|
أجراس بعيدة وكتل سياسية في المنفى لقاء برليني مع راتب شعبو/ المحاور ياسين السويحة
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 7675 - 2023 / 7 / 17 - 14:21
المحور:
مقابلات و حوارات
برناورشتراسه شارعٌ سياحي، وكحال الكثير من أحياء برلين، تمتزجُ فيه أبنية العمران الوظيفي القادمة من خمسينيات وستينيات القرن الماضي مع طرازات عمرانية أحدث. الضفة الجنوبية من الشارع عبارة عن حديقة طولانية، تلعب دور «ندبة» مشهدية، نصبٌ بحجم شارع للتذكير بأن جدار برلين مرّ من هنا، وليس أيَّ مرور. لقد كان هذا القطّاعُ من الجدار هو الأكثر التصاقاً بحياة الناس، كونه الأقرب لأبنية سكنية على طرفيه. تحت أقدام المتجوّلين اليوم في برناورشتراسه بقايا أنفاق كثيرة استُخدمت للهروب من الشطر الشرقي إلى الغربي، بعضها انهار على حَافِرِيه، وبعضها الآخر كُشِفَ ورُدم أو أُغرق بالماء أو الإسمنت، وبعضها ما زال يُكتشف حتى الآن. وسط الحديقة التذكارية في برناورشتراسه، يجد المتجوّل بُنية خشبية بيضاوية، يفيدُ الصليب في طرفها الشمالي بأنها كنيسة صغيرة معاصرة، وليست تركيباً فنياً تجريدياً ولا كشكُ إرشادات سياحية لبلدية برلين؛ وأمامها أجراس قديمة محفوظة فيما يُشبه القفص المبني على طراز الكنيسة نفسه، وتمثال لرجل وامرأة يتعانقان، ويحيطُ بكل شيء مسارٌ معدني محفورٌ في الأرض، من النوع الدارج في برلين لتمييز مسار الجدار، أو كتذكار لمكان بناءٍ مهم تَهدّمَ خلال المعارك. الحُجرة الخشبية البيضاوية هي كنيسة المُصالحة الجديدة، والمَسار المحيط بها هو مكان الكنيسة القديمة، والتي كانت تحمل الاسم نفسه. بُنيت الكنيسة القديمة نهاية القرن التاسع عشر على الطراز القوطي المجدّد، وتأذّت بشكل محدود خلال القصف المُرافق لمعركة برلين في ختام الحرب العالمية الثانية، وحَوَت أحشاؤها قذيفة أميركية غير منفجرة لم تُكتشف حتى عام 1999 خلال أعمال الحفر لتجهيز الحديقة التذكارية. وحين بُني جدار برلين للفصل بين مناطق النفوذ السوفييتي والغربي (الفرنسي في هذا القطاع من المدينة) مطلع الستينيات، باتت الكنيسة حبيسة ضِفَّتي الجدار ومعزولة وممنوعة على الناس، يستخدم الجنود الشرقيون بُرجها للمراقبة والقنص، إلى أن تم تفخيخها بالديناميت وهدمها عام 1985 في لحظة توتُّر بين الألمانيَتين، بحجّة «تنظيف» المنطقة الأمنية. اعتُبرَ هدم الكنيسة فعلاً استفزازياً في الشطر الغربي، ما دعا لإعادة بناء كنيسة معاصرة في المكان نفسه، وإبقاء مسار جدران البناء القديم حاضراً لإحياء ذكراه، كما تم تشييد تمثال تذكاري لـ«المصالحة» توجد نسخ منه في هيروشيما اليابانية، وفي بلفاست في إيرلندا الشمالية. عند الخط التذكاري لجدران الكنيسة القديمة سألتُ زائرنا سؤالاً يكاد يكون كليشيهاتياً قدرَ كونه ضرورياً: هل كنت تودُّ أن ترى مسار الجزء الذي فجّرته داعش من سجن تدمر (أو لم تفجّره. لم يُعرف يقيناً ماذا فجّرت داعش بالضبط في تدمر، ولكن هذا حديثٌ آخر) وقد حُفظ تاريخه بهذا الشكل؟ راتب شعبو، طبيب وكاتب ومترجم من مواليد كفريا في ريف اللاذقية عام 1963. اعتُقل عام 1983 بتهمة الانتماء لحزب العمل الشيوعي المعارض، وقضى في السجون السورية 16 عاماً متواصلة، جزءٌ منها في سجن تدمر الرهيب. وبعد خروجه من السجن زاوجَ راتب شعبو حياته كطبيب مع نشاطه ككاتب، وله العديد من الكتب، آخرها كأجراسٍ بعيدة (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2022)؛ وقصة حزب العمل الشيوعي السوري (1976-1992): فصل من تاريخ اليسار في سوريا (المرايا، 2020). وللكاتب أيضاً مساهمات في الترجمة، منها ترجمته لـ بدمٍ بارد، كتاب ترومان كابوتي الشهير (دار روايات، 2018). يكتب راتب شعبو مقالاتٍ سياسية بانتظام في صحفية العربي الجديد وفي مواقع ومجلات عربية أخرى، مُحلِّلاً فيها بشكل خاص المسألة السورية والنشاط السياسي حولها، مع اهتمام أيضاً بأوضاع المنطقة العربية والمستجدات السياسية والاجتماعية في فرنسا، حيثُ يُقيم الكاتب منذ ال2014. في طريقنا نحو حديقة ماوربارك في آخر الشارع لإجراء حوارنا في مقهى صيفي على أطرافها، أجاب راتب شعبو على سؤالي بصوته الهادئ: «بالتأكيد. أتمنى لو يُحفَظ مكان سجن تدمر وتُحفَظ ذكراه. كثيراً ما تمنيتُ لو تُسنح لي فرصة زيارة السجن والتجوّل فيه وأنا حُرّ». (/مقدمة)
تعيش في مدينة ليل في فرنسا منذ عدة سنوات، هل استطعت تكوين أُلفة ما مع المدينة، أو مع الوجود في الشتات؟ وصولي الأول إلى أوروبا كان إلى بلجيكا، حيث استقبلتنا عائلة صديقة. ومنذ لحظة وصولي طغى الشعور بالأمان على أي شعور آخر. أحسستُ أنني صرت بعيداً عن الأذى، وهذا الشعور بالأمان ما زال حاضراً حتى الآن… إلى اليوم وأنا أتذوّق شعوري بالأمان، ولم أعتد عليه ولم يُصبح شيئاً بديهياً في الخلفية، بل مازال شعوراً أساسياً عندي. إلى اليوم وأنا أشعرُ أنني أُثمِّنُ لحظة إدراكي بأنني أصبحتُ خارج سوريا، إذ طالما أنا في سوريا فسأكون مُعرَّضاً للخطر. هذا شعورٌ أول. الشعور الثاني هو إحساسي بأنني لا أشبعُ من النظر إلى محيطي، أي أوروبا. كانت أوروبا، كمركز حضاري وثقافي وعلمي، قد زارت عقلي منذ فترة طويلة قبل أن أعيش فيها، وما أراه أمام عيني هو حريٌّ بأن يكون مركزاً حضارياً فعلاً… العمران المنظّم، الحدائق المُعتنى بها، لا ترى أكوام الأوساخ في الشوارع كما كان الوضع عندنا.
