محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث
(Mohamed Mabrouk Abozaid)
الحوار المتمدن-العدد: 7645 - 2023 / 6 / 17 - 23:35
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
عمل كعب الأحبار على غرس أفكار بعينها في العقل العربي كي تثمر وتنتج أفكاراً بعينها في المستقبل.. فهو من أدخل معتقد أن الذبيح هو إسحق بدل إسماعيل، وذلك استناداً لتفسير الطبري(ج23، ص46)، وهي بلا شك من الإسرائيليات التي دخلت في التفاسير بعد زمن كعب الأحبار، فالذبيح هو إسماعيل دون شك؛ لأنه كان الابن البكر لوالده، وكانت الأقوام آنذاك تضحي ببواكير أولادها ومواشيها، فأراد الله تعالى أن يبطل هذه الممارسة من خلال استبدال إسماعيل(ع) بذبح عظيم كما هو مفصل ذلك في القرآن الكريم. لكن كعب الأحبار استطاع التأثير على من حوله وفرض عقيدته في الوسط الثقافي الإسلامي، فقط لجعل موضع الاحتفال بعيد الأضحى هو النبي إسحاق الإسرائيلي وليس إسماعيل العربي. وهذا ما يعني أن كعب إنما جاء في مهمة خاصة لا من أجل أن يتبع المسلمين على دينهم، ولكن ليتبعوه هم على دينه... ويؤكد د. إسرائيل أن كعباً لم يجد أي تناقض بين دينه الجديد ودين أجداده القديم، بل كان متعايشاً في انسجام مع عقيدته اليهودية، ولم يرم اليهود بتهمة تزوير آيات التوراة لأغراض معينة كما فعل عبد الله بن سلام.
فكان العرب يسألون كعب عن كل ما يجهلونه في القرآن، كان هو المرجع العلمي العظيم لهم، فذات مرة سأل ابن عباس كعب الأحبار عن قوله «يسبحون الليل والنهار ولا يفترون» ألا يسأمون، فقال: هل يؤدك طرفك؟ هل يؤدك نفسه؟ قال: لا، قال: فإنهم ألهموا التسبيح كما ألهمتهم الطرف والنفس (تفسير الطبري، ج 17، ص 9، قابل بين هذه الرواية وبين ما ورد في كتاب: مدراش رباه: سفر التكوين 78: إن جماعة من الملائكة ملهمة في التسبيح والفناء أمام الله نهاراً وليلاً.)
وجاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال له حدثني عن قول الله «عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى»( سورة النجم، آية 13 ـ 16.) فقال إنها سدرة في أصل العرش، إليها ينتهي علم كل عالم، ملك مقرب، أو نبي مرسل، ما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله.
وهناك رواية أخرى ورد فيها أن ابن عباس سأل كعباً عن سدرة المنتهى فقال كعب: إنها سدرة على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق، ثم ليس لأحد وراءها علم، ولذلك سميت سدرة المنتهى، لانتهاء العلم إليها.
وكذلك سأل ابن عباس كعباً عن «أم الكتاب» قال: علم الله ما هو خلق وما خلقه عاملون فقال بعلمه: كن كتاباً فكان (تفسير الطبري، ج 13، ص 100، وج 17، ص 126، وراجع ما ورد عن «أم الكتاب» في سورة آل عمران، آية 6، وسورة الرعد، آية 38، في تفسير الطبري، ج 3، ص 105 وص 115، وج 13، من ص 97 ـ 102.) ، وهذا الذي قاله كعب عن معنى «أم الكتاب» هو بعينه المذكور في المصادر اليهودية عن «أم التوراة» إذا صح هذا التعبير (مدراش رباه: 1:5) .
