|
نظرة على مستقبل الجيوش في الجمهوريات العربية
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 7597 - 2023 / 4 / 30 - 14:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بدرجات متفاوتة من التفاعل بين عوامل خارجية وداخلية المنشأ في كل حالة على حدة، قد تفككت وتلاشت بالفعل بعض من كبريات الجيوش العربية مثلما الحال في كل من العراق وسورية. التي لحقت بها جيوش أخرى من مستوى أقل كما في ليبيا واليمن. حتى أكبر الجيوش العربية تجربةً وعدداً وعتاداً، كتلك القائمة في مصر والجزائر، لم تسلم من ذات مسببات العدوى والمرض التي في نهاية المطاف أودت بحياة أربعة جيوش كاملة. فلا يزال الجيشان المصري والجزائري يواجهان تحدياً متصاعداً لنفوذهما ويخوضان حرباً لا تنقطع ضد جماعات لا تنفك عن الجرأة على مهاجمتهما في عقر دارهما، غالباً على الحدود وأحياناً في العمق. وبين تلك التي قد انهارت بالفعل وهذه التي لا تزال تقاوم، تأتي فئة ثالثة يمثلها حالياً الجيش السوداني تحت قيادة البرهان واقعة الآن في أتون حرب وجود ضد الثائرين والمتمردين على سلطتها. في جميع الحالات، كانت الوجهة العامة لجيوش الجمهوريات العربية واضحة وضوح الشمس منذ عقود، نحو ضعف بطيء وتدريجي ماضٍ في صمت اعقبه انهيار سريع ومفاجئ. لقد تأكد هذا الاتجاه بجلاء للعيان عقب هزيمتها على يد نظيرها الإسرائيلي في 1967، لكن نذره وأسبابه الحقيقية كانت أعمق وأسبق من ذلك بكثير.
تعود الجذور الحقيقية للمشكلة الحاضرة إلى حقبة انتزاع الأقطار العربية المتعددة لاستقلاليتها وسيادتها الوطنية من المستعمرين الأوروبيين، إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، خلال القرن الماضي. فعلى الرغم من أن الجيوش النظامية العربية آنذاك لم تلعب دوراً يُذكر في سبيل بلوغ هذه الغاية أو تحققها في نهاية المطاف، إلا أنها قد وجدت نفسها فجأة وسط المعمعة فور تحقق الاستقلال والسيادة الوطنية في كل دولة عربية على حدة. في الحقيقة، كانت كل هذه الجيوش النظامية الوطنية متداخلة ومتعاونة بدرجات متفاوتة مع حكومة الدولة الغربية المستعمرة وحكومة الدولة الوطنية الواقعة تحت الاستعمار والمؤتمرة بأمره في آن واحد. لكنها في الحالتين قد بقيت ’نظامية‘ بالمعنى الحقيقي للكلمة- قوات مهنية احترافية تفويضها ومهامها الأساسية الدفاع عن أمن البلاد والعباد وحماية نظام الحكم القائم بصرف النظر عن طبيعته، أو من قد أقامه في الأصل، أو من يقومون على إدارته وتسييره في الوقت الراهن، أو من يتنافسون علي اعتلاء سدته مستقبلاً، حتى لو ائتمرت في سبيل ذلك بأوامر من مستعمر أجنبي وصلتها عبر القنوات الرسمية لحكومتها الوطنية. وهذا يفسر، مثلاً، التناقض البادي في موقف الجيش المصري المسالم والمتواطئ ظاهرياً إزاء الاحتلال الإنجليزي لمصر خلال تلك الفترة؛ طالماً كانت الأوامر تأتيه بذلك من حكومته الوطنية المصرية فما عليه إلا أن ينصاع وينفذ، ليس له أن يشكك أو يطعن في هذه الأوامر لأنه بذلك سيتخطى حدود وظيفته النظامية الأصلية وينتهك وظيفة أخرى اختصاصها الأصيل صناعة الأوامر، أو يتحول إلى ما يُنعت اليوم "اشتغال الجيش بالسياسة". هذا، تحديداً، هو الوضع الذي وجدت فيه الجيوش النظامية العربية نفسها فجأة عقب تحرر بلدانها أولاً من الاستعمار الأجنبي، ثم بعد مدة وجيزة من سيطرة أنظمة الحكم الوطنية المتعاونة معه في الماضي.
رغم أنها لم تقدم مساهمة تُذكر في مجهودات تحرير بلدانها من الاستعمار الأجنبي، إلا أن الجيوش العربية وجدت نفسها فور رحيل المحتل في بيئة مغايرة تماماً لما كانت قد ألفته وتأسست وفقاً لمبادئه من قبل. لقد كشف رحيل المستعمر الأجنبي عن التراب العربي عن حقيقة أن أغلب ما كان قائماً في عهده كان لا يزيد عن نباتات زينة عقيمة استزرعت بطريقة مصطنعة في غير بيئاتها ومواسمها الطبيعية. وحدها الجيوش كانت ضاربة بجذور عميقة في هذه التربة السياسية القاحلة، وقادرة على الانبات والازدهار في كل المواسم وطوال فصول السنة. وقد خلقت هذه الحقيقة السياسية الجلية مفارقة مدهشة سيتحدد على أساسها ليس فقط مستقبل هذه الجيوش، لكن أيضاً مستقبل دولها ومستقبل العلاقة مع مستعمريها السابقين.
إذا كان البلد في حقيقة الأمر يعدم أي مؤسسة قادرة على الحل والعقد في موطنها ووسط أهاليها إلا الجيش، فماذا ستفعل أنت الذي له مصالح في هذا البلد، سواء كنت من أبنائه أو من خارجه؟ ولما كان هذا هو بالفعل الواقع المحلي على حقيقته في هذه الدول حديثة العهد بالاستقلال، كان من الطبيعي والمتوقع أن يتحول تيار المصالح والمعاملات- الداخلية والخارجية على حد سواء- ليصب في موضع واحد: الجيش. في الماضي، كان الجيش لا يملك إلا أن ينصاع لأوامر تأتيه من حكومته المحلية وينفذها حتى لو كان لمصلحة حكومة أجنبية؛ الآن، بعد رحيل الجيوش المحتلة وسقوط أوراق التوت عن عورات أنظمة الحكم المحلية المتعاونة معها في السابق، وجدت الجيوش العربية نفسها فجأة كمن سقط صدفة في مغارة علي بابا، أو هبط من الفضاء على جنة بلا صاحب، رغم أنها ربما لم تطلق قذيفة واحدة في سبيل إزاحة المحتل. باختصار، وجدت جيوش الجمهوريات العربية نفسها فجأة مقصداً ومحجاً ليس فقط لكل الطامحين في السلطة وأرباب المصالح من أبناء أوطانها، لكن أيضاً لكل أجنبي له حاجة أو مصلحة يريد أن يقضيها هناك، وعلى رأسهم المستعمرون السابقون أنفسهم.
هكذا أصبح الجيش هو ذاته السياسة في بادئ الأمر. لكن هذا الوضع الشاذ أنتج صراعات وانقلابات عسكرية مدمرة أقنعت حتى رجالات الجيش أنفسهم باستحالة استمراره. ومن ثم نجح أحد العسكريين المصريين، جمال عبد الناصر، بعد صراع مع منافسه العسكري الآخر اللواء محمد نجيب، في إزاحة الجيش درجة عن هذا الارتباط المدمر بالسياسة. وتبع ذلك تعديلات مماثلة بدرجات متفاوتة بحسب الظروف الخاصة في سائر الجمهوريات العربية. لكن هؤلاء الحكام العسكريون أنفسهم، في ظل هذه الجغرافيا السياسية المحلية الكاشفة بعد الاستقلال التي كانوا يفهمونها جيداً، ما كان يمكنهم حتى التفكير في أخذ المسافة الصحية بينهم وبين جيوشهم التي أتوا منها كتلك التي كانت قائمة في العهد البائد بين الحكام والساسة من جهة وجيوشهم النظامية الاحترافية من الجهة الأخرى. مع عبد الناصر وبعد حقبة الانقلابات، لم يعد الجيش والسياسة شيئاً واحداً والشيء نفسه كما كان الوضع فور الاستقلال، بقدر ما أصبحا وجهين مختلفين لكن لعملة واحدة والعملة نفسها- الحكم.
مرت السنوات طويلة وثقيلة ومؤلمة على شعوب الجمهوريات العربية كافة. الرؤساء يأتون ويرحلون، الحكومات تتبدل وتتغير، لكن حقيقة الوضع ثابتة هي كما هي لا يمسها تعديل أو تغيير: المصالح والمعاملات الرئيسية، سواء الداخلية أو الخارجية المنشأ، لا يمكن أن تمر أو تتحقق من دون ضوء أخضر من الجيش وأجهزته الأمنية. ولما كانت السياسة بتعريفها هي شق القنوات لمرور المصالح والمعاملات وتنظيم وإدارة حركتها داخل القطر وخارجه، كانت جيوش الجمهوريات العربية بهذا الشكل صانع السياسات الحقيقي والفعلي في دولها، ولو من خلف قناع مدني.
