|
صورة
سميرة الوردي
الحوار المتمدن-العدد: 1723 - 2006 / 11 / 3 - 07:29
المحور:
الادب والفن
عندما تفرغ أكياس الطحين يُصبح البدر رغيفا في عيوني (محمود درويش) تستيقظ مع اول زقزقة عصفور ، ماهي إلا لحظات حتى تمتلئ سماء االحديقة بنشيدهن المعتاد ، متعة أن ينطلق صوت مليون عصفور أو أكثر من على سدرة الدار القديمة في سمفونية صباحية تضج بالحياة وقدسيتها ، غير آبهة أو شاعرة بأي نوع من أنواع الخوف أو الحرمان التي تنتابها ، لم يكن في وجبة إفطار اليوم سوى كسرات خبز من بقايا خبز الأمس وشاي مع التمر ، لم يكن يوما غير اعتيادي ، إنه كبقية الأيام من منتصف كل شهر أو قبله ، حينما تنتهي الحصة التموينية من الطعام وقد سبقها بأيام عديدة صرف آخر دينار من الراتب . ما يستغرب له أن الأيام تتتالى والحياة تمضي دون تلكُؤٍ الا من بعض المشاكل التي تنشأ تهزالعوائل ، تُهزِم بعض أفرادها ، ولكن الشمس تبقى تأتي شرقا وترحل غرباً كديدنها . صباحا عاديا بالنسبة لها ، استيقظتْ من نومها بمزاج رائق رغم الواقع المرير . خرجتْ من البيت ، لم تتناول شيئا تركتْ بقايا الخبز لولديها كي لا يبقيا دون طعام قبل أن يذهبا الى مدرستهما ، حملتْ حقيبتها وقد ضمتْ دفترا تدون فيه درجات الطالبات ليكون وسيلة لدفعهن إلى إنجاز دروسهن ، لم تجد وسيلة أنجع منه في زمن الحرب ، فقدن حماسهن للدراسة ، وقلم جاف انتزعته من ابنتها بعد أن أقنعتها بعدم جدواه لها وبقايا نقود لا تكفي إلا لتوصيلها في الباص إلى المدرسة إختصارا للوقت ، أما العودة مرّنتْ نفسها على مشي الطريق كله ، ما أن خرجتْ من الدار حتى لامستْ وجنتيها نسماتٌ باردة أنعشتها وأوحتْ لها بالفتوة والشباب ، ابتعدتْ خطوات عن باب دارها وإذا امرأة طاعنة في السن تحمل كارة على رأسها تبدو ثقيلةً اعترضتها ومدت يدها ، دون أن تتفوه بأي كلمة . مفاضلة سريعة انعقدت في رأسها إذا أعطتها ما تملك ستضطر الى الذهاب سيرا والوصول متأخرة ، انتصرتْ المرأة عليها . سكون عم المدرسة ممايدل على انتظام الدراسة منذ وقت غير قليل ، تسللتْ إلى صفها بهدوء متناه ، خوف أن تلفتَ النظر إلى تـأخرها ، لمحتْ المديرة في الطرف الثاني من الممر التي تقع عليه الصفوف ، تجاهلتا بعضهما ، أدركتُ المديرة منذ التحاقها معها في العمل إنها لا تقصر في واجبها إلا تحت ظرف قاهر ، الفتيات استقبلنها بحفاوة مشوبة بالقلق عليها ، طمأنتهن ، بدأتْ الدرس محاولة السيطرة على الصف أولا وتعويض ما فاتهن من وقت ، الموضوع (شعراء المهجر) وماتميز به شعرهم من حنين للوطن وما خالطه من هواجس وأنين وغربة ، مر المنهج على الموضوع مرورا سريعا ، لم يُوفه حقه سوى بعض الملاحظات التي تُسيء لهذا الأدب اكثر مما ُتعرِّف به كضعف اللغة وعدم الالتزام بقافية واحدة .. الخ ، طلبت منهن أن يحفظن ما ورد في المنهج للامتحان ، ويُطلقن لأرائهن النقدية في الدرس العنان . رغبة بالتقيء وشعور بتفحم في معدتها ، قد يكون لعدم تناولها شيئا من الطعام ، طلبتْ من إحدى الطالبات أن تجلب لها ماءً ، بادرت