في برلين، يجدُ المرءُ نفسه أقرب لـ «بلادنا» من ناحية النظافة. إذاً لعلي حظَيتُ بالمكان الذي استقبلني في البداية، وهي مدينة غينت في بلجيكا. وهي مدينة فلامانية. وهناك، ربّما لأنهم أكثر غناً، ترى أن مراكزهم الحضرية منظّمة ومُعتنى بها، لدرجة أنك تشعر أنك أمام لوحة تشكيلية طوال الوقت. لاحقاً، حين انتقلتُ إلى مدينة ليل واستقريتُ فيها، وجدتُ مستوى نظافة وترتيب أقل، خصوصاً أوساخ الكلاب. هذا شيءٌ أزعجني في الحقيقة، ودعاني لأن أكلّم البلدية.
مارستَ مواطنتك إذاً؟ (يضحك) مارستُ مواطنتي، مارستُ لجوئي بالأحرى. لم أستفد كثيراً، فقد حكى لي عضو المجلس البلدي الذي قابلته، وهو ممثلٌ للحزب الشيوعي في المدينة فكان هناك نوع من الود الرفاقي بيننا (يضحك مجدداً)، أن البلدية نظّمت حملة دعائية تُهدِّدُ بفرض غرامات على أصحاب الكلاب الذين لا يعتنون بتنظيف أوساخ كلابهم، ولكن ردَّ فعل الناس كان سلبياً للغاية عليها، لدرجة أن رئيس البلدية قرّر طيّ تلك الصفحة خوفاً على رصيده الانتخابي. لكن عدا الشعور بالأمان. هناك ملمحٌ آخر. في سوريا، وخصوصاً في اللاذقية، لدينا ظاهرة الشبيح، والتي تخلِقُ ما أسميتهُ يوماً «التشبيح الموازي»: ليس كل أحد قادر على أن يكون شبيحاً، فلكي تكون كذلك يجب أن يكون لديك منفذ إلى سلطة ما. وللشبّيح سمةٌ وشكلٌ واضح، وحتى أسلوبٌ في الحركة والنظر ما إن تراه حتى تعرف أنه شبيح، وبالتالي عليك أن تتفاداه. التشبيح الموازي هو نزعةُ شباب كُثُر للتشبّه بالشبيح في شكله وحركاته، دون أن يكون لديهم سلطته، لكنهم يساهمون في ملء الفضاء العام بملامح التشبيح. هذا أدى إلى أنني كنت أتفادى النظر إلى عيون الناس في الشارع في اللاذقية، كي لا ترتدّ النظرة إليَّ بنظرة تهديد أو ما شابه، ولستُ وحيداً في ذلك. هنا ليس لدي هذا الشعور، إذ يمكن أن تلتقي عيونك بعيون آخرين ويبتسمون لك، دون أن يعرفوك ولا تعرفهم. هذا الموضوع ساحر بالنسبة لي. هذه الملامح التي لحظتها في لجوئي في شمال فرنسا. أنا محظوظ لوجودي في منطقة نسبةُ العنصرية فيها غير مرتفعة مقارنةً بغيرها.
