أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حامد خيري الحيدر - أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الرابع















المزيد.....



أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الرابع


حامد خيري الحيدر

الحوار المتمدن-العدد: 7603 - 2023 / 5 / 6 - 22:47
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


رغم الكثافة السُكانية في الجانب الأيمن لمدينة الموصل الذي يرجع سَببه الى طبوغرافية هذا الجانب المرتفعة ورغبة قاطنيه على مدى الزمن لسُكناه من أجل الحماية الطبيعية، لكن بالمُقابل يُعدّ الجانب الأيسر من المدينة بما كشفته التنقيبات والتحريات الأثرية أكثر قدماً وأبعد غولاً في تاريخها، قياساً الى حداثة السكن فيه نسبياُ، والذي يرجع معظمه الى اواسط القرن العشرين، حيث تقع فيه وأطرافه العديد من المواقع الأثرية التي تعود الى أدوار وثقافات مُتعددة لفترتي العصرين الحجري الحديث والحجري المعدني، منذ مطلع الألف السادس وحتى أواسط الألف الرابع قبل الميلاد، والسبب في ذلك أن هذا الجانب المُمتدة مساحته نحو الشمال والشرق يَضّم أكثر الأراضي الزراعية خُصوبة بين سهول محافظة نينوى، بسبب طبيعة تربتها المَزجية السوداء الصالحة للزراعة، وغزارة الأمطار الساقطة عليها على مَدار العام، مما جَعلها مَحط أنظار الأنسان القديم ليُشيد مُستوطناته الزراعية البدائية عليها، وفي ذلك تُمثل مدينة نينوى الاثرية من بين تلك المواقع إضافة الى شَغلها مساحة كبيرة من الجانب الأيسر، حالة تاريخية خاصة، يتوثق فيها تواصل الاستيطان منذ تلك الحِقب الغابرة وحتى أواخر الفترات التاريخية.
وما أن يَعبر الزائر لمدينة الموصل نحو جانبها الأيسر، حتى تلتقيه مباشرة تلال تُرابية عالية تشّد النظر إليها من بعيد، تجعله مَشدوهاً لفترة من الوقت ظاناً للوهلة الأولى بأنها تضاريس أرضية من نتاج الطبيعة، لكنه سُرعان ما يَتيقن بعد مشاهدته الجدران الحجرية الضخمة التي تتقدمها، أن تلك المرتفعات ما هي في الحقيقة سوى أطلال أسوار هائلة تُحيط مدينة كبيرة مُترامية الأطراف، تُشير بوضوح الى مدى قوة مُشيديها وشدّة بأسهم، ولعل أجمل مشهد يُمكن أن يُرى ويُمتع الناظر حينها، هو عندما يُرتقى ذلك السور الترابي الضخم الترابي، وهو ما يَطيب أن يفعله العديد من شباب الموصل عند الغروب، ساعتها لابد ان تأخذ العيون بالتطلع مذهولة نحو تلك المدينة العظيمة الهائلة المساحة، مُحتضناً إياها سورها الضخم المَنيع، لتبدو باتساعها الشاسع كأنها مدخل لفردوس فسيح لا نهاية له، يُشمخ عند قسمها الشمالي "تل قوينجق" وعند الجنوبي "تل النبي يونس"، اللذان شَيّد عليهما الملوك الآشوريون قصورهم الفارهة ومبانيهم الفخمة، لتختزل ضخامتهما هيبة التاريخ الآشوري بأسره، حينها لابد بالخيال أن يَسرح بعيداً نحو الأنسان العراقي الصابر المُثابر الذي بَنى تلك الصروح على مدى الزمن، فمَهما بلغت عظمة "نينوى" يبقى هو الأعظم بالتأكيد.
تقع مدينة "نينوى" الأثرية على الجانب الأيسر لمدينة الموصل الى الجنوب من منطقة المجموعة الثقافية، وتبعد عن نهر دجلة بحدود كيلومتر واحد، علماً أن النهر كان في السابق يَمتد بمحاذاتها تقريباً، قبل أن يُغيّر مَجراه نحو جهة الغرب حيث مَساره الحالي، وقد تم الاعلان عن أثرية أطلالها في الجريدة الرسمية للدولة العراقية عام 1935، وتُعّد هذه المدينة الكبيرة بتاريخها الموغل في القدم العاصمة الرابعة والأخيرة للإمبراطورية الآشورية بعد "آشور" و"كالخو" و"دورشروكين"، لكنها أيضاً وفق التسلسل التاريخي لاعتماد العواصم من قبل السلالات الآشورية الحاكمة تكون الثالثة بعد "آشور" و"كالخو"، وكما غَدت هذه المدينة إثر انتصاراتها وسيطرتها رمزاً لعظمة الآشوريين وجبروت سلطانهم، فقد شَهدت كذلك مأساة نهايتهم ودمار إمبراطوريتهم وأفول نجمهم السياسي، عند سقوطها المُدمّر على يد التحالف البابلي الميدي عام 612ق.م، لينتهي معها العصر الآشوري العتيد برُمته، بما حَمَله من أحداث جِسام ليس في وادي الرافدين فحسب وإنما في عُموم منطقة الشرق الأدنى القديم.
