوض الصين الحالية كنقطة الانطلاق والانعطاف معا، فما قبلها ومنذ عام 1949 ، أي منذ استيلاء الحزب الشيوعي الصيني على السلطة وحكم الصين، وخلال قرابة فترة ثلاثين عاما لحد 1978 ، كانت الصين واحدة من افقر دول العالم ( بحدود 542 مليون نسمة ، أو 55% من السكان 962 مليون، تعيش تحت خط الفقر وفق معطيات البنك الدولي* ). وكانت خلال هذه الفترة قد استنسخت النموذج السوفياتي في ادارة الاقتصاد المركزي الحكومي، وما استطاعت انجازه هو تنمية حجم الاقتصاد الى ثلاثة اضعاف فقط خلال هذه الفترة ( من 47 بليون دولار سنويا الى 156 بليون دولار، ولكنها في الفترة 30 عاما التي تلتها بين 1978-2008 ، اي بعد سياسة الانفتاح والتحول لاقتصاد السوق، استطاعت مضاعفته ثلاثين مرة، ووصل حجمه الى 4.5 ترليون دولار ( انظر كافة معطيات حجم الاقتصاد القومي الصيني لسنوات 1960 الى 2022 على موقع Macrotrends.net)) كما ولبقية دول العالم. وللمقارنة الرقمية بين الفترتين كانت الصين عام 1978 تحتل المرتبة 119 عالميا في مستوى الدخل والقوة الشرائية للفرد ( تعادل عشر مما في البرازيل و جزء من ستين مما في اميركا) ، وكانت نسبة الفقر تتجاوز 55% من السكان، يكسبون اقل من 1.25 دولارا في اليوم للفرد الواحد ، وهو المقياس الدولي الادنى للفقر،وفي عام 2018 قلصته الى حدود 17% واخرجت قرابة 500 مليون صيني من حالة الفقر) .وخلال فترة ثلاثين عاما بين 1949 ـ 1978 نما حجم الاقتصاد القومي الصيني وفق مساهمة الفرد GPD ppp)) من قرابة 45 دولارا الى 150دولارا سنويا، ، بينما قد نما خلال الفترة 1978-2008 ، من 156 دولارا الى قرابة 3500 دولار سنويا، ووصل عام 2018 الى 11 الف دولار ( (أي قرابة اربع اضعاف ) . كل هذا حدث هذا بعد الانعطاف والتحول الى اقتصاد السوق ، والتي يمكن اطلاق تسمية عليها مرحلة " فصل الاقتصاد عن الايديولوجيا "، او فترة "الاصلاح الاقتصادي وسياسة الابواب المفتوحة" كما تسمى رسميا في الصين، والتي اقرت رسميا في ديسمبر عام 1978 في المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الصيني ، وهو القرار الجريئ والحازم الذي انقذ الصين وشكل حجر الاساس الى التحول لاقتصاد السوق وتحقيق هذا النمو المذهل. لقد تم اقرار هذا المنهج كسياسة عامة ملزمة للحزب ولكل مؤسسات الدولة، ويمكن تلخيص سياسة الاصلاح الاقتصادي التي تم تبنيها في ثلاثة محاور : 1. تبني التحول التدريجي نحو اقتصاد السوق والتخلي التدريجي عن الادارة المركزية للاقتصاد ( لاحظ هنا التدريجي وليس السريع او المباشر). 2. فتح الابواب امام الاستثمارات الخارجية في الاقتصاد الصيني والقيام باصلاحات قانونية ومالية تسمح لجذب الاستثمار وتوظيفه بمختلف الاشكال التي يقرها اقتصاد السوق ( وسنأتي اليها لاحقا). 3. ان الاصلاح الاقتصادي يشكل المنهج الاساس لسياسة الحزب والدولة لتطوير مستوى الحياة والمعيشة للشعب الصيني ولايمس الدور القيادي للحزب ولايعني التراجع عن الاشتراكية بل لاعطاءالنمو الاقتصادي الاولوية في عمل الدولة واجهزتها ( فصل الاقتصاد عن الايجيولوجيا).
ان النقطة الثالثة في ملخص المبادئ التي سارت عليها الصين منذ 1978 هو خطا اقتصاديا اصلاحيا مغايرا للخط الايديولوجي الماوي الذي سارت عليه الصين منذ عام 1949. كان الاقتصاد الصيني خلالها يدار ايديولوجيا وفق النموذج الماركسي الستاليني ، وكانت الادارة المركزية والحملات الايديولوجية التي يطلقها ماو بين الحين والاخر تؤثر على الاقتصاد ، مثل القفزات الثلاثة للامام عام 1959 -1962 ( عام 1962 تراجع حجم الاقتصاد الصيني الى مستويات مقاربة من عام انتصار الثورة 1949 ) ، تلتها حملة الثورة الثقافية التي قادها ماو عام 1966 لعام 1976، وكلاهما ساهمت بتراجع الاقتصاد الصيني واجتياح وسيطرة الايديولوجيا والحماس الماوي الثوري على مؤسسات الدولة الانتاجية والادارية. وبنفس الوقت ادت الى موت الملايين من الجوع في الاولى، والارهاب الايديولوجي على الطبقة المتوسطة الماهرة مثل المهندسين والاداريين واتهامهم بالبرجوازية في الثانية، في كلاهما تم ضعضعة الاقتصاد الضعيف النمو اساسا *.
