صبحي حديدي
الحوار المتمدن-العدد: 1724 - 2006 / 11 / 4 - 12:22
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
قبل أيام نشرت منظمة "الشفافية الدولية" Transparency International سلسلة تقارير تستعرض واقع، وقوانين وطرائق، مكافحة الفساد في عدد من الدول العربية، بالنظر إلى أنّ المنظمة تنوي تخصيص الأسابيع القادمة لملفات الفساد في منطقة الشرق الأوسط تحديداً، وتعتبر الشهر القادم بالذات "محورياً" و"حاسماً". وفي هذا الإطار سوف تشهد العاصمة الأردنية، خلال منتصف الشهر القادم، عقد اجتماع حاشد لمئات من ممثلي الحكومات العربية، يعقب تقديم مذكرة خاصة على قمّة مجموعة الثماني G8، التي ستشهد بدورها إعادة إنتاج لفعاليات "منتدى المستقبل". وكما هو معروف، كانت فكرة هذا المنتدى قد انبثقت أصلاً عن قمة الثماني في "سي آيلاند"، وفي مثل هذه الأيام من السنة الماضية شهدت العاصمة البحرينية انعقاد المؤتمر الأول الذي استهدف ترجمة أضغاث أحلام الرئيس الأمريكي جورج بوش عن "الشرق الأوسط الكبير"، وكان أن باء بفشل ذريع.
"الشفافية الدولية" تتكيء، في هذه الحرب الضروس الشرسة، على ما يُعرف باسم "اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد" UNCAC، والتي وقعت عليها 140 دولة (ولكن لم تصدّق عليها سوى 70 دولة، ومن العالم العربي لا نعدّ سوى الجزائر، مصر، الأردن، ليبيا، الإمارات العربية المتحدة، واليمن). ويرى كاسي كيلسو، المدير الإقليمي لمنظمة الشفافية الدولية في أفريقيا والشرق الأوسط، أن هذه الاتفاقية "أداة حاسمة للإصلاح السياسي في المنطقة، لكن بعض الدول تفقد هذه الفرصة السانحة"، متعامياً ـ عن سابق حياء دبلوماسي أو سابق قصد، على الأرجح ـ أنّ معظم هذه الانظمة لا تقتات على الفساد فحسب، بل تديمه وتشيعه وتصونه وتنوّع أنساقه. ومع ذلك... لا بدّ للمنظمات الدولية من ان تعمل، او توحي بأنها تعمل!
هذا بالرغم من أنّ المنظمة غير حكومية، وتضع على عاتقها أمر إماطة اللثام عن مؤشرات الفساد والإفساد في العلاقات الإستثمارية والتعاقدية بين دولة ودولة، أو بين دولة وفرد، أو بين شركة عملاقة ودولة وفرد، أو بين هذه الأطراف جميعها حين تشترك في شبكة معقدة من الصلات والمصالح والمنافع المتبادلة. وهي تشدد على نوعين من الأولويات العامة، هما سهولة توفير المعلومة وشفافية الإنفاق، وعلى أولويات محددة بينها نظام قضائي حرّ لمعالجة الفساد، ومواثيق دولية، واهتمام بالتربية والتعليم.
وفي أحدث تقاريرها السنوية عن مؤشرات الفساد هنا وهناك في العالم، وهو التقرير الذي يرتّب الدول في لائحة الفساد والإفساد استناداً إلى منح هذه الدولة أو تلك درجة محدّدة من أصل 10 درجات، تتصدّر أيسلندا لائحة الدول الأقلّ فساداً (بدرجة9,7)، تليها فنلندا ونيوزيلندا (9,6)، فالدانمرك (9,5)، وسنغافورة (9,4)، والسويد (9,2)، والنروج (9,1). وفي هذا الترتيب تأتي دولة مثل بريطانيا وهولندا في المرتبة 11 (بدرجة 8,6) وألمانيا في المرتبة 16 (8,1)، والولايات المتحدة في المرتبة 17 (7,6)، وفرنسا في المرتبة 18 (7,5).
أمّا في أمكنة أخرى فإنّ تشاد تحتلّ مرتبة الصدارة (معكوسة، بالطبع!) لأنها تأتي في أسفل اللائحة تماماً (بدرجة 1,7)، تسبقها بنغلادش بالدرجة ذاتها، ثمّ تركمانستان وميانمار وهاييتي. وهذه الأمثلة تكفي لاختصار أحوال الدول الأخرى المماثلة. بعض الدول العربية تسير مؤشراتها كما يلي، من الأعلى إلى الأسفل: عمان (6,3)، الإمارات (6,2)، قطر (5,9)، الأردن (5,7)، الكويت (4,7)، مصر والسعودية وسورية (3,4)، المغرب (3,2)، لبنان (3,1)، الجزائر (2,8)، اليمن (2,7)، فلسطين (2,6)، ليبيا (2,5)، العراق (2,2)، الصومال والسودان (2,1)... وهنا أيضاً، تبدو المؤشرات مدهشة لأنّ السعودية ومصر وسورية في خانة واحدة، أو لأنّ إيران (المرتبة 96، بدرجة 2,9) وروسيا (المرتبة 126، بدرجة 2,4)أكثر فساداً من سورية وبوليفيا وأفغانستان!
وفي التقرير الرئيسي الثاني المخصّص للدول الأكثر إفساداً، أي الأكثر سخاء في منح الرشاوي للدول أو الجهات المتعاقدة، يسير الترتيب كما يلي: روسيا، الصين، تايوان، كوريا الجنوبية، إيطاليا. وهذه اللائحة تضمّ مجموعة الدول الآسيوية الأساسية (هونغ كونغ، ماليزيا، اليابان)، ثمّ معظم الديمقراطيات الغربية (الولايات المتحدة، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا...). ومن المثير أنّ حقول منح الرشوة تتركّز في قطاعات الزراعة، والصناعة الخفيفة، والإنشاءات المدنية، والطبّ والصيدلة! وتخيّلوا ايّ القطاعات تأثراً بمؤشرات الفساد هذه، في المجتمعات وعلى نطاق عالمي نسبي: الأحزاب والقيادات السياسية (4%)، البرلمانات ومجالس التشريع (3,7)، الشرطة والجهاز القضائي (3,6)!
لكنّ تقارير منظمة «الشفافية العالمية» تظلّ أشبه بالنفخ في قربة مثقوبة!
الفساد (كما الإفساد) ليس شارعاً وحيد الإتجاه. هنالك الفاسد والمرتشي وقابض العمولات، وهنالك أيضاً وبالتساوي: المفسد والراشي ودافع العمولات. وتقارير المنظمة تسجّل هذه الحقيقة، بل هي تتكيء عليها بصفة أساسية حين تتحدّث عن العواقب البنيوية الوخيمة التي تلحق بالإقتصادات النامية جرّاء شيوع الفساد في أجهزة الدولة المعنية مباشرة بالتنمية. والتقرير الرائد الذي وضعه باولو ماورو في سنة 1995 يشير إلى أنّ الدول الأكثر فساداً تشهد القليل فالأقلّ من توجّه ناتجها القومي الإجمالي إلى الإستثمار، والقليل فالأقلّ من معدّلات النموّ. وهذه الدول تستثمر في قطاع التربية والتعليم أقلّ بكثير من استثمارها في قطاعات إنشائية، لأنّ هذه القطاعات توفّر فرصة سمسرة لا توفّرها الإستثمارات في قطاع التربية.
