|
امرأة فوق كل الشبهات
هشام بن الشاوي
الحوار المتمدن-العدد: 1723 - 2006 / 11 / 3 - 07:23
المحور:
الادب والفن
حين تضيق بالحياة وتضيق الحياة بها .. تحس برغبة جامحة في أن تتقيأ همومها ، على حافة قبره .. وحده يصغي إليها دون أن يتذمر من تبرمها من كل شيء ! وتذرف ما تبقى من الدمع .. وحيدة في مقبرة الشهداء المنسية … من بعيد ، يراقبها حارس المقبرة بنظرات ثعلب عجوز .. جلبابه الرث وشعره الأشعث يؤكدان إشاعة أنه يؤاخي الجن … فلا يقترب الرعاة من المقبرة ، حين تلون الشمس الأفق بحمرتها القانية … يعيش وحيدا يحرس الأموات ، يتلو عليهم آيات لا يحفظ غيرها .. بدراهم معدودات … اعتاد أن تزور قبر زوجها وحيدة ، ويتعجب : ” كيف لا تنجب امرأة حليبية الجسد مكتنزته مثلها ، ولم لا تتزوج غيره كبقية الأرامل ؟؟ ” … * * * تكلمه بصوت كالهمس : ” كل الرجال يضايقونني ، وأنا الوحيدة العزلاء في هذه الدنيا .. بلا سلف ولا خلف … ويستغلون أي زحام في الحافلات أو السوق .. ليمارسون أشياء مشينة … قبل سنة … كنت منزويا في الغرفة ، بساق واحدة .. كانت وسامك الوحيد من حرب خاسرة بكل المقاييس .. كنت رجلا لا يصلح سوى للأنين .. في أعماق الليل البهيم ، وأنا أتلوى في فراشي كالأفعى .. وحيدة… لم تكن تعلم أن إحدى شظايا قذيفة ستزهر سرطانا خبيثا .. في الظهر … فترحل دون تبذر فرحة صغيرة في أحشائي … !! التقينا لقاء غرباء .. وافترقنا … لا شيء يوحد بيننا غير الحزن والأمل !! .. اختطفوك من بين أحضاني .. ليلة زفافنا .. من أجل حرب – تمثيلية … قبضوا ثمن خسارتها سلفا .. من أنجاس لازالوا يعيثون فيها فسادا …حتى صدقة الوزارة لم تكن تكفي لشراء مسكنات الألم اللعين .. كنت تحس بي كامرأة ، وتبكي .. بكاء لا يليق برجل باسل … !! تقرأ كلام عيني ، الذي أخفيه عنك ، وبلا مقدمات تعلن في إشفاق : - دعيني أموت وحيدا .. مع عنتي ، وسرطاني ، وعجزي الكامل … ويطفر الدمع من عينيك … أخفي عنك دموعي ، أواسيك .. بكلمات بدأت أشك في معناها : الصبر ، الإيمان ، القضاء ، القدر… ويجلد أعماقي سوط سؤال كافر:” يا ربي ، لم كتبت علي أن أشقى دون بقية النساء ؟؟ ” . * * * جارتي ، وصديقتي الوحيدة .. السعدية ، ساعدتني بالبحث عن عمل لدى بعض زبائنها القدامى .. كل النساء أغلقن الباب في وجهي ، وهن يلتهمن قوامي بنظرات نارية .. - أنا جئت للقيام بأشغال البيت ، فما شأني بأزواجهن … - إنها الغيرة .. يا عزيزتي ، والأزواج يشتهون الفاكهة التي على الشجرة ، وينسون التي بين أيديهم … !! تتضاعف أحزاني … وتستطرد السعدية : - أنا صاحبتك وأحسدك على هذا الجمال الرباني ، لو لم تكوني صديقتي .. لأضرمت فيك النار !! وضحكنا ضحكا كالبكاء . * * * … طرقنا باب رجل أربعيني ، أستاذ محترم أعزب .. يعيش وحيدا في شقته … شبه مضرب عن الزواج … حسب رواية السعدية . كان لطيفا معنا للغاية … - البيت بيتك .. أنا مضطر للذهاب إلى العمل ، سأعود بعد ثلاث ساعات … و… خيل إلي أني سمعت الباب يغلق ، وأنا منهمكة في التصبين ، لم ينبس بكلمة .. ولم أحس به إلا وهو يطوق خصري بيده ، وبرعشة كهربائية تسري في عروقي … - سيدي … لو كنت أريد أن أفعل هذا .. لما طرقت باب غريب ! كرامتي كامرأة لا تسمح لي ، والانتحار أهون علي من أن … !! * * * بعدها طلبت من السعدية أن تجد لي عملا في المصنع ، بعد تبرمي من مضايقات سكان الشقق .. هناك أحسست بألفة بين الزميلات ، وتقاسمنا رغيف الهموم النسائية ، والضحكات المريرة .. ولم أهتم بتساؤلات العاملات عن الاهتمام المفرط من الحاج عبد السلام مدير المعمل ، وحرصه ألا يضايقني أحد.. ألأني صديقة السعدية أم لجمالي … إلى أن فوجئت به ، بعد أيام ، يرسل أحدهم ،يدعوني للحضور إلى مكتبه ، ونظرات الزميلات تفضح ما يساورهن ، كأنهن يعرفن ما كان ينتظرني .. ربما خضعن لنفس التجربة… استقبلني العجوز الستيني بحفاوة ، ولاحظت انتصاب أسفله ، وهو يهم بأن يحضنني .. تذكرت زوجي ، وهو ينادي علي ، عند رغبته في قضاء الحاجة ..