ان مؤتمرالحزب الشيوعي الصيني عام 1978 ليعلن ان اهم مهام الحزب ومؤسسات الدولة هو مساندة التوجه الاقتصادي الجديد نحو اقتصاد السوق كسياسة عليا للحزب وللدولة ، وهو مايمكن اطلاق عليه بمنهج "فصل الاقتصاد عن الايديولوجيا" ، وهو يعني جعل الاقتصاد يدار بقوانين السوق، ولا تخضع لمقولات الايديولوجيا او يدار بنموذج الاقتصاد المركزي الادارة من الدولة . اطلق الصينيون على اقتصاد السوق تسمية "اقتصاد السوق الاشتراكي"، ولكنه في الواقع ليس الا اقتصاد السوق كما وصف اسسه ادم سميث ، وتطورت قوانينه في علم الاقتصاد المعاصر الذي سارت عليه مؤسسات الصين، وهي قوانين الربح والمنافسة الحرة التي تؤدي للتوسع من خلال اعادة استثمار الارباح للمنافسة من خلال خفض الاسعار و زيادة الانتاج ، وتسمية السوق " أشتراكيا " وليس "حرا " هي لان الصين تقوم به تحت قيادة حزب يسعى لبناء الاشتراكية ( باتباع قوانين رأسمالية في ادارة الاقتصاد ) . وقد شهد انضمام الصين عام 2001 لمنظمة التجارة الدولية خير دليل على ذلك ، فهي قد انجزت وقبلت بشروط هذه المنظمة بتحويل كافة مؤسساتها الانتاجية ( عدا العسكرية ) لتعمل وفق مناهج السوق الحر التنافسية العالمية كي تنظم الى المنظمة، وكانت الصين قد انهت حتى قبل ذلك العام بعدة سنوات التحول الكامل من نموذج الادارة المركزية للاقتصاد في مؤسساتها الى اقتصاد السوق الحر كي تتم معاملتها كبقية شركات العالم الرأسمالي وتتبع نفس ادوات ازالة الحواجز التجارية امام انتقال البضائع والاعفاءات ودخول الاستثمارات وحمايتها. ان قرار التوجه نحو اقتصاد السوق على اعلى المستويات السياسية في الحزب والدولة هو الذي شكل مرحلة الانعطاف والانطلاق في الصين، وبدونه لما حدثت المعجزة الاقتصادية الصيني التي نراها اليوم، فاساسها يعود الى قرار سياسي على اعلى المستويات ، ومنه نستخلص اهمية هذا القرار لدولنا العربية ان ارادت الاستفادة من التجربة الصينية ، وسنعود لمناقشته لاحقا . ان اتخاذ هذا القرار تبعه تغيير جوهري على عمل مؤسسات الدولة بتغيير سياساتها للتوجه لاقتصاد السوق، وبرمجة عملها وطرح اليات لترجمته ولتطبيقه.
3. منهجية تطبيق خطوات الانعطاف الصيني نحو اقتصاد السوق اعتمدت الصين منهجا تدريجيا للتحول من الادارة المركزية للاقتصاد الى اقتصاد السوق، ويسمى غالبا " الطبخ على النار الهادئة" ، وهو عكس منهج " العلاج بالكي " (ترجمته ل Shocking Therapy ) الذي طبقته معظم بلدان اوربا الشرقية والاتحاد السوفياتي بعد التسعينات وسبب مشاكل اجتماعية واقتصاجية هائلة ، ولم ينجح الا جزئيا في بولندا وبشكل محدود لايقارن مع نجاحات الصين الهائلة . تم تطبيق هذه المنهجية وفق اساسين او خطين متوازيين **:
1. منهج الاصلاح الاقتصادي من الاسفل الى اعلى اتخذت الصين منهج بدء الاصلاح الاقتصادي من اسفل الى اعلى في تطبيق التحول تجاه اقتصاد السوق. بدأت من التحويل التدريجي لمؤسساتها الانتاحية بدء بالصغيرة وتوجها الى الكبيرة ، اضافة الى المزارع التعاونية ( أي على مستوى ادنىMicro Economy ) والصعود تدريجيا الى مستوى الدولة ومؤسساتها العليا ( أي مستوى Macro Economy ) . ان البرنامج قد وضع اليات لتحويل ادارة المؤسسات الانتاجية ذاتيا عبر نقل صلاحيات المركز اليها تدريجيا وتمكينها من اتخاذ قراراتها داخليا دون الرجوع الى اخذ موافقات الاجهزة العليا او العمل وفق خططها المركزية ، وجعل ادارة اعمالها وانتاجها وفق متطلبات السوق وفق حجمه وقوته الشرائية والمنافسة فيه ، وتقليص ، ومن ثم انهاء، الاعتماد على بيع المنتجات الى مؤسسات الدولة التجارية لتقوم بالتسويق ،بل لتقوم بالتسويق بنفسها ، ووضعت برنامجا يسمح لها ببيع منتوجاتها داخل وخارج الصين بشكل مباشرودون المرور بمؤسسات الدولة ، والتصرف بالارباح المحققة ذاتيا من دون اجهزة الدولة التنفيذية ليقتصر دور الدولة فقط على الرقابة المالية وليس اتخاذ القرارات في ادارة عمل هذه المؤسسات. أي أعطت الحكومة هذه المؤسسات الحرية في العمل والانتاج والتسويق والاجور والتوسع والاستثمار والشراكة وفق علاقات السوق وبعيدا عن تدخل الاجهزة الادارية للدولة والاكتفاء بالرقابية منعا للفساد، وحددت برامج الدعم الحكومي وفق فترة محدودة وبتحمل الحد الادنى من دفع اجور العاملين لتشحيعهم للتحول نحو الربحية ولدفع مؤسساتهم للتكيف مع ظروف السوق. اعطت الحرية الكاملة في ادارة الانتاج واستخدام الارباح سواء للتوسع في الانتاج او لمكافئة العاملين وذلك وفق قرارات داخلية بحيث تتمكن المؤسسة بانتهاء فترة الدعم الحكومي المحدودة ان تكون مؤسسة مستقلة الادارة والتمويل والعمل والتوسع ، ودونه ، اي دون نجاحها بدعم محدود خلال فترات بين ثلاثة وامتدت احيانا لعشر سنوات ، فسيتم