|
رواية للفتيان الحوت الصغير طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7596 - 2023 / 4 / 29 - 00:15
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
الحوت الصغير
طلال حسن
" 1 "
منذ أيام ، وأنثى الحوت ، تجوب وحيدة ، مياه المحيط ، على غير هدى . ووسط مياه لا تحدها سوى السماء ، توقفت مرة أخرى ، ومرة أخرى رفعت رأسها، وأطلقت صيحة حزينة ، مستغيثة : النجدة .. النجدة .. أنا هنا . وأنصتت ملياً ، لكنها لم تسمع غير صدى صوتها : النجدة .. النجدة .. أنا .. هنا ، ممتزجاً بأنين الريح ، ووشوشة مياه المحيط . ودمعت عيناها ، لا أحد يسمعها ، ولا يردّ عليها أحد ، في هذه المتاهة ، بين الماء والسماء ، اللهم إلا صغيرها، الذي يتحر بين فترة وأخرى في أحشائها ، ربما رغبة منه بالخروج إلى الحياة . لقد عاشت حياتها كلها ، ضمن قطيع الإناث ، يقودهنّ ويرعاهنّ ويحميهنّ ، ذكر قويّ محبّ ، وهي تريد لصغيرها ، الذي قد يولد في يوم قريب ، أن يعيش مثلما عاشت ، لا أن يضرب معها في تيه لا نهاية له . وتحرك صغيرها في أحشائها ، فندت عنها شهقة بين الألم والفرح . وتلفتت متطلعة نحو الآفاق البعيدة ، لعلها تقع على أثر لقطيعها ، الذي تاهت عن ، لكن لا فائدة ، فعلى امتداد البصر ، لم تكن هناك سوى المياه . وتناهت إليها ، عبر مياه المحيط ، دمدمات من بعيد ، وتملكها الخوف والقلق ، أهو الحوت القاتل ؟ أم الحبار العملاق ؟ أم مجموعة من القروش ؟ جذبتها وأفقدتها صوابها ، رائحة كائن بحريّ جريح ؟ وتراءى لها الحوت القاتل ، بزعنفته الظهرية العالية ، الرفيعة ، وفمه الرهيب ، المدجج بأسنان ضخمة على كلا الفكين ، يندفع من بعيد ، شاقاً المياه باتجاه القطيع. وفوجيء الذكر بهجومه ، فاستدار رغم خوفه وتردده ، وانطلق محاولاً اعتراضه ، ومنعه من الوصول إلى إناثه. واتجه الحوت القاتل نحوها مباشرة ، وقد فتح فمه على سعته ، وتلامعت أنيابه الخناجر ، فأسرعت صوب الذكر ، وهي تصيح : النجدة .. النجدة . وهنا ، ولحسن الحظ ، امتدت من نحت الماء ، أذرع طويلة قوية ، ذات أقراص ماصة ، مؤذية ، وأمسكت بالحوت القاتل ، إنه الحبار العملاق ، ولعله توهم ، فظنّ أنّ الحوت القاتل ، هو عدوه اللدود ، حوت العنبر . وانشغل الحوت القاتل بمقاتلة الحبار العملاق ، فمزق بأسنانه الخناجر ، العديد من أذرعه ، لكنه لم يستطع الإجهاز عليه ، إلا وقد أصيب بجروح بليغة و تمزقت قطع كبيرة من جلدة رأسه . وخلال تلك المعركة لاذ الذكر بالفرار ، وتشتت إناثه في جهات المحيط الأربع ، وحين أفاقت الأنثى الفتية من الصدمة ، وجدت نفسها وسط مياه المحيط ، التي لا تحدها سوى السماء .
