|
موقع الريف في التقرير الختامي لهيئة الانصاف والمصالحة
عبد الحكيم بن شماش
الحوار المتمدن-العدد: 1722 - 2006 / 11 / 2 - 10:20
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
...يتطلب بناء الذاكرة المشتركة، إطلاق دينامية النقاش والتناظر الحرين والجدل الديمقراطي، إسهاما في إعادة تقوية الهوية المشتركة باعتبارها مقوما من مقومات الأمة. ولذلك يعتبر العمل من أجل كشف الحقيقة وإقرارها وقراءة ما جرى من انتهاكات مساهمة عميقة وبعيدة المدى في إعادة ترتيب عناصر هذه الذاكرة وتجليا من تجليات ترسيخ عناصر المصالحة في معناها الاجتماعي والثقافي بعيدا عن أي فرض قسري لها، أو فرضا لأي شكل من أشكال الصفح أو الصلح الفردي بين الضحايا والمسؤولين المفترضين عن الانتهاكات. الكتاب الأول من التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة إن فضائل النقاش العمومي، لا تقدر بثمن، ولا شيء يمكن أن يعوض، في مجال تدبير الحياة السياسية جدال وتلاقح الأفكار والمفاهيم والتحاليل، طالما كان الهدف هو خدمة المشروع الوطني المتقاسم بين الجميع تقرير التنمية البشرية *********************************
بوسع المتتبع للنقاش العمومي الذي دار خلال الأسابيع والشهور القليلة التي أعقبت صدور التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة أن يستشعر الحاجة الملحة إلى صياغة وضبط إطار منهجي سليم في التعاطي مع القضايا المرتبطة بتجربة الإنصاف والمصالحة التي انخرطت فيها بلادنا بجرأة نادرة وصارت بسبب ذلك تشد إليها أنظار العالم. ومن ضمن الأولويات التي يطرحها سؤال المنهج هناك مسألة في غاية الأهمية قليلا ما حضيت بالقدر الوافر من التمحيص وتتمثل في الحاجة الملحة إلى التدقيق في زوايا تقييم مضامين وأبعاد التقرير الختامي للهيئة وللتجربة التي قدمتها ككل، إذ أن النقاش الذي دار في مختلف الدوائر الحقوقية والسياسية والإعلامية والذي لم يتبلور بالقدر الكافي من العمق – كما هو الحال تماما بالنسبة لتقرير الخمسينية- قد تخللته نزعات متباينة وأحيانا متضاربة بين من يقرأ ويقيم التقرير الختامي للهيئة من زاوية انتظارات ومطالب الضحايا والحركة الحقوقية المنقسمة على نفسها أصلا إزاء قضايا عديدة أهمها قضية المسائلة وبين من يؤسس قراءته على السقف الذي تسمح به الأطر والوثائق المرجعية للهيئة ومعطيات ميزان القوى وما فتحته وتفتحه التجربة برمتها من آفاق استكمال ما تبقى من حلقات الانتقال الديموقراطي...الخ. ومع أن التدقيق في مثل هذه الاعتبارات المنهجية كان من المؤكد أن يفضي إلى تصويب وإثراء النقاش وإعادة ترتيب اولويات الأجندة النضالية بالنسبة للضحايا والحركة الحقوقية ببلادنا، فقد بات من المطلوب الآن بعد مضي قرابة عام عن صدور التقرير الختامي للهيئة بناء أية قراءة ممكنة للتجربة على ركيزة منهجية أساسية قوامها الكف عن النظر إلى التجربة من زاوية أنها تمثل خيرا مطلقا وفقا للانطباع الذي سعى قادة هذه التجربة إلى ترسيخه في سياق التحركات النشيطة التي قاموا بها في إطار ما اصطلح عليه بالدبلوماسية الحقوقية وأيضا من زاوية أنها تمثل شرا مطلقا وفقا للذين اعتادوا على صرف أنظارهم إلى النصف الفارغ من الكأس. من هذا المنطلق تسعى هذه المقالة، من منظور تحليلي نقدي، إلى تقديم عناصر أجوبة بشأن الأسئلة المرتبطة بموقع منطقة الريف في التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة وحظها من الحقائق التي توصلت إليها الهيئة بعد أكثر من عام من الجهد الشاق في البحث والتحري في شأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي حدثت فيها خلال الفترة موضوع اختصاصها الزمني، على أن نعود في دراسة لاحقة لمناقشة وتحليل المقاربة التي اعتمدتها الهيئة لجبر الأضرار الجماعية التي لحقت بالمنطقة جراء تلك الانتهاكات. ولئن كان كاتب هذه السطور يدرك حدود هذه القراءة "الجهوية" ومحاذير إسقاط وتعميم خلاصاتها ونتائجها على مجمل التجربة على اعتبار أن هناك نقاط مضيئة وعناصر قوة كثيرة في التجربة في بعدها الوطني الشامل ولاسيما فيما يرتبط بالتدابير والتوصيات المتعلقة بعدم تكرار ما جرى، فان الاعتبارات الكثيرة المتصلة بالخصوصية الشديدة الوطأة لمنطقة الريف في ذاكرة السجل الحافل من المظالم والانتهاكات المكثفة التي استهدفتها واستهدفت ساكنتها على مدى عقود ممتدة تضفي قدرا من المشروعية على مثل هذه المقاربات الجهوية، لا بل وتجعل منها إلى حد ما محكا لقياس مدى نجاح الهيئة في الاضطلاع بمهمتها. طيلة الفترة الفاصلة بين صدور " موجز مضامين التقرير النهائي " وتعميم التقرير الرسمي للهيئة ساد اعتقاد مفاده أن الغائب الأكبر في التقرير هو الريف، وصدرت بهذا المعنى بلاغات وبيانات عن منظمات وهيئات حقوقية وطنية ومحلية شتى. وفي الواقع فان هذه الهيئات لم تكن مجانبة للصواب فيما ذهبت إليه ليس فقط لأن "الموجز" جاء خاليا تماما من أية إشارة لمنطقة الريف ولكن أيضا لأن التقرير الذي أحالته الهيئة على الجهات المختصة يوم 30 نوفمبر من السنة المنصرمة جاء أيضا خاليا من أية إشارة للريف فيما عدى جملة يتيمة وردت في الملحق الثاني من الكتاب الثالث من التقرير تصدرت البرنامج الذي أعدته الهيئة لجبر الأضرار الجماعية التي لحقت بالمنطقة وتفيد بأن " الريف عرف أحداث 1958- 1959". الآن وقد جاء التقرير الرسمي متضمنا للكثير من الصفحات التي تتحدث عن انتهاكات الريف إما بشكل مباشر أو غير مباشر وتحديدا في الكتاب الأول "السياق التاريخي" و الكتاب الثاني" الفصل الرابع" و الكتاب الثالث " ملحق جبر الضرر الجماعي"، فان السؤال الذي يطرح نفسه هو: ماهو شكل ومضمون حضور الريف في التقرير الختامي؟ ما هو نصيب المنطقة من الحقائق التي كشفت عنها الهيئة ؟ والى أي حد نجحت الهيئة في الامتثال لمتطلبات المنطق الحقوقي والتحرر من اكراهات السياسة؟ عندما نخضع المقاربة التي اعتمدتها الهيئة في البحث والتحري بشأن الانتهاكات التي كانت منطقة الريف مسرحا لها للفحص النقدي نلاحظ وجود مفارقات تنطوي على تناقض صارخ.فبينما تعلن الهيئة في سياقات مختلفة من تقريرها الختامي، ولا سيما في الكتاب الأول الذي صدر تحت عنوان" الحقيقة والإنصاف والمصالحة" عن تبني منهجية سليمة في البحث والتحري بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، قائمة على ركائز ومنطلقات تستوفي، من وجهة نظر علم مناهج العلوم الاجتماعية، لكل الشروط العلمية والموضوعية، نلاحظ من جهة ثانية أنها ترددت حينا وتملصت حينا آخر في تطبيقه والذهاب به إلى ابعد مدى في التعاطي مع الانتهاكات الجسيمة التي حدثت بمنطقة الريف. لقد أولت الهيئة اهتماما كبيرا في التقرير لبسط وشرح المقاربة المنهجية التي اعتمدتها في البحث والتحري بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي حدثت ببلادنا