عزالدين غازي
الحوار المتمدن-العدد: 1719 - 2006 / 10 / 30 - 07:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في هذه المقالة سأتناول مفهوم الأنموذج الاستدلالي عند ارسطو الذي برز كأول فيلسوف في التاريخ منظرا في مجال المنطق وفي البحث الاستدلالي بشتى صنوفه وفي مجالاته الخطابية المتعددة . وفي عمله العظيم " الاورغانون " وضع مقالات تناولت بالتدقيق مفاهيم المنطق وضروبه وصيغه سميت بالطوبيقا ، إذ عرض فيها لوظيفة أساسية في الخطاب الطبيعي ألا وهو الخطاب الحجاجي فيقول " غاية هذا البحث هو إيجاد طريقة تمكننا من القياس حجاجيا على كل مسألة مفترضة ، منطلقين من المقدمات المحتملة مجتنبين ، حينما ندافع عن حجة ما ، إدراج قول قد يكون به شيء ما ينقض المقدمات " ( Aristote , Topiques , Livre 1, traduction Branchwig p 1 )
يتأسس المنطق الارسطي على ما يسمى " بالمقدمات المحتملة " تلك الأفكار المسلم بها ، بصفة عامة ومن قبل الجميع ، أو على الأقل من قبل من نتحدث .
هكذا إذن نجد ارسطو لا يهتم إلا بميكانزمات الاستدلال وبطرق الجدل حتى يمكنه فهم خبايا هوية تقنيات الحجاج لدى فلاسفة آخرين ممن سبقوه أو عايشوه وعلى رأسهم أفلاطون .مضيفا الوسائل المستعملة للانتقال من المقدمات إلى النتائج وذلك وفق نسق منطقي جد منظم .(l’argumentation : principe et méthodes, Séminaire de Donel Belenger p 8 ) . لم تشغل ارسطو صدق المقدمات ولا صدق النتائج ، انه كزينون الايلي أسس تقنيات الحجاجية معتمدا على وظيفة مبدأ اللاتناقض ، فشيئين متناقضين لا يمكنهما أن يكونا صادقين في نفس الآن .
يصل ارسطو وفق هذه الطريقة إلى تحديد الحجاجية كطريقة للاستدلال المنطقي وذلك انطلاقا من الاعتقاد أو أو الفكرة المسلم بها ، فالاستدلال الاستنباطي صنف وصورة للحجاج يظهر تحت قضايا موضوعية ، لكن ثمة شيء ما يغايرها ويتبعها بمقتضى ما كان موضوعا ومسلما به في المقدمة أيضا ، إنه البرهان الذي يحدد عملياته حينما تكون نقطة انطلاق الاستنباط قضايا صادقة وأولية ، أو على الأقل ، قضايا كما نعلم . فتجد نشوء قضايا بواسطة قضايا أخرى أولية صادقة على عكس الاستنباط الجدلي الذي يتخذ نقط انطلاقه أفكارا مسلم بها . ( Aristote , Topiques , Livre 1, traduction Branchwig p 1 ) .
اعتمادا على هذا التعريف الارسطي للاستدلالين البرهاني والاستنباطي القائم على حساب عناصر القضايا يمكننا التأكيد على أن الاستدلال هو بمثابة صورة منطقية نموذج للجدل بالعبارة الحجاجية ، ذلك أن هناك دائما مقدمات أولية مفترضة وقضايا صادقة كما نعتقدها. لكن ثمة شيء ما يغير تلك المسلمات ويتبعها ضرورة وفي هذه الحالة تجرى عملية البرهنة على القضية لان نقط انطلاق الاستنتاج هي نقط صادقة في نية المعتقد بالمعنى الاستدلالي الرمزي . وعليه فان الاستدلال الارسطي لن يكون خاصا بالمنطق الصارم والحسابي فقط. بل سيشمل كذلك القول الطبيعي الذي يعتمده صاحب الجدل في اعتقاده الأولي الافتراضي ، لذلك يظهر أن تمثيل المنطق الاستدلالي الحسابي في الحجاج تمثيل منطقي ما دام أن أوضاع الاستدلال الاستنباطي حسب عمليات الاستنتاج المنطقي هي شكل من أشكال الخطاب الرمزي الحجاجي الذي يعتمده القول الطبيعي .