لقد دَلّت التحريات والتنقيبات الأثرية التي أجريّت في المدينة على أنها قبل أن تغدو بعظمتها هذه، كانت إحدى قرى العصر الحجري الحديث منذ مطلع الألف السادس قبل الميلاد، ثم أخذت تنمو فيما بعد خلال أدوار ما قبل التاريخ المتتالية، لتعقبها بعد ذلك الحِقب السومرية والأكدية والبابلية عند الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، حتى أن أسمها يُعّد سومري الأصل، يُماثل أسم أحدى مدن مَملكة "لكَش" السومرية في جنوب العراق، وهي مدينة "نينا" التي تُعرف آثارها اليوم بـ"تلول سَركَل" الواقعة في محافظة ذي قار، حيث وَرَد أسم المدينة في الكتابات المسمارية بصيغة "نينو" أو "نينوا" أو "نينا"، مُلحقاُ بها العلامة المسمارية الدالة على المدن "كي" السومرية و"آلو" الأكدية، بعدها أخذت "نينوى" بالتعاظم والتوَّسع مع التزايد المُطَّرَّد لقوة الآشوريين السياسية والعسكرية، ليُتخذ منها في حدود 1080ق.م عاصمة لدولتهم أول مرة من قبل الملك "تجلاتبلاسر الأول" 1115_1077ق.م في آخر أيام مُلكه، لتظل مقراً للملوك الأشوريين على مدى قرنين من الزمن تقريباً، قبل أن يُعيد الملك "أشور ناصربال الثاني" 883_859ق.م مقر الحكم الى العاصمة القديمة "كالخو"/"النمرود".
وعند الرَدح الأخير من العصر الآشوري الحديث 705_612ق.م غَدت "نينوى" حاضرة العالم المُتمدن آنذاك، بعد أن أصبحت بلاد أشور القوة العظمى الأولى في منطقة الشرق الأدنى القديم، في زمن الملك "سنحاريب" 705_681ق.م ثاني ملوك السلالة السرجونية(1)، الذي أشتهر بنشاطه الكبير في حقل البناء والتعمير وأنشاء مشاريع الرَي، حيث أعاد مقر الحُكم إليها ليجعل منها من جديد العاصمة الأولى للمملكة الآشورية، مُزيداً من توسعتها عدة أضعاف، فبعد أن كان مُحيطها لا يتجاوز ثلاثة كيلومترات ونصف، أصبح بحدود أثني عشر كيلومتراً، أقتطع فيها أحياء سكنية واسعة للأهالي تفصلها شوارع عريضة مُمهدة، كما شَيّد فيها القصور الفارهة والمعابد الكبيرة والأبنية الرَسمية الضخمة، وغَرَس فيها البساتين المُثمرة والحدائق الخضراء المُزهرة، جالباً إليها نباتات غريبة ونادرة من مناطق مختلفة وبعيدة من العالم، من بينها شجرة القطن التي أسماها في كتاباته.. (الشجرة التي تحمل الصوف)، كما مَهّد الطرق التي توصل عاصمته الكبيرة بالمدن الآشورية الأخرى والأقاليم البعيدة.
لتغدو "نينوى" مع توسعها الجديد وامتداد أرضها الفسيحة في زمن "سنحاريب" ثاني أكبر مدن وادي الرافدين والعالم القديم قاطبة بعد مدينة "بابل"، إذ تصل مساحتها الى ما يُقارب ثلاثة آلاف دونم، وهي ذات شكل مستطيل غير مُتساوي الأضلاع، يُقسّمه نهر "الخوصر" الى شَطرين بطريق مَصبه في نهر دجلة، يبلغ مُحيطه بحدود أثني عشر كيلومتراً، يمتد من الشمال الى الجنوب، وكانت تَحمي هذه المدينة الشاسعة المساحة تحصينات دفاعية قوية جداً، حيث يُحيطها سور عال ضخم مُشيّد باللِبن على أسس من الحجارة، يبلغ ارتفاعه بحدود الثلاثين متراً وسُمكه يَزيد على العشرين متراً، فيه خمس عشرة بوابة كبيرة، شُيّدت على شكل قلاعٍ مُحصّنة ضخمة، اختلفت عمارتها وتصميمها من واحدة لأخرى، حيث كانت بمَثابة مداخل مُهيبة نُصبّت على جوانبها تماثيل الآلهة الحارسة "لماسو"، مُمثلة بالثيران المُجنّحة الضخمة المنحوتة بشكل فني رائع من حجر المَرمَر، كما احتوت كل منها على حُجرات لإقامة الجند ومَشاجب لأسلحتهم ومُعداتهم، وقد سُميّت بعضها على أسماء آلهة آشورية، وبعضها الآخر على أسماء مُدن وبلاد تتجه نَحوها، علماً أنه قد وَردت عدد من الإشارات في بعض النصوص الملكية الآشورية، تُبيّن وجود ثلاث بوابات أخرى لم تكتشف أطلالها أو تحدد أماكنها في السور بعد.
ويبلغ طول الضلع الشمالي لهذا السور 2100م ويحوي على ثلاث بوابات هي.. "أدد"، "نركَال"، "سين" التي تُسمى أيضاً "كيراتي" أي "بوابة الحدائق". أما الضلع الشرقي فيبلغ من الطول 5000م ويحوي ست بوابات هي.. "سنحاريب" والتي تُسمى أيضاً "خالزي" نسبة الى بلاد "خالزو" التي تتجه نحوها، "شَمَش"، "ننليل"، "مشلال" أي "المعبد الخاص"، "شبانيبا" نسبة الى مدينة "شبانيبا" الآشورية(2)،"خلاخي" نسبة الى مدينة "خلاخي" الأشورية(3). ويحوي الضلع الغربي البالغ من الطول 4100م خمس بوابات هي.. "ماشكي" /"بوابة الإسقاء"، "بابكاري"/"بوابة الميناء" أو "بوابة المُسناة"، "مدباري"/"بوابة الصحراء"، "أكالي ماخرتي"/"بوابة السلاح"، "خندوري". أما الضلع الجنوبي البالغ طوله 800م فيحوي على بوابة واحدة هي "آشور". وقد أعيد بناء عدد من هذه البوابات وفق تصميمها وشكلها الأصلي، مثل بوابات.. "نركَال"، "ماشكي"، "أدد"، "شَمَش"(4).
