عساسي عبدالحميد
الحوار المتمدن-العدد: 1717 - 2006 / 10 / 28 - 07:06
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الملاح .....هذه تسميته عندنا بالمغرب الأقصى و هو تجمع سكاني،و أصل تسميته بالملاح يعود إلى عهد المرينيين في الثلاثينيات من القرن الخامس عشر الميلادي حيث كان موقع عند مدخل مدينة فاس تجمع فيه مادة الملح قبل توزيعها فكان الموقع أول تجمع خاص باليهود و منذ ذالك الحين تم تعميم مصطلح الملاح ليتم تداوله بين الأوساط المسلمة و اليهودية كحي محاط بأسوار عالية له بابان في غالب الأحيان يقطنه اليهود؛ و قد عمد سلاطين المغرب على تجميع اليهود بهذه الأحياء و كان الملاح قريب من قصر السلطان من أجل توفير الأمن و الحماية لهذا العنصر نظرا لدوره الفاعل في تنشيط الحياة العامة و لكونه مصدر من مصادر تزويد خزينة الدولة بالمال؛ و قد ساهم الملاح في الحفاظ بشكل كبير على الخصوصية اليهودية لمئات السنين و قد عرفت مدن مغربية أخرى الملاح بعد فاس فكان لمراكش ملاحها الذي بني في أواسط القرن السادس عشر الميلادي و كان لمكناس ملاح مشهور و للصويرة كما أسلفنا في زمن السلطان محمد بن عبد الله كان لها هي الأخرى ملاح اكتسب شهرة و صيتا نظرا للدور الاقتصادي الذي كان يلعبه آنذاك و كانت ملاحات أخرى لا تقل أهمية بالرباط و سلا و تطوان و وزان ....و كان لكل ملاح " مقدم " و نواب يمثلون الطائفة و ينوبون عنها أمام السلطات و يرعون مصالحها و يعملون على حل مشاكل اليهود فيما بينهم ، و داخل أسوار الملاح أو بالقرب منها يتواجد كنيس للعبادة و الصلاة و مدرسة لتلقين مبادئ الكتابة و الدين بيد أن أسلوب التدريس عرف تغييرا عند نهاية القرن التاسع عشر الميلادي بتحديثه و عصرنته و فق الأسلوب الأوروبي الحديث فأنشئت لهذه الغاية مدارس خاصة بالطائفة اليهودية على الطراز الغربي تلقن فيها إلى جانب اللغة العبرية اللغتين الفرنسية أو الاسبانية و الرياضيات و باقي العلوم و المعارف الأخرى و كان لظهور هذا النوع الحديث من التعليم أن أحدث تخوفا و تحفظا عند الكثير من رجال الدين اليهودي المتشبثين بالطريقة التقليدية في التعليم .....و كان الملاح يعج كذلك بالمحلات التجارية المختلفة التي تبيع المواد الغذائية و دكاكين العطارة و الملابس و مختلف الحرف الأخرى كما كان الملاح لا يخلوا من محل أو أكثر للجزارة حيث تباع اللحوم و فق الأصول و الشريعة اليهودية .....و كان جزا من المعاملات التجارية يتم خارج الملاح مع المسلمين و اليهود فقد كان الكثير من التجار الكبار و الصغار يقصدون الأسواق الموسمية لعقد الصفقات و المتاجرة في الأغنام و الأبقار و الابل و الدجاج و البيض و التمور و الحبوب و السكر و الشاي و الألبسة و غيرها من السلع ...و عند انفضاض السوق يعودون للملاح حيث أطفالهم الصغار بانتظارهم و انتظار حلوى السوق؛ و داخل هذا الفضاء كان اليهود يقيمون أعراسهم و أفراحهم و يحيون مواسمهم و أعيادهم بدفء و شاعرية ؛ بيد أن هذا الملاح الذي ظل يشكل و لفترة طويلة جزءا من التراث و الذاكرة نجده في أواسط القرن الماضي يعرف نزيفا مهولا و تقلصا في ساكنته فلم يعد في يومنا هذا من الملاح غير التسمية و الجدران؛ و حتى القليل من اليهود الذين بقوا بالمغرب قد هجروا الملاح و اقتنوا دورا وسط الأحياء العصرية و يعرف الملاح من حين لآخر بعض الزيارات ليهود مغتربين يراودهم الشوق و الحنين لرؤية مراتع الصبا فيقفون أمام منازلهم العتيقة التي غادروها منذ سنين لساعات طوال يحدقون في أبوابها و شرفاتها و يجوبون دروب و أزقة الملاح جيئة و إيابا؛ فيطلبون من ساكنيها الجدد و هم من المسلمين الإذن بالدخول لإلقاء و لو نظرة واحدة عليها ؛ فيحصلون على ذالك دونما إشكال ليدخلوا و يطيلوا النظر على جدران البيوت و أسقفها و يطوفون داخل الدار موطئا.... موطئا....و يلمسون كل موقع و زاوية حيث تختزن لديهم أكثر من ذكرى و صورة ؛ فمنهم من يذرف دمعة حارة حارقة؛ و منهم من يتنهد بحزن و لوعة على الأيام الخوالي .....أيام الملاح الزاهية .....و منهم من يلتقط صورة أو اثنين تخلد لذكرى رقيقة مؤثرة لن تنمحي؛ و منهم من يتقاسم الحديث مع المسنين من المسلمين لساعات طويلة فيجذبهم الحديث تلو و الحديث نحو الماضي الجميل ؛ أيام كانوا صبية يتسلون و يمرحون ؛ و يتفرجون على الكبار و هم يلعبون الورق ....و تتذكر النساء عرائس القصب التي كانت تتفنن في صنعها الأنامل الرقيقة ذات يوم؛ و صدى صوت الأم أو الجدة و هو يتدفق عذبا رقيقا كنغمات الناي و كركرة الجدول بين أزقة و دروب الملاح الضيقة العتيقة و هي تغني و تهلل لمقدم عيد الأنوار المحبوب ؛ و رائحة الحلوى بكل صنوفها و تلاوينها و هي تنبعث من الكوات الصغيرة و مائدة ( ميمونة ) و سويعات ( البوريم ) الصاخبة الضاحكة .......ثم ينسلون بهدوء تاركين المكان بصمت و خشوع ؛ ذالك المكان الذي تركوا فيه قطعة من قلبهم و خيالات رقيقة من وجدانهم و ذاكرتهم ؛ دون أن تشبع أعينهم من فضائات الملاح الساحرة أو من روحه الخالدة ؛ و دون أن يطفئوا لوعة الشوق و الفراق بزيارة خاطفة كهذه.....
#عساسي_عبدالحميد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