نظرية الحجاج : تأصيل في المنطق الارسطي
يعرف ارسطو نظرية الحجاج باعتبارها طريقة للاستدلال المنطقي منطلقها الرأي أو الاعتقاد المسلم به سواء كانت أفكارا أو قولا أو عبارة . مما جعله يعيد صياغة هذا المفهوم بشكل جديد حينما تصدى إلى القول البلاغي ( في كتبه المنطقية : المقولات ، العبارة ، التحليلات ، الجدل ، الأغاليط ) الذي يعتبره " فن الكلام بطريقة الإقناع " ولعل بغيه هنا كان يريد به بناء نظرية كلية بتصنيفه لجميع أنواع الخطابات وأنماط الحجاج المقنعة من الأكثر سيكولوجية باستعمال الأهواء والشهوات والاعتقادات ، إلى الأكثر عقلانية باستعمال الحجة والبرهان عن طريق الفعل والعمل والشهادة ثم الاستدلال ، وما كتبيه التحليلات 1 و 2 إلا خير دليل على هذا الترتيب ضمن اورغانونه المقالة الأولى في المنطق ( مقالة في ثلاث أجزاء كتبت حوالي 330 ق م ) .
منذ ارسطو ، والمنطق يعرف كعلم يدرس المبادئ العامة للفكر العقلاني ، انه العلم المعياري والمنهج الرياضي لكل قضية صورية تحتمل الصدق والكذب ، والهدف دائما هو كيف يمكننا الاستدلال بشكل صحيح .
إن اعتماد ارسطو على الاستقراء السقراطي والجدل الأفلاطوني جعلاه يفكر في وضع فنون منطقية أخرى تمكن من الاستنباط بدون خطأ ، ويؤكد هذا المبدأ الصارم " قياساته" الشهيرة و"صور استدلالاته " المتمكنة من الوصول إلى نتيجة لا نقاش فيها انطلاقا من المقدمات الصادقة (, l’l argumentation : principe et méthodes , Séminaire de Donel Belenger p 8 ) . فحينما يتحدث ارسطو عن الجدلية فانه في الواقع يحيل دائما إلى ممارسة الحوار المستدل ، إلى فن الحجاج ، فكليهما يعتمدان السؤال والجواب كتقنيتين تقتضيهما المجادلة ، فسيرا على النموذج السقراطي ، يقدم لنا ارسطو الاستدلال الحجاجي وكأنه صورة للحوار وللجدل ، أن كل شيء يقع كما لو استماله واستلهمه هذا المفهوم قريبا بدون أن يبالي بتصوراته النوعية ، والدليل على ذلك هو تخصيصه لمقالة مطولة كلها " في تكويين الجدليين " لكن بالمقابل لم يحسم في تكوين الميتافيزيقيين الحاكمين الذين لا عيب فيهم ، في الآن نفسه . كما لو انه كان يتنبأ بمستقبل باهر لهذا الفن وضروبه التي شملت كل عبارة علمية وقول طبيعي ، وقد أكد ذلك في طوبيقاه حينما قال انه يهتم فقط بخلق تقنيين مثاليين في فن المجادلة وكذلك فنانين في فن الكلام (Aristote , Topiques , Livre 1, traduction Branchwig p 1 ) .
وعلى هذا الأساس ، فان تعامل الفيلسوف ارسطو مع الميتافيزيقا المبنية على الشرك أدى به إلى التحصن ب " مناعة " البرهان ذلك انه الزم غيره الإقرار به وحده معيارا مقوما لكل عمل فكري وشاهدا على مشروعية المقال الفلسفي بل على " إعجازه" الاستدلالي ( طه عبد الرحمان ، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام ص 56 ) حتى انه اخرج بلباس البرهان كل مسألة قصد الغلبة بها وان بعدت عما يشتغل به المنطق ، كذا أمر غالب الأدلة على وجود الإله وعلى قدم العالم .
ولما كانت العملية الحجاجية إلا تجسيدا للإقناع الذي هو عبارة عن استدلال استقرائي ، يميز ارسطو بين ثلاث مستويات اقتاعية متفاوتة الأهمية ، يقول " فأما التصديقات التي نحتال لها بالكلام فإنها ثلاث أنواع : فمنها ما يكون بكيفية المتكلم وسمته ، ومنها ما يكون بتهيئة للسامع واستدراجه نحو الأمر ، ومنها ما يكون بالكلام نفسه من قبل التثبيت " ( التقاري حمو حول التقنين الارسطي لطرق الإقناع ومسالكه ، مفهوم "لموضع " مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية 1 بفاس ص 98 ) ويمكن القول أن المسلك الأساسي عند ارسطو هو المسلك الاستدلالي عامة والقياس الاضماري بصفة خاصة ، وبالتالي كان ما يحكمه هو التنظير لهذا المسلك الأساسي الذي هو الأنموذج الاستدلالي .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن ارسطو في تقنينه للاستدلال الخطابي والجدلي سيتصدى للقياس باعتباره " قول إذا وضعت فيه أشياء اكثر من واحد ، لزم شيء ما آخر من الأضرار لوجود تلك الأشياء الموضوعة بذاتها ( Aristote , Analytiques , I.C.I 66 p 20-23 ).
