عبد العزيز نايل
الحوار المتمدن-العدد: 1722 - 2006 / 11 / 2 - 04:30
المحور:
الادب والفن
انهينا تجوالنا بعد أن استكشفنا كلَ شبرٍ في شقتنا الجديدةِ في أمريكا ... التفتنا إليه وهو ينزلُ نظارتَه على أرنبةِ انفه صانعاً بجسده أوضاعاً ارستقراطيةً يغازلُ أحلامَه وأحلامَنا قائلاً : ستشرُف هذه الشقةُ لأربع سنوات مقبلةٍ أن احتوت خمسةَ مبتعثين من عباقرة العرب - وهو يدق على صدره - لنيل الدكتوراه .. وساعتها لن اسمح حتى لزوجتي أن تناديني باسمي مجرداً .. فانطلقنا نغني له .. يا دكتور.. يا دكتور !!!!! ونحن نَزفَّهُ في اتجاه المائدة المستديرة التي تتوسطُ شقتنا الواسعة.. واتخذ كلٌ منّا مقعدَه إلى جواره.. أخرجَ هو علبةَ سجائرِه الأمريكية الأصلية .. أشعلَ منها واحدةً وفي محاكاةٍ مضحكةٍ أشعَلْنا بنفس طريقته سجائرنا وأخذنا نلقى بعلب السجائر على الطاولة أمامنا نافثين الدخَّان في أوجه بعضنا البعض ,في احتفال صغير بخلاصنا من تبغ بلادنا الذي كم سمعنا عنه أنه مخلوط بنشارة الخشب ... تنهد وهو يتابع سحب الدخان الزرقاء الصافية حيث بدت وكأنها تحمل نفس صفات الناس هنا.. يتسلل الدخان إلى النافذة ليس هرولة بل بنفس الهدوء والسكينة التي تخيم على المكان ..ولولا أننا نرى ضوء النوافذ من حولنا ونرى ظلالا تتحرك خلف الستائر لظننا أننا نقطن في منطقة هجرها الإنسان... ونتابع الدخان وهو يتشكل فوق رءوسنا فيبين مرة كأسد يفترس غزالة أو كفارس عربي يجندل جيوش الفرس والروم أو كامرأةٍ عريانةٍ تدعونا واحداً إثر واحد ..فلما تقدم ناحيتها أحدُنا مُسِخَت كلباً كاد يعقر ذراعَه فأمسك بذراعه وهو يصرخ خدعتني ابنةُ الكلبْ .. فنبحنا عليه ونطارده حول طاولتنا المستديرة .... لكن صوتا كصوت صفارات الإنذار قد انفجر من جدران شقتنا أو من تحت كراسينا فتكومنا هلعا فوق بعضنا البعض وننفضُ ما تُسَقِطهُ سجائرُنا من ذراتٍ متقدةٍ على ثيابنا وعلى وجوهنا .. وهذه الصفارات ما زالت تتزامن مع تلك الأصوات التي تعلو رويداً رويداً معلنةً قدوم موكبٍ من سيارات ألمطافي وسيارات الشرطة...... اختطفتنا هذه الأصوات لتلقي بنا على النافذة نستطلع الأمر نتقاذف بيننا صورا مرعبة يصنعها خيالنا فتفشي نظراتنا باحتمال كبير أن تكون هذه الضجةُ بسبب عمل إرهابي جديدٍ في أمريكا ليس اقل شأنا من اختراق الطائرات جسدَ برج التجارة العالمي ... هَمْهم أحدنا وهو يتدلى بنصفه الأعلى خارج النافذة : يا له من حظٍ سيء أن تلاحقنا الأعمال الإرهابية وفي أول يوم .. يا له من حظٍ !!!!! غدا سيرحلوننا وبدون " الدال" ....سَنُرَحَل بأسمائنا مجردة من "دال" الدكتوراه ... وقد عزَّزَ تلك المخاوف هذا التمركز المنظم ونزول رجال ألمطافي ورجال الشرطة أمام باب بيتنا وأعينهم على نافذتنا لا تفارقنا حتى اختفوا جميعهم داخل مدخل البيت ... انفجر صوت الجرس في شقتنا ليؤكد لنا مع طرق متلاحق أننا المستهدفون ..تشابكت أيادينا وأصابعنا على " أُكْرة" الباب وعندما استدارت نصف دورة دُفِع البابُ من الخارج دفعةً أطاحت بنا جميعا على الأرض ليعبرَ على جثثنا رجال ألمطافي ورجال الشرطة وهم ينتشرون في كل مكان ..اسكتوا صفارات الإنذار التي لم تنقطع واستداروا جميعا ليتقدموا ناحيتنا .. بابُ شقتنا المفتوح على مصراعيه يهمس لنا همساً بالهروب .. وكيف يتسنى لنا ذلك والدالة الوحيدة على بقاء أرجلنا وأقدامنا هي أننا مازلنا نراها بأعيننا عالقةً بأجسادنا .. وانحنى أحدهم منتزعا من بين أصابعي سيجارتي حيث أنني الوحيد الذي ما زالت سيجارته حبيسة بين أصابعه التي تصلبت عليها.. امسكها بأطراف أصابعه ورفعها عاليةً .. كان يمطُ شفتيه وهو يمرّ عليهم واحداً واحداً .. تدافعوا إلى خارج الشقة واستدار مندفعا في اتجاهنا يستوقفنا على أقدامنا ونحن نتساقط ويعيد إنهاضنا وفي المرة الأخيرة أفهمنا بلهجته الآمرة أن نتبعه.. فتبعناه ...