أوروك مدينة الحضارة الأولى

عضيد جواد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 7617 - 2023 / 5 / 20 - 04:50
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

كانت أوروك واحدة من أهم مدن بلاد الرافدين القديمة (كانت في وقت من الأوقات الأكثر أهمية) . وحسب قائمة الملوك السومريين ، فإن الملك "إنميركار" هو الذي شيّدها بحدود عام 4500 قبل الميلاد .
تقع أوروك في المنطقة الجنوبية من سومر (الوركاء الحديثة) ، وكانت تُعرف باللغة الآرامية باسم (إريك Erech) ، والتي يُعتقد منها جاء الاسم الحديث للعراق . وقد نالت مدينة أوروك الشهرة الكبيرة من خلال ملكها گلگامش وملحمته العظيمة ، كما تُعدّ من المدن الأولى التي لها الأثر الكبير في نشوء الحضارة وتطورها .

تعتبر أوروك أول مدينة حقيقية في العالم ، ويُنسب لها أول ظهور للكتابة ، والنموذج الأول في التصميم المعماري بالطوب وبناء الهياكل الحجرية العظيمة ، وأصل بناء أول زقّورة ، وأول مدينة طوّرت الختم الأسطواني . ويمكن أيضاً أن تُعتبر المدينة التي وضعت الأولوية للإنسان في بناء المجتمع الراقي .
كانت المدينة مأهولة بشكل مستمر منذ تأسيسها وحتى عام 300 ميلادي . وبعد هذا التاريخ بدأ الناس في النزوح من المنطقة لأسباب بيئية طبيعية ، واخرى بفعل الإنسان نفسه من خلال إفراطه في زراعة أرضها . وكانت المدينة مهجورة و مطمورة لحين اكتشافها بعمليات التنقيب التي أجراها عالم الآثار البريطاني "وليم لوفتس" عام 1853 ميلادي ، وبتمويل من المتحف البريطاني .

فترة أوروك
في فترة العُبيد (عام 5000-4100 قبل الميلاد) ؛ عندما سكن شعب العُبيد لأول مرة منطقة سومر، تبعتها فترة أوروك (عام 4100 -2900 قبل الميلاد) والتي بدأت خلالها المدن في التطور عبر بلاد الرافدين ، وأصبحت أوروك المدينة الأكثر تأثيراً. إذ تنقسم فترة أوروك إلى ثمان مراحل من بداية تأسيسها مروراً ببروزها وحتى اضمحلالها ؛ بناءً على مستويات الآثار التي تم التنقيب عنها والتاريخ الذي كشفته القطع الأثرية التي عثر عليها هناك . حيث أنها المدينة الأكثر نفوذاً بين عام 4100 و عام 3000 قبل الميلاد؛ عندما كانت أكبر مركز حضاري ومركزاً للتجارة والإدارة .

ما هي الطريقة التي حكمت بها أوروك المنطقة ؟ . كيف ولماذا أصبحت أول مدينة في العالم ؟
كتبت العالمة الآثارية "گويندولين ليك" عن ذلك من خلال المقطع أدناه :

"لا تزال ظاهرة أوروك محل نقاش كبير حول مدى ممارستها السيطرة السياسية على المنطقة الواسعة التي تغطيها المنطقة الأثرية ، وما إذا كان ذلك يعتمد في استخدام القوّة لتثبيت سلطتها ، وما هي الجهات التي كانت مسؤولة. تم التنقيب في المنطقة لجزء صغير من الموقع ؛ لذا فمن الصعب تقديم أي إجابات راسخة عن هذه الأسئلة. ومع ذلك ؛ فمن الواضح أنه في ذلك الوقت ، بدأت مرحلة التحضّر المركزّة في أوروك نفسها أولاً." (ص 183-184)