وفي المقابل، ومنذ عام 1997، تشهد مؤسسات ودوائر وفروع «البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي» مراجعات جذرية تتناول مسألة الفساد والإفساد، وتسفر أحياناً عن صياغات متسارعة وقرارات دراماتيكية بالغة الخطورة، تبدو إدارية تقنية من حيث الشكل، ولكنها من حيث المحتوى الأعمق تظلّ سياسية واقتصادية وفلسفية أيضاً. إنها، كما يُقال لنا، «حرب شعواء» ضدّ الفساد المالي، أو ضدّ استشراء «سرطان الفساد»، ولم يعد في وسع المؤسستين اللتين تتحكمان في أموال العالم (والعالم الفقير لمزيد من الدقة)، الصبر على هدر الأموال العامة، والرشوة، والإختلاس، وتخريب الإقتصادات الوطنية، وعرقلة «برامج التعديل الهيكلي» SAP بوصفها «إنجيل الإصلاحات» المقدّس في عرف خبراء المؤسستين.
لكننا نعرف أنه في جميع بلدان العالم (نعم: جميعها بلا استثناء)، هنالك رجال يستمدون ألقابهم من النسبة المئوية التي يحصلون عليها لقاء تسهيل أو توقيع مختلف أنواع العقود مع مؤسسات استثمارية صغيرة أو كبيرة، محلية أو عابرة للقارات. هنالك «المستر 5%»، أو «المستر 10%»، أو حتى «المستر 15%». وكان التنظير الرأسمالي البراغماتي قد اعتبر، مراراً في الواقع، أن حصة هذا «المستر» ليست جزءاً طبيعياً لا يتجزأ من كلفة التنفيذ فحسب، بل هي حصة حيوية لا غنى عنها في سياق تذليل المصاعب البيروقراطية التي تعترض الإجراءات الإدارية على اختلاف مستوياتها، من توقيع العقود ذاتها وصولاً إلى الاستلام النهائي للمشروع والمصادقة على سلامة تنفيذه. بمعنى آخر، كان أصحاب هذا التنظير لا يرون غضاضة في تقديم الرشوة، ولا يخشون في ذلك أية عواقب قانونية أو سياسية أو أخلاقية.
أكثر من ذلك، مضى زمن غير بعيد (أواسط الثمانينيات في الواقع) كانت فيه دورية اقتصادية رأسمالية عريقة مثل «هارفارد بزنس ريفيو» تعتمد ما يشبه الفلسفة «الثقافية»، المستندة إلى مقاربة «أنثروبولوجية»، في تفسير شيوع الرشوة والفساد في بلدان العالم الثالث: هذه «مكوس» لا تُدفع للفرد وحده بل للقبيلة بأسرها، وثمة شبكة من المصالح المشتركة بين الأفراد والقبائل تستدعي تحصيل نصيب غير مباشر من الثروات، يُوزّع على أفراد القبيلة أو يُصرف في تحسين سُبل عيشها داخل المؤسسة الأكبر للدولة. وأحد كبار أساتذة هذه الفلسفة ذهب ذات يوم إلى حدّ طمأنة ضمير المستثمر الغربي المفسِد والراشي: «ما تدفعونه لا يذهب إلى الأفراد وحدهم، بل إلى جماعات أوسع نطاقاً، وبالتالي إلى الأمّة بأسرها في نهاية الأمر»!
ما الذي جرى لكي تنقلب هذه الفلسفة بغتة؟ ولماذا يتمّ إعلان الإنقلاب من منابر أعلى مؤسستين رأسماليتين في الكون بأسره؟ يقول المسؤولون: لأن المستر 5% أو 10% أو 15% بات اليوم «المستر 30%» ليس أقلّ، وهذا أكثر بكثير مما يحتمله أي منطق اقتصادي في حساب الكلفة، لأنه ببساطة ثلث الميزانية في أي مشروع من جهة، وهو معدّل سنوي عالمي يتراوح بين 500 و1000 مليار دولار من جهة ثانية! وهكذا أعلنت «الشقيقتان»، وهي التسمية التاريخية لكلّ من "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي"، أن مختلف الإتفاقات القادمة مع دول العالم سوف تكون مشروطة ببنود صريحة حول مكافحة الفساد، وضمانات صريحة أكثر حول «ترشيد» اقتصاديات الإستثمار. اللباقة وحدها منعت هؤلاء المسؤولين من القول: لا بأس من «المستر 15%» في الحدود القصوى، ولكن لا تسامح أبداً مع «المستر 30%»! بمعنى ثالث، لا بأس من الفساد، شرط أن يكون في حدود المعقول.