" 2 "
ظلت الأنثى الفتية ، معظم تلك الليلة ، مستيقظة ، لا يغمض لها جفن . وحتى عندما أغفت ، قبيل الفجر ، كانت إغفاءتها كالعادة ، خفيفة متقطعة . فهي تخشى أن يمرّ بها أفراد القطيع ، ولا يروها ، وهم بلا شك ، يبحثون عنها في كلّ مكان ، منذ أن فرق شملهم الحوت القاتل . وخيل إليها ، أكثر من مرة ، أنها تسمع دمدمة قطيع من الحيتان . وظنت لسبب ما ، أنّ ما تسمعه كالعادة حلماً من الأحلام . وحين أفاقت صباحاً ، تبين لها أنّ ما سمعته ليلة البارحة، لم يكن حلماً ، بل حقيقة . فقد رأت ، تحت أشعة الشمس المتلألئة ، قطيعاً من الحيتان ، يشق طريقه على البعد ، وترسل نفاثاته سحابة من البخار ، تندفع إلى الأعلى ، مكونة قوس قزح ، غاية في الغرابة والجمال . ورفعت رأسها ، وأطلقت صيحة فرح ، ثم انتفضت ، وراحت تشق الماء بسرعة ، نحو القطيع ، وهي تصيح بأعلى صوتها : أنا هنا .. أنا هنا ، انتظروني . وتوقف الذكر ، وتوقفت معه إناثه ، وتطلع نحو مصدر الصوت ، ومعه تطلعت إناثه ، وقال متسائلاً : من المنادي ؟ وردت إحدى الإناث ، وهي تدقق النظر في البعيد : أظنها أنثى فتية . وقالت أنثى متقدمة في العمر : إنها على ما يبدو ليست من قطيعنا . والتفت الذكر إليها ، وقال : اذهبي ، وانظري ماذا تريد . وعلى الفور انطلقت الأنثى المتقدمة في العمر ، نحو الأنثى الفتية ، وقالت : حالاً . وصاح الذكر في أثرها : لا تتأخري ، علينا أن نواصل طريقنا نحو الشمال . وزادت الأنثى المتقدمة في العمر من سرعتها ، وهي تقول : أمرك يا عزيزي ، لن أتأخر ، سأرى ماذا تريد ، وأعود . وعلى الفور ، قطعت الأنثى المتقدمة في العمر ، حديثها مع الأنثى الفتية ، وقفلت عائدة بسرعة ، وقالت : المسكينة ، تاهت عن قطيعها ، بعد أن هاجمهم ، الحوت القاتل . وعلق الذكر قائلاً : هذا أمر لا يعنينا . وقالت الأنثى المتقدمة في العمر مترجية : إنها حامل ، وفي أيامها الأخيرة ، ومن الصعب أن تتحمل البقاء وحدها في مثل هذه الظروف . ولاذ الذكر بالصمت ، فتشجعت الأنثى المتقدمة في العمر ، وقالت : سأهتم بها وحدي ، إذا سمحت . ومضى الذكر ، يشق الماء ، مواصلاً طريقه ، والإناث يمضين في أثره ، وهو يقول : حسن ، وإن كنت أنت بحاجة إلى من يهتم بك . وبفرح غامر ، أشارت الأنثى المتقدمة في العمر ، للأنثى الفتية ، وصاحت بصوت خافت : تعالي ، تعالي بسرعة ، وانظمي إلينا ، هيا ، هيا .
" 3 "
ارتاحت الأنثى الفتية لوجودها بين إناث القطيع ، رغم أنّ الذكر لم يبد ِ أي اهتمام بها . وكلما التقت عيناها بعينيه ، وهو يستعرض إناثه ، ويتفقدهن الواحدة بعد الأخرى ، يشيح بوجهه عنها ، ويبتعد عن المكان الذي تتواجد فيه. ولذلك فقد حرصت دوماً ، أن تحيد عن طريقه ، وتبقى بين إناث القطيع ، وبالأخص قرب الأنثى المتقدمة في العمر . وبالرغم من خوف الإناث من الذكر ، إلا أنهنّ كنّ يتحيّن الفرص لإبداء تعاطفهنّ معها، ويحاولن طمأنتها والتخفيف عنها . وطالما سألتها الأنثى المتقدمة في العمر عن حملها ، فكانت تجيب قائلة : إنه يرفس في أحشائي . وتستطرد مبتسمة : لابد أنه ذكر غضوب . وتبتسم الأنثى المتقدمة في العمر ، وتقول : إنه مستعجل، يريد أن يأتي ، ويراك بأسرع وقت ممكن . وسألتها أنثى شابة مرة : أهو حملك الأول ؟ فهزت رأسها بالإيجاب مبتسمة ، فقالت الأنثى الشابة : لا عليك ، ستكون ولادتك أسهل مما تتصورين . وضحكت بصوت خافت ، وقالت : كدتُ أموت خوفاً ساعة الولادة ، لكن ما إن رأيتُ صغيري حتى غمرني الفرح ، ونسيتُ كلّ شيء . وذات ليلة ، والقمر بدر يطل من السماء ، أفاقت الأنثى المتقدمة في العمر ، على حركة خفيفة قربها ، ففتحت عينيها ، وإذا الأنثى الفتية تتسلل بهدوء ، مبتعدة عن القطيع . فانسلت وراءها دون ضجة ، وحاذتها قائلة بصوت خافت : عزيزتي ، الليل يكاد ينتصف ، من الأفضل أن تعودي إلى مكانك ، وسط القطيع . وتوقفت الأنثى الفتية ، وقالت بصوت متوجع : لا أستطيع ، يبدو أنني سألد . وأضاءت ابتسامة فرحة ، وجه الأنثى المتقدمة في العمر، وقالت : هذه بشرى سارة ، مهلاً ، سأستأذن الذكر ، ثم أرافقك حتى تولدي . وبدا التأثر على الأنثى الفتية ، وقالت : عفواً ، يا عزيزتي، إنني أتعبك ، وأسبب لك الكثير من الحرج . وربتت الأنثى المتقدمة في العمر عليها ، وقالت : لا تقولي هذا ، أنت الآن واحدة منّا . واستدارت عائدة إلى القطيع ، واقتربت من الذكر ، وهمست في تردد : سيدي . وفتح الذكر عينيه ، وتساءل بشيء من الاستغراب والغضب: ما الأمر ؟ فردت الأنثى المتقدمة في العمر في تردد أشدّ : إنها الأنثى الفتية .. الغريبة . وبنفاد صبر ، تساءل الذكر : ما لها ؟ فأجابت الأنثى المتقدمة في العمر : ستلد . وكاد الذكر أن ينفجر ، فسارعت إلى القول مترجية : المسكينة ، إنها أنثى وحيدة ، وتحتاج إلى من يساعدها . وأغمض الذكر عينيه ، وقال : افعلي ما تشائين ، هيا ، اذهبي ، ودعيني أنم . وقالت الأنثى المتقدمة قي العمر فرحة ممتنة : أشكرك ، أشكرك جداً ، يا سيدي . ومضت مسرعة ، وبدون ضجة ، إلى الأنثى الفتية ، وقالت لها بصوت هامس : هيا يا عزيزتي ، لنبتعد قليلاً عن القطيع ، وآمل أن تري صغيرك مع فجر الغد ، هيا نمضي ، هيا ، هيا .
" 4 "
لم ترَ الأنثى الفتية وليدها مع فجر الغد ، كما توقعت الأنثى المتقدمة في العمر ، بل رأته عند منتصف نهار اليوم التالي . وغمرها الفرح ، عندما سمعت غمغمته الشاكية للأول مرة ، كأنما يقول : ماما .. ماما . وحاول قرش جذبته رائحة الولادة ، التقرب من الحوت الصغير ، متحيناً الفرص لنهشه بأسنانه الرهيبة القاتلة ، وصاحت الأنثى الفتية ، وهي تحضن صغيرها : يا إلهي، القرش . واستدارت الأنثى المتقدمة في العمر بسرعة ، متصدية للقرش ، ولطمته على وجهه بذيلها الأفقي الجبار ، فتهاوى صارخاً نحو الأعماق ، ثم ولى مبتعداً ، حتى غاب في عتمة مياه المحيط . وتنفست الأنثى الفتية الصعداء ، وقالت : أشكرك ، لولاك لتعرضت أنا وصغيري للكثير من الأخطار . وردت الأنثى المتقدمة في العمر قائلة : هذا واجب ، فأنت بمثابة ابنتي . وقالت الأنثى الفتية ممتنة : أشكرك ، أشكرك جداً . وتطلعت الأنثى المتقدمة في العمر إلى الصغير ، وقالت : أنظري ، ما أجمله . ونظرت الأنثى الفتية إلى صغيرها فرحة ، وقالت : إنه يشبه أباه . وضحكت الأنثى المتقدمة في العمر ، وقالت : الذكر الصغار ، في رأي أمهاتهم ، يشبهون آباءهم دائماً . واحتضنت الأنثى الفتية صغيرها بحنان وتأثر ، فقالت الأنثى المتقدمة في العمر : صبراً ، يا بنيتي ، ستجدين قطيعك ، إن عاجلاً أو آجلاً ، وستعيشين أنت وصغيرك، سعيدين مطمئنين . وعند العصر ، انتبهت الأنثى المتقدمة في العمر ، إلى أنّ القطيع قد واصل طريقه ، واختفى عن الأنظار ، فالتفتت إلى الأنثى الفتية ، وقالت : هيا نمضي ، يا عزيزتي ، لعلنا نلحق بالقطيع ، قبل أن يخيم الظلام . واحتضنت الأنثى الفتية صغيرها ، وردت قائلة : لا أستطيع أن أمضي الآن ، إنني متعبة ، متعبة جداً . ولاذت الأنثى المتقدمة في العمر بالصمت لحظة ، ثم قالت بحرج : أنت تعرفين الذكر ، إنه متشدد لا يتسامح ، وسيغضب مني إذا تأخرت . وتنهدت الأنثى الفتية ، وقالت : لا عليك ، اذهبي أنت ، وسألحق بكم في أسرع وقت ممكن . وتململت الأنثى المتقدمة في العمر ، وقالت : أرجوك ، الحقي بنا على عجل ، فأنا لن يهدأ لي بال ، حتى أراك أنت وصغيرك معنا . وابتسمت الأنثى الفتية ، وقالت : اذهبي ، يا عزيزتي ، اذهبي ، رافقتك السلامة . ومضت الأنثى المتقدمة في العمر ، تشق المياه الهادئة بعزم ، كأنها عادت أنثى فتية ، حتى غابت عن النظر . وتململ الحوت الصغير ، مصدراً أصوات شاكية ، وفكرت الأنثى الفتية ، لابد أنه جائع ، فقربته من أثدائها، وقالت بصوت أمومي : ارضع ، يا بنيّ ، ارضع . وكأن الحوت الصغير أدرك ما قالته أمه ، فتشبث بأحد أثداءها ، وامتص منه على عجل ، حليباً غزيراً دافئاً غاية في الدسامة . وأسرعت الأنثى الفتية ، فرفعته فوق سطح الماء ، وضحكت فرحة ، حين رأته يشهق متنفساً مغمغماً : ماما .. ماما . وضمته إلى صدرها ، وقالت : نم الآن ، وارتح . أغمض الحوت الصغير عينيه ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .
" 5 "
عند الفجر ، بدأت الأنثى الفتية رحلتها للحاق بقطيع الحيتان ، مؤملة الوصول إليه ، إذا لم يعوقها عائق ، خلال يوم أو يومين . وراح صغيرها يسبح إلى جانبها تارة ، ويرقد فوقها تارة أخرى . وكلما سمعته يغمغم شاكياً ، توقفت برهة لترضعه حتى يشبع ، ثم تواصل طريقها ، يحثها ما قالته البارحة ، الأنثى المتقدمة في العمر : لن يهدأ لي بال ، حتى أراك بيننا . ولاحت من بعيد ، بعد منتصف النهار ، نفاثة وحيدة تتعالى بوهن ، ويتساقط بخارها رذاذاً فوق سطح المياه ، وقالت في نفسها : من يدري ، لعله حوت تائه ، كما تهتُ أنا من قبل . ولأنها عرفت الوحدة ، والضياع ، فقد أرادت أن تمدّ يد المساعدة لهذا الحوت ، إن كان بحاجة إلى المساعدة . ودفعت صغيرها أمامها ، ومضت مسرعة نحوه ، وإذا هو ذكر عجوز متعب ، فحيته قائلة : صباح الخير . ونظر الذكر العجوز إليها ، وإلى صغيرها ، ورد بصوت واهن : صباح النور . وصمت لحظة ، ثم قال : مرّ بي عند الفجر ، قطيع تتبعه من بعيد أنثى متقدمة في العمر ، وإذا كان هذا قطيعك ، فامضي بسرعة ، لعلك تلحقين به ، قبل حلول الظلام . وحدقت الأنثى الفتية فيه ، وقد أدركت أنه يريد أن تمضي بعيداً عنه ، وقالت وهي تتأهب لمواصلة طريقها : ليتك لا تبقى هنا وحدك ، فهذا المكان يعجّ بالأخطار . وردّ الحوت العجوز بصوت واهن : لا عليك ، يا بنيتي ، فأنا حوت عجوز . وواصلت الأنثى الفتية وصغيرها الطريق ، يحثها هاجس بأنها قد تأخرت ، وأنّ الأنثى المتقدمة في العمر ، تنتظرها بفارغ الصبر . وتوقفت أكثر من مرة ، بعد أن تعالت غمغمات صغيرها الشاكية، فارضعه على عجل ، ثم مضت بسرعة مواصلة الطريق في أثر القطيع . وبعد الظهر بقليل ، فوجئت الأنثى الفتية بالقطيع ، يقف على مسافة ليست بعيدة ، ملتفة إناثه حول الذكر . وداخلتها مشاعر متضاربة ، وخمنت أنّ الأنثى المتقدمة في العمر، أخبرتهم بأنها وضعت ، فتوقفوا هنا ، لانتظارها هي وصغيرها . ومضت نحوهم مترددة ، يتنازعها القلق والاطمئنان ، فهي لا تصدق بسهولة ، أنّ الذكر يمكن أن يتقبلها مع صغيرها هذه المرة ، ضمن القطيع . ولكن من يدري ، لعله راجع نفسه ، وعاد عن خطئه ، وتصرف كحوت عطوف شهم . وما إن اقتربت منهم ، حتى زايلها الاطمئنان ، واستبد بها القلق وحده . فقد رأت الجميع ، بمن فيهم الذكر نفسه ، يلفهم وجوم وحزن عميقين . وتلفتت حولها ملتاعة ، متسائلة في نفسها : ماذا جرى ؟ ورفع الذكر عينيه ، وحدق فيها غاضباً ، ورغم خوفها شهقت ، وكادت تصيح : أين هي ؟ أين الأنثى المتقدمة في العمر ؟ وقبل أن تنطق بكلمة ، خاطبها الذكر بغضب قائلاً : منذ البداية ، رفضتُ انضمامك إلينا ، لكني وافقت احتراماً لها . وصمت لحظة ثم قال بحزم : لم بعد لك مكان بيننا ، بعد أن تسببت في مقتلها . وأطرقت الأنثى الفتية رأسها ، وقد غرقت عيناها بالدموع ، فمالت عليها أنثى قريبة منها ، وهمست لها قائلة : لقد فتك بها الحوت القاتل ، وهي في طريق العودة إلينا . واستدار الذكر ، ومضى يشق الماء ، وهو يقول : هيا ، لنمض ِ من هنا ، فالحوت القاتل مازال في الجوار . ومضت الإناث تشق الماء ، في أثر الذكر ، حتى غابوا جميعاً وراء الأفق . وبقيت الأنثى الفتية وصغيرها وحيدين وسط مياه ساكنة ، تضج بالغموض والخطر .