تظهر نفس أشكال القطع الأثرية تقريباً ، والتي عُثر عليها في أوروك لدى جميع مواقع بلاد الرافدين التاريخية التي تم التنقيب فيها.
كتب البروفيسور "جوليان ريد" التعليق التالي حول هذه الظاهرة :

" ربما يكون المثال الأكثر وضوحاً على الانتشار الواسع لبعض سمات ثقافة أوروك هو؛ توفر ما يجب أن يكون أحد أكثر الأشكال تداولاً على الإطلاق ، وما يسمى بـ (الصحن المقعّر) . حيث تم العثور على هذا النوع من الأواني المصنوعة بواسطة القوالب الجاهزة ، والمنتجة بكميات كبيرة ، وبأعداد هائلة منتشرة في جميع أنحاء بلاد الرافدين وخارجها." (ص 30)

كان هذا الصحن هو الوسيلة التي يبدو أن العمال يتقاضون أجورهم من خلاله ؛ وذلك بمقدار معيّن من الحبوب المُغرَفة في صحن بحجم قياسي . وتشير بقايا هذه الصحون في جميع أنحاء بلاد الرافدين إلى أنه ؛ " يتم التخلص منها بشكل متكرر فور استخدامها ، مثل صحون الألمنيوم الحديثة ذات الاستعمال الواحد في وجبة طعام من الأكلات الجاهزة " (ريد ، ص 30).
كانت الصحون المقعرّة شائعة جداً لدرجة أن ورش تصنيعها وُجدت في جميع أنحاء بلاد الرافدين ، والتي تبعد كثيراً عن أوروك مثل مدينة "ماري" في أقصى الشمال . لهذا السبب ؛ ليس من الواضح فيما إذا كان هذا الصنف من الأوعية أُخترع في أوروك أو في مكان آخر من العالم (على الرغم من أن أوروك تعتبر بشكل عام الأولى من صنعه) . وإذا كان في أوروك ، فيجب احتساب الصحن المقعّر من بين إنجازات المدينة المتعددة ، لأنه أول نموذج معروف عن الانتاج الواسع .

المدينة والآلهة
قُسمّت المدينة إلى قسمين ؛ منطقة (إينّا) ، ومنطقة (آنو) الأقدم . القسم الأول كان مخصصاً للإلهة "إنانا" ، والثاني لجدّها الإله "آنو".
كما أن قناع الوركاء الشهير (المعروف أيضاً باسم "سيدة أوروك") ، وهو وجه أنثوي منحوت من الرخام عُثر عليه في أوروك ، ويُعتبر شبيهاً لإنانا ، وعلى الأرجح كان يُعدّ من الأعمال الكبيرة لأحد المعابد في منطقتها .
لقد عُزلت منطقة إينّا عن باقي المدينة بسور، ولكن ليس من الواضح فيما إذا كان ذلك لأغراض طقوسية ، أو ما إذا كان البُناة قد احتاجوا إلى سور لسبب ما في بناء منطقة إينّا الأحدث . حيث يشير خبير السومريات "صموئيل نوح كريمر" ؛ إلى أن الإله الذكر(آنو) كان المعبود الرئيسي في المدينة عند تأسيسها لحين ازدياد شهرة حفيدته إنانا . عند ذلك الوقت ، حصلت على مسكنها الخاص و بسور كامل يحيط منطقتها .

طالما كانت المعابد تُعتبر المسكن الفعلي للآلهة على الأرض، وإنانا كانت تُصوَّر دائماً على أنها إلهة فضلّت الكثير من الأشياء على طريقتها الخاصة ؛ لذا فمن المحتمل أن المنطقة المحاطة بالأسوار قد وفرّت لها بعض الخصوصية. ويرى البروفيسور كريمر أيضاً ؛ أنه على الرغم من أن إنانا استمرت في كونها إلهة معروفة في جميع أنحاء بلاد الرافدين (تحولت إلى عشتار لاحقاً ) ؛إلاّ أن تأثيرها قد تراجع في المكانة والقدسيّة ، وتزامن ذلك مع استلاب حقوق المرأة في المجتمع . في هذه الحالة ؛ ربمّا قد عُزلت منطقة إينّا لإفساح المجال للكهنة الذكور في تولّي زمام الأمور، مثلما هو الحال مع الكثير ما يتعلق بتاريخ أوروك ، كما تبقى هذه النظرية مجرّد تكهنات .