فأمكننا تصوير القياس بالصورة العامة كالتالي : لزوم ضروري ( مقدمات ، نتيجة ) بمعنى تلتزم النتيجة لزوما ضروريا عن المقدمات " وقد حاول ارسطو أن يستخرج القواعد الصورية الملزمة منطقيا ، المؤسسة لاستدلالات مخصوصة وليس غرضنا هنا الكلام عن الاضرب الارسطية بل نكتفي للتوضيح ، بالمثال الآتي :
كل مؤلف حدث
و كل جسم مؤلف
إذن كل جسم محدث
وهو استدلال صحيح يمكن أن يرد إلى الصورة التالية :
] كبرى كلية موجبة وصغرى كلية موجبة ودعوى كلية موجبة A [
وبهذه الطريقة يصبح القياس فعالية في العملية الحجاجية إذ انه اشد إلزاما للحجة وابلغ عند المتناقضين في الرد على المعارضين – القياس هنا بمعناه الاضماري _ (
Aristote , Topiques , Livre 1, traduction Branchwig p10-30 )
هكذا يتميز الاستدلال الجدلي عن الاستدلال الخطابي بطبيعة النتيجة –الدعوى- فيهما ، فوظيفة الجدل عند ارسطو تقنين المناظرة ، حول أي مطلوب ، إثباتا أو إبطالا بالاعتماد على مقدمات محتملة وشبيهة مع تجنب التناقض الذاتي ( نفس المرجع السابق ص 18-25 ) والمطلب الجدلي دعوة حملية يكون محمولها إما حدا لموضوعها أو خاصة أو عرضا أو جنسا . وبالتالي كان تقنين الجدل الحجاجي بالمناظرة حول هذه الأنواع الأربعة من المسائل والدعاوي تقنيا لكيفية إبطالها أو إثباتها أو الاستدلال لها أو عليها بالاعتماد على مقدمات محتملة وشبيهة يسلم بها المحاور ويقبلها . أما وظيفة الخطابة فتقنين الإقناع بأي مطلوب وهي دعوى حملية أيضا يكون محمولها صفة من مجموعة سداسية من الصفات يكون كل زوج منها جنسا خطابيا ، وعلى هذا يكون تمييز ارسطو بين هذين الاستدلالين الجدلي
والخطابي ، تمييز ظاهر فقط .( التقاري حمو حول التقنين الارسطي بطرق الإقناع ومسالكه ، مفهوم "لموضع" مجلة كلية الآداب ع 9 ص 100 ) .
انطلاقا مما عرضناه أعلاه يمكننا أن نميز لدى ارسطو بين مجموعتين من الاستدلالات:
1- استدلال صوري حسابي آلي مؤسس على قوانين صارمة منطقية برهانية خاصة .
2- استدلال طبيعي يوظف في مقامات معينة وفي إطار مضمون معين ومن طرف مستدل معين لمخاطب معين ، لاثبات دعوة أو ابطالهابعد تفنيدها ، بمعنى تعلق هذا الاستدلال بمضمون القضايا المحددة تداوليا بالأساس ، وبتفاعل الذاتين في مقام تواصلي ما ، خلافا لاستدلال الصوري الذي يقصي الذات المستدلة .
ونخلص إلى أن القول الطبيعي يخضع هو كذلك إلى النمذجة الاستدلالية الطبيعية باعتبارها قواعد حجاجية عامة تسعى إلى التأثير على اعتقاد المخاطب وعمله حجاجي لا يختص بميدان خطابي دون غيره ، ذلك أن بنية الخطاب الطبيعي عميقة ، وخصوصا إذا ما سلمنا بالطبيعة الحجاجية لكل خطاب لغوي كما يؤكد ذلك انسكومبر وازوالد دكرو.
#عزالدين_غازي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