|
قالت لنا القدس/ عن الشبابيك4
محمود شقير
الحوار المتمدن-العدد: 7657 - 2023 / 6 / 29 - 15:12
المحور:
الادب والفن
شبابيك القدس 1
تستدعي شبابيك القدس بعض التأمّلات، وتستثير في النفس رؤى وأفكاراً وانطباعات، وهي تنطوي على حقائق ومفارقات، لا يمكن أن تحدث إلا في مدينة مثل القدس، التي ما زالت تعاني من التراكمات السلبيّة للاحتلال الإسرائيلي، ومن وطأته على أهل المدينة وعلى العمران فيها سواء بسواء. وأنا أتجوّل في البلدة القديمة من القدس، وفي بعض أحيائها الواقعة خارج السور، يحدث أن أتوقّف عند شبابيك المدينة، أتأمّلها. وأتذكّر ما كان يفعله كاتب أمريكي أظنّه جون شتاينبك، الذي قال ذات مرة، إنّ لديه شغفاً باستراق النظر عبر الشبابيك التي يمرّ بها وهو يمشي في شارع أو زقاق. رغبة شتاينبك هذه تعبّر عن فضول الكائن البشري لسبر أغوار الحيّز الذي قد تفصح عنه وقد لا تفصح عنه الشبابيك. في حالة القدس القديمة، يقلّ وجود الشبابيك القريبة من متناول أيّ فضولي راغب في النظر عبر هذه الشبابيك، حيث تكثر في الطوابق الأرضية للبنايات، الحوانيت والمخازن والأفران والورش والمطاعم والمقاهي وما شابه ذلك، وتتعيّن الشقق السكنيّة في الطوابق التي تلي ذلك، ما يجعل الشبابيك أعلى من رغبات الفضوليّين. ثم إنّ المجازفة باستراق النظر عبر الشبابيك في مدينة مثل القدس، قد يجرّ وراءه إشكالات لا يقدم عليها إلا متهوّر أو مجنون. وأتذكّر أيضاً، شبابيك الحارة القاهريّة كما صوّرتها بعض أفلام السينما المصرية، أو كما وصفها نجيب محفوظ في بعض رواياته، حيث الشبابيك متنفّس للفتيات المراهقات اللواتي يتلهّفن على رؤية الشباب، الذين تسوقهم الأقدار أو الرغبات المقصودة، للوقوف على مقربة من الشبابيك، التي تطلّ منها على نحو موارب أو صريح، فتيات راغبات في الحب. وحيث الشبابيك فضاء ملائم لنساء محشورات في البيوت، يمكنهن من خلاله، أن يسترقن النظر أو يقفن علانية لمراقبة حركة الناس في الأسواق، أو لتبادل الأخبار والإشاعات، وتسعير النميمة مع الجارات اللواتي لا يعرفن كيف يقضين أوقاتهن. كان هذا هو الحال في قاهرة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ولا أعتقد أنه ما زال يجري على الوتيرة نفسها هذه الأيام. في القدس القديمة، لم يعد الحال هو الحال نفسه كذلك. صحيح أنّ المزاج المحافظ عاد إلى التغلغل في ثنايا المدينة على نحو ما. غير أنّ تحت سطح المحافظة تكمن رغبات وممارسات، نابعة من الطبيعة البشريّة التي تتمرّد على السائد على هذا النحو أو ذاك، وهي نابعة كذلك من طبيعة المرحلة التي تجتازها القدس بغضّ النظر عن كلّ الضغوط والملابسات، فثمّة تجليّات للحداثة بأشكالها السلبيّة والإيجابيّة، بحيث تصعب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بنجاعة تامّة، وتصعب محاصرة هذه التجلّيات وضبط تأثيراتها، وبخاصّة على جيل الشباب والشابّات. لم تعد الشبابيك هي الفضاء الذي يجري من خلاله تناقل الأخبار أو تسريب الإشاعات. فقد أصبحت ممارسة هذه الرغبة ممكنة عبر الهواتف البيتيّة أو الهواتف النقّالة التي تقتنيها النساء، ويمارسن من خلالها ما طاب لهنّ من ثرثرة وكلام. وأصبحت ممارسة هذه الهواية ممكنة في اللقاءات المباشرة بين النساء، حيث لم يعد من الصعب على المرأة، حتّى وإن كانت تنتمي لأسرة محافظة، الخروج من بيتها، لملاقاة غيرها من النساء، في سوق الخضار أو في محالّ النوفوتيه أو في الوظيفة، أو في الشارع حيث يتمشّى الرجال والنساء في الأماسي العاديّة، حينما لا تكون المدينة واقعة تحت منع التجوال أو مغلقة بسبب إضراب. وأما الفتيات المتعطّشات إلى علاقة مبكّرة قد تنتهي بالزواج وقد لا تنتهي بالزواج، فلم يعد صعباً عليهنّ استخدام الهاتف النقّال، وإرسال الرسائل على هذا الهاتف. لم يعد صعباً عليهنّ الخروج من البيت لأيّ سبب من الأسباب. يخرجن إلى المدرسة أو إلى الجامعة، أو إلى سوق العمل المأجور أو إلى الوظيفة، أو إلى الكوافيرة أو إلى محالّ النوفوتيه وباعة الأحذية، وغير ذلك من أمكنة. ذلك أنّ المزاج المحافظ لم يعد قادراً على ممارسة الشروط القمعيّة نفسها التي كانت تُمارَس على النساء في سنوات سابقة، لأنّ الزمان تغيّر، ولم يعد هو الزمان نفسه بشروطه القاسية نفسها. هذه الطفرة الطبيعيّة في العلاقات وفي تفاصيل الحياة اليوميّة، نزعت عن الشبابيك طابع الرومانسيّة التي قرأنا عنها في الروايات، أو التي كنّا نشاهدها بأمّ أعيننا في الشبابيك المطلّة على تلك الحارة أو على ذلك الزقاق. انكفأت الشبابيك على نفسها، وأصبحت مجرّد فضاءات لأداء وظائف أوّلية صُمّمت الشبابيك أصلاً من أجلها، مثل تمرير الهواء إلى داخل البيت وكذلك أشعّة الشمس، أو تمرير شحنة من نور حينما لا تكون الشبابيك واقعة في مدى أشعّة الشمس، بسبب اكتظاظ العمران في القدس القديمة، ووجود حيطان مغمورة وفيها شبابيك مقموعة لا ترى الشمس ولا تراها الشمس. مع ذلك، يظلّ المزاج المحافظ وطلب الستر ودفع الفضيحة قدر الإمكان ورفضها والتطيّر من وقوعها، يسم شبابيك المدينة بميسمه، حيث الستائر السميكة التي تجلّل الشبابيك من الداخل في أغلب الأوقات، وحيث السكون الذي يهيمن على الشبابيك، فلا تظهر أيّة حركة في فضائها ولا أيّ حضور بشريّ، كما لو أنّها لا تفضي إلا إلى عالم من فراغ. ولمزيد من الحيطة والحذر، تبدو الشبابيك مزنّرة بحمايات من الحديد الصلب الذي يتّخذ شكل رماح عموديّة متوازية في أغلب الحالات، ويتّخذ شكل زخارف وأشكال هندسيّة بديعة في القليل من الحالات. هذه الحمايات مكرّسة لحماية البيت من اللصوص في الدرجة الأولى، وهي تعبير عن عدم الثقة في الشبابيك، حتى وإن كانت في أحيان غير قليلة، واقعة في الطوابق العليا التي لا يصل إليها اللصوص، بسبب الارتفاع الذي يكفي وحده لحماية البيت منهم. ولعلّ المزاج المحافظ هو المسؤول عن قلّة أصص الورد والأزهار في فضاء الشبابيك. لأنّ ذلك يستدعي قيام ربّة البيت أو