|
تمظهرات الإنزياح اللغوي في قصيدة الشاعر التونسي د.طاهر مشي -من سوانا-
محمد المحسن
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 7634 - 2023 / 6 / 6 - 18:19
المحور:
الادب والفن
إن الانزياح تقنية فنية تثير القارئ إذا أدت دوراً جمالياً في النسق الشعري،وهي تلاعب فني جمالي باللغة،لأن اللغة الشعرية-بالأساس-إحساس ووعي مقصود لذاته،إنها تفرض نفسها باعتبارها أداة فوق الرسالة التي تتضمنها وأعلى منها،وتعلن نفسها بشكل سافر،كما أنها تشدد بانتظام على صفاتها اللغوية،ومن ثم فلا تصبح الألفاظ مجرد وسائل لنقل الأفكار،بل أشياء مطلوبة لذواتها وكيانات مادية مستقلة بنفسها،وعلى هذا تتحول الكلمات من دوال إلى مدلولات..-(1) وبهذا المعنى يمكن أن نعد الانزياح لعبة لغوية جمالية يقوم بها الشاعر لخلق اللذة والمتعة الجمالية في قصائده. ومن يطلع على قصائد الشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي يدرك أن الانزياح خصيصة جمالية من أبرز الخواص التي ارتكزت عليها قصائده على المستوى الجمالي،فالقيمة الجمالية لأي منتج فني تكمن في الشكل اللغوي المفاجئ الذي يكسر رتم السياق الشعري. ولعل من أبرز الأشكال التي أثارتها القصائد العذبة للشاعر التونسي د- طاهر مشي على مستوى الانزياح الشعري ما يمكن تسميته بالانزياح اللغوي : ونقصد ب (الانزياح اللغوي) القيمة الجمالية للنسق الشعري باحتكاكه بالأنساق الشعرية الأخرى،لدرجة يمكن أن نعد الانزياح اللغوي قلقلة جمالية في النسق ترمي لتحقيق قيمة جمالية تستثير القارئ باللذة والمتعة من جراء تركيب لغوي مفاجئ أو مغاير لصيرورة الأنساق الشعرية الأخرى.. ولهذا قال فاليري عبارته الشهيرة:" الشعر لغة داخل اللغة" أي نظام لغوي جديد يتأسس على أنقاض القديم،وبواسطته يتشكل نمط جديد من الدلالة،لأن الشعر ليس موقفاً مسبقاً،إنه الطريق الحتمي الذي ينبغي للشاعر عبوره إذا كان يرغب في جعل اللغة تقول مالا تقوله اللغة أبداً بشكل طبيعي"(2). وهنا أقول : إن الانزياح اللغوي وفق-قراءتي-هو الذي يغري القارئ إلى تحثث مواطن الاستثارة والجمال في بعض الأنساق الشعرية التي ترتفع درجة الإزاحة فيها أعلى المراتب،ولهذا يمكن أن نميز تجربة شعرية عن أخرى بتفاوت درجة الحساسية الجمالية لتشمل الكثير من القيم والرؤى الجمالية،فقارئ قصائد طاهر مشي يدرك نفسه أمام غابات مكثفة من الانزياحات والانزلاقات اللغوية التي تثيرها قصائده على المستوى الجمالي،أي إن لقصائده رنة جمالية في انزياحها عن النمط السائد في النسق،وكأن القصيدة لعبة تشكيلية يرتادها القارئ بوعي فني وخصوبة مرجعية لايطالها إلا الشاعر المميز في أسلوبه وحسه الجمالي،وللتدليل على فاعلية الانزياح اللغوي نورد قوله: قالت انتظرني انتهى فصل الخريف من سوانا يسقه الفصل شذانا سأعود إليك وأشواقي محملة على خدي مرسومة شقت شفاهي من الغياب.. من قحط السنين.. من السراب.. وهاهنا يحلق الشاعر في انزياحاته الفنية،إلى درجة قصوى من المباغتة،لأنها مبنية على إيقاع شاعري صادم الرؤى والدلالات والمؤشرات الشعرية؛ فالقارئ-هنا -يدرك أن