أخرى وسقتها من زمزميتها . بعض الأبيات المستشهدِ بها في الكتاب لجبران خليل جبران مطلعها : يابني أمي إذا جاءت سعاد تسأل الفتيان عن صب كئيب طلبتْ كتاب غفران ، كانتْ مثالا للطالبة الرصينة والمجتهدة ، قرأتْ بيت الشعر فأذا بها قد شطبتْ التاء من جاءتْ واستبدلتْ سعاد برياض وحولتْ تاء المضارعة من تسأل ياءً ، قرأته بصوت مرتفع كما حورته غفران فاثار الضحك والمتعة في الصف وبددَ شيئا من مشاعر التعب والإرهاق الذي انتابها ، احمرتْ غفران ، رياض ابن خالها ، خطبها ، إلا أنها أجلتْ إعلان الخطوبة الى ما بعد الانتهاء من امتحاناتها النهائية ، في غمرة موجة الفرح التي عمتْ الصف ، فُتح الباب بقوة ، مدتْ المعاونة رأسها من فتحة الباب واستأذنتْ للحديث مع الطالبات ، موجهةً حديثها لهدى طالبةً منها جذب النسخة الثالثة من نفس صورتها الشخصية ، فالصورتين التي سلمتها للإدارة لا تكفي لتنظيم هوية دخول الإمتحانات والقانون يُلزم الطالب بتسليم ثلاث نسخ ، اغرورقتْ عينا هدى بالدموع ، أخذتْ تنشج بصوت تُحاول كبته ، لم تستطع سوى قول جملة واحدة ـ: لا أستطيع .. ، أجابتها المعاونة بلا مبالاة وبحركة مسرحية بيديها ـ : ( آني شَعْلّيَة ) * أنت تُحرَمين من الامتحان إذا لم تأتِ بها غدا . غادرت المعاونة بعد أن ألقتْ قنبلتها ، وبدلا من سحب الطالبة معها إلى الإدارة ومساعدتها ، تركتها تغرق في خجلها وحيرتها مع نفسها وأمام طالباتها ، بدأت تفكر كمدرسة تريد ان تنقذ الوضع لابد لهامن الإستلاف من إحدى زميلاتها المرفهات والتي لم تأثر فيهن الحرب كثيرا وتدفع لها ثمن الصورة ، وفي بحر خجلها من الاستلاف وما يسببه لها من حرج لم يسبق أن أقدمت عليه بالرغم من حراجة الظروف ، قامت طالبة أخرى تحمل نفس اسمها طالبةً منها رقم صورتها حتى تطبع لها عليها كل ما تحتاجه من صور ، أنقذتها هدى الثانية من حرج الدين و تركتها تُبحر في عجزها ، سكتتْ هدى مكفكفة دموعها ، زافرة همومها أمام زميلاتها كاشفة ما حاولتْ ستره خلال سنوات الحصار المريرة الذي جَفَفَ كل شيء ، خلال الحرب فقدتْ أباها ، تحمل أخوها الأكبر مسؤولية العائلة بعد أن ترك دراسته ، وهو يطالبها بترك دراستها أو تأجيلها لأنه لا يستطيع الإيفاء بمتطلباتها ومتطلبات العائله ومن جراء الحرب يعيشون حياة صعبة ، عادتْ هدى إلى بكائها محتضنة رأسها بين يديها . أنقلب درس الأدب الذي يحمل في طياته الرومانسية إلى وجوم ومكاشفة كل طالبة تبث همومها تواسي به زميلتها أنسحبتْ من الصف بهدوء كما دخلته ، ازداد في فمها طعم الفحم وفي روحها مرارةٌ لن تمحى وبيت شعرٍ لشاعر قديم لم تعثر على اسمه يرافقها رغم أنفها ( كل من تلقاه يشكو همه يا ترى هذه الدنيا لمن ) . ــــــــــــ * أي إنني غير مسؤولة عما يحدث لكِ .
#سميرة_الوردي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مكتبتي
-
جنون
-
لحظة من لحظات الحرب
-
لاشيء يعدل الحرية
-
المحبرة
-
القداس
-
إمرأة تتسلى في الشرفة
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|