يقول ريلكه إن وطن الإنسان الحقيقي هو طفولته. كتابك الأخير، «كأجراس بعيدة»، يبدو تجسيداً لهذه المقولة بعودتك إلى طفولتك وزمانها ومكانها في ريف اللاذقية. في الكتاب أيضاً عودة لرنين آخر من الماضي، وهو مجزرة المدفعية (حزيران 1979)، يُفترض أنه بعيدٌ زمنياً، ولكنه أحياناً يعود راهناً، ورأينا مثالاً على هذه الراهنية في استعادة اسم منفّذها، إبراهيم اليوسف، لتسمية «غزوة» خلال معارك عام 2016. كيف تُعاش هذه الأزمنة السورية المتلاطمة؟ الكلام الذي نقلته عن ريلكه يُلامسني جداً. طفولتي ومراهقتي هي نقطة مرجعية على الصعيد النفسي، ولا أرتوي من العودة إليها. كما لو أنها خارج الزمان، لا تتقادم، بجمالياتها وشقاواتها… وربّما كان جوهر الأمر هو الأم والمرأة، دينامو استمرارية حضور هذه الفترة. لقد كان هذا الكتاب نوعاً من القِطاف، فالشجرة المحمّلة ترتاح حين تقطف ثمارها، حتى أنني سمّيت الفصل الأول من الكتاب «مرج القطاف». هناك شيء في ذاكرتي يتوق لأن يُدوَّن، وأشعر بمتعة كبيرة حين أشاركه مع الآخرين. يتملَّكني أيضاً هاجس أن أنقل ما في ذاكرتي دون أن أُسيء إليه. السجن هو بيت الذاكرة، هو المكان الذي يتوقّف فيه الزمن وتصبح فيه حياتك خلفك، ويحصلُ أنك تسمع القصة نفسها من زميلك في الزنزانة مرات كثيرة، وتحفظها. أحياناً في الزيارات المفتوحة يأتي والد أحد السجناء ويُسلِّمُ عليَّ فأسأله عن قصص أكون قد سمعتها من ابنه. لكن، ورغم شهية رواية ذكرياتك في السجن، كنت أتهيَّبُ من أن أحكي ذكرياتي هناك، لأنني كنت أخاف أنَّ الشيء الذي في داخلي، والذي فيه شحنة وإحساس عزيزان، يمكن أن يصل بانطباع خاطئ أو يصل مشوّهاً أو باهتاً. لذلك كنت أتهيَّبُ أن أروي الذكريات الأعز على قلبي والأكثر حميمية، وفي المقابل حين كنت أروي شيئاً من ذاكرتي وأجد أنه لقيَ الصدى الذي كنتُ أبغيه أشعر بالارتياح. هذا الارتياح هو ما حصل لي حين كتبتُ هذا الكتاب. أما بالنسبة لمجزرة المدفعية فهي من الرضوض الأساسية في مرحلة مراهقتي. كل ظاهرة الإخوان المسلمين كانت، حقاً، فعلاً تغريبياً عن البلد، إذ كان يقولُ لك بلغة صريحة وعنيفة إنك لا تنتمي إلى هذا المكان باعتبار أنك لستَ مسلماً سنّياً. حين كنتُ في المرحلة الإعدادية، وكان عندنا بستان تفاح، اعتدتُ كل صيف أن أبني فيه كوخاً وأقرأ فيه. في هذا الكوخ، على سبيل المثال، قرأت روايات حنا مينة، وحينها أيضاً قرأت أدبيات رابطة العمل الشيوعي. في عام مجزرة المدفعية لم أبنِ ذلك الكوخ، لم أجرؤ. كان وطء تلك الحادثة فادحاً علي، ليس لأنني كنت أعرف الكثير عن السياسة. ما أعرفه أن أخي في رابطة العمل الشيوعي، وكان قد سُجنَ في ذلك العام بتهمة الانتماء للرابطة، لكن الإحساس في منطقتنا كان باستهداف عموم أهل المنطقة لأنهم مرفوضون. ذكرت في الكتاب قصة ثلاثة تجار بقر من قرية مجاورة لقريتنا قُتلوا وهم عائدون من بازار الماشية، ولم تُسرَق المبالغ التي كانت معهم، فقط قُتلوا لأنهم مرفوضون كبشر من مذهب معين. ما حصل حينها كان يعني لي أن انتمائي لهذا المكان مرفوض، وأمني فيه غير مُحقّق. ذكرتُ أيضاً في الكتاب قصة أحد الناجين من المجزرة، والذي عمل لاحقاً حلّاقاً في محل مقابل لمدرستنا. نجا ذلك الشاب جسدياً لكنه اختلَّ نفسياً… كنا نرى كيف أنه يقطع عمله ليركض إلى باب المحل بين فينة وأخرى وكأنه يترقّب خطراً داهماً. لكن عدا ما تُعاينه بنفسك كيافع، كنتُ أشعر وقتها أن أهلي خائفون، وحين يرى طفلٌ أو يافعٌ أن أهله خائفون لا يعود لديه شيء يرتكز عليه كي يشعر بالأمان. الكبار حينها رأوا أن الخطر داهم، وأن القرية قد تتعرّض لهجوم في أي ليلة ونُقتل جميعاً ونحن نائمون، ولذلك قرروا إنشاء حاجز على مدخل القرية لحمايتها. كنت في الصف العاشر وشاركتُ في هذا الحاجز، والذي كان فقيراً جداً بعتاده… بالكاد بعض العصي و«جفت» صيد. لم يكن بمقدور هكذا حاجز أن يصدَّ هجوماً، لكنه ربما يؤخر المهاجمين بعض الشيء كي يتمكن باقي أهل القرية من الهرب إلى البساتين… هكذا كان الجو حينها، وهذا لا علاقة له بالسياسة أو بالموقف السياسي، كان إحساساً أولياً وعميقاً بانعدام الأمان. ويزعجني أن تُقرأ هذه الشهادة بشكل سيء النية وبتلميحات طائفية، كما حصل مع إحدى مراجعات الكتاب، إذ تمّت مُساءلتي حول كيف لم أرَ ما فعله رفعت الأسد. ما دخلي أنا؟ ارووا أنتم ماذا فعل رفعت الأسد، أنا كنت يافعاً ونقلتُ ما عشته في ذلك المكان وفي ذلك الزمان، وذكرتُ بأمانة أيضاً أصداء رفعت الأسد وسراياه في قريتي، ولكن ما دخل رفعت الأسد بذاكرتي كيافع عن حياة قرية، وهي قرية كانت تُعتبر مُعارِضة ضمن المنطقة، ولذلك عاقبتها السلطة حين قرّرت إنشاء مدرسة إعدادية، إذ أنشأت المدرسة في قرية أصغر بكثير وأقل أهمية، وكان على تلاميذ قريتنا المشي أربعة كيلومترات يومياً للذهاب إلى المدرسة.
