أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نجيب علي العطّار - الكتابةُ: بينَ الكَباريْه والدَّبكة















المزيد.....

الكتابةُ: بينَ الكَباريْه والدَّبكة


نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)


الحوار المتمدن-العدد: 7666 - 2023 / 7 / 8 - 09:38
المحور: الادب والفن
    


ليسَ ثمَّةَ في قاموسِ المُشتغلينَ في الكِتابةِ، على الأقلِّ في قاموسي أنا، ما هو أشدُّ رهبةً وتعقيدًا منَ البَدْءِ في كِتابةِ نَصٍّ ما، إذ أنَّه، أعني البَدْءَ، ليسَ بالسُّهولةِ التي يكونُ عليها باقي النَّصِّ، وبخاصَّةٍ إذا كانَ يُكتبُ بلُغةٍ غيرِ عِلميَّةٍ، أيْ غيرُ مُقيَّدةٍ بقَيْدَيْ الاصطلاحِ والمَنهَج. وتزدادُ الرَّهبةُ كُلَّما كانَ القَلمُ أكثرَ حساسيَّةً تِجاهَ اختيارِ الكَلماتِ، مِنْ بينِ مُترادفاتِها، ونَظمِها. ولعلَّ أهميَّةَ المُقدَّماتِ مَردُّها إلى حقيقةِ أنَّها تُمثِّلُ قُوَّةَ الجَذْبِ، أوِ الدَّفْعِ، للنَّصِّ مِن حيثُ هو نَصٌّ. فالبَدْءُ هو دَعوةٌ إلى فَتحِ بوَّابةٍ مُعيَّنةٍ من بوَّاباتِ أرشيفِنا الذِّهنيِّ على مِصراعَيْها وإبقاءِ البَقِيَّةِ الباقيةِ منَ البوَّاباتِ مواربةً، إذْ لا يَجوزُ أنْ يُقرأَ نَصٌّ، ولا أنْ يُكتبَ، دونَ الإبقاءِ على اتَّصالٍ ما بينَ ما نَقرأُ، ونَكتبُ، وما قد تَأَرْشَفَ في أذهانِنا من أفكارٍ، سَواءً أن تكونَ ذاتَ صِلةٍ بما يُقرأُ أو أنْ تبدوَ غيرَ ذاتِ صِلة أو أنْ تكونَ كذلكَ بالفِعل. فكمْ منْ بِدايةٍ ذَهَبَتْ بقلمِ كاتبِها إلى غيرِ ما أرادَ لها أن تذهبَه وانتهتْ إلى حيثُ لم يَخطُرْ في بالِ القارئ والكاتبِ على حدٍّ سَواء، تمامًا كهذه المُقدِّمة.

في حَضرةِ الحَيْرَةِ البَدئِيَّةِ، إذا أُجيزَ التَّعبير، أيْ حينَ أَسألُ نفسي «مِن أينَ أبدأ؟»، في لحظةٍ كهذه أشعرُ كأنَّ مئاتٍ، ورُبَّما ألوفًا، منَ الأفكارِ في رأسي ترقصُ رَقصًا يُشبه إلى حدِّ التَّطابقِ الرَّقصَ في «الكَباريهات» الصَّاخبة. هُناكَ حيثُ السُّكارى. حيثُ كُلٌّ يرقصُ «على لَيْلَاه» دونَ أن يكونَ ثَمَّةَ إيقاعٌ مُشتركٌ في رقصِهم، وإنْ كانوا يرقصونَ للحنٍ واحد. في تلكَ اللَّحظةِ أشعرُ أنَّ الكِتابةَ هي إخراجُ الأفكار منْ «كَباريْه» الذِّهنِ إلى ساحةِ الدَّبكةِ المُنتظِمة. ليسَ ممَّا يَعنيهِ هذا الإخراجُ أنَّ الكِتابةَ يَجبُ أنْ تُنَظَّمَ وتُؤَطَّرَ وفقَ قوانينَ عِلميَّةٍ، وإنَّما المُرادُ هو الاتَّساقُ والانسجامُ بينَ مُمارسي الدَّبكةِ أنفسِهم وبينَهم وبينَ اللَّحنِ مِن جهةٍ أُخرى. فالرَّقصُ في «الكَباريْه» يُمتِعُ الرَّاقصينَ، رُبَّما، لكنَّه لنْ يُمتعَ النَّاظرينَ كما تفعلُ الدَّبكةُ التي تجلبُ المُتعةَ إلى المُمارسِ والمُراقبِ على حدٍّ سَواء. وتاليًا، فإنَّ قُدرةَ الكاتبِ لا تَبرزُ في الأفكارِ التي ترقصُ في رأسِه، وإنَّما في قُدرتِه على تنظيمِها في حلقاتِ دبكةٍ مُمتِعة.

معَ ابتعادِ الكاتبِ عنْ شَاطئِ الكِتابةِ تُصبحُ النَّجاةُ منَ المَوتِ أكثرَ صعوبةً. فما يَخلقُه الكاتبُ، وإنْ كانَ يُمثِّلُ طَوقَ نجاةٍ في بحرِ الكِتابةِ الوَسيعِ والعميقِ، إلَّا أنَّ هذا الطَّوقَ لا يَلبَثُ أنْ يُلقيَ خالقَه بعدَ أن يُلقيهِ خالقُه، وما مَوتُ الكَاتبِ إلَّا في «الاكتفاء» بما خلقَ/كَتَب. بعبارةٍ مُغايرةٍ؛ إنَّ ما يُنتِجُه الكاتبُ، حتَّى لو كانَ مُدخِلًا له إلى عالمِ الخلود، لكنَّ لا بُدَّ للكاتبِ أن يظلَّ في حالةِ تخليقٍ دائمٍ. وليسَ المُرادُ من كلمةِ «الكاتب» ههُنا اسمَ الفاعلِ من فعلِ «كَتَبَ»، وإنَّما المُرادُ مَنْ كانتِ «الكِتابةُ» عندَه مَلَكَةً وليست عَرَضًا، مَنْ تَفْرِضُ الكِتابةُ نفسَها عليه لا مَنْ يَفرِضُ رغبتَه في الشُّهرةِ على الكِتابة. وتاليًا، فإنَّ الكَاتبَ ذي المَلَكَةِ لا يُمكنُ ألَّا يَستمر. حتَّى ما يُسمَّونَه «حُبسةُ الكِتابةِ» ما هي إلَّا دليلٌ بَيِّنٌ على الرَّغبةِ في الكِتابة. لكنْ يَحدثُ أحيانًا أنْ يرغبَ الكاتبُ في الكِتابةِ فترغبُ الكِتابةُ عنه، إذ أنَّ العِلاقةَ بينهما تُشبه إلى حدٍّ بعيدٍ، والعُهدةُ على التَّمثيلِ، ما يَكونُ بين عاشقٍ يَشتاقُ ومعشوقةٍ تُقبلُ مرَّةً وتَتمنَّعُ مَرَّاتٍ، ولا غرابةَ إذَّاكَ أنَّ العَودةَ تكونُ أكثرَ إبداعًا كُلّما أطالتِ الكِتابةُ في تمنُّعِها.

عودًا على الكَاتبِ قيدِ الغَرَقِ؛ إنَّ أحدَ أهمِّ اليابسةِ التي يُمكنُ للكاتبِ أنْ يحملَها معه في ذاكَ البَحر هي ما يُسمَّى «أسلوبَ الكَاتب»، أو «بَصمتَه». ويَروقُني أنْ أُسمِّيه «مِزاجُ الكاتب». المِزاجُ لُغةً هو «ما يُمزجُ بهِ منَ الشَّرابِ ونحوِه، وكُلُّ نوعَين امتزجا فكُلُّ واحدٍ منهما مِزاج»، فمَزَجَ الخمرَ بالماء، أي خلَطَهما فصار الماءُ مِزاجَ الخَمر والخَمرُ مِزاجَ الماء. وعلى سبيلِ الإسقاطِ/التَّمثيلِ المشروعِ؛ تقولُ الكِيمياءُ التَّحليليَّةُ أنَّ الأمزِجةَ، مِنْ حيثُ ممزوجاتِها/ مُتَمَازِجاتِها، تنقسمُ إلى قِسمَيْن؛ مَزيجٌ مُتجانِسٌ (Homogeneous) ومزيجٌ غيرُ مُتجانِسٍ (Heterogeneous). إنَّ ما يقومُ به الكَاتبُ هو خَلْطٌ لـ «مِزاجِه»، أو ذاتِه، بالفِكرة، أو القضيَّة، وبالكِتابةِ على حدٍّ سَواء، ليُنتِجَ مزيجًا مُتجانِسًا إسمُه «النَّصُّ». والكِتابةُ، تاليًا، هي فِعلُ تمازُجٍ بينَ «الذَّاتِ» وخارجِها، بين «الأنا» والـ «ليس أنا»، وبين «الذَّاتي» و«المَوضوعي». وعَودًا على الكِيمياءِ التَّحليليَّةِ مرَّةً أُخرى؛ فإنَّ الخَلْطَ، أو المَزْجَ، بينَ هذه الأَمْزِجَةِ يجبُ أن يكونَ مَزجًا تَفاعُليًا، إذا أُجيزَ التَّعبير، أيْ أنَّ المَزيجَ/النَّصَّ هو نِتاجُ تفاعلِ مِزاجِ الكاتبِ مع الأمزجةِ الأُخرى. وتاليًا، فإنَّ المَزيجَ/ النَّصَّ هو مُؤشِّرُ الإنسانيَّة، أو الأخلاقيَّةِ، الخاصُّ بالكاتب، أو ما يُمكنُ الاصطلاحُ عليه باللُّغةِ الإنجليزيَّة بالـ «Ethicalmeter»، أي «مِقياسُ الأخلاقيَّةِ».