اما اغلاقها ، اوعرضها للقطاع الاستثماري الخاص، او حتى الاجنبي ، او ضم هذه المؤسسة الى اخرى ناجحة من خلال الدمج ان وجد من يقبل به من المؤسسات الناجحة ، كما وخولها الحق بالتحول الى مؤسسة خاصة باستثمار داخلي او اجنبي، و لها حق التعامل الحر مع واقع ومعطيات السوق الداخلي والخارجي ، أي اصبحت الادارة والقرارات داخلية وليست من المركز. وقد استغرقت هذه العملية قرابة عشرة سنوات بحيث تم الاعلان عام 1996 الانتهاء تقريبا من برامج تحويل كافة مؤسسات الصين للعمل وفق اقتصاد السوق ( عدا العسكرية ) ، وعن حل لجنة الدولة العليا للاقتصاد وتشكيل مجلس الاصلاح والاستثمار الاقتصادي الصيني . وخلال الخمس سنوات التالية اصبحت الصين مهيئة تماما للدخول والانضمام لمنظمة التجارة الدولية WTO))عام 2001 والتي تطلبت عضويتها جعل تعامل المؤسسات الصينية مع الاجنبية وفق قواعد السوق الدولية وانهاء الادارة المركزية من الدولة، ومعه برنامج الدعم الحكومي للمؤسسات . ووقتها ، في الواقع ، لم تبق مؤسسة صينية تتلقى هذا الدعم اولا، ولم تكن هناك مؤسسة تتدخل الدولة في ادارتها ، او تخضع لادارة مركزية حكومية. وكانت المؤسسات وفق عدة اصناف جميعها تخضع وتعمل وفق اقتصاد السوق سواء مؤسسات ادارة ذاتية ( مملوكة للدولة ولكنها تعمل وفق اقتصاد السوق، وتشكل اليوم قرابة 62% من مؤسسات الصين وتساهم 40%، من منتوجها القومي ، أو مؤسسات صينية خاصة ، أو مؤسسات مختلطة ( استثمار مع القطاع الخاص)، أو مؤسسات للانتاج المشترك مع شركات اجنبية ( Joint Ventures) ، أو مؤسسات مشتركة الملكية مع استثماراجنبي، أو شركات انتاجية اجنبية (-dir-ect Foreign Investment )، مؤسسات اجنبية تعمل في الصين (تبلغ نسبتها 38 % وتساهم بحجم 60% من مجمل الانتاج القومي الصيني ). شمل برنامج الدعم الحكومي تقديم دعما للاجور خلال فترة محدود الزمن ليتم التحول الى اقتصاد السوق ، ليس فقط للصنف الاول و الثاني والثالث بل شمل بقية الاصناف لتشجيع دخول الاستثمار الاجنبي بشراكات خاصة مع الشركات الصينية ( على سبيل المثال تتحمل الدولة في السنة الاولى دفع كافة مرتبات العاملين 100%، وفي الثانية تخفض الى النصف، والثالثة الى 25 بالمئة في برنامج لمدة ثلاثة سنوات ) وللاصناف الاولى على مدى خمسة سنوات يقلص 20% سنويا ، وكان غرض دعم الشراكات مع الشركات الاجنبية لتمويل المساهمة في اعادة تأهيل الاداريين والفنيين والعمال والكوادر العليا في المؤسسات الصينية للعمل وفق اقتصاد السوب والربحية وطرق الادارة الحديثة والتعامل مع السوق التنافسي الحر. اما الشركات الصينية الخاصة فوفرت لها اضافة قروضا طويلة الامد بفوائد مخفضة ساعدتها على النهوض والنمو السريع ايضا وخير مثال لها شركة هواوي Huawei للاتصالات . استمر هذا البرنامج على مدى 15 عاما لجلب الشركات والاستثمارات الاجنبية ، ولكن قبله كانت عمليا اغلب الشركات الصينية قد انجزت تحولها الناجح وتم بحلول 1996 التخلي وحل المؤسسات التي لم تنجح في التحول لاقتصاد السوق. لابد من التوقف على مفهوم ملكية الدولة للصنف الاول ، حيث يمكن ملاحظة ان مفهوم ملكية وسائل الانتاج لم تلعب دورا هاما في هذه العملية ، فهي سواء كانت للدولة ( الصنف الاول ) او لقطاع مشترك بين الخاص والعام، او شركة صينية مع شركة اجنبية ، أو خاصة صينية، فجميعها يعمل وفق قوانين اقتصاد السوق الحر دون تدخل او دعم من الدولة (عدا الشركات ذات العلاقة بالانتاج العسكري) ، فقيمتها في الاسواق تقيم وفق ارباحها ونجاح اعمالها ، و ليس مهما عائدية ملكية وسائل الانتاج فيها . ان هذا يشير الى تراجع اهمية الملكية العامة لوسائل الانتاج التي قال بها ماركس وطبقها السوفيت في ادارة الاقتصاد، قياسا لقيمةالمؤسسة وفق قوانين السوق وفق الارباح ونظرة النمو المستقبلي ( عادة تقيم الشركات بنسبة بين 20 الى 80 مرة من قيمة ارباحها السنوية، ولاتساهم قيمة وسائل الانتاج الثابتة الا كسرا قليلا غالبا مايكون اقل من 2% ) ، وواقعا اثبتت الشركات المفلسة ان ملكيتها لاقيمة لها وتحولت الى قيمة "السكراب". فقيمة الشركات هي من قيمة اعمالها ونمو ارباحها من خلال ادارتها الناجحة في السوق، وليس في الملكية لوسائل الانتاج ( وهذه يعرفها الاقتصاديون وهي غير التي قال بها ماركس والسوفيت) ، فالمؤسسات الفاشلة لاقيمة لها ولا لملكية وسائل الانتاج فيها. هذا كان موجزا لاهم الاليات التي اتبعتها الصين في تحويل مؤسساتها الى اقتصاد السوق. ولكن مع هذه الاليات عملت الحكومة الصيني على تهيئة الظروف والبيئة والقوانية التي ساعدت هذا التحول ان يتم بنحاح، وخصوصا في جذب الاستثمارات والخبرات والتكنولوجيا للمؤسسات للمؤسسات وللدولة الصينية والتي نستعرضها واهميتها مختصرا تحت.