وكذلك سئل كعب عن قراءة كلمة «حمئة» التي وردت في سورة الكهف (آية 86) في قوله تعالى: «حتى إذا بلغ مغرب الشمس، وجدها تغرب في عين حمئة» لأن ابن عباس وعمرو بن العاص اختلفا في قراءتها فقرأها الأول: حمئة، وقرأها الثاني حامئة، وارتفعا إلى كعب الأحبار يسألانه في ذلك، فرجح قراءة ابن عباس، وقال إن العين الحمئة هي الثاط أو الطين السوداء (صحيح الترمذي، طبع التازى بمصر، سنة 1353، ج 11، ص 15 ـ 56، وتفسير الطبري، ج 16، ص 9.).
على أن لابن هشام وللطبري نفسه رواية أخرى، يذكر فيها أن الاختلاف في ذلك لم يكن بين ابن عباس وعمرو بن العاص، بل بين الأول ومعاوية (كتاب التيجان، لابن هشام، ، ص 111، وتفسير الطبري، ج 16، ص 8.) . وأياً كان الأمر، ففي كل الأحوال كان مرجعهم كعب.. وبهذه المناسبة نذكر، أن أبا بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي الأندلسي الأشبيلي، المتوفى سنة 546 للهجرة، في شرحه لصحيح الترمذي، لم يرق له أن يكون كعب الأحبار قاضياً يفصل بين اثنين من الصحابة فقال: ... ولأمية بن أبي الصلت شِعر لا يقبل منه قوله ولا من كعب، لأن كلامه منقول من التوراة المبدلة، ولا يحتاج إليه ولا يعوّل عليه ولا يصح أن يلتفت إليه (صحيح الترمذي، ج 11، ص 56.) .
فقد استطاع الأحبار اليهود غرس بعض الأعمدة العقائدية المتينة جداً في عمق العقل العربي، منها كلمة أحبار وكلمة رباني، وقد استطاع الدكتور إسرائيل ولفنسون العثور على قواعد هذه الأعمدة ببساطة، ولكنها ليست وحدها فهناك عمود أقوى وإن كان لا يخص العرب لكن كعب استطاع غرسه في أرض العرب بقوة لينتقل إلى بلادنا مملكة القبط، هذا العمود هو مسمى " مصر" التي ورد ذكرها في القرآن، ونعتقد بيقين أن د. إسرائيل ولفنسون كان على علم بهذا الأمر لكنه لم يرد أن يذكره، لأنه لو ذكره يكون بذلك قد أحرق العملية التي قام بها كعب واستمرت ألف وأربعمائة عام كاملة حتى نام كعب بسلام وقام مسجده في القاهرة شامخاً رافعاً اسمه فوق المآذن.
أورد د. إسرائيل في كتابه فقرة تحت عنوان " كعب الأحبار وقصة إِرَم ذَاتِ الْعِمَادِ "، قال فيها:"يميل أغلب علماء المسلمين إلى الاعتقاد بأن « إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاد» (سورة الفجر، آية 6 ـ 7.) اسم مكان فهي عندهم اصطلاح جغرافي فمنهم من قال إنها مدينة الإسكندرية (تفسير الطبري، ج 30 ص 96، ياقوت معجم البلدان ج 1 ص 212.) ومنهم من قال إنها مدينة دمشق (تفسير الطبري، ج 30 ص 96. وتاريخ الطبري، ج 1 ص 748، وج 2 ص 587. الهمداني: معجم البلدان، ص 123، الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص80) ورأى غير هؤلاء وهؤلاء أنه اسم لمدينة في جنوب بلاد العرب بين صنعاء وحضرموت (القزويني: عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات ج 1 ص 29، معجم البلدان لياقوت ﺠ 1 ص 123، قصص الأنبياء للثعلبي، ص 100.) وذكر الهمداني أن في اليمن جبلا باسم إِرَم ذَاتِ الْعِمَادِ (الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص 3.).