كما شُيّد أمام هذا السور الضخم سور آخر بالحجارة الضخمة المُهندمة مُدّعم بأبراج كبيرة وتعلو أطرافه العليا شُرفات مُقرنصة، تراوح ارتفاعه ما بين عشرة أمتار وخمسة عشر متراً وسُمكه أكثر من ثلاثة أمتار، يتقدمه خندق مائي عميق، عُرضه ما بين ثمانية وعشرة أمتار من الجهتين الشمالية والجنوبية، أما في الجهة الشرقية فكان الخندق هائل العرض والعمق أشبه بوادٍ كبير، عُرف لدى أهل الموصل باسم "وادي الدملماجة"، فيما جُعل من نهر دجلة المُحاذي للمدينة حامياً لها من الجهة الغربية، ولعل وجود هذه التحصينات الضخمة والقوية جداً يجعل الباحث في التاريخ الآشوري يضع علامة استفهام كبيرة حول كيفية السقوط السريع للمدينة الذي اعقب حصار قصير نسبياً فرضته الجيوش "الكلدية" و"الميدية" المُهاجمة، والذي لم يتعدى الثلاثة أشهر حسبما ذكرت بعض الكتابات المسمارية اللاحقة، وعن سبب ذلك الانهيار المفاجئ للقوات الآشورية المدافعة.
ومن أجل ديمومة ورود المياه الى "نينوى" حيث أن نهر "الخوصر" يَشّح بمائه صيفاً، كما أن مستوى نهر دجلة منخفض كثيراً عن أرض المدينة مما يجعل من العسير استغلاله لغرض الإرواء، لذلك فقد جلب "سنحاريب" المياه العذبة الى المدينة من نهر "الكومل" الذي يجري في منطقة جبال "بافيان" بشمال وادي الرافدين، عبر قناة اصطناعية مُشيّدة بالحجر المُهندم تمتد لأكثر من خمسين كيلومتراً، بعض من أجزائها كانت عبارة عن قناطر عالية تحمل سواقي عريضة مُعلقة تجري المياه عليها سَيحاً، لازالت أطلالها قائمة عند قرية "جروانة" التي تبعد بحدود أربعين كيلومتراً شمال الموصل، ليَصّب بالمياه في نهر "الخوصر" ويديم ملأه وجريانه على مدار العام، وحسب كتابات هذا الملك فقد استمر العمل بهذا المشروع الكبير قرابة ثلاثة عشر سنة، ثم ليستمر التعمير والبناء في المدينة، وأن كان بوَتيرة أقل خلال حكم أبنه "أسرحدون" 681_669ق.م، ثم حفيده "أشوربانيبال" 669_626ق.م.
وقد شُيّدت مَواضع سُكنى الأهالي وثكنات الجُند والمُنشآت العامة الأخرى في وسط المدينة، أما مُجمّع القصور والمعابد والأبنية الرسمية التي تُعرف بـ"المدينة الملكية"، فقد أتبّع معها نفس الأسلوب المُعتمد في تخطيط المدن الأشورية الأخرى، الذي يَقضي بتَشييدها عند أحد أطراف المدينة وملاصقة لسورها، ثم تُحصّن بسور ضخم عال كي تُعزل عن باقي أجزاء المدينة الأخرى التي تُخصص لعامة الناس، وفق ذلك فقد بُنيّت تلك المَبان فوق التليّن الاصطناعيين الكبيرين "قوينجق" و"النبي يونس" المُلاصقين لسور المدينة الغربي، الأول عند القسم الشمالي من المدينة والثاني عند قسمها الجنوبي، حيث يفصل بين القسمين نهر "الخوصر"، الذي وَرد في كتابات الملك "سنحاريب" بنفس الصيغة تقريباً "خوسر" أو "خوزر"، وكذلك في المصادر التاريخية العربية بذات الاسم، وهذان التَلان يُمثلان مَراحل الاستيطان العديدة المُتعاقبة التي تمّت في المدينة، حيث أثبتت التنقيبات والتحريات الأثرية فيهما، أن الطبقات الأثرية السُفلى منهما تعود الى فترة العصر الحجري الحديث، وتحديداً للدور الحضاري المعروف باسم "حسونة" بفخاره المُميّز خلال الألف السادس قبل الميلاد.
فيما يَخص "تل قوينجق" فهو هائل الحجم، ذو شكل بيضوي يمتد من الشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي بطول كيلومتر واحد، وبعرض نصف كيلومتر تقريباً، ويقارب ارتفاعه الثلاثين متراً، أما بالنسبة لتسميته "قوينجق" فهي كلمة تركية مُركبّة، تتكون من كلمتين "كوي" بمعنى "قرية" و"أنجيك" هم جماعة من التركمان، حَلوا في المنطقة وشيّدوا قرية كبيرة فيها، سكنوها لفترة طويلة من الزمن عند هذا الجانب من مدينة "نينوى"، كما يَرى بعض الباحثين أن "قوينجق" كلمة تركية قديمة تعني "مذبح الغنم". وقد تعرّض هذا التل للأسف أسوة بالعديد من المواقع الأثرية في العراق خلال القرن التاسع عشر الى النَبش الجائر، حين كانت الدولة العثمانية تعاني آنذاك فترة ضعفها ووهنها التي انتهت بنهايتها، حيث تهافت العديد من جامعي الآثار القادمين من الدول الكبرى وفي مقدمتهم بريطانيا وفرنسا، لنَهب ما تيّسر لهم من تلك المواقع، من لقى وتُحف ومنحوتات ثمينة.