كانت صورُ السجنِ وحبل المشنقة يعرقلان خطواتنِا خلفَه فيستدير مؤكداً بلهجته الآمرة أن نواصل سيرنا خلفه .. تلعثم أحدنا .. كان يريد أن يسأله .. فلم يسعفه قاموس مفرداته في هذه اللغة .. فآثر الصمت ,, ولم يستطع أن يُسْكِت صوتَ نحيبِه ونهنهته وهما يتزايدان , أبان هذا الضابط العملاق عن أسنانه وهو يستدير كأنه يطمئننا بابتسامةٍ تشبه القشة التي يتعلقُ بها الغريق لننجوَ من هديرِ المخاوفِ و الاضطراب, ليربت بكفه الغليظة على كتف صاحبنا .. في هذه اللحظة ارتد إلينا إحساسنا بأجسادنا وبما يجري حولنا .. تأبط هذا الضابط ذراع صاحبنا إلى سيارة الشرطة ومعه واحد منّا , وثلاثتنا في السيارة الأخرى ....أخبرونا في مقر الشرطة بجريمتنا , وما إن تأكدنا من حقيقةِ التُّهم الموجهة إلينا إلا وقد قفز الجميع وقوفا في مقر الشرطة ليتصلبوا على دهشتهم , إثر هذا الضحك الهستيري الذي بدأناه ولم نستطع إنهاءه.. نطرق كفا على كف , من هول ما حدث من إجراءات لا تتناسب وتفاهة السبب , تعهدنا كتابيا بعدم التدخين في المنزل .. قرأ الشرطي على وجوهنا نية الرحيل من هذا البيت .. فابتسم مستعرضاذكائه وفطنته قال : كل المنازل هنا مجهزة بصفارات الإنذار ........اجتزنا الشارع إلى الجهة المقابلة" للمخفر "هكذا أسميناه وما كان هذا الضابط العملاق إلا شبيها بشيخ الغَفَر في بلادنا فَمهمّته قاصرةُ على المشاكل التافهة ..توقف المارة في الشارع يتفحصوننا ولم نأبه لهم لأننا لم نُفرِغ شحناتٍ من الغضب التي أفصحت عن نفسها في ضحكات لا تنقطع وصياح قد اشتد وبلغ مداه على بوابة البيت الذي نقطنه متهمين إياهم جميعا بأنهم تافهون ويصنعون القبة من الحبة كذلك كنا نكيل لهم السباب معتصمين بلغة غير مفهومة لديهم نرد بهذه الثورة اعتبارنا على ما أصابنا من هلع أنتج الاعتقاد لدينا بأننا لو اجتمعنا نحن الخمسة على أن ننجب طفلا واحدا فلن نقوى ... احتوتنا الشقة وكان آخر من دخل إليها صاحبنا الذي أغلق الباب فتَكسّر به الزجاج السميك الذي يعلوه ولم نهتم لذلك لندخل في طقس الأحزان ... تعمّد أحدُنا أن يخرجنا منه بأن ضغط زر تشغيل "الكاسيت" وأدار أزرار الصوت ليرتج المكان على إيقاع أغنية عربية لمطربة ناشئة فانتفضنا معه رقصا وغناء والتقطتُ علبةَ السجائر ..أخرجت واحدة وشرعت في أن افتح الباب لتدخينها في عرض الشارع .. فهالني أنني وجدت أمام الباب سيدتين وأربعةً من الرجال العماليق كانت إصبعُ واحدة منهم على مَقرُبة من هذا الجرس اللعين وهم يلوحون بأيديهم ويرطنون رطنا غاضبا عدت أدراجي لأغلق "الكاسيت" فانكسر في يدي خرجت أنا والدكاترة الخمسة باعتبار ما سيكون لنجد أمام الباب هذا الجمهور وشيخ الغفر ثانية وانصياعا لنفس الإيماءة سرنا خلفه ثلاثة في سيارة للشرطة واثنان في الأخرى وبعد ساعتين من سرد كافة القوائم للمسموح وللممنوع تعهدنا كتابيا أمام كل واحدة منها..دخلنا شقتنا تاركين الباب مفتوحا .. جلسنا القرفصاء أمام النافذة وأعيننا معلقة بالأفق الممتد خارج النافذة ... فقد وجد كل منّا نفسه يتشكل في الغيوم السابحة في الأفق , فارسا عربيا يجندل جيوش الفرس والروم وامرأة عارية تماما تدعوه بمفرده فيُغلَقُ بابُ الغيمة عليه وفي نفس اللحظة أغلق احدُ السكان باب شقتنا المفتوح ... وقد ألقى علينا ابتسامة لم نفهمها بعد
#عبد_العزيز_نايل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