في هذه الأثناء كانت البيئة المحلية لهذه الجمهوريات تتغير باستمرار، بفعل محفزات داخلية وخارجية المنشأ. الجغرافيا السياسية المحلية القاحلة فور الاستقلال أنتجت تدريجياً نوعاً من الوعي الذاتي السياسي الذي روى وأنضج أنواعاً عديدة من النبت البري العشوائي، بعضه لذيذ ومفيد لكن معظمه سام وشائك يمكن أن يُمرض الأوطان ويجرح فؤادها. في ظل هذا الوضع المتغير، حُفرت بالتدريج وفي الخفاء بعيداً عن أعين وقبضة الدولة الأمنية أنفاقاً متعددة تتسع لاستيعاب مصالح ومعاملات داخلية وخارجية المنشأ ما كانت لتجد من قبل قناة لتمر عبرها سوى مؤسسات دولة الجيش. أصبح لدى هذه البيئة المحلية غير الرسمية ما يُغري المصالح والمعاملات الداخلية والخارجية على أن تقصدها وتطرق بابها، بمستويات متواضعة في البداية لكنها تعاظمت بمرور الزمن. هكذا، في الوقت المناسب، تمكنت البيئة المحلية غير الرسمية العراقية من أن تقنع، ولو كذباً، الكفة الأرجح من المصالح والمعاملات الداخلية والخارجية المنشأ بأفضلية المراهنة عليها على حساب الدولة الرسمية. وهنا كانت نهاية الجيش العراقي بواجهته الرسمية. لكن هذه النهاية المؤلمة كانت، للأسف، مكتوبة ومقروءة بوضوح ساطع قبل ذلك بزمن طويل، في مرحلة التأسيس الوطني بعد التحرر من المستعمر الأجنبي.
للأسباب نفسها، وإلى النهايات المؤلمة نفسها، قد طويت بالفعل أيضاً صفحة الجيوش الجمهورية العربية بواجهاتها الرسمية إضافة إلى العراق في كل من اليمن وليبيا، وتقريباً في سوريا. بينما يخوض الجيش السوداني حالياً- من دون إصلاحات جذرية تعالج أخطاء مرحلة التأسيس وتأخذ في الحسبان متغيرات الجغرافيا السياسية المحلية- حرباً خاسرة قد حُسمت نهايتها سلفاً في أربع حالات مماثلة: العراق وسوريا واليمن وليبيا.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ميلشياوية من أزمة شرعية
-
كيف حُشِّرت مصرَ في العُنُق
-
الاستعمار بين المثالية والواقعية
-
حتى لا نخون الوطن بسبب طاغية: صدام نموذجاً
-
كيف نتطور؟
-
غزوة الصناديق الإسرائيلية
-
لماذا نعيش؟
-
هل كان غزو العراق كارثة أمريكية أسوأ من فيتنام؟
-
حلفاء روسيا هم قلة من الأمم المتنافرة والمتناقصة 2
-
حلفاء روسيا هم قلة من الأمم المتنافرة والمتناقصة
-
روافد السلوك السوفيتي .
-
إصلاح ما لا يمكن إصلاحه- الإسلام
-
روافد السلوك السوفيتي
-
ألا تكفي الحياة غاية نفسها؟
-
كذبة احترام العلمانية للأديان
-
مقاربة معرفية بين العلمانية والدين
-
عن حتمية المواجهة بين العلمانية والإسلام
-
اتحاد الديمقراطيات الشعبية العربية
-
حُقُوقِي
-
لا أمل في نصر روسي دائم
المزيد.....
-
أحمد الشرع يتعهد بتحقيق السلم الأهلي وإتمام وحدة الأراضي الس
...
-
إطلاق سراح ثماني رهائن إسرائيليين وتايلانديين من غزة، مقابل
...
-
ترامب حول إمكانية قبول مصر والأردن فلسطينيين من غزة: قدمنا ل
...
-
بيسكوف: لا اتصال بين بوتين وترامب بشأن حادث تحطم الطائرة في
...
-
القائد -الظل-.. من هو محمد الضيف؟ وما هي أبرز محطات حياته؟
-
إقبال كبير على المنتجات الروسية.. روسيا تشارك في معرض ليبيا
...
-
مبعوث ترامب: إعادة إعمار غزة قد تستغرق 10 إلى 15 عاما
-
الجيش السوداني يعلن استعادة مدينة أم روابة بشمال كردفان
-
تقرير يكشف معلومة -غريبة- عن حادث مطار رونالد ريغان الكارثي
...
-
-الشبح- الذي طاردته إسرائيل لعقود.. من هو محمد الضيف؟
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|