2. تهيئة الظروف الداخلية المؤاتية والمساندة للاصلاحات الاقتصادية بعد وفاة ماو عام 1976 جرى صراع فكريي داخلي في الصين بين خطين اصلاحي بقيادة دينغ جاو بينغ وايديولوجي ماوي الذي سمي "عصابة الاربعة " الذي تمسك بخط ماوتسي تونغ، وانتصر الاول عام 1978 بعد صراع مرير ليبدأ عصرا جديدا في حياة الصين ونجح في احداث ما يسمى اليوم " المعجزة الصينية " . وضع هذا الخط الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي لرفع مستوى الحياة في الصين فوق الطروحات الايديولوجية للماوية التي كانت قد بثت الرعب في المجتمع خلال الثورة الثقافية بين 1966-1976 باتهام الطبقة المثقفة والتكنوقراط الاوسط في الصين انهم يمثلون البرجوازية وانهم عملاء الغرب الامبريالي والتحريفية وغيرها من الالقاب . ان تصفيات هائلة تقدر بملايين الضحايا قد طالت هذه الطبقة ولكن برحيل ماو عام 1976 ، استعاد بقوة من بقي منهم حيا دعواته للاصلاح الجذري، ولعل من حسن حظ الصين ان بقي من بينهم القليل من الرعيل الاول من الشيوعيين الوطنيين الصينين مثل دينغ تشاوبينغ وغيره من القادة القدماء الذين استعادوا موقعهم القيادي في الحزب لقدمهم فيه ، وهم من قاد عملية وضع الوطنية الصينية فوق الطروحات السياسية والشعارات المؤدلجة التي تبناها الرعيل الجديد الثاني والثالث الذي انشأته الماوية . لقد استطاع دينغ اعادة الاعتبار لقادة الحزب الوطنيين الاوائل وجذب قطاع اصلاحي واسع من التكنوقراط بعد اعادة الاعتبار اليهم ليشاركوا في صياغة طريق الصين الجديد تجاه هدفين: تقوية الصين الضعيفة اقتصاديا امام القوة الهائلة لجيرانها اليابان وكوريا (الاعداء التاريخيين لها حيث لم يمثل اقتصاد الصين عام 1978 سوى سدس حجم الناتج القومي لليابان ، وانتاج الفرد فيها 60 ضعفا ،وفي كوريا عشرة اضعاف عن الصين، 8800 -$- في اليابان ، 1500 -$- في كوريا ، 156 -$- في الصين عام 1978– انظر للمعطيات على شبكة Macrotrends Economic ) . رأى وعرف ووعى الاصلاحيون الوطنيون بالخطر المحدق بالصين ، والذي اوجب التحرك نحو اصلاح الاقتصاد جذريا وتم اقرار خطهم رسميا في مؤتمر الحزب نهاية عام 1978 والخروج بقرارات تغيير مسار الدولة. يرى بعض المحللين ان هناك عاملا اخر اثر على القادة الصينين ، هو قبول الصين وفي اخر سنة من حياة ماوتسي تونغ بمبادرة المصالحة الاميركية الصينية التي طرحها كيسنجر عام 1975 والتي تضمنت تفاصيل احياء الاقتصاد الصيني وتحديثه والاستثمار الاميركي فيه ( على غرار كوريا واليابان ) وكان عرضها منهجا عام 1973 مقابل وساطة الصين لانهاء الحرب الفيتنامية التي احدثت شرخا كبيرا في المجتمع الامريكي ، ومنها ايضا وضمان مقعد مجلس الامن للصين بدل تايوان، وفتح مجالات التعاون في العلوم و التكنولوجيا والاستثمار ونقل التصنيع والخبرات الى الصين. نالت هذه المعادلة اهتمام الصينيين منذ البداية ولكن ظروف تنفيذها حلت بعد ثلاثة سنوات . كان كيسنجر ، عراب الصفقة ، يرى ان الصين الناهضة ستكون اكبر سوق في العالم مستقبلا لو جرى تحسين مستويات المعيشة فيها ، كما ورأى دون شك ان رخص الايدي العاملة الصينية ومهارتها سيخفض كلف المنتوج الصناعي الاميركي نفسه ويحسن من منافسته ، واعادة تصدير المنتوج الرخيص الى اميركا سيساهم في امتصاص التضخم الداخلي الاميركي من خلال خفض اسعار المواد المصنعة، ولكنه اخطأ حتما بفرضيته ان قبول الصين بنموذج اقتصاد السوق سيحول نموذج حكمها من ايديولوجي ديكتاتوري الى نظام ديمقراطي كما هو معروفا وشائعا في العالم، نظر مستقبلا الى نمو حجم ودور الطبقة المتوسطة من النمو الالقتصادي الصيني سيزيد من مطالبها في الحقوق والحريات وربما يؤدي ذلك الى انهاء الديكتاتورية في الصين او على الاقل جعلها تتنازل عن طروحاتها المتطرفة داخليا وخارجيا، ولكن عكس توقعاته فذلك لم يحدث. ومن جانبهم رأى الوطنيون والاصلاحيون في مبادرة كيسنجرانها فرصة لاتعوض لاعادة الاعتبار للصين ولنهوضها وتقويتها والتعلم من تجارب الغرب الصناعية والادارية وفرصة لتنمية اقتصاد الصين على اسس حديثة وجعلها قادرة على منافسة جارتيها ( كانت القيادة الصينية تعلم ان استثمارات اميركا في اليابان بين 1962 لعام 1978 ضاعف حجم منتوجها القومي 15 ضعفا ( من قرابة 70 بليون عام 1962 الى 1.1 تريليون دولار عام 1978، ومثلها في كوريا الزراعية حيث تضاعف منتوجها القومي خلال السنوات بين 1962ـ 1978 الى سبعة عشرضعفا ، من 3 بليون الى 51 بليون دولار ، وان شركات هونداي وسامسونغ، جوهرتي الاقتصاد الكوري، قامتا على اساس استثمار مشترك اميركي- ياباني، في هونداي