بناتها بفتح الشبابيك وبالعناية بالورد وتعهّده بالسقاية وغير ذلك من أسباب العناية والانتباه، ما يعني انكشاف نساء البيت على شبابيك أخرى لجيران آخرين، أو على أشخاص فالتين يتحرّكون في الأزقّة والحارات (يحفل الغناء العربي بأغاني الغزل التي تتحدّث عن الورد وعن الشبابيك، ما يجعل للأمر ظلالاً غير مريحة في نفوس المحافظين). ولمزيد من الحرص والحذر، وللتأكيد على المزاج المحافظ، ولكي يكتسب البيت مظهراً متجهّماً لا يغري اللصوص أو العابثين بأيّ اقتراب منه، تبدو أباجورات الشبابيك مغلقة في أغلب الأوقات. قد يجري فتحها ساعة أو ساعتين في النهار، ثم تغلق بعد ذلك، ربّما لمنع الشمس من تخريب ألوان الستائر والكنبات وغيرها من أثاث، وربما لمنع الغبار من اقتحام البيت، وربما بسبب الرغبة في تحصين البيت ولو في شكل غير واع لذلك. وفي كلّ الأحوال، تلعب الستائر الداخليّة ما هو منوط بها من أدوار. وهي تتكوّن في العادة من طبقتين: طبقة من التولّ الأبيض الخفيف للزينة ولأداء وظائف معيّنة في قلب الدار، وطبقة من الستائر الثقيلة التي تدعم الأباجورات في تناغم ضمنيّ معها، لحماية البيت من الشرور والمفاجآت.
شبابيك القدس 2
لشبابيك القدس القديمة وظائف كفاحية تبدّت أيام الانتفاضة الأولى على هذا النحو أو ذاك (في الأحياء القديمة في كلّ من نابلس وبيت لحم والخليل وغزّة وغيرها، كان للشبابيك أدوار مشابهة). كانت الشبابيك العالية المطلّة على الأزقّة والحارات، تتحوّل إلى مواقع لسكب الزيت المغليّ ولإسقاط أصص الورد المليئة بالتراب، على جنود الاحتلال الذين يتعقّبون شباب الانتفاضة. نساء البيوت هنّ اللواتي كنّ يسكبن الزيت على الجنود، ويسقطن أصص الورد على رؤوسهم، ويراقبن في الوقت نفسه تحرّكاتهم عبر الشبابيك، يرشدن الشباب الذين يشتبكون مع الجنود في كرّ وفرّ، إلى أين يتّجهون للنّجاة من الاعتقال. إبّان الانتفاضة الأولى، شهدت القدس انفتاحاً في العلاقات الاجتماعية. ودخلت النساء ساحة النضال الشعبي جنباً إلى جنب الرجال، وبدأت تتخلّق قيم جديدة مبنيّة على احترام الكائن الإنساني سواء أكان رجلاً أم امرأة، وتراجعت إلى حدّ ما عناصر الشكّ والريبة في النساء، والخوف مما يمكن أن يتعرّضن له أو يُعرّضن أنفسهن له من ممارسات، في حالة خروجهن إلى مواقع النضال أو إلى اجتماعات اللجان الشعبية، وما يترتّب على ذلك من اختلاط بينهنّ وبين الرجال. غير أنّ ذلك لم يستمرّ إلا لبعض الوقت. تراجعت الانتفاضة بسبب إجراءات بيروقراطية وأخطاء، وتراجعت معها القيم الجديدة التي كانت على وشك أن تتجذّر في وجدان الناس. وعاد المزاج المحافظ للانتعاش من جديد، وتفاقمَ القمع الإسرائيلي، وتصاعدت إجراءات تهويد القدس وإحكام السيطرة على المكان. من يرصد شبابيك القدس من الخارج يجد تعبيراً ما عن حالة الصراع على المكان. تبدو الشبابيك حائلة الألوان، يأكلها الصدأ وبعضها مخلّع الأباجورات، لا يأبه بها أهلها ولا يحيطونها بالعناية اللازمة. ويترافق مظهرها الكئيب مع مظهر الحيطان الحجريّة التي تبدو كالحة هي الأخرى، ينمو العشب في الشقوق البارزة بين حجارتها، وتتجمّع البيوت على نفسها كما لو أنها تحاول أن تحمي نفسها من ضربة قاصمة ستأتي بعد حين. وتظهر في فضاء الأسواق في البلدة القديمة بوّابات متطامنة تنفتح على سراديب معتمة تفضي إلى أدراج، تقود بدورها إلى شقق سكنيّة قديمة تقاوم عسف الزمان، وتؤوي ساكنيها من المقدسيّين الذين يتشبّثون بالبقاء في مدينتهم، رغم كلّ إجراءات المحتلّين الإسرائيليين التي تتهدّدهم باقتلاع. هنا تبدو المفارقة. فالمقدسيّون ليسوا معنيّين بالمشهد من خارجه. ولذلك يتركون للصدأ أن يأكل شبابيكهم وأباجوراتها. يتركون هذه الأباجورات عرضة للانخلاع ولضياع اللون تحت عسف الشمس والريح والمطر. إنهم معنيّون بالمشهد من داخله، أي بالحيّز الذي يتّسع لهم ولأبنائهم. في القدس القديمة الآن ضائقة سكنيّة مريعة، زادتها حدّة نيّة سلطات الاحتلال سحب هويّات المقدسيّين الذين يقيمون خارج القدس، ما يعني حرمانهم من العودة إليها. هذه النيّة المبيّتة دفعت ألوفاً من أهل المدينة الذين كانوا يقيمون في رام الله وفي بعض مدن أخرى في الضفة الغربية، إلى العودة إلى القدس للإقامة فيها. وبالطبع، فليس من السهل الحصول على ترخيص من سلطات الاحتلال، لإضافة غرف أو لإقامة بناء جديد. والأسر تتكاثر والأولاد بحاجة إلى مساكن وإلى حيّز أكبر مما هو متوفّر. والمقدسيون يتفنّنون، تفنّنَ المضطر، في تكييف الحيّز المتاح لهم، وإعادة تقطيعه من الداخل، لخلق فرص استيعاب جديدة، ولضمان الاستمرار في الإقامة في المدينة. لذلك هم معنيّون بالمشهد من داخله لا من خارجه. ولذلك، ليس غريباً أن يستثمر المقدسيّون كلّ حيّز متاح لهم لتحويله إلى غرف للسكن، ولا تلبث أن تظهر في الحيطان القديمة شبابيك مرتجلة، يجري استنباطها لكي تهب مخزناً مكرّساً لاستيعاب الأثاث القديم، أو قبواً مهجوراً لا قيمة له، شيئاً من نور وبصيصاً من حياة. إنّه اعتناء لا مثيل له بالحيّز الداخلي، أمام ضائقة السكن تلك. ثم إنّ أيّ اعتناء بالمشهد من خارجه، قد يكلّف مالاً يمكن استثماره في زمن الضائقة الاقتصادية التي تعيشها القدس في ما هو أنفع وأجدى، وقد يستدعي هذا الاعتناء شبهة بناء جديد وما يعنيه ذلك من مخالفةٍ لشروط البناء، ما يستدعي حضور الأجهزة المعنيّة التي قد تستصدر قراراً بهدم البناء، أو بفرض غرامة ماليّة باهظة على صاحبه. ويحدث في حالات أخرى أن يأتي مستوطنون ومعهم جنود مسلّحون، لتنفيذ أوامر بإخلاء بيوت من ساكنيها المقدسيّين، بحجّة ملكيتهم، أي المستوطنين، لهذه البيوت، عن طريق الشراء المزوّر، أو بادّعاء ملكيتهم لها منذ أيام الانتداب البريطاني على فلسطين. مع ذلك، ورغم الإجراءات الإسرائيلية المشدّدة ضدّ من يجازف ببناء بيت دون ترخيص، أو بإضافة غرف جديدة إلى بيته القديم، فإنّ الحاجة الملحّة إلى سكن، تضطرّ المقدسيين إلى مخالفة الشروط