|
حضور الجسد في الفن التشكيلي المعاصر
أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
الحوار المتمدن-العدد: 7637 - 2023 / 6 / 9 - 01:12
المحور:
الادب والفن
يتضمن الفن عنفا حادا. يحضر الدم والعنف والموت في أعمال الفنانين الكبار. فمنذ سربندات بروجيل حتى ساحرات غويا، ومن طوباويي رامبرانت الى اللحوم الشائهة لباكون، ظل العنف دائما في قلب الفن الأحمر، الصارخ، الكلي الوجود. اليوم، تخطى الفن التشكيلي مرحلة جديدة. لم يعد الفنانون المعاصرون يكتفون بتمثيل العنف، بل أصبحوا يشخصونه. إنهم يستعملون اللحم والدم كعناصر تدخل في تكوين لغتهم الفنية. يبترون أجزاء من أجسادهم تارة ويعرضون جثامين الحيوانات تارة أخرى. في الغالب الأعم، يسيل الدم بشريا كان أم حيوانيا. كيف نفسر هذه الظاهرة؟ وماذا يعني ذلك؟ هل أصيب هؤلاء الفنانون بالجنون؟ لأجل الإجابة عن هذه الأسئلة سوف نقوم سويا برحلة إلى عوالمهم. سوف تكون تلك رحلة صادمة ومثيرة وأخاذة. قي الواقع، تفسر مزايداتهم وعنفهم وتصلبهم بمشوار فني طويل يعود إلى بداية القرن الماضي حيث كان الإصرار على إيجاد أدوات أخرى وعلى التعبير بطريقة أكثر قوة وعنفا وأصالة. وكان الانطباعيون قد استبدلوا توصيف المشاهد بالتعبير عن أحاسيسهم الذاتية وانفعالاتهم الشخصية. كانت تلك طريقة في استثمار ذواتهم بشكل أعمق لإنجاز أعمالهم الفنية وفي تكسير المسافة الفاصلة بين الفنان ولوحته. في القرن العشرين، ذهب هذا الاستثمار إلى أبعد من ذلك؛ إذ أقدم في 1916 تيستان ثارا والفنانون الدادائيون على إدماج أجسام عينية وحضور مادي في أعمالهم، وجسدوا هكذا ادعاء الفن بأنه يمثل الطبيعة. تخلى هؤلاء الفنانون عن مواضعة المتاحف والتجأوا إلى أمكنة أكثر واقعية كالمقاهي والحانات والشوارع. لم تعد المسألة هي الاختباء وراء اللوحة والصورة والرمز. من الآن، غدا الواقع يستعمل كعنصر خام وغني ومباشر لأجل الكشف عن الوجه الآخر للديكور، كذلك سوف يقرض الجسد ذاته عن طريق الروح بصورة مفارقة. نحن الآن في بداية القرن الماضي. العديد من الاكتشافات هي الآن بصدد زعزعة الفكرة المكونة عن ذات مادية وروحية مستقلة ومتكاملة. لقد تبين، في علم النفس والتحليل النفسي والفلسفة والأنثروبولوجيا والطب، ان الجسد يحتضن حضورا يملك لغته الخاصة وأصوله النوعية وخطابه الذاتي..سوف يسعى الفنانون التشكيليون الى استكشاف هذه المجالات تاركين حرفيا الكلمة للاشعور. مارس سورياليون بالأخص الدعاية للمفاهيم الفرويدية مثل الجنس والأحلام واللاشعور، تخلت ملصقاتهم وتشكيلاتهم المصورة عن الإطار الاعتيادي لفن الرسم العقلاني لأجل إعطاء الفرصة لطبيعتها الدفينة كي تعبر عن ذاتها. في إطار نفس السلالة، يقترب الفن الفن المعاصر من الكتابات والأبحاث الأنثروبولوجية لتلك الزمرة. هكذا نجد أن تجربتي بيكاسو وجياكوميتي تأثرتا كثيرا بالفن البدائي بحيث توقفت أعمالهما عن ان تكون وصفا منظما للطبيعة لأجل الانضمام إلى التعبير الأكثر عنفا وتلقائية لدى الإثنيات النائية في أفريقيا وجزر الأقيانوس، فأصبح الفن عنفا وطقوسا وقرابين. إذن، وصل الإنسان الغربي إلى جذوره بصفته المتوحشة وحقيقته البدائية. تمثلت الصدمتان القويتان خلال القرن العشرين في الحربين العالميتين، وأصبح