وقد كان "أميل بوتا" نائب القنصل الفرنسي في الموصل أول من تَحرَّى في "تل قوينجق" عام 1842، أعقبه البريطاني "هنري لايارد" ومساعده "هرمز الرسام"، اللذان تمّكنا على مدى سنوات عديدة من الحفر والنبش غير العلمي من استخراج العديد من المنحوتات الحجرية ونقلها الى المتحف البريطاني، وقد كانت حفرياتهم العَبثية تتم بشكل أنفاق ومَمرات عميقة يحفرونها في جوانب التل للوصول الى الطبقات المُبتغاة من قبلهم والتي تضّم المنحوتات والقطع الأثرية، من دون تبني أسلوب التنقيب السطحي العمودي، الذي يوثق تسلسل وتعاقب الطبقات الأثرية وتتابع الأدوار الحضارية التي تُمثلها، حيث قَلبت حفرياتهم تلك التربة عدة مَرات، مما أدى الى تدمير الطبقات الأثرية العليا من التل والتي تمتد لعمق يُقارب السبعة أمتار من ارتفاعه، وكان أثمن ما تم سرقته من "تل قوينجق" هو مكتبة الملك "أشور بانيبال" التي احتوت أكثر من ثمانية وعشرين ألف لوح مسماري مدوَّنة باللغتين السومرية والأكدية، تضمّنت نصوص أدبية وعلمية ومعاجم لغوية وكتابات دينية، تم نقلها بالكامل الى المتحف البريطاني.
أما التنقيبات العلمية الحقيقية التي أجريّت في "تل قوينجق"، فقد بدأت بها مدرسة الآثار البريطانية في العراق(5) عام 1931، برئاسة عالم المسماريات "كامبل تومبسن" ومساعدة عالم الآثار "ماكس مالوان" زوج الكاتبة الشهيرة "أجاثا كريستي"، حيث حَفر "مالوان" حينها مَجّساً اختبارياً عميقاً للتأكد من أثرية التل، وكونه تلاً اصطناعياً يُمثل تعاقب الاستيطان فيه والمُمتد الى حِقب زمنية قديمة، من خلال تشخيص تسلسل طبقاته ومعرفة أدوارها الحضارية، بعد أن كان يَظن معظم الآثاريين ومنهم "تومسون" نفسه، أن القصور الآشورية في مديننة "نينوى" قد تم تَشييدها على مرتفع طبيعي من الصخور الرَملية، لا يقل ارتفاعه عن عشرين متراً لوقايتها من أخطار فيضانات نهر دجلة، ليتَمَّ إثر حفر هذا المُجّس لأول مرة وبشكل علمي دقيق، تحديد وتوثيق التسلسل التاريخي للأدوار الحضارية لوادي الرافدين.
حيث تَبيّن أن أكثر من سبعين في المئة من ارتفاع "تل قوينجق" يعود الى عصور ما قبل التاريخ، تبدأ طبقاته الأثرية من الأسفل عند "الارض البكر" مع فترة العصر الحجري الحديث "حسونة+سامراء" 6000_5000ق.م، تليها فترات العصر الحجري المعدني "حلف+العُبيد الشمالي" 5000_3500ق.م، ثم فجر التاريخ/"أوروك" 3500_3200ق.م، بعدها الدور الشبيه بالتاريخي "جمدة نصّر" 3200_3000ق.م، يعقبها دور "دويلات المدن السومرية" 3000_2370ق.م، الذي سُميت الطبقة الأولى منه في هذا التل حينها بـ"نينوى5" لعدم معرفة عائدية لقاها الأثرية، بعدها الدورين "الأكدي" و"السومري الحديث" 2371_2006ق.م، لتنتهي في الأعلى بالطبقات "الآشورية" ثم "الهلنستية" و"الفرثية" التي تستمر على امتداد الألف الأول قبل الميلاد، ثم تليها الفترات "الساسانية" و"الرومانية" و"الاسلامية" عند قمة التل.
وكان أهم الأبنية التي كشَفتها التنقيبات الأثرية في هذا التل على مدى السنين هي قصر الملك "سنحاريب" المعروف بـ"القصر الجنوبي الغربي" والذي كان يَضمّ أكثر من سبعين قاعة كبيرة مُزينة بالمنحوتات الحجرية البارزة بالإضافة الى عدد من الساحات الواسعة، وقصر الملك "آشور بنيبال" المعروف بـ"القصر الشمالي" الذي كان يَحوي المكتبة الشهيرة لهذا الملك، وأيضاً معبد الإلهة "عشتار" ومعبد الإله "نابو"، بالإضافة الى أسس زقورة المدينة، أما أهم القطع الأثرية التي عُثر عليها، فقد كانت الرأس البرونزي الجميل الذي يُعتقد أنه يعود للملك "سرجون الأكدي" 2371_2316ق.م أو حفيده الملك "نرام سين" 2291_2255ق.م، والذي وجده "مالوان" لدى وصوله بحفر مَجسه العميق عند الطبقة الأكدية، ضمن معبد مُكرّس لعبادة الإلهة "عشتار".
أما "تل النبي يونس" فهو بنصف حجم "تل قوينجق" لكن بنفس ارتفاعه تقريباً، لذلك في الغالب تكون الطبقات الأثرية التي يحتويها بتَعاقب أدوارها الحضارية تُماثل "تل قوينجق" الى حدٍ بعيد. وقد سُميَّ هذا التل في المصادر العربية باسم "تل التوبة"، كما أسماه الرحالة باسم "تل يونس"، استناداً الى القبر الذي تُنسبه الكتب الدينية خطأ الى نبي الله يونس، المُلقب بـ"ذي النون" الواردة قصته المشهورة مع الحوت في الكتب المُقدسة، والمذكور في التوراة باسم "يونان بن أمتاي" كما عُرف لدى المسيحين بـ"يونس بن متي". واستناداً الى هذا الاعتقاد فقد شَيّد العرب المسلمون بعد سيطرتهم على مدينة الموصل بقيادة "رَبعي بن الأفكل العنزي" سنة 16هـ/637م، جامعاً على السَفح الغربي من التل حيث يوجد القبر المَزعوم.
