|
العالم القديم والعالم الجديد
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 7648 - 2023 / 6 / 20 - 07:29
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
في لحظة تأـريخية زفت وكالات الخبار العالمية خبرا صغيرا مر عند الكثيرين مرور الكرام، وحتى عن المهتمين بالتطور العلمي والتكنلوجي ليس بذاك الأهتمام المستحق، الخبر يقول (أن إحدى تطبيقات الذكاء الاصطناعي نتيجة لخطا بشري أو تقني قتلت مشغلها)، الخبر لحد هذه النقطة واحدا من الأخبار التي نلتقطها يوميا دون أستغراب أو تحليل عميق لما وراء المعنى، بالرغم من أن الكثير من المفكرين والعلماء والفلاسفة قد تنبأوا بخطر التقنية الفائقة ليس على الإنسان ومستقبله المهني، بل حتى على وجوده الطبيعي، والحقيقة التي تتردد دائما عند مفكري عالم التقنية ومنهم السيد برونو جوسّاني الذي يؤكد دوما (لا توجد تكنولوجيا جيدة وأخرى ضارة، وإنما هناك طرق مختلفة لاستخدامها، فقد تصبح التكنولوجيا سيئة حين لا يكون أمامنا سوى التكيّف معها والسماح لها بتوجيه حياتنا، وقد تكون جيدة حين نستفيد من منافعها ونحسن التنبؤ بآثارها السلبية المحتملة ونحد منها أو نتفاداها، على المستويين الفردي والجماعي). قد تكون هذه الحقيقية الراهنة والمطروحة فعلا ولكن ما يشكل محورا غير مسيطر عليه بشريا من قبل الواقع التقني هو القدرة الفائقة المتنامية التي تطرحها التقنية ذاتها على واقع الإنسان، صحيح أن عالم اليوم كما يقول المفكرون ودراسي علم الأجتماع عالم مشدود للشاشة، خاضع جزئيا لمتطلبات التقنية وبالذات الرقمية، لكن ما زال هناك هامش كبير يمكن للإنسان من خلاله التحكم والسيطرة على التفكير العام لبرمجيات الذكاء الصناعي، ولكن المشكلة تكمن في الأبعد من هذا والأعمق من اللا محسوب والكامن الخفي الغير ملاحظ بشكل جدي داخل ذكونة التقنية، هنا مكمن الخطر، وهنا قد يطيح العالم الإنساني بوجوده عندما تنفلت هذه الذكونة عن حدود السيطرة وتعمل بالبرمجة الخفية المشتقة من لوغاريتمات الذكاء الاصطناعي ما هو في متواليات البرمجة الظاهرية، هذا الأمر اعده أنا بداية تحول سيادة التقنية الرقمية النانوية اللا مسيطر عليها على الإنسان ووجوده، بحيث يتحول الإنسان ليس إلا ضحية فقط، بل إلى مجموعة مجردة من برمجيات مسلوبة الإرادة للتقنية الخفية. هذا العالم الجديد الذي نخشاه والذي يبدأ كما قلت من اللحظة التي سقط فيها أو ضحية بشرية لهذه التقنية لدون النظر إلى كونها خطأ مادي أم خطأ بشري، هذه اللحظة ستؤرخ كونيا على أنها بداية عالم التحول الثالث بعد الكتابة والصناعة الواسعة وتقنيات ما بعد الثورة التقنية، في الآونة الأخيرة قال أحد مؤسسي إينستغرام (إننا نعيش بالنسبة لشبكات التواصل الاجتماعي حقبة ما قبل نيوتن، حيث أننا نعلم بأنها تعمل، ولكن لا نعرف كيف)، هذا خطر أو سلاح ذو حدين، فمن جهة نحن نخضع لتقنية نحن صنعناها ونعرف كيف صنعنا أسسها وبرامجها في الظاهر، ولكن أيضا وما يزيد من إشكالية الخطر أننا لا نعرف لماذا تُستقطَب المعلومات؟، ولا لماذا أصبحنا نعتمد بشكل متزايد على هذه التقنيات؟، ولا لماذا نخضع جديا بشكل متزايد لهذه الجهالة دون أن نحسب ما يمكن أن يفاجئنا في لحظة قررت هذه البرمجيات الذاتية أن تتخلى عن مشغليها أو مسيطريها، أو بصورة أدق الخطر الكامن عندما تنفصل هذه التقنيان عن عالمنا لتعيش عالمها الذاتي المؤسس لقدراتها الذاتية التي لا نعلمها ولا يمكن للأن حتى التنبؤ بها، هنا الخطر القادم. أظن أن عصور الخرافة والأسطورة والكائنات الخفية التي تحرك الوجود وتعيد صياغته عبر عقلنا المبسط، قد ولى منذ أن عرف الإنسان الكتابة وبدأ عصر التدوين والمعرفة والأديان التي تتعبد بكتب ومقومات عقلية لتؤسس حضارة وعالم متعدد المشارب والموارد الثقافية والفكرية، هو الأخر أنتهى بظهور الثورة الصناعية التي قادرت إلى ثورات متتالية في سلسلة من التحولات العلمية والمعرفية، أيضا