والملابسات التي أحاطت بها ومن ضمنها طبعا الانتهاكات المتعلقة بمنطقة الريف: ففي الكتاب الثاني ( الحقيقة والمسؤولية عن الانتهاكات)، وبالضبط في الفقرة الأولى المتعلقة بالتحريات التي أجرتها الهيئة بشأن الاختفاءات والوفيات التي حدثت في أوائل الاستقلال – وهي مرحلة تهم الريف على نحو مباشر بسبب اندراج أحداث 1958/1959 الشهيرة في سياقها – تشير الهيئة إلى أنها قد اعتمدت في هذا الإطار على العناصر التالية: تجميع المعطيات والشهادات المكتوبة؛ انجاز تقارير وأبحاث ودراسات؛ الاستماع إلى شهود عايشوا المرحلة من أعضاء جيش التحرير والمقاومة سابقا؛ الاستماع إلى شخصيات سبق لها أن تحملت المسؤولية في مواقع معروفة كمواقع احتجاز؛ الاستماع إلى ضحايا سابقين؛ الاستماع إلى عائلات ضحايا متوفين خلال الاحتجاز أو أصدقاء؛ الانتقال إلى مواقع الاحتجاز وأماكن الدفن الفعلية أو المفترضة؛ تحرير التقارير وتشكيل القناعات. في الكتاب الثاني دائما و بالضبط في الفصل الخامس ( تحليل الانتهاكات والمسؤوليات) عادت الهيئة لتسلط مزيدا من الأضواء على المنهجية التي اعتمدتها في تحليل تلك الانتهاكات ومسؤوليات أجهزة الدولة عنها، فتشير إلى تنوع مصادر المعلومات المستند إليها وذلك بحسب "...تنوع المهام المنوطة بالهيئة والأنشطة التي عملت على ترجمتها على أرض الواقع". وتتمثل المصادر المعتمدة في هذا المجال أساسا في: المعلومات والمعطيات المتوفرة في الملفات المعروضة على الهيئة؛ الشهادات المدلى بها أثناء جلسات الاستماع العمومية من قبل ضحايا سابقين؛ الشهادات الفردية أو الجماعية المدلى بها من قبل ضحايا سابقين أو شهود ليسوا ضحايا خلال الجلسات المغلقة التي نظمتها الهيئة إما داخل مقرها أو أثناء الزيارات الميدانية للمناطق المتضررة جراء حدوث انتهاكات جسيمة؛ الشهادات المقدمة من قبل موظفين أنيطت بهم سابقا بعض المسؤوليات فيما يتعلق بحراسة أو تدبير شؤون بعض مراكز الاحتجاز؛ كل المعلومات التي توفرت حول مراكز الاحتجاز والأماكن التي عرفت حدوث انتهاكات جسيمة خلال الفترة موضوع الاختصاص الزمني للهيئة سواء من خلال المعاينات الميدانية أو الإطلاع على الأرشيف الرسمي؛ القيام بدراسات أكاديمية وتحليل السياق القانوني الذي ارتكبت فيه تلك الانتهاكات، وكذا الإطلاع على كافة الكتابات المتوفرة سابقا حول الموضوع. ولأن الشهادات الشفوية قد شكلت ركنا أساسيا من أركان المنهجية التي اعتمدتها الهيئة أو لنقل مصدرا أساسيا من المصادر المعتمدة من قبلها، فقد أولى التقرير عناية خاصة بها. وهكذا نقرأ مثلا في التقرير مايلي: «...ساهمت الشهادات الشفوية، كواحدة من بين المصادر المعتمدة من قبل الهيئة، في توضيح ملابسات الوقائع المرتبطة بالأحداث موضوع التحريات. غير أنه تم تسجيل محدوديتها وهشاشتها في بعض الحالات، حيث تم الحديث عن نفس الوقائع بطرق مغايرة، بل ومتعارضة أحيانا، من قبل فاعلين عايشوها مما جعلها لا تفيد إلا جزئيا في الكشف عن الحقيقة في حالات معينة . وقد تم التغلب على هذا العائق من خلال اللجوء إلى تقاطع المعطيات الواردة بتلك الشهادات، مع معلومات مستقاة من مصادر أخرى، وخصوصا الوثائق والسجلات الرسمية". يتعلق الأمر إذن بمقاربة منهجية متماسكة وسليمة من الوجهة النظرية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا السياق هو: إلى أي حد التزمت الهيئة بهذه المنهجية في مقاربتها للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالريف؟ دون إثارة الأسئلة بشأن حدود ومدى المعاينات الميدانية -وهي واحدة من أهم ركائز المنهجية المومأ إليها - التي أجرتها الهيئة لمناطق الريف الممتدة التي حدثت أو يفترض أن تكون قد حدثت فيها انتهاكات جسيمة والتي أكاد اجزم من منطلق متابعتي لأنشطة الهيئة - على الأقل في إقليم الحسيمة الذي كانت مسرحا رئيسيا لأحداث 58/59- بمحدوديتها وبعدم استيفائها لشروط المعاينة الدقيقة والمنهجية كما هي متعارف عليها في بحوث المسح الاجتماعي - دون إثارة تلك الأسئلة ، فان الأمانة العلمية تقتضي القول جوابا على السؤال المركزي السابق بوجود تفاوت في مستويات ودرجات تطبيق الهيئة للمنهجية المعلن عنها في تعاطيها مع حالات وأجيال الانتهاكات الجسيمة في الريف . وقبل توضيح مظاهر هذا التفاوت في مستويات ودرجات تطبيق تلك المنهجية، ثمة ملاحظة عامة لا بد من تسجيلها وتتعلق بنمط تعاطي الهيئة العام مع ملف الانتهاكات الجسيمة بالريف ككل. إذ تفيد القراءة المتمعنة لتجليات الحضور الميداني والأمبيريقي للمنهجية التي أعلنت الهيئة عن تبنيها والتي يبدو أنها قد كتبت بشكل يكاد يكون منفصلا عن مباحث التقرير الأخرى وجود قدر ملحوظ من التردد في تطبيق أركان المنهج السابق وأحيانا التملص من تطبيق ركائزه وموجباته كلية. أ= التردد: أحد المظاهر الصارخة لهذا التردد يتجلى بوضوح في أن الصفحات المتعلقة بالانتهاكات في منطقة الريف لم تضف إلى التقرير سوى أياما قليلة قبل تعميمه حيث أن التقرير الذي أحالته الهيئة إلى الجهات المختصة يوم 30 نوفمبر من السنة الماضية جاء خاليا تماما من أية إشارة لمنطقة الريف عدى الجملة اليتيمة التي تحدثنا عنها في مقدمة هذا الفصل. يظهر التردد أيضا وبشكل واضح في عدم بذل الهيئة لجهد حقيقي في سبيل إعمال وتطبيق تقنية تقاطع الأحداث في التحري بشأن صحة أو عدم صحة الانتهاكات التي ارتبطت بأحداث 58-59. لقد سجلت الهيئة وهي تتحدث في تقريرها عن قيمة وصدقية الشهادات في توضيح ملابسات الوقائع المرتبطة بالأحداث موضوع التحريات ما ميزها من " محدودية وهشاشة في بعض الحالات، حيث تم الحديث عن نفس الوقائع بطرق مغايرة، بل ومتعارضة أحيانا، من قبل فاعلين عايشوها مما جعلها لا تفيد إلا جزئيا في الكشف عن الحقيقة في حالات معينة". لكن الهيئة تشير في السياق نفسه إلى أنها قد أبدعت آلية منهجية مكنتها من " التغلب على هذا العائق من خلال اللجوء إلى تقاطع المعطيات الواردة بتلك الشهادات، مع معلومات مستقاة من مصادر أخرى، وخصوصا الوثائق والسجلات الرسمية". وهو ما لا نجد له أثرا في تعاملها مع الانتهاكات المرتبطة بأحداث 1958/1959 والتي تتقاطع الكثير من الشهادات {على الأقل تلك التي استمعنا إليها في الأنشطة العمومية التي احتضنتها مدينة الحسيمة }وكذا المصادر التاريخية حول التأكيد على حدوث انتهاكات جسيمة من قبيل ما يصفه التقرير نفسه ب"الاستعمال المفرط وغير المتناسب للقوة" ومن قبيل ما تسميه بعض الشهادات والدراسات بالقصف العشوائي لمداشر وقرى الريف بواسطة الطائرات ومن حرق متعمد لممتلكات المواطنين وإعدامات خارج نطاق القانون واغتصابات وبقر البطون ومحاكمات صورية ...