من جنرال موتورز وميتسوبيشي، وفي سامسونغ من موتورولا وجنرال اليكتريك وهيتاتشي ومنه حدثت المعجزة الكورية ). والاستثمار هنا ليس بمعناه التقليدي كرؤوس اموال فقط، بل بنقل الخبرة والادارة الحديثة والتكنولوجيا معا ، وهذا ما طالب به الصينيون وحصلوا عليه من كيسنجر ومن فورد ومن بعده زمن كارتر والى يومنا هذا ، ولكنهم كانوا واعين ومصرين على بقاء النظام السياسي الصيني بقيادة الحزب الشيوعي الصيني كما هو وذلك حفاظا على وحدة الصين، وربما التنازل الوحيد الذي وعوا اهميته لانجاح الاصلاح الاقتصادي هو المشار اليه اعلاه " فصل الاقتصاد عن الايديولوجيا " ، ومنه ربما تخلي الصين عن شعارات التطرف وانهاء عزلتها عن العالم. كلا الطرفان ادرك انه رابح من الصفقة ودفع بحماس لانجاحها وفق المصالح المشتركة .
بادرت الحكومة الصينية بسياسة فتح الابواب واسعا وبدئته بالعمل مع اهم المنظمات الدولية لمساعدتها في مجال الخبرة والادارة واعداد برامج التحول لاقتصاد السوق وتأهيل الكوادر الادارية والمالية والاقتصادية والقانونية الصينية من خلال خبراء وبرامج عمل كبيرة مع كبريات المنظمات الدولية مثل UNDP ,OECD, IMF, IBRD وعشرات الهيئات والمنظمات الاختصاصية الاميركية واليابانية والالمانية وحصلت على مساعدات من هذه الدول ومن الامم المتحدة بقيمة 6 بليون دولار لتمويل قرابة 2400 برنامج اصلاحي اقتصادي في الصين خلال خمسة عاما تمكن من خلق كوادر وقدرات قيادية وادارية صينية تقود برامج الاصلاح الحكومي من جهة ، وكوادر فنية وادارية ومالية لادار مؤسسات الانتاج الحكومية والمشتركة، وجرى خلال السنوات الخمسة الاولى اقرارعشرات البرامج واصلاح القوانين والمؤسسات المالية ، وزاد الاستثمار الاجنبي من قرابة 50 مليون دولار عام 1978 الى 57 بليون دولار بحدود عام 1995 ، والى 112 بليون دولار من الاستثمارات الاجنبية الانتاحية ( أي الخبرة والادارة والتكنولوجيا اضافة الى رأس المال اعلاه ) عام 2008 . خلال هذه الفترة ولحد عام 2008 نما الاقتصاد الصيني ثلاثين مرة من 150 بليون دولار عام 1978 الى 4.5 تريليون دولار ليحتل ذلك العام المرتبة السادسة في العالم ، وبعدها بعشر سنوات تضاعف قرابة اربعة مرات ليصل الى 14.5 ترليون عام 2018 . خلال هذه الفترة كانت الصين منشغلة في تطورها الاقتصادي وبنائها الداخلي ولم تعد تسمع منها شعارات ايديولوجية مثل " الصراع مع الامبريالية " ولا شعار ماو المشهورالامبريالية نمر من ورق" ولا حتى ان " الصراع الطبقي هو المحرك للتاريخ" ،بل ربما لو سألت اي صيني ما هو محرك التاريخ لاجابك دون تردد " العلم والرفاه من الاقتصاد الحر والحريات المدنية" وحتى ربما لا يذكر منهم "الحريات المدنية " ، اما خوفا او اعتبرها اقل تأثيرا ، مع العلم ان عدد البليونيرية في الصين يصل اليوم الى 700 وهو قريبا من رقم 800 في اميركا. فلم يبدي خلال هذه الفترة لا الدولةىالصينية ولا المواطن اي أهتمام بالمقولات الايديولوجية، سوى ادعاء الصين انها تنوي بناء الاشتراكية وتسمي اقتصاد السوق الحر " اقتصاد السوق الاشتراكي " وهي تسمية فقط لاغير. انها انصرفت كليا لمعركة تطورها الاقتصادي وبناء الصين ، وهذا هو مااسميته بمسيرتها بفصل " فصل الاقتصاد عن الايديولوجيا" والذي وجدته موازيا تماما لشعار العلمانية المعاصرة "فصل الدولة عن الايديولوجيا ". في الصين لم ينفصلا في شكل الحكم ، ولكن انفصلا في شكل الاقتصاد ، وهي ظاهرة فريدة حقا في الصين، وربما يمكن تكرارها في العالم العربي، وهو ربما ماتمثله تجربة الصين من اهمية، اضافة الى دروس هامة اخرى ، منها ضرورة توفر القرارالسياسي الأعلى الذي قاد الطريق لخوض معركة الاقتصاد لتحل محل محل معارك الايديولوجيا والشعارات التي لاتغني ولا تسمن، وهو الدرس الذي لم تتعلمه بعد لا الانظمة ولا النخب العربية حتى اليوم. انها ليست الصين وحدها من وعت ذلك وسارت عليه، بل واغلب دول العالم وشعوبها تقريبا. ان مالم تدركه المجتمعات العربية لحد اليوم ان العالم يخوض معارك اقتصادية للنمو ، وليست ايديولوجية كالتي لازالت مسيطرة على المشهد العربي، مثلما يطرحها المؤدلجون من كل الاصناف في مجتمعاتنا، وخصوصا الماركسية العربية التي لاهم لها سوى سب الرأسمالية يوميا وهي نفسها النموذج الاقتصادي الذي وقف وراء نهوض الصين وحدوث معجزتها، كما وهي انقذت الهند والبرازيل واندونيسيا من الفقر والمجاعات، فالشعوب بحاجة لنماذج اقتصادية ناجحة لاشباع افواهها وتشغيل شبابها وليست هي الايدولوجيا تملأ البطون وتشغل العاطلين، حتى لو بقيت تسب الرأسمالية والغرب ليل نهار ولعدة قرون.