وهذا ما يؤكد أن العرب ما كانوا يعلموا شيئاً عن قصص بني إسرائيل ولا إرم ذات العماد ولا مصر التي وردت قرينة بها في القرآن، ولذلك كان مرجعهم أهل الكتاب، وقد تعرض الدكتور إسرائيل إلى محاولات العرب في تفسير قصة إرم ذات العماد بتفصيل مسهب ، وذكر العديد من الروايات، وتسلسل نقلها عبر القرون حتى القرن الخامس هجري، وطرق إسنادها في بلاد العرب، وحتى في غيرها من البلاد التي انتقلت إليها الكتب، لكنه مع ذلك لم يتعرض إطلاقاً للحكايات التي رواها كعب عن (بني إسرائيل ويوسف وموسى في مصر وحادثة الخروج والغرق)، لم يقترب من هذه القصة ولم يتتبع أصولها وفصولها كما عادته على طول الرسالة. فقط ذكر:" وإذا كان ما ذكره الكسائي عن الفيوم من أنها إحدى البلاد التي استوطنها يوسف وذريته، لا يستند إلى الحقيقة التاريخية وليس مذكوراً في التوراة، فهو من الأحاديث الشائعة بين يهود إيجبت إلى يومنا هذا فهم يقولون، بأن أرض جوشن التي استوطنها بنو إسرائيل كانت في بقعة الفيوم" ("كعب الأحبار.. ص 98) .. وهذا ما يؤكد أن ولنفسون يعلم (الحقيقة التاريخية) التي أشار إليها بِصَمْتِه، خاصة أنه عالم بالنصوص الأصلية السريانية للتوراة وترجماتها العربية والأوروبية.
فقد حاول ولفنسون أن يثبت فقط أن كعب كان يهودياً من المهد إلى اللحد وقد حافظ على يهوديته، لكن لم يرد ولفنسون المرور على طبيعة المهمة بالكامل التي عاش كعب من أجلها يهودياً ومات يهودياً، فمجرد أن تنحصر مهمة كعب في غرس بعض المصطلحات مثل " رباني" و "حبر " فهذا مجرد سذاجة وسفاهة لم يكن كعب بحاجة إليها، إنما هذه المصطلحات جاءت كزيادة على المهمة ولا قيمة فعلية لها، لأن هناك الكثير من الكلمات التي يستخدمها العرب واليهود على السواء دون أن تحدث خللاً عقائدياً في العقل العربي، إنما ولنفسون أثبت بيقين أن كعب الأحبار كان عميلاً صهيونياً مغروساً بعناية وسط العرب دون أن يحدد طبيعة الدور الذي كان منوطاً به أداءه، لكننا في هذه الدراسة سنكشف بإذن الله طبيعة هذه المهمة، ومنها نستنتج أن الدكتور إسرائيل ولفنسون نفسه كان عميلاً صهيونياً بامتياز رغم أنه مصري الجنسية ولأبوين مصريين وتربي على يد الأديب طه حسين وجيله في جامعة القاهرة. فنحن لم نعتد على العملاء العلماء، إنما فقط تعرفنا على العملاء الأمنيين والحربيين، بينما فكرة العملاء العلماء هذه أعقد من أن نستوعبها كما نفذها كعب ببساطة. وهذا فقط من قرينة تكتم ولفنسون على طبيعة المهمة والدور الذي قام به كعب الأحبار في بلاد العرب... فكعب غرس كلمة القبط في التراث العربي كي يسير على ذات الخطى مع التراث اليهودي المزور منذ عهد بطليموس حيث غرس الكهنة كلمة إيجبت في كتب التوراة، لكن إسرائيل ولفنسون تجاهل ذلك في رسالته عن كعب !.
فالله تعالى لم يقل أن مصر موسى وفرعون هي بلاد وادي النيل حيث يسكن القبط، ولكن قال ذلك كعب الأحبار وصدقه العرب، فصار كلام الكعب عقيدة في عقول المسلمين السذج وكأنه كلام الله، وكل من ينكر أن تكون بلاد وادي النيل هي مصر موسى وفرعون يعتبرونه جاحداً لكلام الله، ذلك فقط لأنهم لا يدركون أنه كلام الكعب وليس الله، لأن وقت نزول القرآن كانت بلاد وادي النيل اسمها إيجبت، وهو الاسم الذي اعتمدته الترجمة السبعونية.