قد شارف على الأنتهاء وفقدان بريقه المبهر ليحل محله عالم ما قبل الخرافة التقنية الجديد، عالم يسير خارج رؤيتنا ولكننا سنصبح أسارى ورهائن له لأننا لم نراقب ميلنا الجنوني لفتح كل الممكن العلمي دفعة واحدة، وعلى هذا النحو ظهرت اليوم ما يسمى بفلسفة التكنولوجيا التي تهتم بالمسائل والقضايا والمشكلات العامة للتقنية والآلة، ومن ثمّ كنا أمام مجال جديد يُسمى بـ«أخلاقيات الآلة»، وبدأت التساؤلات تظهر هل يمكن النظر إلى الثورة العلمية وتطبيقاتها باعتبارها طوق نجاة بشكلٍ مطلَق أم أنها ستثمر عن مخاطر وسلبيات لا يمكن تجاهلها؟ وما انعكاس ذلك، سلبًا أو إيجابًا على مسار التقدم ومستقبل الحضارة في ظل هذا العصر؟ سيبدو لي وبالمقارنة النظرية مع التحولات الكبرى التي حدث وعرفها العقل البشري، أن الإنسان الطبيعي مع خوفه وتردده كان قد خطا الخطوة الأولى وهو متردد فيها، لأنه لم يكن يتوقع كل الذي نتج منها ومع ذلك سار مستقيما عندما لاحظ كم المنفعة والتبسيط في الحياة بعدما أدرك المعرفة، هذا الحال تكرر وببط شديد أيضا مع الثورة التقنية الثانية (عصر الصناعة الواسعة والتصنيع أو ما يسمى بالثورة الصناعية) ولكن أيضا سار طبيعيا فيها دون عجالة لأنه يعيش التراكم المرحلي الذي يفرض قوانينه على سيرورة التطور، فخضع لها طبيعيا وهذا ما حصن المجتمع البشري من خسائر كبرة في اللا متوقع أو اللا محسوب، اليوم نحن نتجاوز فكرة الخوف والتردد لأسباب عدة منها كيفيات التفكير النانو الرقمي الذي يظن أنه قادر على التنبؤ والحساب لكل دقائق الأمور. هذه الثقة العالية بمشروع التطور ليس لها فقط الجانب الإيجابي الذي يسارع ويختصر الكثير من الزمن والكلفة، ولكن من جانب شيء سيترك فراغات مهمة وواسعة من اللا مدرك والمحسوب دون فهم ودون مراقبة ودون سيطرة وبالمقارنة بعالمنا المعاصر، ونستطيع أن نقول بلا تردد أن الإنسان اليوم قد اقتُلع من جذوره، بعد أن أدرك أنه موجود في ظلّ أوضاع متغيرة وغير محددة تاريخيًا، من هنا بدا الأمر كما لو أن أسس الوجود قد تحطمت أماه لتكوين أسس أخرى مختلفة، ولهذا السبب بدت أسس الحياة التقليدية ترتعش من تحت أقدامنا، وهذا هو السبب في أننا نعيش في عالمٍ متحرك ومتغير ومتدفق بإنسيابية عالية وبتعجيل متسارع غير مسيطر عليه ولا خاضع للتحكم به من قريب أو بعيد، وبموجبه تفرض المعرفة المتغيرة تغييرًا في الحياة ولذا فإن تغيير الحياة يفرض تغييرًا في وعي الإنسان العارف، هذه النقطة التي أرد الإشارة إليها أن وعينا سيكون رهين وعي التقنية العالية فائقة التفكير الذاتي والغير مسيطر عليها، إن هذه الحركة العمودية والأفقية في حقائق الوعي الجديد، الوعي التقني المأزوم بهذا التدفق الرهيب، وهذه العملية غير الثابتة أبدا والغير واضحة بالشكل الام والكامل، تكتسحنا في دوامة من الغزو القلق والخلق المتواصل المحفوف بالمخاطر الوجودية التي تكبر في كل إضافة للواقع العلمي والتقني ، دون حساب حقيقي يوازن بين الخسارة النهائية والربح الحالي، حيث ندور بشكلٍ مؤلم لا واعي بالكامل وخاضعين بشكلٍ رئيس لقوة التيار الذاهب بعيدا لما بعد المستقبل.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أوهام التعظيم وضلالات القداسة المزيفة عند العقل الديني المأز
...
-
أحلام شهريار وأحلام أخرى
-
بوح أخر
-
الرابحين من الشمس
-
افسح لي الطريق... دعني أمر بسلام
-
أذكى حمار ق ق ج
-
أجتهاد تدبري تدبر أم تدبير؟
-
أنا شمعة وحيدة
-
لعنة الــــــ الو
-
وجوديات صوفية
-
أحلم أيها المجنون وليحلم حلمك بحلم
-
رسائل إلى الكل
-
رسالة إلى سيدة من طراز الملائكة الصالحين
-
وأنتهى الأمر
-
رسالة قديمة لعالم جديد
-
مشاعر وأحلام وطرق بلا نهاية
-
الفقه هو تدبير القرأن بالميزان 2
-
الفقه هو تدبير القرأن بالميزان
-
سأمضي
-
الميزان الثابت التقني المستلزم لفهم النص القرآني ح2
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|