الخ . إن عزوف الهيئة عن تطبيق تقنية تقاطع الأحداث في قراءة ملابسات وتفاعلات وتداعيات أحداث 58-59 يطرح علامات استفهام كثيرة: أما كان من الممكن أن يفضي إعمال تلك التقنية في قراءة وغربلة ما أمكن للهيئة أن تحصل عليه من شهادات " متباينة ومتناقضة" ومن دراسات وكتابات ذات صلة ومن رصيد وثائقي وطني وأجنبي إلى اكتشاف حقائق جديدة أو على الأقل إضاءة مسالك مفضية إلى حقائق مغايرة وبالتالي إلى الرفع من المستوى العام للكشف عن الحقيقة؟ أما كان من الممكن – على أقل تقدير - أن يقود تطبيق الهيئة لتلك التقنية التي أبدعتها" للتغلب على محدودية وهشاشة الشهادات" إلى ترجيح واحدة أو أكثر من الفرضيات المتداولة بشأن السياق التاريخي الذي أفضى إلى اندلاع تلك الأحداث الأليمة وإحالتها بعدئذ على البحث التاريخي المعمق؟ ب= التملص: أما التملص من تطبيق المنهجية المعلنة في شمولية وكلية أركانها فيظهر بشكل واضح في إحالة الهيئة لملف أحداث 58/59 برمته وبكل أوجاعه وأسئلته المؤرقة على معهد التاريخ الذي أوصى التقرير بإحداثه ودعوته إياه إلى إدراجه ضمن أولويات مشاريعه البحثية وذلك بحجة هشاشة الشهادات وتضارب الروايات المتداولة بشأنه . ج= يضاف إلى التردد والتملص انخراط الهيئة في نوع من القراءة التحريفية أو على الأقل غير الموضوعية لملابسات وتفاعلات أحداث 58-59 وذلك ضدا على منطق " الحياد " الذي تعلن الهيئة نفسها على تبنيه في سياقات مختلفة من تقريرها إزاء الروايات والأطروحات المتباينة والمتضاربة، حيث يستشف مما ورد في الصفحة الثانية من الفصل الرابع من الكتاب الثاني نوع من شرعنة وتبرير التدخل القمعي الشرس الذي باشرته الدولة في مواجهة مطالب ساكنة المنطقة والتي تجمع كل المصادر التاريخية والشهادات على بساطتها ومشروعيتها. يظهر الطابع غير الموضوعي للقراءة التي تقدمها الهيئة في مستويين اثنين يتعلق أولهما بالتوصيف الذي تقدمه لوقائع وتفاعلات أحداث 58-59 والذي أقل ما يقال عنه أنه توصيف غير محايد ومشوب بالكثير من الخلط والفوضى على مستوى المفردات والجهاز المفاهيمي الذي استخدمته في وصف ما جرى حيث استعملت الهيئة في هذا السياق ستة مصطلحات تحيل على حقول دلالية متنوعة بل ومتناقضة. وهكذا فما حدث في الريف نهاية عام 1958 وبداية عام 1959 في تقدير الهيئة هو تارة " توترات" وتارة ثانية" تمردات " وتارة ثالثة" حركات احتجاجية" وتارة رابعة " قلاقل" وتارة خامسة " شبه حرب أهلية" وتارة سادسة" نزاع" ؟؟؟ هذا على مستوى التوصيف. أما المستوى الثاني فيرتبط بنوع التفسير الذي تقدمه الهيئة لما جرى في تلك الفترة حيث اعتمدت في قراءتها لوقائع وتفاعلات تلك الأحداث ما يسميه علماء التاريخ والاجتماع بمنطق السببية الخطية Causalité Linéaire في شرح العلاقة بين الأسباب والنتائج.وهكذا فما يصفه التقرير بالتمردات والقلاقل والحركات الاحتجاجية...الخ هو، وفقا لهذا المنطق، السبب الذي قاد ميكانيكيا إلى النتيجة الحتمية ألا وهي لجوء الدولة إلى استعمال القوة " ... غير أن استمرار التوتر وخاصة في منطقة الريف أدى إلى غلبة خيار استعمال القوة وتدخل القوات المسلحة التي تمكنت من فض النزاع واستتباب الأمن والنظام..." ولا شك أن مثل هذه القراءة إنما تنطوي على نوع من شرعنة وتبرير شراسة القمع الذي استعملته الدولة في مواجهة الساكنة، خصوصا وان التقرير يحرص في هذه النقطة بالذات على إبراز لجوء الدولة " إلى وسائل أخرى سلمية حيث تم تكوين لجن حوار وتقصي الحقائق" قبل " اضطرارها " إلى استعمال القوة المسلحة وذلك من دون فعل الشيء ذاته مع " تمردات " المواطنين، أي دون الإشارة إلى أن السكان لجئوا إلى رفع مطالب عادلة ومشروعة ونظموا على خلفيتها احتجاجات سلمية ومشروعة قبل أن يؤول الموقف إلى " تمردات " أو" شبه حرب أهلية" وفقا للمصطلحات غير الدقيقة التي يستخدمها التقرير. هذا هو الطابع العام المميز لنمط تعاطي الهيئة مع ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالريف. ما هي الأسباب العميقة التي تفسر هذا المنحى غبر الحقوقي وغير العلمي أيضا؟ بم نفسر هذا السقف المنخفض في معالجة الهيئة للإشكالات المرتبطة بسؤال الحقيقة؟ ثمة أربع فرضيات يمكن التفكير فيها كمداخل للجواب على هذا السؤال: 1= فرضية اكراهات الزمن: هل أن عاما من الاشتغال على حقبة ممتدة وحافلة بالأحداث والوقائع والتفاعلات المعقدة والمتشابكة خلق للهيئة أجندة مزدحمة بالملفات والقضايا وجعلها بالتالي تخلص إلى نتائج محدودة في تعاملها مع سؤال الحقيقة في بعده الوطني وبالنتيجة إلى نتائج متواضعة في تعاملها مع حقيقة الانتهاكات الجسيمة التي حدثت في منطقة الريف ؟ فإذا ما صحت هذه الفرضية عندئذ تصبح التساؤلات والمخاوف والشكوك التي سبق لعدد من الهيئات الحقوقية الوطنية أن أفصحت عنها مشروعة تماما بالرغم من أن قيادة الهيئة سبق لها في مناسبات مختلفة أن أكدت أن المدة الزمنية التي منحت لها لا تشكل عائقا لمعالجة كافة القضايا المرتبطة باستجلاء الحقيقة 2= فرضية ألغاز التاريخ: هل وجدت الهيئة نفسها وهي تبحث في ملف 58-59 إزاء ما يسميه المؤرخون ب "ألغاز التاريخ" أي إزاء أحداث ووقائع يلفها ستار سميك من الغموض بصورة يتعذر معها استجلاء ما يمكن إدراجه تحت عنوان "الحقيقة التاريخية" وما يمكن تصنيفه ضمن خانة "الأسطورة التاريخية"؟ بيد أن ما وقع أواخر عام 1958 وبداية 1959 لا ينتمي إلى الحقب الموغلة في القدم والتي يكون الزمن المتقادم قد أحاطها بستار سميك من الغموض وما شابه ذلك؟ إن بعض رجالات تلك الفترة لا يزالون أحياء وقد سبق لبعضهم أن قدم شهادات حول وقائع تلك الفترة الملتهبة من تاريخنا المعاصر، هذا فضلا عن وجود كتابات ورصيد وثائقي وطني وأجنبي كان يفترض – انطلاقا من المنهجية العلمية التي صادرت بها الهيئة تقريرها الختامي نفسه – أن يتم تأكيدها أو دحضها. 3= فرضية حروق التاريخ: Brûlures de l’histoireهل وجدت الهيئة نفسها في تعاطيها مع ملف الانتهاكات الجسيمة بالريف تتعامل مع أحداث ووقائع شائكة وشديدة الحساسية تخيم بضلالها على الشعور الجمعي أو الذاكرة الوطنية وفضلت عدم الخوض فيها لحكمة ما ؟ 4= فرضية الخطوط الحمراء: هل أن هناك جهة أو جهات في الدولة رسمت للهيئة حدودا وخطوطا حمر بدعوى أن الذهاب في مسار الكشف عن حقيقة أحداث 58-59 إلى أبعد مدى من شأنه أن يعرض التوازنات السياسية للخطر أو على الأقل قد يحرج قوى سياسية أو لاعبين سياسيين أساسيين في المشهد السياسي الراهن للبلد مثلما هو حال حزب الاستقلال الذي يتهم باقتراف ميليشياته إبان تلك الأحداث لانتهاكات لا تقل فضاعة عن انتهاكات أجهزة الدولة. ضمن هذا الإطار الذي رسمته الهيئة لنفسها لاعتبارات لا يحضر فيها المنطق الحقوقي إلا قليلا، جاءت نتائج وخلاصات أبحاثها وتحرياتها فيما يرتبط بحقيقة الانتهاكات التي حدثت بالريف متسمة بطابع المحدودية والهشاشة. وها هنا لابد من التذكير بما سبقت الإشارة إليه بخصوص وجود تطبيق متفاوت لمستويات ودرجات تطبيق الهيئة للمنهجية التي أعلنت عن تبنيها في معالجتها لحالات أو لأجيال الانتهاكات التي حدثت في المنطقة طوال الفترة موضوع اختصاصها. إذ تفيد قراءة ما ورد في التقرير بشأن الريف أن هناك حالات عولجت وحالات أخرى لم يتم التطرق لها مطلقا لا لجهة تأكيدها ولا لجهة تفنيدها. 