لعبت الإلهة إنانا دوراً رئيسياً في التاريخ الأسطوري لمدينة أوروك ؛ لأنها هي التي سرقت "المَهْ المقدسة"( شريعة أوروك) من والدها الإله "إنكي " في مدينة إريدو المقدسة وجلبتها إلى أوروك . كانت المَهْ على حد تعبير البروفيسور كريمر: "القوانين الإلهية هي أساس النمط الثقافي للحضارة السومرية". والسومريون كانوا يعتبرون إريدو أول مدينة شيّدتها الآلهة ومكاناً مقدّساً لهم ، لذا فإن غياب المَهْ عن أوروك دليل على انتقال السلطة والنفوذ من مدينة إلى أخرى .

في حكاية إنانا وإله الحكمة إنكي ؛ بذل إنكي قصارى جهده لاسترجاع المَهْ من أوروك إلى إريدو عندما اكتشف أن المه قد سُرقت منه ، لكن محاولاته باءت بالفشل . لقد خدعت إنانا والدها ، وبذلك أصبحت أوروك مركزاً للسلطة وليس إريدو . حيث ارتبطت إريدو بالنمط الريفي والبحر البدائي الذي نشأت منه الحياة ؛ لكن أوروك كانت تجسيداً لنمط جديد في سبيل التغيير. وكانت القصة قد بعثت برسالة إلى سكان بلاد الرافدين من الأجيال القادمة عن السبب وراء تراجع أهمية إريدو وارتقاء أوروك عندما حصل ذلك بفعل الآلهة .

أهمية أوروك والاضمحلال
خلال فترة الأُسر المبكرة (عام 2900-2334 قبل الميلاد) ، والتي أعقبت فترة نمّو أوروك ، حيث كانت المدينة لا تزال مركز السلطات في المنطقة ، والسلالات الرئيسية كانت تحكمها في ذلك الوقت ؛ رغم أنها كانت في حالة ضعف ​​مستمر . فلا يزال سور أوروك العظيم الذي قيل إن الملك گلگامش قد بناه بنفسه وهو يرتفع حول المدينة عندما أسس الملك "إينوتوم" سلالته الأولى في لگش عام 2500 قبل الميلاد، وقاد أول إمبراطورية في المنطقة .

أُعجب الملك اللاحق لتلك الإمبراطورية ؛ "لوگال ـ زاج" (المعروف أيضاً باسم لوگال ـ زاگاسي) ، بالمدينة لدرجة أنه اختار أوروك عاصمةً له ومركزاً للسلطة. وعندما كانت بلاد سومر في ظل حكم الإمبراطورية الأكدية في عام 2334 قبل الميلاد ؛ استمر الملك سرگون الأكدي في جعل مدينة أوروك مقدّسة ، وأخذ بإصلاح وتجديد المَعبَدين المقدَّسين في منطقتي إينا وأنو .

على الرغم من أن المدينة فقدت بريقها الذي كانت تتمتع به في فترة أوروك ، إلا أنها استمرت كموقع مهم خلال فترة أور الثالثة ( عام 2047-1750 قبل الميلاد) . حيث حكمت سلالة أور الثالثة بطريقة بعث النهضة السومرية ، وقد استفادت مدينة أوروك من هذا التحول بقدر الفائدة التي شملت باقي المدن . مع سقوط مدينة أور عام 1750 قبل الميلاد، وغزو العيلاميين والأموريين لبلاد سومر؛ تراجعت أوروك اسوة بمدن سومر الأخرى .