اللعبة الشعرية لعبة انزياحية متأججة بالدلالات والرؤى المباغتة،ففي قوله:[ وشمس الحقيقة. تكوي فؤادي/سأعود/وكم اشتقت الوداد/وتاهت/دفاتري بين الرفوف/فكم ما جادت يداي بين الثنايا/تواترت أخبارنا حين كنا/وكان اللقاء منتهانا]،نلحظ سمواً في رتمه الشعري في انزياحاته من خلال بكارة الانزياح،ودهشته،وقيمته الرومانسية اللاهبة التي يثيرها في النسق،ودليلنا أن القارئ هنا لا يمكن أن يتوقع لغة البوح العاطفي الرومانسي الشفيف الذي خلقته الصورة التالية : ( سأعود/وإن تجاوز العمر السنين/التي قضيت في هوانا/أنثر عطري/يخضب وجنتيك/أسقيك/عقيق صافيا/هذا منايا..) وبتدقيقنا- في لغة الشعر عند الشاعر طاهر مشي- في قصيدته الموسومة-كما ذكرنا-ب(من سوانا) -نلحظ حياكة الشاعر الأسلوبية لتشكيلات لغوية جديدة،وقدرته على تفعيل الرؤيا الشعرية،بكثافة السرد الوصفي الشائق الذي يرصد جريان عاطفته المتسارعة،لبث كل ما يمور في داخله من عواطف و أحاسيس،وانفعالات،ورؤى جمالية،فهو يبني النص الشعري بناءً أسلوبياً مميزاً يعزف على إيقاع الجدليات،والمؤثرات الاغترابية من صور بانورامية محتدمة بألق الحالة الشعورية،ومدها الانفعالي الصاخب. وهنا نشير إلى أن حنكة الشاعر طاهر مشي الإبداعية تتمثل في فاعلية الانزياح كقيمة تشكيلية بليغة تصيب مرماها الجمالي،لاسيما حين يوفق في التقاط الانزياحات الخلاقة التي ترفع وتيرة الشعرية في القصيدة،فالدلالة لا قيمة مرجعية خلاقة لها إن لم تتضمن أية قيمة فنية في ارتباطها في النسق الشعري،وهذا يعني أن بلاغة الانزياح ماثلة في التشكيل الشعري وقيمه المؤثرة في تخليق النسق البديع. والملاحظ أن شعرية الانزياحات في الأنساق الشعرية التي تخطها القصيدة تتمحرق على الرؤية الغزلية ومثيراتها التي تقتنص الصور البليغة ومحفزاتها الخلاقة،كما في النسق التالي: سأعود/سأهزمه الزمان/وحين نلتقي/ سيعيشه/الحلم سوانا على سبيل الخاتمة : الملاحظ-في شعرية د-طاهر مشي-قدرة نصوصه الشعرية على خلق مباغتتها التشكيلية حتى عبر السرد الوصفي التشكيلي السريع،مما يدل على كثافة المتغيرات الجمالية التي تشي بها القصيدة على المستوى الجمالي،من انتقال من الوصف إلى النداء إلى الأساليب الإنشائية والتكرار والمفارقة والدراما لتحريك الشعرية من العمق في قصائده. وما ينبغي التأكيد عليه أن الشعرية- في قصائده-(أقصد قصائد الشاعر طاهر مشي بشكل عام) هي تنقلات استثارية تشكيلية إبداعية من متغير أسلوبي تشكيلي فاعل على مستوى المسندات التشكيلية إلى رؤى مباغتة تستفز الرؤى البسيطة،لتحرك الشعرية بإيقاع السرد الوصفي التشكيلي الشائق،وهو ما يجعل لغته حافلة بالمتغيرات الجمالية على المستوى الأسلوبي التشكيلي المراوغ،والانتهاكات اللغوية الصادمة بقيمها الانزياحية التي تفاجئ القارئ بهذا الاختراقات الأسلوبية الصادمة. بالانتقال من نسق أسلوبي مميز إلى نسق أسلوبي أكثر استثارة وتحفيزاً. وهذا يعني أن الشعرية في-جل قصائده التي اطلعت عليها-ليست مهادنة لغوية بأنساق تشكيلية معتادة ولغة مألوفة وواضحة في إسناداتها وبساطتها وتداولها السريع،وإنما هي مقارعة لغوية لأنساق جمالية يستثيرها على مستوى المجاورات الإسنادية الصادمة،ليرتقي بالرؤيا الجمالية للقصيدة،مؤكداً عمق الانزياحات على مستوى المتغيرات الأسلوبية في إنتاج الدلالات الجديدة،وتخليق أبعادها الإيحائية.. ختاما نقول : إن غنى الشعرية أخيراً في قصائد الشاعر التونسي د-طاهر مشي،بشكل عام،و بخاصة في هذه القصيدة كان وراءه رؤية متوهجة إبداعياً بانزياحاتها الخلاقة على مستوى الصور والمشاهد الشعرية،وهذا ما يجعل شعرية قصائد"طاهر" تصب في خانة شعرية الرؤيا وتحويل العاطفة من عاطفة انفعالية صاخبة بحالاتها الدرامية إلى عاطفة هادئة تبث قلقلها بصور رومانسية انسيابية هادئة في بعض السياقات العاطفية الآسرة جمالياً على المستوى الرومانسي. وصفوة القول : إن الانزياح اللغوي كقيمة جمالية-في هذه القصيدة تحديدا ( من سوانا ) يستقي استثارته من بلاغته النصية،أي بلاغة التركيب المنزاح بإزاحته وخلخلته للنسق الشعري، ولهذا تبدو صوره ملتهبة بدلالاتها ورؤاها الوجدانية التي تفيض بها،ومن أجل هذا يتعدى الانزياح السطح اللغوي ليتغلغل في عمق الدلالة ويسهم في إنتاجها.
الحواشي : 1-رمضان السيد، علاء الدين،1996-ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث،اتحاد الكتاب العرب، دمشق،ص144. 2-كوهن،جان،1986- بنية اللغة الشعرية،ص129.
#محمد_المحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة-تأملية-في قصيدة الشاعر التونسي القدير-د-طاهر مشي (أنت.
...
-
الأستاذة/الشاعرة والكاتبة التونسية تتألق في رحاب قرطاج الثقا
...
-
مؤسسة الوجدان الثقافية التونسية..تحتفي بصدور مولودها الإبداع
...
-
على ربوة الإنتظار..-ها أنا جالس على مقعد لست فيه-.. - قراءة
...
-
أنثى الماء..في ثوبها المرمري.. للكاتب المتميز تونسيا وعربيا
...
-
حوار مقتضب مع د-طاهر مشي-الشاعر التونسي الكبير:
-
حول فوائد الزكاة : الاستظلالُ بظلِّ عرش الله..يوم لا ظلَّ إل
...
-
ها أنا شارد..في تفاصيل الغياب- الألم العاري..قصيدة مثيرة للت
...
-
قراءة متعجلة في قصيدة الشاعر التونسي السامق جلال باباي..-أنا
...
-
قصيدة -خلف مدينتك- للشاعرة التونسية القديرة نعيمة مناعي..صور
...
-
من لا يعرف الروائي التونسي الكبير عامر بشة..أقول
-
تمظهرات التناص..روعة البناء الفني وتمثلات الوجع الإنساني في
...
-
الكاتب الصحفي الدولي-محمد المحسن-يثمّن رجالا ما هادنوا الدهر
...
-
الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي.. يرثي الشهيدة-شيرين أبوعاق
...
-
قراءة في قصيدة (لست صالحة للرسكلة) للشاعرة التونسية المتميزة
...
-
تمظهرات البعد الفلسفي..في قصيدة الشاعرة التونسية القديرة نعي
...
-
تجليات الذاتِ الأنثوية..في أفق قصيدة النثر النسوية العربية و
...
-
تجليات الخيال الإبداعي..وتمظهرات قوة البصيرة الفكرية لدى الش
...
-
الشاعرة التونسية السامقة فائزة بنمسعود:- الأدب النسوي يحمل ف
...
-
على هامش يوم العمال العالمي *: الإتحاد العام التونسي للشغل..
...
المزيد.....
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|