وبطبيعة الحال، قد لا يعترض أحد على سياسات كهذه، حتى إذا كانت تكافح «المستر 30%» وتغمض العين عن «المستر 15%». ولكن الحال مشروطة بوضع الجميع على قدم المساواة في تطبيق هذه المعايير أولاً، ثمّ بعدئذ الأخذ بعين الإعتبار الأسباب الأخرى الأعمق وراء استشراء هذه الظواهر في الاقتصادات النامية بصفة خاصة (غياب الديمقراطية، التخلف البنيوي في الهياكل المعنية بإدارة الإقتصاد، غياب المؤسسات الرقابية المدنية المستقلة، التخلف التكنولوجي، انعدام التكافؤ بين العقد والمتعاقد، وما إلى ذلك).
وهكذا كان ينبغي على «الشقيقتين»، ومنذ عام 1997 حين جرى التوقيع على «ميثاق شرف» لمحاربة الفساد، أو منذ زمن ليس بالبعيد حين اقرّت الأمم المتحدة اتفاقية مكافحة الفساد، أن تلوّحا بالبطاقة الصفراء، ثم بالحمراء حين يقتضي الحال، في وجه مافيات «المال القذر» أياً كانت جنسياتها وجغرافياتها ونسبها المئوية وأرصدتها، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً. فنلندا مثل بنغلادش، وفرنسا مثل نيجيريا، واليابان وروسيا والصين (أدسم زبائن الصندوق والبنك، وزبائن الولايات المتحدة استطراداً)، مثل الصومال والبيرو وأفغانستان (أضعف الزبائن).
شرط آخر هو التعامل مع الفساد بوصفه ظاهرة شبيهة برقصة التانغو، لا تتمّ دون وجود طرفين اثنين: الذي يستلم المال القذر، والذي يسلّمه. وفي هذا ينبغي على هيئات كونية كبرى (مثل منظمة التعاون والتنمية، والدول الأعضاء في الـ G-8، و"الشفافية الدولية" و"الشقيقتين" في الطليعة بطبيعة الحال) أن يتمسكوا بوضوح بالمبدأ القائل إن الفساد تعَوْلَم بدوره، ولم يعد يقتصر على ثقافة سياسية دون غيرها، أو على نظام اقتصادي دون آخر، أو على الدكتاتوريات دون الديمقراطيات. وما دامت الوقائع تشير إلى أنّ الكلّ في الفساد سواسية، فإن الطرائق الناجعة (أو التي يمكن أن تكون ناجعة في أي يوم) ينبغي أن تأخذ بالحسبان حقيقة وجود الفاسد كتفاً إلى كتف مع المفسِد، وحقيقة وجودهما داخل هياكل الدولة وخارجها أيضاً.
ذلك لأن التاريخ يعلمنا أن العمالقة الأغنياء ينظّمون، والصغار الفقراء يعانون الآثار الحادة لذلك التنظيم. وأما كتائب التنفيذ فقد كانت على الدوام ذلك الدركي المالي الصارم البارد الدم، الذي يحمل تارة اسم صندوق النقد الدولي، وطوراً اسم البنك الدولي. ويحدث مراراً أن يتكثف الاسمان في مسمّى واحد هو الأمن الاقتصادي ـ السياسي العالمي، خصوصاً وأنّ السياسة ـ في نهاية المطاف ـ اقتصاد مكثّف... شديد التكثيف!
#صبحي_حديدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