حظيت أوروك في لعب دور مهم في جميع فترات حكم السلوقيين و الفرثيين من تاريخ بلاد سومر المتأخر. هذه نقطة مهمة جداً يجب ملاحظتها ؛ حيث كانت أهمية المدن السومرية الأخرى أقل بكثير من أوروك في الحقبة الزمنية نفسها. وقد حافظت منطقتا إينّا و أنّو على قدسيتهما حتى القرن السابع الميلادي ، ولو بدرجات أقل .
كتب البروفيسور "بيرتمان" التعليق التالي حول أهمية المدينة :
"كان عمر أوروك 5000 سنة، وأقدم طبقاتها الأرضية عملياً غير مستكشفة إلى الآن ، فهي مغمورة عميقاً في طين السهل الغريني الذي انبثقت منه الحياة لأول مرّة "(ص 37 ).
من البديهي أن معظم أسرار المدينة بقيت مدفونة تحت الأطلال القديمة ، والتي حتماً ستعطينا الإجابة عن سبب قيام المدينة الأولى في التاريخ لو كُشف عنها . بيد أن المدينة بقيت مهمة جداً لشعب بلاد الرافدين لفترة طويلة ، ولم يتم التخلي عنها حتى الغزو العربي الإسلامي لبلاد الرافدين عام 630 ميلادي ؛ على عكس مدن البلاد الأخرى .

قد يكون الجواب على سرّ شهرة أوروك أبسط مما يبدو. حيث وضع البروفيسور "پول كريڤاشيك" تفسيره في المقطع أدناه :

"عندما تتّبع خطوات نشوء الحضارة ، تجد أنها حدثت كنتيجة حتمية في التغيرات التطويرية لدى العقل البشري منذ نهاية العصر الجليدي الأخير.. ولكننا البشر الآن لسنا هكذا !. ليس لدينا ردود أفعال غير مبررّة ! . يجب أن ندع الحقائق الواضحة تظهر وتطفو على السطح ، يوجد صراع حقيقي دائم بين العلمانيين والمتدينين ! . وبين التوجه إلى الأمام والعودة إلى الوراء ! .وبين أولئك الذين يقترحون (دعونا نفعل شيئاً جديداً ) وأولئك الذين يؤمنون أن (الأفكار القديمة هي الأفضل) ! . وكذلك بين الذين يقولون (دعونا نطوّر هذا )، وأولئك الذين يعتقدون (إذا لم ينكسر فلا تقم بإصلاحه ) !. لَا يحدث تحول كبير في الثقافة أبداً دون هذا الصراع الفكري والحضاري .. " (ص21) .

ربما كانت قصة إنانا وإنكي وانتقال السلطة من إريدو إلى أوروك قد ترجمت هذا الصراع الحتمي بين القِدَمْ والحداثة ؛ حيث أظهر لنا ذلك التحوّل ؛ كيف فسحت الممارسات القديمة في الحياة الريفية المتمثلة في موقع إريدو القديم ؛ الطريق في بروز مدينة أوروك بنظام اجتماعي اقتصادي سياسي جديد. وكان يجب أن يحدث ذلك في مكان ما من العالم . وبمجرّد مايبدأ سلوك التحضر، تتغير جميع الأفكار والمفاهيم التي تعيق عجلة التغيير .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ستيفن بيرتمان ـ دليل الحياة في بلاد الرافدين القديمة ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2005 .
صموئيل نوح كريمر ـ السومريون: تاريخهم وثقافتهم وشخصياتهم ـ مطبعة جامعة شيكاغو ـ 1971 .
پول كريڤاشيك ـ بلاد الرافدين مولد الحضارة ـ ثوماس دوني للنشر ـ 2014 .
گويندولين ليك ـ بلاد الرافدين من الألف إلى الياء ـ سكاريكرو للنشر ـ 2010 .
أماندا پوداني ـ الشرق الأدنى القديم: مقدمة قصيرة جداً ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2013 .

#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات