ظاهر شوكت
الحوار المتمدن-العدد: 1716 - 2006 / 10 / 27 - 08:37
المحور:
الادب والفن
كعادته، استيقظ ضحى الجمعة متاخرا ، متثائبا ، نهض من سريره ، امتدت يده اليسرى ليرفع (بجامته) ، بينما راحت يده اليمنى تحك راسه بلا هدف ،قسمات وجهه مشدودة تقطر تعبا واضحا ، خطا خطوات مفضوحة الاصوات ،والقى بنفسه على الكرسي في الشرفة المطلة على الساحة الواسعة قبالة الشقة التي يسكنها ، تلك الساحة المرعبة ليلا بجدرانها الصم والتي قسمتها الى مربعات غير متساوية واوجار .
حين صافحت عيناه النخيل الصابرة ، المطلة على الساحة ، كرر بحماس واحتراق اسئلته التي لم يجد لها اجابات تقنعه منذ زمن : بستاننا هناك ، كانت تجود بالفرح والزيتون ، كيف سرقت وتشظينا ؟ هذا ما لا استوعبه انا ؟! فكيف اطالب الاخرين او اتوقع منهم استيعاب الحالة؟!
اطلق حسرة ، ثم اسرع وبلغة من يكتشف الان لغزه المحير ،مبتسما قال : انها النار التي خبت ، النار تاكل كل شئ الا الذهب فهو يزداد لمعانا كلما تعرض لنار حامية ، فحين خبت نارنا ، تكاثرت الطفيليات وانتشر السرطان في كل مفصل ، توقف لحظة معجبا بهذا التعبير ، واصلت الافكار تتناسل في راسه من غير حياء او رحمة ، عيناه تحدقان في لا شئ ، وكأنه يصغي الى اصوات في رأسه ، ويحرص على ترجمتها ، ثائرا قال : ولكن كيف خبت نارنا ؟
عض على شفتيه وبقوة : لا تقل خبت وانما انطفأت ، ثم بلهجة اشد استنكاراَ : لا تقل انطفات وانما قل اطفئت . ضرب بقوة على الطاولة ، وهل هناك من لا يدري كيف اطفئت ؟ الم يتعاون الجن والانس على اطفائها ؟ ملايين الاطنان من التراب والبارود هالو عليها ليمنعوا وصولها الى الذهب ، فهم يدركون خطر اتقادها ، هذا هو الذي حدث ، امسك برأسه بكلتا يديه وكأنه يحاول ان يمنعه من التشظي ، وردد بحزن عميق : يا الهي اما لهذا الليل من اخر ؟!!
انتفض مستنكرا : اوو..... عدت ثانية الى الاسطوانة المشروخة ؟! كفى ، ثم بصوت اعلى كفى كفى ، لكنه توقف مبهورا وكأنه عثر على جواب حقيقي لكل الاسئلة التي تغلي في رأسه المسكين بلا رحمة :
انها ارادة الله ، فلو لم يكن راضيا عما جرى وعما يجري لغير الحال ، الم يقل في كتابه انه اقرب الينا من حبل الوريد ؟ ! الم يقل ياعبادي ادعوني استجب لكم ، فهل من المعقول انه لا يوجد رجل صالح او امرأة صالحة شريفة او طفل بريء يدعوه ؟ فلماذا لا يستجيب ؟! شعر بشيء من الخوف يسري في دمه ، فهز رأسه عاجزا يستغفر ويكرر : اعوذ بالله ، اعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ربي عفوك .
خطا نحو المغسلة ، شرع يغسل وجهه على نحو آلي ، افكاره كانت تتقطع مع كل قبضة ماء ، تتلاشى في اصواتها ، داهمه سؤال جديد ، وماذا ستطبخ اليوم ؟ ابتسم ببرود ، ثم تحولت الابتسامة الى ضحكة هازئة ، انت مجنون حقا ، هل تناولت الفطور حتى تفكر بالغداء ؟! الم اقل لك ان الشرقيين لا يفكرون الا بمعداتهم و...........؟
وهو يتناول لقيمات مع الشاي الحار ، قرر ان يطبخ الفاصوليا الجافة ، انها حلم اخضر للشرقيين ، فهي تملا البطن ، تنفخه ، ثم تمتد اليد لتلامس البطن بحركة دائرية اعلانا عن العافية .
* انت غبي حقا ، كيف نسيت ؟ الم تنقع الفاصوليا مساء امس لتنتفخ ويسهل طبخها ؟
*وضع القدر المليئة بالفاصوليا الجافة والطماطم ولوازم اخرى على النار ، ثم اسرع الى المذياع محاولا العثور على اغنية قد توقد شمعة في زوايا روحة المتعبة ، لحظات وانتابه السأم ، فاقفل المذياع ، وعاد الى جلسته قبالة النخيل الصامتة ، الصابرة ، حاولت الافكار جذبه مرة اخرى الى البستان هناك ، لكنه تغافل بقوة ، وتشاغل عنها باعداد لوازم حلاقة لحيته ، وهو يدندن ليقمع اشياء في داخله ، هذا ما ادركه تماما .
بعشق نظر في المرآة ، مرر يده على جوانب خده قائلا بدهشة المكتشف : حلاقة رائعة ، يالك من شاب وسيم ! ثم تحسر : ولكنك خائب كمئات الالوف من الذين ضاعوا ويضيعون على ارصفة الغربة اللعينة ، شعر في داخله بصوت يؤنبه : لا تجحد فضل ربك ، فانت تختلف عنهم ، انك تعمل بامان وضمان ، اما اولئك فهم يمضغون هاجس الخوف من اشياء كثيرة ، وباستمرار
جلس مرة اخرى على الكرسي ، القى بذراعيه على الطاولة ، راح يبحر عبر النخيل قبالته الى النخيل هناك ، حفنات دسمة من ذكريات طفولته وشبابه المتقد في البستان هناك ، تذكر جيدا كيف كان يحدق في القمر بلا خوف ، كيف كان يضحك من حرارة الشمس بالسباحة في نهر البستان ، ثم يجلس على كتف النهر يلتهم الكمثرى بشغف ، يملا بطنه بالتمر الطري ، يلقي النواة تلو الاخرى في النهر لتشكل دوائر يتابع اتساعها حتى تتلاشى ، يميل براسه مصغيا بعشق الى اصوات البلابل والهزار ، ثم يصرخ باعلى صوته : احبكم ، احبكم ، احبكم، ويتلذذ بسماع الصدى ، بعدما يرسم على كتف النهر صورة حبيبته التي لم يطلع على اسمها الا الله وهو.
نهض مذعورا اثر شمه لرائحة كريهة اخترقت خياشيمه ، انتصبت اذناه وكانه يتوجس السمع ، جحظت عيناه بفزع واضح ، وهو يكرر الشم حتى اقتنع بانها تأتي من الساحة المقابلة .
زادت دقات قلبه ، غاب الدم من وجهه ، لم تعد قدماه تحملانه بثقة ، اندلق لسانه يمسح شفتيه الجافتين جدا ، حاول ابتلاع ريقه ، قد تكون هناك جثة قتيل القيت في الساحة ، انها الطامة الكبرى فانا رجل غريب ، من سيصدقني ؟ من سيرحم دموعي واحتراقي ؟ لقد كنت دوما اسمع منهم عباراتهم الجارحة : انك تقبض بالعملة الصعبة ، ولاحطت البعض ينظر بشهية مفتوحة للحسد الى شقتي المعلقة ، الا يحق لي ان اتوقع منهم ............؟ صحيح ، انا لست شحاذا ولا سارقا ، وانما اعمل بكفاءتي ، بشهادتي ، ولكن هل يمنع هذا اولئك الذين يذوبون حسدا من ان يفكروا باساليب للمساومة ؟ توقع كل شئ ، الم يكفهم ما سببوه لك هناك ، ولكن لماذا كل هذا ؟ لماذا ؟ ما زلت غراً تلتهمك الطفولة ، فلو فكر الناس على النحو الذي تفكر به انت ، لما احتاجوا الى المحاكم ولا الى الشرطة ، انتبه الى نفسه : ها عدت الى الفلسفة ثانية ؟ هيا تصرف .
وجد نفسه على الارض ، كيف نزل السلم ؟ بالضبط لا يدري ، وكالمجنون راح يبحث في زوايا الساحة ، تسلق السور كقرد خائف ، وجد خلفه جلدة خروف بين الاشواك ، تسلل بعض الامان الى قلبه ، اذن هذه .........لكنه انتفض قائلا : ولعلها حشيت بالجثة ! كاد قلبه يمزق صدره ليفلت ، وهو يمد يده اليها ، شعر براحة لذيذة حين تاكد من انها قديمة ، فارغة ، لكنه شعر بعطش شديد ، عاد ادراجه ساخرا من افكاره السود ، لكن قلبه كان يقطع عليه الشعور بالامان ، انه يضطرب بقوة .
جلس الى الطاولة يقول : انك سئ الظن ، تبالغ في الامور ، لماذا تفكر على هذا النحو ؟ الجميع هنا صاروا يعرفونك ، فانت لا تعرف الا القلم والورقة التي تندلق عليها افكارك الحزينة ، الجارحة دوما ، انت ........نهض مذعورا حين لطمت الرائحة الكريهة ثانية انفه ، عاد يرتجف ، اخرج لسانه مرات ليمسح شفتيه ، اخترقت راسه فكرة مأمونة حين قال لنفسه : الا يحتمل ان تكون الفاصوليا عفنة ، اسرع الى (الطباخ) ، شم الفاصوليا بعمق ، لكنه لم يجد فيها ما يؤكد اعتقاده ، مد اصبعه فيها فوجدها باردة ، انحنى ليرى النار فوجدها قد انطفأت ومنذ زمن ، اخذ يصرخ فرحا :انها النار ايضا ، ثم اطلق حسرة حارة : آه لو استمرت متقدة.
#ظاهر_شوكت (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