لننتقل إلى «جرسٍ بعيدٍ آخر»، وهو كتابُك عن قصة حزب العمل الشيوعي. كيف كانت أصداء الكتاب عند رفاقك في تلك التجربة؟ أول ردّ فعلٍ جاء ممّا لا يزال موجوداً في سوريا باسم «حزب العمل الشيوعي»، وكان ردَّ فعل مُستاء من الكتاب وغاضب من كلامي فيه، إذ رُدَّ على رأيي بأن تجربة الحزب منتهية بالقول إن هذا الكلام غير صحيح، وأن الحزب موجود وحاضر، وأنني برأيي هذا أشارك النظام في تغييبهم. دعني أعترف أنني انزعجت من هذا الكلام، فأنا أتحدث عن تجربة انتهت عام 1992، وتمّت إعادة إحيائها عام 2003، بعد 11 عاماً. لا أرى أن التجربة هي نفسها، ولا أشعرُ أن هناك استمرارية للشيء الذي عشتُه وكنتُ جزءاً منه. صلتي الروحية والسياسية والفكرية والنضالية هي مع تلك التجربة التي انتهت مع مطلع التسعينيات، وليس مع الاستئناف الذي يختلف عن الأصل، وإن كان يحمل الاسم نفسه. سجالٌ آخر حصل بسبب عنوان الكتاب. كنت قد أسميت الكتاب في طبعته الأولى «قصة رابطة العمل الشيوعي» وليس حزب العمل، أي أنني استخدمت الاسم الأول للتجربة دون إدخال التغيير اللاحق، لكنني تلقيتُ اتصالاً من شخص أحترمه تمنّى عليّ باسم الرفاقية والصداقة أن أسمي الكتاب «قصة حزب العمل»؛ فوافقت على هذا الطلب، رغم أنني كنت قد تعمّدت تسميته «قصة رابطة العمل» لكي أتخلّص من هذه المشكلة، أي كي لا يُعتبر أنني أتحدث عن الأطوار الأحدَث التي لا أشعرُ بالانتماء لها.
السعي لاستملاك تجارب الناس هو سلوك بالغ الحزبية بالمعنى الضيّق والسلبي، ولا أقصد بذلك ذمَّ الحزب والتجربة الحزبية… تماماً. سلوكٌ حزبي. محاولة الحزب الحالي الاستحواذ على كامل التجربة هو أمرٌ غير مقبول، وحتى لو كان عناصر الحزب الحالي موجودين في التجربة السابقة فهذا لا يُغيّرُ في الأمر شيئاً. تغيّرَ الزمن، وتغير كل شيء… انظر أين أصبح فاتح جاموس، الذي كان أحد العناصر البارزين في ماضينا. لكن عدا ذلك، جاءتني ردود فعل إيجابية كثيرة على تدوين التجربة، إذ رأى كثيرون أن حفظ ذاكرة تجربة الرابطة في كتاب أمرٌ إيجابي. لكن أيضاً جاءتني اعتراضات كثيرة على أمر لا علاقة له بمتن الكتاب بما يخصُّ التجربة السياسية، بل كانت على تفاصيل الجدول الملحق الذي ضمّنتُ فيه ما استطعتُ توثيقه من أسماء معتقلات ومعتقلي الحزب، أشياءٌ من قبيل اسمي مكتوب بشكل خاطئ، أو أنا لم أُعتقل في هذا اليوم، ونسيتُ هذا في حين تذكرتُ ذاك… إلخ. هناك أمور يمكن تصحيحها طبعاً، لكن لفتَتْ نظري حدّة اعتراض البعض على هذا الموضوع. بذلتُ من الجهد على هذا الجدول الملحق بقدر الجهد المبذول على الكتاب، وأرى أنه ضروري لأنه يحوي أسماء أناس من حقهم علينا أن نذكر نضالاتهم وتضحياتهم، وأخطاء قد ترد في المحاولة ليست مبرراً للعتب الشديد والزعل والتعليقات الغاضبة التي وردتني لاحقاً. من الإيجابيات المُلفتة حقاً أن من قَدّر الكتاب من خارج التجربة لا يقلُّ عن التقديرات التي وردتني من داخلها، بل ربما كمية ما وصلني من خارج التجربة أكبر.
أودُّ أن أطرح عليك تساؤلاً له شجون: أنتمي لجيل تفتّح وعيهُ السياسي عند خروجكم أنتم من السجن، وعلى الصعيد الشخصي كان حجر الأساس لتسيُّسي هو انبهاري بهؤلاء المناضلين الذين قضوا سنين طويلة في السجون، وهو سحرٌ ما زلت مُحافِظاً عليه. الكثير من جيل نضال نهاية السبعينيات والثمانينيات ترك العمل السياسي بعد سنوات الجمر تلك؛ والبعض بقي نشيطاً، أكان خلال عقد الألفينيات، أو حتى بعد الثورة. مع كل التبجيل والاحترام لتجربة رهيبة كتلك، لكن يصعب أحياناً تجاوز الشعور بأنه كان يمكن لمن بقي نشيطاً من هذا الجيل أن يفعل أكثر مما فعله على صعيد صون حكايته وصون كرامتها. رأينا في الألفينيات وبعدها الكثير من المشاحنات السياسوية الفارغة، والكثير من الأنوات المتضخمة في فنجان، والكثير من التخريب المستمر لمحاولات العمل الجماعي، والكثير من النيل والتجريح والتحطيم العدواني لآخرين قد تكون الفروقات معهم مليمترية… وفي حالات قصوى رأينا حتى أشياء مهينة، من سلوكيات وتصريحات. أشعر أحياناً أن شطراً من هذا الجيل لا يمكن ائتمانُهُ ولا حتى على تاريخه النضالي الشخصي. ما رأيك؟ هل هذا الكلام مبالغ في قسوته؟