علماً أن عدداً من المَصادر التاريخية تذكر أنه كان في هذا الموقع دير كبير للرهبان، شُيّد في الغالب خلال القرن السادس الميلادي، كان يُسمى "دير يونان"، مدفون فيه البطريرك "حنا نيوشع الأول" المتوفي في مطلع القرن الثامن الميلادي، قد جرت إزالته من قبل المُستوطنين المسلمين لغرض بناء هذا الجامع، لذلك فمن الراجح جداً أن القبر المَنسوب وَهماً للنبي يونس هو في الحقيقة يعود لذلك البطريرك. وقد ظل التَمسّك بما رَوته الكتب الدينية عن صاحب القبر مُتوارثٌ بين الناس، حتى غَدى بديهية لا يجوز التحدث بخِلافها، وفق أسلوب خلق مَعبود أو مُقدس مُفترض ليس له وجود، من أجل مَنح الأهمية لتجمع سكاني مُعيّن قد يكون قرية أو مدينة أو مُستوطن ما، وهذا الشيء قد رافق بواكير نشأة المدن في وادي الرافدين منذ مطلع الألف الخامس قبل الميلاد.
وقد تم تجديد هذا الجامع وتوسعته في زمن الحكام "الأتابكة"، خلال تعميرهم لمدينة الموصل في القرن الثاني عشر الميلادي، لكنه تعَرض للاستباحة من قبل جند الملك الايراني "نادر شاه" أثناء حصاره لمدينة الموصل عام 1743، ليُعاد ترميمه في مطلع القرن التاسع عشر مع مئذنته العالية، التي يُستدل على وجودها من خلال نص كتبه المُقيم البريطاني في العراق "كلوديوس ريج" خلال رحلته الى الموصل عام 1813، حيث ذكر.. (مُررت من تحت مئذنة عالية لجامع معروف لدى سكان المدينة باسم النبي يونس). وما تَجدر الإشارة والتنويه عنه أن الصندوق الخشبي الموضوع على القبر المُقدس في الجامع هو فقط لتغطية فتحة سرداب عميق يوجد أسفله، يتم النزول إليه عن طريق سُلم مُدّرج يؤدي الى مكان القبر الحقيقي للشخص المدفون هناك.
وبعكس "تل قوينجق" فأنه لم تُجرى تنقيبات واسعة من قبل الأوربيين في هذا التل للاستحواذ على آثاره، بسبب وجود الجامع والضَريح، وقد حاولوا ذلك فعلاً كما ذَكر بعظهم في كتاباته لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً، حيث كان أهالي المنطقة بمَثابة حُرّاس أمناء عليه، لا يَسمحون إطلاقاً للأغراب بالاقتراب منه أو الحَفر عند جوانبه، لكن رغم ذلك فقد جَازف عدد من الآثاريين العراقيين الرواد في أواخر عقد الخمسينات، وحاولوا ليلاً إجراء بعض الحفريات أسفل الجامع عند السفح الغربي من التل، لكن سكان المنطقة ما أن شعروا بهم وعلموا بأمرهم حتى لاحقوهم بالمَعاول والفؤوس وكادوا أن يفتكوا بهم، ناعتين إياهم بالزنادقة الذين لا يَكنّون حُرمة لمقامات وأضرحة أنبياء الله وأوليائه(6)، ومن المؤكد أن تلك الحماية العفوية من قبل السكان للجامع، قد ساهمت بشكل كبير في الحفاظ على التل وما احتواه طيلة الأزمان الماضية.
بالمقابل لم يكن "تل النبي يونس" بحظ أخيه "قوينجق" الذي نَجا تقريباً من امتدادات وتوسع المدينة الحديثة وتجاوزات السُكنى عليه، حيث أن المنطقة المحيطة به للأسف والتي تُمثل القسم الجنوبي من مدينة "نينوى" والمُمتدة حتى نهر "الخوصر" شمالاً، قد جَرى التجاوز عليها من قبل أهالي الموصل خلال عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، بعد أن تم استقطاع ثلثي مساحتها تقريباً، لتُشيّد عليها عدداً من الأحياء السكنية تجاوزاً على المدينة القديمة، مما أدى الى فقدان أراضي أثرية واسعة غَدت اليوم تحت أسس تلك الأحياء، وبالتالي ضياع الكثير من معالمها التاريخية، ومن هذه الأحياء.. "السويس"، "النعمانية"، "الجزائر"، "الدركَزلية"، "النبي يونس"، بالإضافة الى اتخاذ سكان المدينة منذ فترات قديمة من سفوح التل أسفل الجامع مقبرة كبيرة لموتاهم تبرّكاً بالجامع المُشيّد عليه.
من جانب آخر فقد تمكنت المؤسسة الآثارية العراقية، من إجراء تحريّات وتنقيبات مَحدودة عند الجانب الشرقي من التل عام 1986، بعد العثور صدفة على جزء من ثور مُجنح، وبعد الكشف عنه بالكامل تَبيّن أنه منحوت من عدة قطع حجرية، وهذا أسلوب غير مألوف في نَحت الثيران المُجنحة المكتشفة سابقاً، والتي كان يتم نحتها من قطعة واحدة فقط من الحجر، وقد كان هذا الثور بارتفاع يقارب الأربعة أمتار وعرض أربعة أمتار ونصف، كما تم الكشف حينها أيضاً على بعض القطع الحجرية المُتكسرة التي تَبيّن أنها كانت أجزاء من لوحة جدارية كبيرة، تُغطي جانباً من ساحة واسعة تُمثل أحدى تفاصيل قصر الملك الآشوري "أسرحدون"، الذي ذكر في حولياته الملكية.. (شَيّدت قصراً كبيراً لا مثيل له على قمة "التل الجنوبي" في "نينوى")(7)، وللأسف لم تُستكمل تلك التحريات بسبب وقوع القسم الأكبر من ذلك القصر أسفل الجامع مباشرة.