يَقومُ مِزاجُ الكاتبِ على ثالوثٍ يُظنُّ فيه أنَّه في حالةِ تَطوُّرٍ دائمٍ: الفِكرة، الكَلمة والنَّظم. وكُلُّ رُكنٍ مِن أركانِ هذا الثَّالوثِ تَضُمُّ تحتَها أركانًا عِدَّةً: فرُكنُ «الفِكرة» يعني؛ ذاتَ الفِكرةِ وجَوهريَّتَها، إنسانيَّتَها وأصالتَها، عُمقَها وتجذُّرَها، راهنيَّتَها وإنتاجيَّتَها، مَشروعيَّتَها ومَقبوليَّتَها، موقفَ الكاتبِ منها وأخلاقيَّةَ موقفِه. ومادَّتُه لعَرضِ هذا الرُّكنِ هي «الكَلمة» التي تضمُّ: البلاغةَ والقُدرةَ التَّبينيَّةَ، تموضُعَ الكَلمةِ في محلِّها، تأدُّبَها خَلْقًا وخُلُقًا، سلامتَها محكًى ومبنًى، قُدرتَها التَّعبيريَّة وقابليَّتَها للإفهام. والرُّكنُ الثَّالثُ، أيْ «النَّظم»، هو الأداةُ التي يُحوِّلُ الكاتبُ بها الكَلمةَ إلى تعبيرٍ عن الفِكرةِ، وتشمَلُ: اختيارَ كلمةٍ دونَ سِواها منْ مُترادفاتِها، ترتيبُ الكلماتِ بعضَها إثرَ بعضٍ، الاتَّساقَ بينَ بَدْءِ المكتوبِ ومُنتهاه وما بينهُما، التَّقديمَ والتَّأخيرَ للكلماتِ، ربطَ الأفكارِ والانتقالَ بينَها وبها، وما إلى ذلكَ ممَّا يُسمَّى «الأسلوب».

ورغمَ ما قد يبدو في المكتوبِ أعلاهُ من تَقْعِيدٍ، فإنَّ فِعْلَ الكِتابةِ نفسَه لا يُمكنُ أن يُقيَّدَ بقواعدَ مُنفصلةٍ عن ذاتِ الكاتبِ المُتفرِّدةِ افتراضًا، إذ لكُلِّ كاتبٍ عالمُه الخاصُّ، والخاصُّ جِدًا. وإذ أنَّ الكِتابةَ هي فِعلُ إبداعٍ، وإذ أنَّه ليسَ ثمَّةَ من إبداعٍ أشدُّ في إبداعيَّتِه منَ الكِتابة، وإذ أنَّ الإبداعَ فِعلٌ إنسانيٌّ مَحضٌ، فإنَّ البابَ الذي يُدخلُ إلى دُنيا الكِتابةِ مَكتوبٌ عليه: لا تُطِلِ النَّظرَ في الوَراء.. ثَمَّةَ في الإمكانِ أَبْدَعُ مِمَّا كان.



#نجيب_علي_العطّار (هاشتاغ)       Najib_Ali_Al_Attar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قُرآنُ السَّيْفِ أم سَيْفُ القُرآن؟ (1)
- ما لم تَسمعْه ليلى
- عائدٌ إلى «الضَّاحية»
- أديانُ الإسلام
- دِيكتاتورِيَّةُ البُؤس
- مِفصليَّةُ الإعلان عن الإندماج النُّووي
- رَبيعُ تِهران
- مأساةُ الحِمار العَربيّ
- سيمفونيّة الإرهاب
- قَوْنَنَةُ الثقافة
- ظاهرةُ عدنان إبراهيم
- رسالةٌ الى الله
- مأزوميّة الخطاب الإسلامي
- الصراع على السلام
- خصامٌ مع الذاكرة
- الأزمةُ البيضاء
- التَّسميمُ بالأسماء
- كارثيّة الإختزال
- الهولوكوست الأسديّ
- تسقط دولة فلسطين


المزيد.....




- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...
- -مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
- -موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
- شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
- حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع ...
- تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو ...
- 3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نجيب علي العطّار - الكتابةُ: بينَ الكَباريْه والدَّبكة