ليس أكثر قسوة من الظروف التي عاشها هذا الجيل بشكل عام. نحن جيلٌ تم تحطيمه بكل معنى الكلمة. ليس موضوع عين ومخرز، أو أرنب وسلحفاة، أو أي من هذه القصص، ولكننا جيلٌ يمكن أن تُصنع عنه أفلام حول محاولة المستحيل، حول محاولة ما لا يُحاوَل. يجب عليك أن ترى هذا الدمار وهذه الاستحالة كي تتمكن من فهم هذه النماذج السيئة التي تتحدث عنها. ما قيمة الفكر والنظرية والتكتيك الثوري وكل هذه الأمور أمام دولة قمعية بالغة العنف، قادرة على أن تأتي بك من تحت الأرض، ويمكن أن تضعك في السجن إلى ما لا نهاية، وقد تقتلك تحت التعذيب؟ كيف يمكن لباحث أو مؤرخ رصين أن يُفسّر استمرارية حكم حافظ الأسد فقط من باب إخفاقات خصومه أو باستكانة الناس؟ هل كان البشر خِرافاً؟ هل من المنطقي تفسير استمرارية النظام بأن الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي قد اتخذ خيارات قومية؛ أو لأن رابطة العمل راحت باتجاه الأصولية الماركسية؛ أو لأن المنظمة الشيوعية العربية قد جرّبت العنف؟ ثمة درجة من القدرة على البطش تجعل كل هذه الأمور لا معنى لها. لم يكن لدينا أي هامش لممارسة أي فعل سياسي حقيقي، لم نتمكن حتى من تجربة طفوليَّتنا اليسارية وغير اليسارية. نحن في ساحة سياسية هي في الواقع فراغٌ لا-سياسي، فكيف بإمكانك أن تُحاكم بإنصاف؟ حين عملتُ على كتاب قصة حزب العمل، أو حين عملتُ على بحث حول هامشية اليسار السوري مؤخراً، كنت أقفُ دائماً أمام هذه المعضلة: كيف تُقيَّمُ تجربة؟ أين الصح فيها وأين الخطأ؟ أو أين هي الانحرافات أو الطريق القويم، في سياق نجد فيه أن وجود أصحاب هذه التجربة، وأتحدث هنا عن الوجود بمعنى البقاء على قيد الحياة، هو في مهب الريح طوال الوقت؟ في سياق مثل السياق السوري، يفقِدُ النضال السياسي في الحقيقة أي معيار تقييمي، وكل المعطيات تدفع به باتجاه الفشل، وهنا في هذا الواقع قد تجد أناساً أضاعوا أعمارهم وراء ما كان في الحقيقة عبارة عن وهم بحت، وقد صاروا وصوليين، أو تجاراً، أو كافرين بكل ما آمنوا به سابقاً، أو سينيكيين، أو جلّادين لرفاقهم لكي يتمكنوا من تبرير ذهابهم باتجاهات مخجلة ومخزية، أو ببساطة متفرغين للنميمة.
ما هي الملامح التي يجب الحفاظ عليها من تجربة العمل المعارض بين نهاية السبعينيات وحتى الثورة، وماذا مات منها ويجب دفنه؟ ما يجب الحفاظ عليه بطبيعة الحال هو المبدأ النضالي. مبدأ الرفض والنقد وعدم الانصياع. أما ما يجب دفنه فهو التقليد وانعدام الأصالة، والذي أساسه الانفصال عن الواقع. حين أقول عن مفكر أو فنان أو أديب أنه أصيل، يعني ذلك بالنسبة لي أنه ينظر إلى مجتمعه بعيون تنتمي لهذا المجتمع وليست غريبة عنه. الزخرفات اللفظية والإحالات لأسماء كبرى سرعان ما تتساقط أمام هول الواقع إن لم تكن مبنية على أسس متينة في فهمها للواقع ووجودها فيه. بالطبع هناك حاجة للقراءة والاطلاع والمقارنة، ولكن يُفترَض أن الهدف يجب أن يكون الإتيان بشيء ممّا نحن فيه. انظر مثلاً إلى تجربة حزب العمل… في الحقيقة، هي تجربة فقيرة في إبداعها الفكري، لكنها بالمقابل كانت مبدعة نضالياً. أنا كنت جزءاً من تلك التجربة وأفخر بشجاعتها النضالية. كنا نريد أن نصارع حتى الجدران، وأن نهزم الدنيا، لكن فكرياً كان هناك انفصالٌ تامٌّ عن الواقع، إذ كانوا مثلاً يبحثون عن «طبقة عاملة» حيث لا وجود لها في مجتمعنا بالطريقة التي يفهمونها هم، وهذا يؤدي لصور كاريكاتورية، من أمثلتها أنه حين انتمى فلاحٌ من سهل الغاب للحزب، كان هذا الفلاحُ الوحيدُ إحالةً وشهادةً مستمرّة تُثبت أننا حزب فيه فلاحون، أو فيه عمال. صفر خيال. وهذا ممّا يجب دفنه. بالمقابل، نرى أن جماعة المكتب السياسي كانوا أكثر قُرباً من الواقع في التحليل، وكانوا أكثر تبكيراً في إدراك معنى الديمقراطية، لكنهم في الممارسة كانوا حزباً متمركزاً حول قيادته، ودور رياض الترك، الأمين العام، له ثقلٌ هائلٌ فيه. بالمقابل نحن لم نكن على المستوى نفسه من التنظير للديمقراطية، بل كانت الماركسية الصلبة هي أساس تنظيرنا، لكن لم يكن لدينا أمين عام، بل كانت هناك قيادة جماعية، وكانت قيادة جماعية حقيقية. العلاقة بين الفكرة والممارسة غريبة في الحالتين. هناك مثال آخر على التباينات. تصارعَ الحزبان خلال الصراع بين السلطة والإخوان على أحقية اعتبار النفس «القطب الثالث»، ولا أرى أن أياً منهما كان كذلك. على صعيد التنظير، كان رياض الترك أقدرَ على تركيب موقف القطب الثالث، لكن على صعيد الانحياز السياسي كان منحازاً للإخوان المسلمين، أو مُهادِناً ربّما، وهذه المهادنة كانت نابعة من قراءته لهذا الواقع القريب، والذي قرأ منه أن اليسار غير قادر على هزيمة النظام إلا بانقلاب عسكري لا ملامح على إمكانية حصوله، وأن أي هزيمة ممكنة للنظام لن تأتي إلا على يد الإسلاميين، فلذلك يجب أن نُهادن الإسلاميين إلى أن يسقط النظام، وبعدها لكل حادث حديث. هذا المنطق ظهر أيضاً خلال الثورة، بالمناسبة. من جهته، لم يكن حزب العمل قطباً ثالثاً أبداً، ففي تعامله مع الموضوع كان في منشوراته يوجّه نيرانه إلى الجهتين، وكان هناك تركيز أكبر بعض الشيء على نقد النظام، وهذا على عكس ما أُشيعَ حولَ أن حزب العمل إنجاز للنظام، فهذا غير صحيح على الإطلاق. كان يقول إن كلا القطبين سيئان، وإن الإخوان أخطر من النظام ولكن النظام أقوى من الإخوان ولهذا فيجب توجيه النيران إليه أكثر. لكن الفكر السياسي الذي دافع عنه حزب العمل هو فكر غير ديمقراطي، ويشبه من هذه الزاوية قطبي الصراع. بالتالي، فعلياً، لم يكن أي منهما (حزب العمل أو المكتب السياسي) قطباً ثالثاً أبداً. ننتقل إلى جيل آخر مختلف: 2011. يبدو وكأنه لا اتفاق على كمْ باتَ 2011 بعيداً. هناك التصاقٌ بذلك العام وما عناه وما حمله من قبل البعض؛ وهناك أيضاً انفضاضٌ عن 2011 وتجاوز كامل له ونسيانه في الأرشيف من قبل آخرين؛ وهناك محاولات، لا أدري كم هي ناجحة حتى الآن، لمحاولة تكوين وعي عن المسافة عن 2011 ولكن مع الحفاظ على أهميته ورمزيته. كيف يجب أن نتعامل برأيك مع عنوان مثل الثورة السورية سياسياً اليوم؟ لدينا دورة جيلية مأساوية تتكرّر مرة بعد أخرى. دائرة الاستحالة نفسها التي طحنت الجيل السابق، جيلي، والتي ذكرناها قبل قليل، قد طحنت جيلَ ثورة 2011 أيضاً، وطحنتنا نحن كذلك مرة أخرى. استيعابُ الخسارة عملية مضنية، وتحتاج إلى طاقة هائلة، لكن أيضاً علينا أن نعي ما هو حجم الخسارة الحقيقي، وبأي معنى خسرنا بالضبط. صحيحٌ أن ثورة 2011 قد انتهت، بمعنى أنها انتهت بوصفها حدثاً قادراً على قلب الواقع ثورياً وبشكل تحرري، لكن ما قَدّمه السوريون فيها حاضر، ويستحيلُ تجاوزه. في حالة جيلنا، ما قَدَّمناه من سنوات عمرنا وأمننا يبقى في الماضي كذكرى… للتاريخ، كما يُقال. لكن ما قدّمه السوريون في 2011 يتجاوز بكثير إمكانية تحويله إلى ذكرى، ويتجاوز بحجمه قدرة العالم على ابتلاع النظام السوري مرة أخرى. لنأتِ إلى الراهن: زلزال، ثم دبلوماسية الزلزال، ثم موجة تطبيع عربي وانفتاح مع النظام. كيف تقرأ 2023 حتى الآن على الصعيد السياسي؟ كتبتُ منذ فترة قريبة أن موجة فتح العلاقات العربية مع النظام ليس لها أهمية كبيرة، ولن تؤدي إلى تَغيُّر جوهري. هذا ينسحب على أي محاولات أخرى لتطبيع العلاقات مع النظام، وهذا ليس لأن القوى الدولية لا تُسامح أو لأن بايدن أو ماكرون بالمرصاد، بل لأن النظام السوري قد تجاوز كل الحدود المنطقية الممكنة، ومن المستحيل أن تُطوى الصفحة على المشكلة الكبرى الموجودة في سوريا اليوم وتُفتح صفحة جديدة، أياً تكن الجهود لفتح هذه الصفحة. هذا غير ممكن. حصل شيء مشابه وحيد في التاريخ وكان مع الجنرال فرانكو، ولكنه استفاد حينها من مناخ بداية الحرب الباردة ودخل ضمن تيار العداء للشيوعية، لكن نظام الأسد غير قادر على أن يقوم بشيء مماثل. الشروط مختلفة. النظام لا يُسيطر على الأرض السورية، وسوريا لا تُشكّل للغرب ما كانت تشكّله اسبانيا لحظتها. لكن هناك موضوعاً أهمَّ من كل هذا، وهو أن النظام غير قادر حتى على مجاراة المتطلبات الشكلية التي قد تكون الجهاتُ الأخرى بحاجتها لتسويغ تحسين العلاقات معه، لأن أي تطبيق، مهما كان صغيراً، لأي متطلبات باتجاه حلحلة الأوضاع سيؤدي إلى انهيار النظام، ولذلك نرى الجمود الرهيب والتمترُس وراء مواقف متشنجة كاريكاتورية، مثل قول فيصل المقداد إن النظام قد طبّق القرار 2254 وانتهينا منه. هم غير قادرين على تقديم أي شيء في الحقيقة، ولذلك أعتقدُ أن النظام سيعرقل المبادرة العربية بنفسه، كما سيعرقل أي مسار لحلحلة الوضع السوري تفترض منه تقديم أي شيء، مهما كان صغيراً. لا يستطيع. لقد أصبحت العزلة هي شرط تماسك النظام، وهي ما يبقيه حيّاً. لديه نافذتان هما روسيا وإيران، وعدا ذلك لا يُريد إلا أن يُترَك وشأنه، متجاهلاً كل قوانين العالم وشروطه، ومُركّزاً على تجارة المخدرات لتمويل نفسه. لننظر إلى سلوكه تجاه ضغوط روسيا من أجل التطبيع مع تركيا. لقد عرقلها هو، وفي قرارة نفسه لا يريد لتركيا أن تنسحب، فهو عاجز حتى عن السيطرة على إدلب. هكذا أفضل له… تركيا تبقى والأمور تظلُّ تحت السيطرة، وهو يبعبع حول «المحتلين» و«العثمانيين الجدد». كيف ترى فُرَص العمل السياسي في الشتات اليوم؟ ما العمل؟ مهمة الشتات السوري سياسياً هي إبقاء القضية السورية حاضرة، والثبات على عدم التسامح مع تطبيع تهجير السوريين من أرضهم، وعدم القبول بأن تلك الأرض هي لبشار الأسد ونظامه ومؤيديه. هذا عمل سياسي ينبغي الحفاظ عليه. لكن هناك مسألة أخرى قد تكون أهم من هذه الأولى برأيي، وهي أنني أرى أن السوريين الذين خرجو إلى الشتات، خصوصاً أولئك الذين وصلوا إلى أوروبا، يعيشون اليوم ما يشبه الـ«ستاج» في الديمقراطية، وهذا لا بدَّ وأن يكون له أثرٌ إيجابي على المدى الطويل في البلد. ستاج في الديمقراطية في فترة ليست أوروبا فيها بأفضل أحوالها في هذا المجال. لا بأس. حتى مع الصعوبات. مجرّد اختبار طريقة مختلفة للعيش عمَّا اختبروه في سوريا، خصوصاً للشباب، هي فرصة لفتح المَدارك. لكن عدا ذلك، أرى أن الشتات هو أيضاً مساحة لإثبات الجدارة، في العلم وفي الفن وفي الأدب وفي كل مجالات الحياة. هذه فرصة كبيرة، وظهور مبدع سوري، في أي مجال وفي أي مكان، هو طاقة سورية، حتى لو كانت فقط على الصعيد المعنوي البحت.
خلال السنوات الأخيرة شاركتَ في مشروع «نواة»، وخلال حديثك مع الجمهورية عن تجربة العمل في المنفى، قلتَ إننا بحاجة لكتل لينة على عكس الأحزاب ذات النُظم الأكثر صلابة. ماذا تقصد بالليونة هنا بالضبط؟ هل الأمر مرتبط بالتخفُّف الإيديولوجي؟ أعتقد أن كلمة «إيديولوجيا» قد حُمّلت ما ليس فيها، وشُيطنت من غير وجه حق. الإيديولوجيا هي ما تحتاجه لإدراك الواقع السياسي، وهي موجودة في كل شيء. غير صحيح أنه ثمة إمكانية لانعدام وجود الإيديولوجيا… ذمّ الإيديولوجيا فعل إيديولوجي بحد ذاته… صحيح. وبالحقيقة ذمُّ الإيديولوجيا كان يتضمّن بشكل أساسي ذمَّ الشيوعيين. في سياقاتنا من يتحدث بسلبية عن الإيديولوجيا فهو يقصد اليسار تحديداً. كان معنا في مشروع نواة، وغيره من محاولات الاجتماع، أشخاص مهجوسون كل الوقت بمطالبتك بـ«الخروج من الإيديولوجيا» كلَّما طرحت رأياً أو موقفاً. طيب أخرجُ من الإيديولوجيا إلى أين بالضبط؟ هل يوجد فعلاً تعامل مباشر مع الواقع، دون أي تجريد نابع من الإيديولوجيا؟ حين تقول «نظام» فأنت تُقوم بفعل تجريد، وحين تقول «استبداد» كذلك، وهكذا… حين أتحدّثُ عن «كتلة لينة» فقصدي بذلك تحديداً هو غياب النمط الشيوعي في التنظيم: البيروقراطية الحزبية، الالتزام الحزبي، وحدّة الخط... هذا النمط من التنظيم الحديدي غير مُلائم، وهو ميزة استبدادية على أرض الواقع. أبعد من ذلك... من وجهة نظري الشخصية لا يوجد حزب ديمقراطي على الإطلاق. الديمقراطية سمة نظام ولكنها ليست سمة حزب. كل حزب هو بتكوينه استبدادي ويتمنى في قرارته لو يبتلع الدولة بالكامل، وعندما يصل إلى السلطة يتمنى لو يغلق كل المنافذ الممكنة لإخراجه منها. أما أن يُتيح له النظام السياسي أن يفعل ذلك، فهذا أمرٌ آخر. الحزب جهازٌ يريد أن يصل إلى السلطة السياسية لكي يسيطر على الدولة، كي يستخدم الدولة. الكتلة اللينة هي كتلة غير حزبية، هي تَجمُّعٌ من أشخاص تَجمعهم قواسم مشتركة وينتجون أفكاراً، وتحاول أن تقدّم لجمهورها ما يمكن أن يساعده على التبصّر بواقعه، لأن الجمهور لا يمتلك «رفاهية» أو «إمكانية» أو «مَلَكة» التفكير بواقعه بعمق. لا بد طبعاً من مُشتركات، من إطار فكري ولو كان عريضاً، مثل الإيمان بالديمقراطية… أن نعتقد أن خلاص سوريا لن يأتي إلا على يد نظام حكم ديمقراطي. هذه تكفي برأيي. التعددية الحزبية ضرورية بالطبع، لكنها لا تصنع وحدها ديمقراطية حقيقية، بل أقصى ما تُنتجه هو ديمقراطية شكلية، ديمقراطية انتخابية يمكن أن تجدها في لبنان وفي العراق مثلاً، حيث تتسابق الأحزاب على الجمهور بشكل تدميري للمجتمع في الحقيقة.