علماً أنه صَدَر في عام 1989 أمر ساذج وغير مَدروس من رئاسة جمهورية العراق، يَقضي بإجراء عمليات ترميم واسعة لجامع النبي يونس، امتدت حتى عام 1992 تضمنت أكسّاء الجوانب الشمالية والغربية والجنوبية من التل بحَجر الحلان، مع إنشاء سلالم حجرية ومَصاطب مُدرّجة لزراعة الاشجار الكبيرة الدائمة الخضرة، مما أدى الى قلب تربة هذه الجوانب بشكل كبير، وبالتالي إحداث تخريب هائل في طبقاتها الأثرية بما تحويه من آثار هامة تمتد الى أدوار تاريخية عديدة، بحالة مُماثلة من قِصَر النظر التي دَعَت الى إعادة بناء (تخريب) مدينة بابل التاريخية(8).
ومن المؤكد أن الحديث عن مدينة "نينوى" سَيَقصُر ولا يكتمل، من دون التَطرّق الى مدينة آشورية أخرى قريبة منها، تربض عند ضواحي الجانب الأيسر لمدينة الموصل وطبيعتها الجميلة، تُعتبر مُكملة لها وشاغلة لجزء هام من تاريخها، رغم صغرها ومَحدودية تأثيرها على الأحداث السياسية الكبرى التي رافقت التاريخ الآشوري، ألا وهي مدينة "تربيصو"، التي تُعرف كذلك لدى الباحثين بـ"مدينة ولاية العهد".
تقع أطلال هذه المدينة الى الشمال الغربي من "نينوى" الأثرية بمسافة ثمانية كيلومترات تقريباً، وقد شُيّدت على جزءٍ من هذه المسافة الكبيرة اليوم أبنية ومرافق جامعة الموصل (المجموعة الثقافية)، وتُعرف تلك الأطلال باسم "تل شريخان" الذي هو تحوير مَحلي لأسم "شريف خان" نسبة الى قريتين تُعرفان بنفس الاسم، الأولى الى الشمال من الموقع بمسافة مئة متر وتُسمى "شريف خان العليا"، والثانية الى الجنوب منه بمسافة مئتي متر وتُسمى "شريف خان السُفلى"، وكان "هنري لايارد" أول من تَنبّه الى أهمية الموقع خلال جَولاته الكشفية في المناطق المحيطة بـ"نينوى"، حيث حفر فيه عدد من المَجسّات الاختبارية لتبيان مدى ثراه باللقى الأثرية، ليتركه بعد فترة قصيرة ويُباشر الحفر في "تل قوينجق" داخل العاصمة "نينوى".
تتوسط "تربيصو" سَهل ذو تربة خصبة تصلح لزراعة الكثير من المَحاصيل الزراعية يقع شمال الجانب الأيسر لمدينة الموصل، والى الغرب من حي "الرشيدية"، وهذه المدينة واسعة المساحة تمتد نحو السهول المُجاورة باتجاه الشمال والغرب بمسافة تزيد على الكيلومتر، المُستوطن الرئيسي فيها الذي يُمثل المدينة الملكية بما تَحويه من قصور ومعابد وأبنية رسمية أخرى يقع في الزاوية الجنوبية الغربية منها، ويَتمثل بتل كبير يرتفع بحدود عشرة أمتار عن الأرض المحيطة به، وهو ذو شكل مستطيل يَمتد من الشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي بطول مئتين وخمسين متراً وعرض مئة وخمسين متراً، ويَحيط بالموقع سور ترابي يتقدمه خندق مائي عميق، وقد اثبتت التنقيبات أن أقدم طبقات الموقع تعود الى عصور ما قبل التاريخ، وأن معظم الابنية التي تم الكشف عنها فيه تعود لعهد الملك "سرجون الثاني" 721_705ق.م وأبنه "سنحاريب".
وَرَد أسم "تربيصو" في عددٍ من النصوص المسمارية الآشورية المتأخرة، وهو مُشتق من الفعل الأكدي "رباصو" بمعنى "أستراح"، "أستقر"، "سَكن"، "هَدأ"، الذي يقابله في العربية الفعل "رَبضَ" بمَعنى "آوى"، "لجأ"، علماً أن هذا الفعل مَعروف في معظم اللغات الجزرية "السامية" وبنفس المعنى تقريباً، فهو مستخدم في اللغة العبرية والمندائية والسريانية بصيغة "رَبصَ". وتذكر النصوص الآشورية من زمن الملك "سنحاريب" أن المدينة قد تأسست في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وتحديداً في زمن الملك "شلمنصر الثالث" 883_859ق.م، حيث جُعل منها مقراً لإقامة ولي العهد الآشوري، ليتم فيها تدريبه وتنشئته نشأة خاصة اجتماعياً وعسكرياً وثقافياً استعداداً لتوليه منصبه مستقبلاً.
وقد أستمرت "تربيصو" مقراً مَلكياً ومركزاً دينياً حتى نهاية الدولة الآشورية، حين سقطت العاصمة "نينوى" عام 612ق.م على يد التحالف "الميدي" "الكلدي" حيث قام هؤلاء بتَدميرها وحَرقها واستباحة مَبانيها، وهذا ما بدا واضحاً من آثار الرَماد الكثيف الذي كشفت عنه التنقيبات الاثرية في جميع أبنية المدينة، لتُهجر بعدها فترة طويلة من الزمن، ثم ليتّم الاستيطان في بعض المناطق المحيطة بها خلال الفترتين "الفرثية" و"الإسلامية" على شكل قرى صغيرة، بالإضافة الى جعل من أحدى تلالها الأثرية مقبرة لسكان قريتي "شريف خان" في أواسط القرن العشرين.