الموت والخراب من الموضوعات الرئيسة التي لا مناص منها عند أهل الفن. لكن مجازر هاتين الحربين على الخصوص زعزعت علاقة الفنان التشكيلي بجسده الخاص الذي أصبح رمزا لواقع لا نستطيع إبقاءه بعيدا كما لا نستطيع نسيانه أو رميه جانبا. فبالرغم من أن الفن في القرن ال20 كان مطبوعا بالموت، فقد أصبح فن الحياة والحركة والحضور بامتياز. سوف يلتصق الفنانون بأعمالهم أكثر من أي وقت مضى. نذكر من هؤلاء على سبيل المثال جكسن بولوك الدي يخطط خيوطا سوداء وملونة على لوحات ضخمة مبسوطة على الأرض، وإيف كلين الذي يرسم لوحاته بأجساد موديلاته وقد غدت بالمناسبة ريشات بشرية. لقد تطاير إطار اللوحة شظايا ولم يعد التمثل عن بعد قائما. الأجساد غرقت في دمائها بعد أن تم سحقها وإعدامها في الحرب. هاهي الأجساد الآن تعود بقوة في الفن التشكيلي إلى جانب الصياح والصراخ العضوي. سوف تنتصب المنجزات التي قام الفنانون انفسهم بعرضها كإجابات على وحشية القرن. لم يسبق أبدا أن ظهر الفنان بمثل هذا التورط حيث دخل بلحمه وحضوره في حرب ضد عصره. سوف يكون المثل المرعب عن هذه الحدة هو المسعى الجمالي للحركيين في فيينا الذين يمثلهم غونتر بروس وهيرمان نيتش وأونومول. من هؤلاء من جدع أو بتر أجزاء من جسده، ومنهم من انتحر، في محاولة منهم للتكفير عن الأدى الذي ألحقته النازية بالجنس البشري. في مواجهة عنف القرن، وضع هؤلاء الفنانون التشكيليون أعز ما عندهم في المحك، أعني أجسادهم، لوحاتهم. صدم هذا المسعى الكثير من الناس. كثيرون هم الذين أعتقدوا أن الأمر لم يعد يتعلق بفن بل بانحراف شاذ، قريب من الشدو-مازوشية. من الآن فصاعدا غدا الجسد لوحة وغدت الحركة البشرية ريشة. إن استعمال الجسد في الفن التشكيلي أدى إلى إنجاز أعمال مقلقة ومزعجة؛ أعمال صدمت الجمهور وورطته كليا بالرغم من أنفه. فن تجلية وتعرية الأجساد، عمليات البتر الممارسة على اللحم، كل ذلك شكل لغة متميزة تعود إلى الوظيفة الأولى الأساسية للفن؛ ألا وهي الدخول في عمق الواقع للكشف عن حقيقته الدفينة وعدم الاكتفاء بتوصيفه؛ أي زعزعة اللعبة المهيأة، القائمة على المواصفات الثقافية التي تخفي الدواليب الداخلية لحياتنا. دام هذا الاتجاه وساد منذ أكثر من 40 سنة ولم تخذله أبدا طاقته وحيويته. للتدليل على هذه الصلابة، يكفي ذكر أن هرمان نيتش دأب منذ نصف قرن على الحديث عن مسرحه الفظ الذي شكله من طقوس وسينات، وأن بول ماكارتي "المهرج"، الذي ما فتئ يضحكنا ويخيفنا منذ سنوات العقد السبعيني، أطلعنا على منجزات أسطورية مأساوية حيث يمتزج الدم بالكتشب (صلصة تعد من عصير الفطر والبنذورة والبهارات...إلخ) والبراز بالدموع. كذلك نجد مارينا أبراموفيك تهيئ الإعدامات وتصور بالفيديو تجليات صارخة، ونلفي فرانكوب لم يكف عن بتر أجزاء من جسده. كل هؤلاء الفنانين يتعالون عن إدراك مخنوق وملمس وبليد لمجتمعنا، لعالمنا. كلهم، خلف هذه هذه الثورة الاجتماعية والسياسية، يضعون أمامنا مرآة خطيرة تسمح تسمح لنا برؤية واقع أولي هو حقيقتنا العضوية التي ترتعش بين جوانحنا وتأوي مفتاح الحياة فيما بين نبضتين من نبضات القلب. لهذا السبب، نجد في انتظارنا مفارقتين: المفارقة الأولى هي أن أعمال العنف هاته تخفي طاقة إيجابية خارقة للعادة. فعلى غرار الشعائر البدائية والطقوس العتيقة التي سلطت الضوء على القوة العضوية الكامنة فينا، أطلق هؤلاء الفنانون بدورهم العنان لتفريغ حيوي مدهش. في الواقع، ليست ليست أعمالهم مرضية ولا منحرفة..بالعكس، في تنشد قصيدة الحياة اللامتوقعة، الكهربائية، المعاصرة، الأصلية والكونية. إذا استطعنا للحظة نسيان أحكامنا المسبقة ومخاوفنا وتقاليدنا الثقافية، نستوعب بسرعة القوة البدائية، الجوهرية، الطبيعية التي تنبجس من هذه الشخصيات. أما المفارقة الثانية، المثيرة كذلك، فهي أن هذه الأعمال الوحشية، الداعرة، التي تمزج الدم بالألم بالبراز، تقيم ممرا حقيقيا نحو المقدس. مرة أخرى، تذكرنا هذه الأعمال بطقوس وقرابين تعود إلى زمن عريق في القدم. لا يتعلق الأمر هذه المرة بتقديم القرابين إما إلى إله صنم أو إلى أرواح الأرض. يبدو القربان هنا موجها نحو خفقانه الخاص وانشطاره الذاتي، كما لو أن الدم والألم والجرح عناصر تكشف عن الإله الذي يوجد فينا، عن سحر الحياة. لقد دخلنا إذن إلى حلقة مقدسة، نحن نخاف عادة مما نشاهده لأننا نحس لاشعوريا بأننا نشاهد مليا شيئا محرما، نشاهد سرا، نستعرض فجأة هذه الشخصيات والتجليات ما نحس بنبضه في دواخلنا. إنه سر الإبداع. في اشمئزازنا، هنا أيضا وعي بالتجديف، بالنظرة التي تذهب بعيدا، برمشة عين رأت ما لم تكن رؤيته مباحة. يظهر هؤلاء الفنانون كصناع حكماء، ككائنات واقعة بين الأرض والسماء، كمهرجين سماويين في اتصال مع حقيقة عليا يعرفون كيف يتفاوضون معها.. بالطبع، هناك بعد مسيحي في أعمال الألم هاته..ليس هؤلاء الفنانون سوى ضحايا عملهم ورسالتهم الفنية. لقد وافقوا على الألم والمعاناة لكي يفتحوا لنا أعيننا ورضوا بالنزيف لإنارتنا أحسن.
#أحمد_رباص (هاشتاغ)
Ahmed_Rabass#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تلخيص كتاب -فلسفة الرفض- لغاستون باشلار
-
تلخيص كتاب -فلسفة الرفض- لغاستون باشلار (الجزء الرابع والأخي
...
-
موقف اللجنة الوطنية لمرسبي امتحان الأهلية لمزاولة المحاماة م
...
-
ما ذا بعد تبني حكومة أخنوش لتوصيات مؤسسة وسيط المملكة في ملف
...
-
جنود إسرائيليون يشاركون للمرة الأولى في مناورات عسكرية بالمغ
...
-
تلخيص كتاب -فلسفة الرفض- لغاستون باشلار (الجزء الثالث)
-
نبيلة منيب في مسيرة الدار البيضاء: غادين بنا للهاوية!
-
عن عبد الصمد ناصر وطرده من قناة الجزيرة نتحاور..
-
تلخيص كتاب -فلسفة الرفض- لغاستون باشلار (الجزء الثاني)
-
تلخيص كتاب -فلسفة الرفض- لغاستون باشلار (الجزء الأول)
-
لتنسيقية الصحراوية للوديان الثلاث: واد نون الساقية الحمراء و
...
-
محاسن ومساوئ المال وفقا للفيلسوف وعالم الاجتماع الفييني جورج
...
-
أخنوش يفاجئ المغاربة بهدية ملغومة وعيد الأضحى على الأبواب
-
تدوينات فيسبوكية
-
الكاتب عزيز الحدادي يشجب إقصاءه من المشاركة في فعاليات نسخة
...
-
ورزازات: اللجنة المحلية لفدرالية اليسار الديمقراطي تنتفض على
...
-
لفتيت يركز فقط على إعادة إسكان دور الصفيح في جوابه عن أسئلة
...
-
ظاهرة الانتحار في المغرب: الأرقام والدلالات
-
بوح الذاكرة: قصة حب مشوب بالشفقة
-
الصورة النمطية للمرأة المغربية في وسائل الإعلام
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|