اسمَح لي بمجادلتك هنا قليلاً. رغم كل النقد الممكن للأحزاب، ألا تشعر أن إحدى أهم مشاكل العمل السياسي المعارض السوري ليست في وجود أحزاب صلبة، بل في هيمنة نمط من الفردانية الاستقلالية التي تزدري العمل الجماعي وتتأفّفُ من الانضباط فيه واحترام أسسه، بل وتفخر أحياناً بأنها تُخرّبه، أقله خلال العقدين الأخيرين حين هيمن نموذج «المستقل»، مثقفاً كان أم ناشطاً، والذي جزءٌ جوهريٌ من أدائه للسياسة هو تقديم مواقف تمايزية أو انسحابه أو تجميد عضويته من المبادرات والتجمعات، أو المشاركة غير المنضبطة في اجتماعات ونشاطات متناقضة «بصفته الشخصية»؟ أكيد أن هذه مشكلة، والسلوكيات النابعة منها كثيرٌ منها غير مقبول. لكن دعني أعود إلى الأحزاب، إذ عليَّ أن أؤكد أنني لا أذم الحزبية ولا الأحزاب. الأحزاب ضرورية، ولكنني لا أرى أن أي حزب يمكن أن يقول عن نفسه أنه حزب ديمقراطي بمعنى أنه هو حامي الديمقراطية. هذا غير صحيح. من يحمي الديمقراطية هم الأحزاب الأخرى، ما عدا الحزب الذي في السلطة. وطالما أن كل حزب، بالتعريف، يطمح لأن يكون في السلطة، فهو بالتالي غير مؤتمن على حماية الديمقراطية، فهو بطبيعته يسعى لمركزة السلطة عنده. لكن هناك أحزابٌ يتجدد أُمناؤها العامّون كل 8 سنوات بحد أقصى مثلاً، وأحزاب يقبع أُمناؤها العامون في المنصب عقوداً، ثم يورثونها، وقد يورّثها ورثتهم، مثل خالد بكداش… طبعاً ليست كل الأحزاب مثل بعضها. هذا لا شك فيه. لكن حتى تنافسية هذه الأنماط من الأحزاب فيما بينها غير كافية لتشكيل ديمقراطية وصيانتها، بل يَشيع أن تميل الأحزاب للتآمر فيما بينها ضد المجتمع. هناك حاجة لنوع من «النضال المدني» من أجل إحراز الديمقراطية، أقصد كيانات ومؤسسات وأفراد يعملون من أجل الديمقراطية بشكل لا-حزبي، ودون أن يكون الوصول إلى السلطة جزءاً من برنامجهم على الإطلاق. تجمعات من ناس يناضلون ضد الغلاء، أو ضد الاعتقال التعسفي، أو أياً يكن، لا لكي يقوموا بهجاء السلطة فحسب، أو ليقولوا لنا أنهم لو حَكموا فسيكونون أفضل من الحاكم الحالي في هذه النقطة أو تلك. بل لأنهم يناضلون ضد الغلاء، أو ضد الاعتقال التعسفي فحسب، دون إدراجه في أجندة تنافسية من أجل السلطة.
أليس هذا هو المجتمع المدني؟ مُشكلتي مع مصطلح المجتمع المدني هي أنني أرى أننا لا نستطيع الحديث عنه إلا ضمن مجتمع ديمقراطي قائم ومستقر، وهذا غير موجود عندنا. هذا ما يدعوني لتفضيل استخدام «نضال مدني» لتمييزه عن النضال الحزبي، حتى كأحزاب معارضة ومحظورة وملاحقة. لكي أكثّف: لست ضد الحزبية. شخصياً لا أحبها، بل يمكنني القول إنني أمقتها، ولكن لست ضد وجودها وأعلم ضرورة أن توجد… ما أطالب به هو وجود مستوىً آخر من النضال من أجل حقوق وحريات الناس، بمعزل عن الحزب كجهاز أو أداة نضالية، وبمعزل عن التنافس الحزبي على السلطة.
تعيش في فرنسا منذ 2014، وتتابع الأوضاع الفرنسية وتحللها أحياناً في مقالاتك. كيف ترى الوضع العام لفرنسا؟ لماذا يبدو هذا البلد على وشك الانفجار دوماً خلال السنوات الأخيرة… ما بين تصاعد أجواء بالغة العنصرية، وما بين استياء الأوساط المهاجرة من الجيل الثاني والثالث وإحساسها بالاغتراب عمّا يفترض أنه «بلدهم»، وما بين الاحتجاجات الاجتماعية الصاخبة؟ ماذا يحصل في فرنسا؟ رأيي أن من أهم وجوه المشكلة في فرنسا هي مشكلة اندماج المهاجرين، والمسلمين منهم بوجه خاص. هناك مشكلة تهميش، يعاني منها قطاع واسع من المهاجرين، وهذا من شأنه أن يُحرّض على الاحتجاج، وأحياناً على العنف، هذا مألوف في كل البلدان الأوروبية. تبدأ المشكلة بالتعقيد حين يتم استيعاب هذا الصراع وفق إيديولوجية إسلامية تقوم على مبدأ السيطرة. حين ينطلق المحتجّون من تصوُّر مضاد للظلم والتمييز، فإنهم ينطلقون من مبدأ تحرري انفتاحي، ولكن حين ينطلقون من تصوُّر يرى في الآخرين «كفراً» ويرى إلى نفسه على أنه الحق الذي يجب أن يسود، فإن هذا التصوُّر ينفتح على حرب أهلية ويقود إلى الانغلاق. بالمقابل هناك قطاع غير قليل، ويزداد اتساعاً، من اليمين الفرنسي الذي يتصوًّر أن كل مشاكل فرنسا ناجمة عن المهاجرين، ويبني سياساته على هذا التصور باتجاه أن يجعل الفرنسيين من أصول غير فرنسية مواطنين درجة ثانية. هكذا يبدو أن التصورين متشابهان ومتعاكسان ويخلقان معسكرين متضادين لا يوجد حلٌّ وسط بينهما، وهذا يضع فرنسا على «وشك الانفجار» كما تقول.
تصوير فوتوغرافي: نور الأبرص
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الغضب المعزول في فرنسا
-
عن قلق المسلمين في الغرب
-
هل المثقف السوري طائفي؟
-
-حانة الأقدار-
-
التحليل السياسي الماورائي
-
العزلة هي الشرط الأنسب لنظام الأسد
-
عالم الزنازين
-
النجاح والفشل في الثورة
-
القوات الموازية وتحطيم الدولة في السودان
-
الحياكة الناعمة في -أطباق المشمش-
-
هل يجرؤ النظام في دمشق على الانفتاح؟
-
الحل الأمني على الطريقة الفرنسية
-
هل نقلق على الديموقراطية؟
-
عن داعش في ذكرى معركة الباغوز
-
الثورة السورية وتحرير الدولة
-
سيرة طبيعية للانتقال من خارج السجن إلى داخله (2)
-
الحرب في أوكرانيا، سياسة -بناء- الأزمات المستعصية
-
فشل الانفتاح العربي على دمشق
-
إسكوبار في -ناركوس-، تاجر مخدرات بعقلية صاحب قضية هل يمكن لل
...
-
رفع العقوبات الأمريكية والعقوبات الأسدية
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|