المجحفة التي لا تسهّل لهم فرص البناء، وإلى بناء بيوت جديدة وإضافة غرف إلى غرفهم القديمة. وهم يحاولون ابتداع طرق في التمويه والتخفّي، قد تنجح حيناً ولا تنجح في كثير من الأحيان. تتعرّض البيوت الجديدة والغرف المضافة إلى الغرف القديمة للهدم، تنهار الحيطان التي انبنت بالجهد والعرق، وتتكوّم الشبابيك بما فيها من زجاج وألمنيوم وحديد فوق الركام. وتتواصل معاناة المدينة. وتتفاقم جرّاء ذلك ضغوط نفسية وأزمات، ومع اكتظاظ الحيّز بالأفراد من أجيال مختلفة، تتضاءل الخصوصيّة إلى أبعد الحدود. ولعلّ من المناسب أن تجري قراءة العلاقة بين هذا الاكتظاظ في القدس القديمة، وانتشار المخدّرات في أوساط نسبة غير قليلة من شبابها. لعلّ من المناسب قراءة القلق الذي يخيم على المدينة في ضوء ما تعانيه من حصار. ولهذا، قد تبدو شبابيكها حزينة لمن ينظر إليها مليّاً، كما أفعل أنا كلّما تمشّيت في أسواقها وأزقّتها. وقد تبدو منطوية على نفسها، كما لو أنّها تتوقّع مفاجآت غير سارّة ذات صباح أو ذات مساء.
شبابيك القدس3
وعلى رغم ما تعانيه القدس من حصار، ومن محاولة لتبديد طابعها العربيّ الإسلاميّ ببعده المسيحيّ الفلسطيني، تظلّ المدينة معنيّة ما وسعها ذلك، بالمحافظة على مشهدها الأصيل الذي يُراد طمسه وتبديده، وتظلّ في الوقت نفسه، معنيّة بأن تكون مدينة التعدّدية والرغبة في الانفتاح، دون أن يقلّل ذلك من اهتمامها بمشهدها الأصيل. يتبدّى ذلك في العديد من المظاهر التي لا تحتاج إلى دليل، ويتبدّى على نحو ما في شبابيك المدينة. شبابيك متنوّعة ذوات طرز وحجوم وتشكيلات وأشكال متباينة. شبابيك منبثقة من ثقافات عدّة، ومن إبداع معماريّين من عصور شتّى ومن مختلف الجنسيّات. وأنا أجوب أسواق القدس، أتعرّف فيها إلى الفنّ المعماريّ الإسلاميّ بتأثّره الأكيد بالفن المعماريّ الفارسي، وبتجلّياته الأيوبيّة والمملوكيّة والعثمانيّة. أتعرّف إلى الفنّ المعماري الروماني والبيزنطي، والفن المعماريّ الأوروبي من العصرين الوسيط والحديث. أشاهد الفن المعماري الذي ينطوي على أبعاد دنيويّة معنيّة بالمشهد، وأناقته وإمكان تجسيده للبهجة والفرح. وأشاهد في الوقت نفسه الفن المعماريّ الذي ينطوي على أبعاد دينيّة معنيّة بإدخال المهابة إلى نفوس الناس، وبإشعارهم بأنهم مخلوقات ضعيفة محتاجة إلى خالق يمدّ لهم يد العون، ويرشدهم إلى سواء السبيل. تتولّى شبابيك المدينة حمل شيء ممّا ذكرناه على الصعيدين الدنيوي والديني. وعلاوة على ذلك، يمكنك أن تقرأ انطباعات أخرى توفّرها لك شبابيك المدينة. ففي بعض البنايات تجد في الحائط الواحد ثلاثة شبابيك متجاورة، لها استطالات ذاهبة إلى أعلى، وهي مفتوحة على الخارج، كما لو أنها تطمح إلى اكتشاف أكبر قدر ممكن من المشهد الخارجي، وهي في الوقت نفسه غير متحفّظة تجاه الحيّز الداخلي، إنها معنيّة بكشفه لو أتيحت لها الفرصة لذلك، وبخلق تواصل بينه وبين المشهد الخارجي في التحام لا انفصام فيه. قد