وقد حاول ولفنسون في ثنايا بحثه إثبات نظريته حول كعب الأحبار كونه عميلاً صهيونياً ناجحاً، نافياً أن يكون هناك مجالاً لرأي آخر، فهو يرى كعب الأحبار أعظم من اعتنق الإسلام شأناً في القرن الأول للهجرة، ويقارنه بشخصيات أخرى مثل عبد الله بن سلام الذي يعده ساذجاً ووديعاً يؤثر الهدوء والسكينة، ذلك أن هذا الإمام ذا الأصول اليهودية لم تثر حوله شبهات إسرائيلية، وأما وهب بن منبه فيرى أنه عالم بالشؤون الدينية فقط، وترك أثراً قوياً في رجال الدين، وأما عبد الله بن سبأ فقد كان خطيباً مفوهاً ودساساً خطيراً يحكم تدبير المؤامرات وإشاعة الفتن، وعدواً لدوداً لعثمان رضي الله عنه، ما أثار حوله الكثير من الشبهات التي فضحت عقيدته.. أي أن إسرائيل ولفنسون يثني على كعب كونه عالم يهودي استطاع بذكاء إخفاء هويته أكثر من زملائه وبهدوء كي يصل إلى غايته بسلام ودون إثارة أية شبهات حوله.
ويرى أن كعب كان متشبعاً بالعقلية اليهودية، ويهودياً من المهد إلى اللحد، وكان ينظر إلى الإسلام بالعين اليهودية، ولم يكن إسلامه إلا استجابة للشكل الذي فرضته طبيعة الحياة وسط العرب، ويؤكد إسرائيل هذه النظرية بقوله: لم يخفِ كعب يهوديته، وكان في إسلامه يحمل أسفار التوراة والتلمود أمام الجموع الحافلة في المساجد، وفي مجلس الخليفة نفسه؛ فهو لذلك يُعد شيخ علماء عصره الذين وجهوا العلوم الإسلامية إلى الوجهة المعروفة بالإسرائيليات. وذلك نظراً لأنه لم تكن هناك توراة ولا تلمود باللغة العربية يمكن أن يفهمها العرب المسلمون آنذاك، فقط كانت هناك يهودية شفوية، أما كعب فكانت لديه القدرة على القراءة في المراجع والأصول العبرية السريانية ونقل علومها ومعارفها للناس، وهذا ما فتح له باب الاحتكار المعرفي لعلوم أهل الكتاب، غير أنه جاء إلى المدينة وهو قد تجاوز الخامسة والسبعين من عمره في اليهودية وكان كاهناً عالماً له قدره.
ويعتقد علماء الإسلام أن الإسرائيليات في الإسلام ما هي إلا (هامش) بسيط مهما أصابه الانحراف فلا أثر له، إنما الواقع أخطر بكثير، فهم يرون ألا أثر للإسرائيليات سوى كونها (هامش) ذلك قط لأنهم لم يستوعبوا هذا الأثر ولم يروه بالمرة، إنما فقط رأوا منه (هامش) بسيط.. بينما في الواقع فإن أثر الإسرائيليات في العقل الإسلامي أعمق من أن يستوعبها العرب، فقد كانت مثل حقنة تم تفريغها في الدم العربي بهدوء تام...
يُتبع ...
(قراءة في كتابنا : مصر الأخرى – التبادل الحضاري بين مصر وإيجبت )
(رابط الكتاب على أرشيف الانترنت ):
https://archive.org/details/1-._20230602
https://archive.org/details/2-._20230604
https://archive.org/details/3-._20230605
#مصر_الأخرى_في_اليمن):
https://cutt.us/YZbAA
#ثورة_التصحيح_الكبرى_للتاريخ_الإنساني
#محمد_مبروك_أبو_زيد (هاشتاغ)
Mohamed_Mabrouk_Abozaid#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