|
سيولُ ربيع الشمال: 12
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 7627 - 2023 / 5 / 30 - 16:12
المحور:
الادب والفن
إذ انقضى أسبوعٌ دونَ أن تظهرَ ماهو، أيقنَ دارين أنه لن يراها مرة أخرى أبداً. كانَ أسبوعاً من الحرمان، شبيهاً بأسبوع الآلام، الذي يسبق الفصح. وتذكّرَ دارين المثلَ الشعبيّ: " أعزب دهر ولا أرمل شهر ". لكنه لم يكن أرملَ بعدُ، ولم يُكمل عدّةَ الشهر. مع ذلك، فالحرمان أمرٌ واقعٌ يشعرُ به حينما يجول في الشوارع، المتزاحمة فيها إناثُ الفيكينغ شبه العاريات المكتسيات، السارية في عروقهن دماءُ الإباحية. مع أنهن خجولات نهاراً، يقضين ساعات العمل مثل آلة شارلي شابلن، التي لا تهدأ ولا تتعب. فإذا جاءت أمسية عطلة نهاية الأسبوع، المُرفقة مع الخمرة وموسيقى الديسكو المجنونة، خلعن العذارَ وأظهرنَ تهتكهن وشبقهن. لم يكن دارين أقل شبقاً، الآنَ في هاجعة الظهيرة وهوَ تائهٌ عبرَ الشوارع مع عضوٍ ينتعظُ كلّ مرةٍ لمرأى مؤخرة نشِطة أو نهدٍ متوثّب. وكانَ يسترُ العضوَ الفضيحة بسترة الجينز، التي رافقته ربيعاً وخريفاً في خلال بضعة أعوام حتى بليت تقريباً. لم يكن مقتّراً على نفسه، لكنه كانَ يكره التسوّق مذ أن كان في ذلك الوطن، المعلّق في مجرّة الاستبداد ككويبٍ وحيد ومنبوذ. لقد أسرفَ أحياناً بشراء ملابس داخلية لصديقته، وكانَ قد عيّرها ذات مرةٍ بأنها تبدو في ثوب نومها، الخَلِق، كإمرأة قروية. كانت ماهو تخجلُ من عريها أيضاً ( جسدها جميلٌ وإن تكن أطرافه قصيرة )، فلم تسمح له أبدا بمشاركتها الحمّام. ولم تكن تنضو عنها ملابسها إلا في السرير، شريطة أن يكون نورُ الحجرة ضعيفاً. المرة الوحيدة، التي عنّ لها أن تفاجئه خلالها بعريها ـ بعدما حلقت المكانَ الذي يُحبّه ـ كانت تلك، التي ظهرَ فيها عباس عند الباب ببسمته الخبيثة الهازئة. هذا الأخير، علمنا أنه كان مستاءً من علاقتها بدارين، وذلك بدافع مذهبيّ مُقيت. في المقابل، كانَ عباس راضٍ عن علاقة الحسين عليه السلام بسليلة الرومان، وأكثر رضى عن كعبته، طالما أنها بؤرةُ تجارة المخدرات. لكن البوليس كان يجهلُ وجودَ هكذا بؤرة في ظهرانيهم، بالرغم من شكاوى أهالي المراهقين ومعلّمي المدارس وقساوسة الكنائس وأئمة المساجد وزعماء الأحزاب اليمينية والاشتراكية والوسطية وجمعيات الرفق بالحيوان وجمعيات العطف على البيئة ( تجمّعت مؤخراً لتأسيس حزب الخضر ) والملائكة والأبالسة والله على عرشه. الجولة تتواصلُ، ناقلةَ إياه إلى ظلال الكاتدرائية، التي قلّما استقبلت المصلّين، الشاكرين الربّ على نعمة العلمانية. برجا الكاتدرائية، المتوهّج قرميدهما النبيذيّ بفعل أشعة الشمس، ما زالا يتطامنان إلى السماء بغية التواصل مع آلهة الأولمب. ثمة مقهى إغريقي إلى الأسفل قليلا، ينبغي النزول على درجاته عميقاً في العتمة، للوصول إلى نور الموائد المنمنمة، المنتظمة على جانبيّ الممشى المشرف على النهر. لقد عرّفته صديقته الأذربيجانية على المكان، وذلك في صبيحة يوم عطلة كانَ فيها رجلها يكدّ في كشك شقيقه، ثمة في عاصمة الفيكينغ. كانت الفاتورة باهظة، دفعتها صاحبة الدعوة بكل أريحية. اجتازَ دارين الآنَ طوارَ الشارع الضيّق، المختبئ ذلك المقهى بأسفله، ليواجهَ أثراً من عصر أحد الأباطرة: كان سبيلَ ماء على شكلٍ أسطوانيّ، برونزه منحوتٌ بشكل بديع، وما فتأ محتفظاً باليد المعدنية المباركة. لقد ارتطمت فيه سيارةُ نيازي من جانب، وكانَ هذا يمرّ من هناك ثملاً في إحدى ليالي الديسكو. انقضى الحادثُ بسلام تقريباً، لولا أنه خلّف كسراً واضحاً في أسفل السبيل، بقيَ على مرّ الأعوام يُشار إليه على أنه من مآثر نيازي السادس عشر. سئماً من الشوارع والكاتدرائيات، وجدَ دارين نفسه يجتازُ قنطرةَ الجسر من ناحية " سالو هال "، وكانت أسراب البط تتجنّب مسيل النهر، المشكّل شلالاً هيّناً، لكنه يهدرُ بكثير من الصخب. ومن الشارع الجانبيّ، سار وصولاً إلى نهاية دروتنينغ غاتان؛ ثمة، أين تجثمُ المكتبة العامة. في قسم المطبوعات الأجنبية، تصفّحَ دارين بعضَ المؤلفات العربية، الغثة الشكل والمضمون، وكانَ مصدرَ أغلبيتها رجلٌ مصريّ، يمتلك متجراً كبيراً للكتب في ستوكهولم. فكّرَ دارين بشيءٍ من الأسى، أنّ يوماً قريباً سيأتي ليرى فيه أحد مؤلفاته بينَ هذه الكتب الرثة: كانَ يحتفظ في حجرة الكُريدور بمسودة ديوان شعره الأول، المضروبة على الآلة الكاتبة مذ أن كانَ في الوطن. نسخة أخرى مصوّرة، ذهبت بالبريد المسجّل إلى صديقٍ في بيروت كي يُحاول عرضها على ناشرٍ ما، أو تاجرٍ ما. إحدى قصائد المجموعة، كانت قد أحدثت صدىً طيباً، وذلك حينَ نُشرت بصحيفة أدبية أسبوعية ثمة في مسقط رأسه، وكانت طريقاً ممهداً للتعرّف على بعض الأدباء المخضرمين، المتحوّلين إلى كراسٍ بيروقراطية. بعدئذٍ خرجَ دارين كي يتجه إلى دوحةٍ أخرى للكتب، هيَ مقهى " الحجرة الحمراء "، وكانَ يسعى هذه المرة لصحُبة البشر. كان من المتوقّع أن يجدَ هناك آكلَ اللحوم، المتأمّل بالحظوة عند إحدى مريدات المكان، سويدية أو فنلندية، كي يعرّفها على ماضيه اليساريّ ومن ثم ليرافقها في حلم يقظة إلى الفراش. وكانَ أكثر ما يخشاه دارين، أن يلتقي بالحوت؛ كون امرأته تعمل هناك. لكن تبيّنَ أن هذه الأخيرة لوحدها ثمة. ما لبثت أن طلبت من المُريد الوحيد، الإشرافَ على المقهى لساعةٍ من الزمن ريثما تقضي أمراً ما، مُستعجلاً. كان دارين يكنّ الإحترامَ لإمرأة الحوت، ووجد طريقه ذات يوم إلى شقتهم، الذاخرة بأشياء لا فائدة منها، أشتريَ غالبها من المزادات. على الرغم من تقشفهم، فإنهم ضيفوه يومئذٍ قدحاً من الشاي الأسود؛ ولكن بدون بسكويت القرفة، المُقرف! غبّ مغادرة مُدبّرة المقهى، سحبَ دارين من أحد الرفوف كتاباً سويدياً عن تاريخ الكرد وجلسَ يقرأ مقدمته؛ مع بعض الصعوبة، بالطبع. أكتفى بقراءة صفحتين أو ثلاث، بعدما أيقنَ أن معلوماته التاريخية أفضل من معلومات الكاتب. صدَرَ صوتُ جرس الباب، المؤذن بدخول أحدهم. رفعَ دارين رأسه، وما عتمَ أن أطلقَ شهقةً خفيفة: كانت ماهو، التي لاحَ من طريقة دخولها أنها تتوقّع هذا اللقاء. لقد أصطحبها سابقاً أكثر من مرة إلى المقهى، لكنها تجنّبته فيما بعد كي لا يقع نظرها على الحوت. كانت في غاية الأدب، لما استأذنت بالجلوس: " جئتُ لأراك "، قالتها بصراحة. أدركَ في الحال أنها أيضاً، ولا غرو، تعاني من الحرمان. استدلّ على ذلك، خصوصاً، بتنورتها الربيعية، الصارخ من تحتها الجاربُ الطويل الأسود البرّاق. بيد أنه لم يفكّر بضرورة ذهابها معه إلى الكُريدور، لأنها قد تستوطن حجرته إلى الأبد. هكذا استدرجها دونَ إبطاء إلى الحمّام، وهناك طلبَ منها أن تنحني على مقعد التواليت. هتفت مُعترضة، بالفارسية: " من الخلف، لا! ". أوضحَ بنفس اللغة، مُتسائلاً: " ألا يوجد فَرْج في الخلف؟ ". خرجَ ملهوجاً بعد دقائق، يُحاول تدارك سحّاب فتحة بنطاله، فيما جرسُ الباب يُصدر رنيناً مُحذّراً. كانت القادمة مدبّرة المقهى، برفقتها امرأة ثرثارة من كردستان العراق. بينما كان يتبادلُ كلماتِ مجاملةٍ متعثّرة مع هذه الأخيرة، ظهرت ماهو عند باب الحمّام. دونَ أن تلقي نظرة على الموجودين، انسّلت من المكان بشكلٍ جانبيّ واختفت. كم أشبهت السرطانَ، عندئذٍ. بقيت المرأةُ الثرثارة تنظر بأثر ماهو في حيرة، فيما أطلقت المدبّرة ضحكةً فاترة.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيولُ ربيع الشمال: 11
-
سيولُ ربيع الشمال: 10
-
سيولُ ربيع الشمال: 9
-
سيولُ ربيع الشمال: 8
-
سيولُ ربيع الشمال: 7
-
سيولُ ربيع الشمال: 6
-
سيولُ ربيع الشمال: 5
-
سيولُ ربيع الشمال: 4
-
سيولُ ربيع الشمال: 3
-
سيولُ ربيع الشمال: 2
-
سيولُ ربيع الشمال: 1
-
سيولُ ربيع الشمال: قصة أم سيرة أم مقالة؟
-
الصديقُ الوحيد
-
سلو فقير
-
رفيقة سفر
-
أسطورةُ التوأم
-
قفلُ العفّة
-
فَيْضُ الصوفيّة
-
المسيحُ السادس
-
تحدّي صلاح الدين
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|