4. اهمية دروس التجربة الصينية وامكانية تطبيقها في العالم العربي من الاستعراض اعلاه لأهم معالم التجربة الصينية يمكن فرز ثلاثة عوامل هامة ساهمت في امكانية انطلاق ونجاح المعجزة والتجربة الاقتصادية الصينية ويمكن تلخيص ظروف وادوات هذه التجربة باربعة نقاط: 1. توفر الارادة السياسية للنظم والاحزاب للتوجه لخوض معركة الاقتصاد بدل الايديولوجيا والتوجه وجعل الاصلاح الاقتصادي كأهم واجباتها ومهامها،وهو شرط اساس للبدء بالاصلاح.
2. اثبتت التجربة الصينية امكانية اصلاح الاقتصاد الوطني وتطويره بالتحول من الاقتصاد المركزي الحكومي الادارة الى اقتصاد السوق .
3. الاخذ باليات مقاربة او مشابهة اتخذتها الصين لتحويل المؤسسات الانتاجية للعمل وفق اقتصاد السوق والى الربحية وادارة الارباح ذاتيا في التوسع، من خلال برامج دعم مالي محدود الاجل ورقابة مالية ومنها صعودا الى اصلاح نظم ادارة الدولة وقوانينها الاقتصادية والمالية لخلق البيئة القانونية الملائمة لهذا التحول ولجذب مساهمة الرأسمال الوطني والاجنبي في عجلته. 4. فتح الابواب امام الاستثمارات الاجنبية الانتاجية التي تجلب معها الخبرات والتكنولوجيا وطرق الادارة الحديثة وتشجيع تداخلها مع الاستثمارات الداخلية الحكومية والخاصة لخلق كوادر وطنية ماهرة تعمل على اعداد اجيال الاداريين الشباب وتنمية قدرات رأس المال الوطني في الانتاج وتطوير الاقتصاد الانتاجي والخدمي.
5. اجراء اصلاحات في نظم التعليم والتحول من العام الى المهني والاداري لتوفير الايدي العاملة الماهرة والمتعلمة فنيا واداريا، وهي كانت متوفرة في الصين ، وهو ما ساعد على جذب الاستثمارات الصناعية والانتاجية الى الصين ووفر هذا التعليم بيئة اجتماعية انتاجية مؤاتية للنمو الاقتصادي، اضافة الى رخص الايدي العاملة الصينية.
5. مناقشة امكانية التطبيق في العالم العربي تمثل التجربة الصينية لبلداننا في مصر والعراق وسوريا والجزائر مخرجا ممكنا ومجربا من قبل الصين لاخراجها من عنق زجاجة الركود الاقتصادي الذي تعانيه. ويمكن الادعاء والى حد معقول ان توفر الايدي العاملة الماهرة او نصف الماهرة متوفرا فيها، مع ضرورة بدء سياسة الاصلاح التعليمي مع الاقتصادي . ولكن الشروط الاربعة الاولى اعلاه هي الاساس. ولايوجد ولليوم اي مؤشر على النية للاخذ بها او التوجه اليها كما فعلت الصين. وربما تمثل مصر والجزائر وضعا افضل من سوريا والعراق للبدء ، كونهما قد بدأ فعلا في هذا التوجه ولكن دون تبنيه على اعلى مستوىات الدولة كخط اساس للتحول الاقتصادي لن تتوفر حتى ولو بارقة امل بالخروج من الوضع الاقتصادي المزري فيها ، ولا يوجد اي امل لتكرار ما حدث في الصين.