تكون الشبابيك الثلاثة متساوية في الحجم وفي الشكل وفي الزخارف وغيرها من أشكال الفن. وقد تأخذ شكلاً حميماً آخر، حيث يكون الشبّاك الأوسط أكبر حجماً من الشبّاكين الواقعين عن يمينه ويساره، حيث يضفي التماثل وعدم التماثل في المشهد الواحد إحساساً بالوحدة وبالتنوّع في الوقت نفسه، ما يهب الناظرين من أيّ اتجاه متعة، وما يهب المشهد كله حالة من التعلّق بالدنيا وما فيها من متاع. وقد تكون الشبابيك مركومة في حالة من التماثل على نحو كثيف، في حائط يشتمل على طوابق عدّة من إحدى البنايات، فتعرف أنّك أمام حشد من شقق السكن أو مكاتب حكوميّة أو أهليّة، أنتجها عقل براغماتي معنيّ في الأساس باعتبارات الظلمة والنور والحرّ والقرّ وتبدّل الفصول، فلا يعود ثمة فرق بين شبّاك وشبّاك. ثمة تشابه واتّساق. وثمة إيحاء بأنّ المشهد واضح القسمات. فالشبابيك هنا ليست للتأمّل فيها ولا للتمعّن في جمالها، وإنما هي مكرّسة لتوفير متطلّبات حيوية يومية، لا بدّ منها لساكني الشقق من المواطنين أو لشاغلي المكاتب من الموظّفين. قد تجد شبابيك عشوائية بلا نسق ولا نظام، فلا تتوقّف عندها كثيراً، لا تكترث بها ولا تعيرها انتباهاً، وقد تجد شبابيك صغيرة منعزلة، كما لو أنها شبابيك سجن أو زنازين. قد تجد شبّاكاً واحداً في حائط بيت قديم. يشدّ انتباهك لأنه يستحوذ على المشهد وحده، بإطلالته على الشارع المجاور حيث المارّة وأسراب السيّارات، ما يجعل المشهد ممتعاً مثيراً لمزيج من المشاعر، فثمة شبّاك وحيد في حائط، ثمة امتياز من نوع ما، أو ثمة عزلة وانعزال، وثمة تفرّد في محيط من الكثرة الوافرة. قد تجد صفّاً أفقيّاً من شبابيك متماثلة، لا فضل لشبّاك منها على شبّاك. شبابيك ذوات استطالات منتهية بأقواس محدّبة تذكّر بشكل الهلال، أو بأقواس نصف دائرية. الأقواس قد تذكّر باجتهادات أجدادنا القدماء حينما بنوا أوّل البيوت وأوّل الأبواب وأوّل الشبابيك. كانت أغصان الشجر وسعف النخيل التي انبنت منها أوّل البيوت تميل إلى التقوّس والانحناء. ربما من هناك جاءت الأبواب التي تنتهي في أعاليها بأقواس، وربما من هناك جاءت الشبابيك. فإذا كانت الأبواب هي الحيّز المخصّص لدخول البشر وخروجهم، فالشبابيك هي الحيّز المخصّص لدخول أشعّة الشمس والهواء. والأقواس التي تنتهي بها أعالي الأبواب والشبابيك قد تحمل دلالات دينية، رغم أنّ البناية التي تشتمل على هذه الأبواب وتلك الشبابيك ليست مسجداً ولا كنيسة. القوس إيحاء بالقبّة، والقبّة رمز للسماء، والسماء منبع للديانات. في المسجد والكنيسة تتلوّن الشبابيك بطابع ديني لا شكّ فيه. الشبابيك مرتفعة ذاهبة نحو أعلى جدران الكنيسة والمسجد، بحيث لا تطالها أيدي المتديّنين بالبساطة المتوخّاة. ذلك يوحي بأنها أقرب إلى السماء منها إلى الأرض. وقد يوحي بأنّ الكائن البشري بحاجة إلى قوّة عليا مسيطرة تصل ما بين الأرض والسماء. في المسجد تنفرد الشبابيك بزجاج بنفسجي أو ملوّن بمختلف الألوان التي تهب الخشوع والمهابة. وترتفع استطالات الشبابيك إلى أعلى وتنتهي بأقواس نصف دائرية تذكّر بالقباب التي تذكّر بالسماء، وتظلّ مغلقة في أغلب الأوقات، من خلف زجاجها يتراءى نور خفيف مختلط بألوان الزجاج، ما يهب المتديّن شعوراً بالغموض الذي يملأ النفس رهبة وخشوعاً، وانجذاباً إلى عوالم غير أرضية فيها سموّ ورفعة ونقاء. في الكنيسة أيضاً، تنفرد الشبابيك بزجاج ملوّن. وتظهر شبابيك أخرى بزجاج عاديّ غير ملوّن. تبدو متراصفة متجاورة، تحفّ بها عتمة قادمة من حيّز الكنيسة ومن البخّور المتصاعد منها، فتعمل على إحاطة المشهد بشيء من الغموض الشفّاف. في الكنيسة تتعدّد حجوم الشبابيك وتتنوّع تشكيلاتها، وتمعن في التجلّي قريباً من سقف الكنيسة وقبّتها العالية، ما يضطرّ المتديّن إلى رفع رأسه عالياً للنظر إليها، وما يجعله عبر هذه الحركة الاعتياديّة، متّجهاً بنظره إلى السماء التي تركّز على قدسيّتها الأديان. في المسجد وفي الكنيسة تصرّ الشبابيك على حجب الخارج عن الأنظار، ويجري التركيز على الداخل، حيث الانقطاع للعبادة ونسيان الدنيا ولو مؤقتاً والتفرّغ للسماء. ومع ذلك، مع كلّ ما في القدس من مقدّسات، فهي لا تخلو من مشهد نشاز، راح يفرض نفسه شيئاً فشيئاً منذ سنوات. ثمة شبابيك محاطة بشبك كثيف من الحمايات الحديدية، وثمة شبك من أسلاك يحيط بالبنايات وبالشبابيك. ثمة سبعون بؤرة استيطانية يسيطر عليها مستوطنون إسرائيليون في قلب المدينة، بينها البيت الذي استولى عليه شارون، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق. هنا يبدو المشهد متناقضاً مع الانسياب الطبيعي للمشهد العامّ في بقيّة أنحاء المدينة. فالشبابيك المحصّنة على هذا النحو لا توحي بالدعة ولا تعبّر عن حالة طبيعية، والشبك الكثيف والكاميرات والأضواء الكاشفة المسلّطة على الأزقّة والطرقات، وظهور مستوطنين مسلّحين بأسلحة رشّاشة في فضاء البيوت، توحي جميعاً بأنّ ثمة مكاناً مسروقاً تجري السيطرة عليه وحراسته بوسائل القوّة الغاشمة، ما يجعل المشهد منفّراً وفي حاجة إلى تعديل وتصويب.
#محمود_شقير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قالت لنا القدس/ عن نساء القدس3
-
قالت لنا القدس2
-
قالت لنا القدس1
-
مرايا الغياب/ مؤنس الرزاز4
-
مرايا الغياب/ مؤنس الرزاز3
-
الليلة الأولى... رواية لجميل السلحوت ضد الجهل
-
مرايا الغياب/ مؤنس الرزاز2
-
مرايا الغياب/ مؤنس الرزاز1
-
مرايا الغياب/ بشير البرغوثي8
-
مرايا الغياب/ بشير البرغوثي7
-
مرايا الغياب/ بشير البرغوث6
-
مرايا الغياب/ بشير البرغوثي 5
-
مرايا الغياب/ بشير البرغوثي4
-
مرايا الغياب/ بشير البرغوثي3
-
مرايا الغياب/ بشير البرغوثي2
-
مرايا الغياب/ بشير البرغوثي1
-
مرايا الغياب/ سليمان النجاب18
-
مرايا الغياب/ سليمان النجاب16
-
مرايا الغياب/ سليمان النجاب15
-
مرايا الغياب/ سليمان النجاب14
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|