1= حالات تم التطرق إليها بإسهاب: ويتعلق الأمر أساسا بالوفيات التي ارتبطت بالأحداث التي عرفتها بعض مدن الشمال في منتصف شهر يناير سنة 1984( أحداث الحسيمة وتاماسينت وزايو وزغنغن وبني انصار والناضور وبركان وتطوان والقصر الكبير) وهنا قدمت الهيئة معطيات تفصيلية بشأن عدد الوفيات وأسمائهم في بعض الحالات وأماكن دفنهم ومدى تورط أجهزة الدولة والسلطات المحلية والتناقضات الموجودة بين ما جرى الإعلان عنه في البلاغات الرسمية وقتئذ وبين ما توصلت إليه الهيئة من خلال تحرياتها ...الخ . هذا مع وجوب الإشارة إلى أن هيئات حقوقية محلية في الناضور وتطوان والحسيمة تثير شكوكا حول درجة دقتها وموضوعيتها. 2= حالات لم يتم التطرق لها مطلقا لا لجهة تأكيدها ولا لجهة تفنيدها ، ويتعلق الامر بما يلي: - حالة حدو أقشيش الذي قدم أحد أشقائه شهادة مؤثرة عن ملابسات اختفائه ضمن فعاليات جلسة الاستماع العمومية التي احتضنتها مدينة الحسيمة - حالة السيد عبد الكريم الحاتمي من بلدة آيت قمرة- الحسيمة- الذي تؤكد الشهادات بأنه اختطف من طنجة وسيق إلى دار بريشة وهناك اختفى أثره - حالة بوعنان محمد من مدينة الناظور والذي لا يزال مجهول المصير بحسب الإفادات التي يقدمها بعض أفراد عائلته - الانتهاكات التي طالت الحركة التلاميذية في الحسيمة – مدينة امزورن- 1987 - ما ارتبط بأحداث 58-59 من انتهاكات ثابتة من منظور تقاطع الوقائع : القصف العشوائي لمداشر وقرى الريف ، الإحراق المتعمد للممتلكات، الاغتصابات، المقابر الجماعية ،مسؤولية حزب الاستقلال... إذا كان من المؤكد أن الجهد الشاق الذي بذلته الهيئة في سبيل استجلاء الحقائق المرتبطة بماضي الانتهاكات ببلادنا قد أفضى إلى نتائج متقدمة نسبيا قياسا لما تحقق في تجربة المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وهيئة التحكيم المستقلة سابقا ، فان المحصلة النهائية لما بذلته على صعيد منطقة الريف لم يؤد إلى الرفع من مستوى الكشف عن الحقيقة مما يبقي الأسئلة الكبرى المرتبطة بسجل الفضاعات والانتهاكات التي ارتكبت هناك مشرعة ومفتوحة. فهل يحقق معهد التاريخ الذي أوصت الهيئة بإحداثه، إذا ما قدر له أن يرى النور، ما عجزت عنه الهيئة؟
#عبد_الحكيم_بن_شماش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيديو يُظهر اللحظات الأولى بعد اقتحام رجل بسيارته مركزا تجار
...
-
دبي.. علاقة رومانسية لسائح مراهق مع فتاة قاصر تنتهي بحكم سجن
...
-
لماذا فكرت بريطانيا في قطع النيل عن مصر؟
-
لارا ترامب تسحب ترشحها لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا
-
قضية الإغلاق الحكومي كشفت الانقسام الحاد بين الديمقراطيين وا
...
-
التمويل الغربي لأوكرانيا بلغ 238.5 مليار دولار خلال ثلاث سنو
...
-
Vivo تروّج لهاتف بأفضل الكاميرات والتقنيات
-
اكتشاف كائنات حية -مجنونة- في أفواه وأمعاء البشر!
-
طراد أمريكي يسقط مقاتلة أمريكية عن طريق الخطأ فوق البحر الأح
...
-
إيلون ماسك بعد توزيره.. مهمة مستحيلة وشبهة -تضارب مصالح-
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|