وكانت قد أجريت في الموقع تنقيبات هامة، أجرتها بعثة تنقيب أثرية تابعة لجامعة الموصل برئاسة أستاذ الآثار القديمة الراحل الدكتور عامر سليمان، خلال الاعوام 1968_1970، كشفت خلالها عدداً من المباني الهامة، منها معبد كبير يَضّم عدة ساحات كبيرة تُحيطه العديد من الغرق والقاعات، كُرّس لعبادة الإله "نركَال" إله العالم الأسفل والذي تُشير النصوص المسمارية أنه كان الإله الحامي لهذه المدينة، ومن الأبنية المهمة الأخرى قصر ولي العهد المُسمى بالآشورية "بيت ريدوتي"، الذي ألحق به بناءً غريباً واسعاً، يحوي على حوضٍ كبير بالإضافة الى عدد من الأحواض الصغيرة الأخرى، جميعها مُشيّدة بالآجر ومُسيّعة بالقار لغرض ملأها بالماء، التي كانت تُجلب عن طريق قناة مَبنية بالآجر أيضاً تمتد لمسافة عشرين متراً، يتم تصريفها من جهة أخرى عن طريق أنبوب فخاري قطره بحدود ثمانين سنتمتر وفق نظام هندسي دقيق جداً، ولم تُعرف طبيعة هذا البناء أو وظيفته على وجه الدقة، حيث لم يُعثر على مَثيل أو مُشابه له في أبنية العراق القديم الاخرى سواء في شماله أو جنوبه، لكن استناداً الى بعض النصوص المسمارية المُكتشفة في الموقع، أنه كان يُسمى "بيت رَمكي"، ويعني "بيت المَسبح المقدس" أو "بيت الاغتسال المقدس"، مما يدعو للاعتقاد أنه مُخصص لأجراء طقوس ملكية خاصة ذات طابع مُقدس لأجل حياة الملك وولي عهده.
ومن وجهة نظر الكاتب الخاصة فأن مدينة "تربيصو" كانت بالإضافة الى كونها مدينة مُخصصة لتنشئة ولي العهد، فقد كانت تؤدي غرضاً هاماً آخر، هو ضَمّها البناية المقدسة المُسماة "بيت أكيتي"، التي كانت تُجرى فيها مراسيم تجديد ولاية الملك خلال أعياد رأس السنة الجديدة المعروفة باسم "عيد أكيتو"، والذي كانت تُشيّد عادة أما خارج المدينة أو في أحد أطرافها البعيدة، وفي حال مدينة "تربيصو" فأنه خلال تلك الفترة المفصلية من التاريخ الآشوري، لم تكن تلك المراسيم السنوية تَخصّ تجديد ولاية الملك فقط بل كذلك ولي عهده أيضاً، من خلال مُمارسة طقوس دينية ورَمزية مُشتركة يؤديانها معاً، من بينها الأرتماس بالماء، من أجل الحصول على (الشرعية الإلهية) لتولي المُلك، وذلك بسبب الظروف السياسية المُعقدة والنزاعات الحادة والصراعات الدموية التي واجهت تولي ولاة العهد الآشوريين لمَناصبهم، مثل الملك "سنحاريب" وأبنه "أسرحدون"، وهذا الملك بدوره مع أبنه "أشور بانيبال"، وهذه الأحواض ووظيفتها المُفترضة تدعونا للتنويه والإشارة الى أحواض مُشابهة لها الى حدٍ ما وأن كانت بحجم أصغر، كان قد تم الكشف عنها سابقاً داخل عدد من الأبنية في مدينة "أريدو" السومرية في جنوب وادي الرافدين، تعود الى أواسط الألف الرابع قبل الميلاد، والتي لابد أن تَمنحنا مع تلك القرائن التاريخية، فرصة للتأمل والتفكير والمُقارنة مع طقوس التعميد بالماء الجاري لدى أبناء الصابئة المندائيين.
ومن الجدير بالذكر أنه تم الكشف خلال تَشييد مجموعة مَبان جامعة الموصل، عن طريق واسع مَرصوف بالحجارة ، يوصل بين بوابة "نركَال" الواقعة في الضلع الشمالي لمدينة "نينوى" بالجانب الجنوبي الشرقي لمدينة "تربيصو"، ومن المُرجّح أن هذا الطريق كان يُستخدم لمُرور المواكب الملكية المُتجهة بين المدينتين خلال الاحتفالات والمناسبات الرَسمية والدينية، في حالة مُشابهة لشارع الموكب في مدينة بابل.

الهوامش:

1_ السلالة السرجونية... آخر وأقوى سلالة حَكمت الامبراطورية الآشورية الحديثة، توّلت الحكم للفترة 721_612 ق.م.... مُتمثلة بأربعة ملوك أقوياء، هم... سرجون "شرو كين"، سنحاريب "سين أخي أريبا"، أسرحدون "آشور أخي أدينا"، آشوربانيبال "آشور باني أبلي".
2_ شبانيبا... مدينة آشورية تقع قرب مدينة بعشيقة، الى الشمال الشرقي من مدينة "نينوى" بمسافة خمسة وعشرين كيلومتراً، وتعرف أطلالها اليوم باسم "تل بلا".
3_ خلاخي... مدينة آشورية تبعد عن مدينة "نينوى" بحوالي خمسة عشر كيلومتراً، على طريق منطقة الشلالات السياحية، شُيّدت على أطلالها قرية عامرة تسمى بـ"قرية العباسية"، تسكنها عشيرة "السويدان".
4_ للأسف تم تدمير جميع هذه البوابات مع تجريف أجزاء واسعة من سور المدينة على يد عصابات "داعش" الإجرامية لدى احتلالهم مدينة الموصل ومحافظة نينوى خلال الأعوام 2014_2017.
5_ مدرسة الآثار البريطانية في العراق... مؤسسة علمية تعنى بالبحوث التاريخية والآثارية الخاصة بوادي الرافدين ومنطقة الشرق الأدنى القديم، تأسست عام 1931 تخليداً لذكرى السياسية والدبلوماسية البريطانية الشهيرة "كَيرترود بيل" الراعية الأولى لآثار وادي الرافدين عند تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1920، أرسلت العديد من البعثات الآثارية للتنقيب في مدن العراق القديمة ومواقعه الأثرية، كما عمل ضمنها العديد من مشاهير علماء الآثار، تصدر مجلة سنوية تحت عنوان "IRAQ" لنشر البحوث الاثارية الخاصة بهذا البلد، تحول أسمها عام 2007 الى "المعهد البريطاني لدراسة العراق".
6_ هذه المعلومة أفاد الكاتب بها أستاذه الراحل في علم الآثار الدكتور طارق مظلوم الذي كان أحد أولئك الآثاريين المغامرين الرواد.
7_ ورد "تل النبي يونس" في الكتابات الملكية الآشورية باسم "التل الجنوبي" بينما وَرد "تل قوينجق" فيها باسم "التل الشمالي".
8_ تم تدمير جامع النبي يونس مع مئذنته وتَجريف مساحات واسعة من سفوح تله الأثري، من قبل عصابات "داعش" الإجرامية عام 2014، بالإضافة الى حفرهم أنفاق عميقة فيه لغرض الحصول على آثاره ومنحوتاته.

المصادر:

_ أحمد سوسة ...مشروع سنحاريب لإرواء منطقة نينوى ... مجلة المجمع العلمي العراقي/ المجلد التاسع ... بغداد 1961
_ أيثيل (ليدي) دراور ... في بلاد الرافدين ... ترجمة/ فؤاد جميل ... بغداد 1961
_ بهنام أبو الصوف ... دور التنقيبات الأثرية في الكشف عن حضارة العراق القديم ... حضارة العراق/ الجزء الأول ... بغداد 1985
_ جابر خليل أبراهيم ... تخطيط المدن ... موسوعة الموصل الحضارية/ الجزء الأول ... الموصل 1991
_ جابر خليل أبراهيم ... الأنشطة الآثارية ... موسوعة الموصل الحضارية/ الجزء الأول ... الموصل 1991
_ سامي سعيد الأحمد ... المدن الملكية والعسكرية ... المدينة والحياة المدنية/ الجزء الأول ... بغداد 1988
_ سعيد الديوجي ... جوامع الموصل في مختلف العصور ... بغداد 1963
_ طارق مظلوم ... نينوى في ضوء التنقيبات الأثرية ... سومر/ 23 ... بغداد 1967
_ طه باقر ، فؤاد سفر ... المُرشد الى مواطن الآثار والحضارة/ الرحلة الثالثة ... بغداد 1966
_ طه باقر ... مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة/ الجزء الأول ... بغداد 1973
_ عامر سليمان ... اكتشاف مدينة تربيصو الآشورية ... آداب الرافدين/ المجلد الثاني لسنة 1971 ... الموصل
_ عامر سليمان ... الآثار الباقية ... موسوعة الموصل الحضارية/ الجزء الأول ... الموصل 1991
_ فؤاد سفر ... أعمال الإرواء التي قام بها سنحاريب ... سومر/ 3_ ج1 ... بغداد 1947
_ قحطان رشيد صالح ... الكشّاف الأثري في العراق ... بغداد 1987
_ A. T. Olmstead … History of Assyria … CHICAGO 1960
_ H. Saggs … The Might That was Assyria … LONDON 1984
_ M. Mallowan … Twenty Five Years Of Mesopotamian Discovery … LONDON 1965
_ M. Mallowan … Mallowan`s Memories … LONDON 1977
_ S. Lloyd … The Archaeology of Mesopotamia … LONDON 1978



#حامد_خيري_الحيدر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثالث
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثاني
- أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الأول
- مدينة الحَضر التاريخية .. متحف وسط الصحراء
- بناية القشلة وصور من ذكريات بغداد
- إلمامة بتاريخ المؤسسة الآثارية العراقية
- إشارة تاريخية إلى الزَلازل في شَمال العراق
- التنقيب الأثري ... مهنة المَتاعب والمَشاق والمَهارات المُتعد ...
- مدخل الى علم الآثار
- مناضلٌ من ذاك الزمان ... سيرة حياة المناضل الشيوعي الراحل خي ...
- البيت العراقي القديم ... القسم الثاني
- البيت العراقي القديم ... القسم الأول
- أهم المدن التاريخية والمواقع الأثرية في وادي الرافدين ... ال ...
- أهم المدن التاريخية والمواقع الأثرية في وادي الرافدين ... ال ...
- المعتقدات الدينية والمجتمع العراقي القديم ... القسم الثاني
- المعتقدات الدينية والمجتمع العراقي القديم ... القسم الأول
- هل قُتِل فؤاد سَفر؟
- ملاحظة على موضوع بلاد ما بين النهرين أزلية الوجود
- بلاد ما بين النهرين أزلية الوجود
- لأجلِ عُيونكم ... مهداة لشهدء انتفاضة تشرين الباسلة


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حامد خيري الحيدر - أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الرابع