في العراق مثلا ، لازال من يعتقد لحد اليوم ان الدولة قادرة على ادارة الاقتصاد وانجاحه وفق الادارة المركزية. وتقف مع هذا الطرح الانظمة والاحزاب بكافة اطيافها تقريبا ، وتتبنى موقفا ضد الاصلاح الداعي للتوجه لاقتصاد السوق، ومثله ربما نفس الامر في البقية العربية. ولعل السبب والعائق الاساس امام الاصلام الاقتصادي والتوجه لاقتصاد السوق امام الطبقات الحاكمة هو الخوف من فقدان الامتيازات الكبيرة لها ومعها الطبقة المافيوية "الحرامية " الواسعة التي تلتف حولها ، وكونت معا ثروات اسطورية من خلال نهب المال العام من مؤسساتت الدولة ومرافقها الصناعية والتجارية والمالية والخدمية ، ومعها طبقة كبار الموظفين والمدراء العامين التي هي اليد في التنفيذ لتتشارك بالطبع بجزء من كعكة الفساد المالي والاداري الذي يسود هذه الدول ، ومعهم وكلائهم واواسط كادر التدرج الاداري ، وجميعهم يشكلون طبقة اجتماعية واسعة مستفيدة من الفساد الاداري والمالي الذي يسود مؤسسات الدولة ومرافقها، ومنها فهي لن تتنازل لتحويل هذه المرافق لتعمل وفق اقتصاد السوق حيث يضيق عليها الافساد وعليها التأقلم مع قوانين مالية صارمة يفرضها اقتصاد السوق الحر ،فهو قضية خطيرة على وجودهم وامتيازاتهم . في العراق مثلا توجد 173 شركة انتاجية في وزارة الصناعة ولليوم لاتنتج حتى حذاء او بطارية ، وتستهلك قرابة ملياري دولار سنويا. ومثلها شركات وزارة التجارة ( تستورد سيارات واخشاب وسكر وشاي) ، وشركات وزارة الاعمار والاسكان العشرة ( احداها اقامت جسرا لربط ضفتي نهر دجلة على الدواب، كما زمن مدت باشا قبل قرنين ، ولكنه كلف الدولة ربما قيمة جسر اسطنبول لاردوغان على مضيق البسفور) ، ووزارة النقل ( التي اشتهرت بسيارات ايرانية لنقل الركاب باسعار ليموزين في نفس اسطنبول، وطائرات قديمة لايسمح لها بالطيران لاوربا ، وسكك حديد منذ العهد الملكي ) . ان هذه الوزارات الاربعة تستهلك ربما 10 بليون دولار سنويا، اواكثر، وما يدخل من مردود من بعضها لا احد يعلن عنه ولمن يذهب فالدولة تخصص ولاتستلم ولا المواطن يرى غير اردء الخدمات. ولاشك ان شركات التكرير لوزارة النفط وشركات وزارة الكهرباء تعمل وفق نماذج اكثر تطورا في السلب والنهب للسخت الحلال. كل هذه المؤسسات جرى تمويلها للعمل وفق اقتصاد السوق وجميعها انتجت ارباحا حصدت الدولة منها حصادا جيدا لزيادة قدراتها لتطوير التعليم والصحة والبنى التحتية بدل ضخ المليارات في جيوب المافيات وميليشياتها. امام تداخل مصالح الانظمة مع هذه الطبقات الطفيلية ، فهي لن تجرأ على المبادرة للاصلاح الاقتصادي الحقيقي والتوجه لاقتصاد السوق كما مارسته الصين ، يرافقت غياب فهم نخبوي وجمعي اجتماعي بمعنى التحول لاقتصاد السوق، بل وحتى محاربته ، خصوصا من الماركسيين المؤدلجين بفكر القرن التاسع عشر والفكر الستاليني ، فالتيارات والاحزاب والنخب الليبرالية التي تعي اهمية هذه الاصلاحات الجذرية ضعيفة وحتى محاربة من قبل المافيات الحاكمة والمؤدلجة، فالماركسيون العرب ما زالوا لليوم يؤمنون باطروحات القرن التاسع عشر بمقولة "تحويل الملكية الخاصة لوسائل الانتاج الى عامة" وهم كغيرهم يخوضون معارك ايديولوجية تتركز اغلبها على قضايا خارجية مثل الموقف من الرأسمالية والامبريالية الاميركية وكذب النظم الليبرالية في ممارس. الديمقراطية فيها وبلدان اوربا الغربية ، ومعهم الولائيون المستفيدون من النهب بخوض معركة الايديولوجيات ضدهم "باعتبارهم علمانيين " ومع الغرب بان واحد، ويقف الجميع ضد التحول الاقتصادي حيث ستغيب الغنائم وفرص النهب لمؤسسات الدولة ، ومثلهم العسكر في مصر والجزائر وكذلك في سوريا والعراق.