أبكي بلا وجع ، وأغمغم :” يا ربي ، ما ذبني لتعذبني هكذا ؟؟” ، ودون أن أحس بصقت في وجهه :” تتتتتفففففووووووو ! كلكم كلاب ” !! .. خرجت من مكتبه غاضبة ، غيرت ثيابي بسرعة ، ثم رميت الوزرة على الأرض .. بالقرب العاملات … وفي حجرتي ، قضيت بقية النهار في بكاء حارق . * * * سمعت طرقات على الباب .. كنت متلهفة إليها ، كنت أعرف أنها السعدية .. كنت في أمس الحاجة إلى من يسمعني ، وأنا أتقيأ همومي … بعد صمت ثلجي ، أشعلت السعدية سيجارة ، ونفثت دخانها في الهواء في حنق ، وهي تحدق في السقف… - منذ متى تدخنين ؟ - أرجوك يا صديقتي ، يكفيني ما بي … قدرنا أن يطمع فينا كل من هب ودب .. لأننا بلا شهادات جامعية ولا وظائف محترمة ، لو لم أكن مطلقة لما احتجت إلى هوان العمل .. ولكن لا أحد يتزوج مطلقة أربعينية ، هجرها زوجها من أجل واحدة في عمر أصغر أبنائه !! … - هل تعلمين أني أحسدك على كبريائك …؟؟ تصمت لحظات ، لم أشأ أن أضايقها بأية ملاحظة هامشية … - أية إهانة أن تشتري العاملة بقاءها في المعمل بأن تخلع سروالها بين يدي المشرف وصاحب المعمل .. من أجل دراهم لا تسد رمق أربعة أفواه ؟؟ تطفر الدموع من عينيها ، وتستطرد : ” المشرف زير النساء ، والعجوز المراهق … صارا مثل خاتمين بين يدي .. كل واحد منهما يظنني لي وحده !والأنكى أن الكلب العجوز لا يجد متعته إلا في أن يرضع شيء ه ؟؟… الرجال ، كلهم أولاد القحاب … عن إذنك … أريد أن أسكر .. حتى لا أموت كمدا … بااااي … لم أختر أن أكون قحبة ولا سكيرة .. لم أحسدك يا كريمة ، وكم أحبك لدرجة الكراهية .. يا صديقي اللدودة !! ” . * * *
اقترب منها حارس المقبرة ، كفكفت دموعها .. أحست بحنو يد ، وهي تربت على كتفها .. لم تسمع ما قال ، كانت شبه مغيبة .. هشة .. ولم تحس بالعجوز ، وهو يقشرها قطعة قطعة على حصير غرفته المهترئ .. كانت كالمخدرة ، حدثت نفسها :” آه ، لو تعرف كم انتظرت هذه اللحظة .. فلم أحب رجلا قبلك ولا من بعدك … يا أبتي ، عفوا ، يا حبيبي الأوحد .. حتى لو كنت قد تبنيتني ، فكم اشتهيت أن أرقص بين يديك نشوة ، وتحس أني امرأة .. وليس مجرد طفلة تمسد شعرها ، وتحرم على يدك أن تجوس في تضاريسي … آه ، كم حلمت بيدك غيمة تروي عطش حقول جسدي … وتنسى تلك الطفلة.. يتيمة الأب والأم التي كنتها ، وأكون امرأتك الأولى والأخيرة.. التي تكتمل بها بهجة الدنيا !! ” . أحست بالغثيان ، وفحيح أنفاسه الكريهة يلفحها : ” أنت لست أبي .. من أنت ؟ من تكون ؟ أين أنا ؟؟” . ودفعته بقوة ، فانقذف جسده الواهن بعيدا عنها.. جرها من ساقها ، بكلتا يديه .. وقعت أرضا ، لمعت عيناها حين لمحت بالقرب منها حجرا في حجم قبضة اليد ، أملس يستخدمه للتيمم وسددته بكل ما أوتيت من قوة إلى رأسه … ندت عنها صرخة هستيرية ، وانطلقت تركض في الاتجاه … بعد لحظات… وسمع منبه سيارة قوي .. مرقت كالسهم ، وشيئا يتطاير في الهواء كالدمية … وكتبت جرائد الصباح ، في صفحاتها الأولى عن العثور عن جثة امرأة عارية ،على الطريق السيار … الفاعل مجهول ، والحادثة يلفها الغموض …
وبدأت الألسن تنسج ألف حكاية وحكاية …
#هشام_بن_الشاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البكاء الآخر (تمرين قصصي)
-
أنين الظلام
-
أخاف ان أحبك...!!!
-
لوحات ساخرة جدا
-
مدخل إلى : “متاهات الشنق” للقاص المغربي شكيب عبد الحميد
-
رواية ” الوشم” للربيعي - حين يدخل المثقفون في التجربة (…) ال
...
-
فرح
-
الطيور تهاجر لكي لاتموت....
-
الطيور تهاجر لكي لاتموت...
-
حوار غير عادي مع الكاتب العربي المتألق سمير الفيل
-
عندما يحب الشعراء...
-
نصوص مفخخة جدا
-
رسالتان الى روح مليكة مستظرف...أميرة جراح الروح والجسد
-
وشاية بأصدقائي ( مرثية لزمن البهاء)
-
بيت لا تفتح نوافذه ...
-
الصفعة
-
*في بيتنا رجل
المزيد.....
-
-بندقية أبي-.. نضال وهوية عبر أجيال
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|