6. خاتمة وبعض النتائج 1. ان التجربة الصينية هي واحدة من اهم التجارب في التاريخ الحديث التي اثبتت ان فصل الاقتصاد عن الايديولوجيا هو من اهم اركان الاصلاح الاجتماعي وتطوره الاقتصادي. 2. كما اثبتت ان نموذج اقتصاد السوق بقوانينه وادارته هو النموذج الناجح امام فشل النماذج الايديولوجية التي ورثتها عن الماركسية والستالينية بادارة وسيطرة الدولة على مرافق الاقتصاد وادارتها مركزيا ، فهي افقرت مجتمعاتها وعطلت عجلات النمو الاقتصادي وترهله اضافة الى ظلم نظمها السياسية القامعة. 3. ان اهم معركة امام عالمنا العربي اليوم هي معركة الاصلاح الاقتصادي ولابد للنخب الوطنية الفاعلة من توعية وتهيأة المجتمع ليفرض على الانظمة الحاكمة التوجه لتبني سياسة الاصلاح الاقتصادي نمو اقتصاد السوق وفتح الابواب وتهيئة الظروف الحاضنة للاستثمار الوطني والاجنبي وفتح الابواب وجلب الخبرات والتكنولوجيا والادارة الحديثة معها. حان الوقت لتفهم نخبنا ومجتمعاتنا ان المعركة اليوم هي اقتصادية لاصلاح الاقتصاد وليست ايديولوجية وفق اطروحات فلسفية ودينية عفى عليها الزمن. د. لبيب سلطان 20/07/2023 -----–----------------------------–-------------------------- • انظر لبيانات ودراسات منظمة التجارة الدولية والبنك الدولي للتنمية والاعمارفيما يخص وضع الاقتصاد الصيني قبل وبعد عام 1978. • تم في اعداد هذه الدراسة استخدام مصادر عديدة ،وللاسف جميعها باللغة الانكليزية ، ولكن اهمها تعريفا بمنهج وباليات الاصلاح الاقتصادي الصيني ربما هو في بحث جوستين يوفيلن الاستاذ في جامعة بكين وجامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا والمستشار لمنظمة دول مجلس التعاون الاوربي بعنوان معجزة الصين
Justain Xifi Lin , “ The China Miracle: How the OECD Country Policies Contributed ورابطه ادناه https://www.oecd.org/gov/pcsd/31799405.pdf
دعوة: استغل هذه المقالة المختصرة في استعراض التجربة الصينية لاتوجه بالدعوة للاقتصاديين العرب المتخصصين لتعريف القارئ بتفاصيل اكثر واشمل واعمق عن المنهجية والاليات التي استخدمتها الصين لتحقيق وتطبيق برنامجها الرسمي " الاصلاح الاقتصادي وسياسة الابواب المفتوحة" الذي تبنته منذ عام 1978 ، وذلك لاهمية الموضوع لبلداننا ولاغناء المكتبة العربية وللمهتمين وللقراء العرب عموما.
#لبيب_سلطان (هاشتاغ)
Labib_Sultan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فهم الرأسمالية وعلاقتها بالليبرالية ( فهم العالم المعاصر 2)
-
في فهم العالم المعاصر1 علاقة الايديولوجات بالاقتصاد ونظم الح
...
-
لائحة اتهام 3
-
لائحة اتهام لثلاثة ايديولوجيات دمرت اربعة دول عربية ـ2
-
لائحة اتهام لثلاثة ايديولوجيات دمرت اربعة دول عربية ـ1
-
القوانين الثلاثة لبناء الدول المعاصرة والامم الناجحة
-
جذورتحول الجمهوريات الثورية الى ميليشياوية
-
في علاقة النظم السياسية بنظم الذكاء الاصطناعي
-
الغزو الاميركي للعراق ـ3
-
الغزو الاميركي للعراق 2
-
الغزو الاميركي للعراق ـ1
-
في رحيل الاخ الصديق ابراهيم الحريري
-
نحو خلق ثقافةعربية علمانية جديدة متحررة -2
-
نحو خلق ثقافة عربية علمانية جديدة متحررة من العقائدية
-
فهم الله وألدين والعلمانية اولى خطوات الاصلاح العلماني العرب
...
-
العوامل الدولية في اخماد انتفاضة اذار 1991 الخالدةـ وفق دفات
...
-
فهم الله اولى خطوات الاصلاح العلماني العربي-1
-
باخموت ..المدينة الصغيرة التي دخلت التاريخ
-
قراءات في مستقبل حرب بوتين على اوكرانيا -2
-
قراءات في فهم حرب بوتين على اوكرانيا -1
المزيد.....
-
زفاف أمباني وسيلين ديون صنعت الحدث في باريس والرياض.. أحداث
...
-
وزير خارجية طالبان يجري أول اتصال بنظيره السوري.. ماذا بحثا؟
...
-
بلينكن يبحث مع نظيره الأوكراني مسألة الدعم الأمريكي لكييف
-
بعد ضجة واسعة.. محافظ دمشق يصدر توضيحا بعد تصريحاته حول السل
...
-
هل تتحول سوريا لساحة صراع تركي إسرائيلي؟
-
ناسا تسجلاً إنجازاً جديداً بوصول مسبار باركر إلى أقرب نقطة م
...
-
روما تندد باحتجاز صحفية إيطالية في إيران منذ أسبوع
-
أردوغان يعلق على نهاية -ظلم البعث- في سوريا وانتصار السوريين
...
-
الولايات المتحدة تزعم تورط روسيا في تحطم طائرة أكتاو
-
لبنان.. توقيف سائق شاحنة على متنها 67 شخصا تسللوا من سوريا
المزيد.....
-
كيف استفادت روسيا من العقوبات الاقتصادية الأمريكية لصالح تطو
...
/ سناء عبد القادر مصطفى
-
مشروع الجزيرة والرأسمالية الطفيلية الإسلامية الرثة (رطاس)
/ صديق عبد الهادي
-
الديمغرافية التاريخية: دراسة حالة المغرب الوطاسي.
/ فخرالدين القاسمي
-
التغذية والغذاء خلال الفترة الوطاسية: مباحث في المجتمع والفل
...
/ فخرالدين القاسمي
-
الاقتصاد الزراعي المصري: دراسات في التطور الاقتصادي- الجزء ا
...
/ محمد مدحت مصطفى
-
الاقتصاد الزراعي المصري: دراسات في التطور الاقتصادي-الجزء ال
...
/ محمد مدحت مصطفى
-
مراجعة في بحوث نحل العسل ومنتجاته في العراق
/ منتصر الحسناوي
-
حتمية التصنيع في مصر
/ إلهامي الميرغني
-
تبادل حرّ أم تبادل لا متكافئ : -إتّفاق التّبادل الحرّ الشّام
...
/ عبدالله بنسعد
-
تطوير المشاريع الصغيرة والمتوسطة، الطريقة الرشيدة للتنمية ا
...
/ احمد موكرياني
المزيد.....
|