" 6 "
ـ والآن ، إلى أين ؟ ومرة أخرى تساءلت الأنثى الفتية هذا السؤال ، الذي طالما رددته خلال الليل والنهار ، وصغيرها إلى جانبها يلهو .. ويرضع .. وينام .. وينمو شيئاً فشيئاً ، فجميع القطعان ترفضها ، وقطيعها لا أثر له في أي مكان ، وهي تدور .. وتدور .. على غير هدى .. في مياه شاسعة .. لا تحدها سوى السماء . ورغم اهتمامها بما حولها من كائنات بحرية عديدة ، وبحثها المستمر عن قطيعها ، الذي تاهت عنه منذ أشهر طويلة ، إلا أنّ الحوت الصغير ، كان محور حياتها ، لا تهتم إلا براحته ، وإبعاده عن الأخطار ، وما أكثرها في عالم المحيطات . وذات يوم ، لاحت للحوت الصغير من بعيد ، نفاثة يتعالى بخارها ، ويتلامع تحت أشعة الشمس ، فصاح مبهوراً : ماما ، أنظري . ونظرت الأنثى الفتية إلى حيث ينظر صغيرها ، وصاحت فرحة : يا إلهي ، إنه الحوت العجوز . وتساءل الحوت الصغير مندهشاً : من ؟ الحوت العجوز؟ وردت الأنثى الفتية ، وهي مازالت تنظر إلى الحوت العجوز : نعم ، ألا تذكره ؟ وفكر الحوت الصغير ، ثم قال : لا أدري ، ربما رأياه مرة ، ونسيته . ودفعته الأنثى الفتية أمامها ، وانطلقت نحو الذكر العجوز ، وهي تقول : تعال ، لعلك تتذكره حين تراه . ورآهما الذكر العجوز ، يقبلان نحوه ، وتذكرهما على الفور ، فأسرع إليهما ، واعترضهما قائلاً : توقفا رجاء ، توقفا . وأمسكت الأنثى الفتية صغيرها ، وتوقفت قائلة : رأيناك من بعيد ، فجئنا لتحيتك . واختلس الذكر العجوز نظرة إلى البعيد ، وقال : أهلاً ومرحباً بك وبصغيرك . ومال على الأنثى الفتية ، وقال بصوت هامس يشي بالخطورة : هاتي صغيرك ، يا عزيزتي ، ولنبتعد بسرعة من هنا . وتلفتت الأنثى الفتية قلقة خائفة ، ثم حدقت في الذكر العجوز ، وقالت متسائلة : من ؟ أصدقني ، أهو الحوت القاتل مرة أخرى ؟ وهزّ الذكر العجوز رأسه قائلاً : كلا . وتقدم ببطء في الاتجاه المعاكس ، وقال بصوت خافت : هيا ، اتبعيني . ودفعت الأنثى الفتية صغيرها برفق ، وتبعت الذكر العجوز ، وتساءلت بقلق : أخبرني ، ما الأمر ؟ فردّ الذكر العجوز ، دون أن يلتفت إليها : استمري في طريقك ، هناك سفينة حواتة في الأفق ، وأخشى أن ينتبه إلينا بحارتها . ولاذت الأنثى الفتية بالصمت ، وقلبها يخفق بشدة ، خوفاً على صغيرها ، لكنها تمالكت نفسها ، ومضت بثبات وهدوء ، تشق الماء في أثر الذكر العجوز.
" 7 "
توقف الذكر العجوز والأنثى الفتية والحوت الصغير، عند منتصف الليل ، وسط مياه هادئة حدّ السكون ، يطل عليه قمر مضبب شديد الشحوب ، وسماء قاتمة مرصعة بالنجوم . واحتضنت الأنثى الفتية صغيرها ، وقالت بصوت خافت : مسكين صغيري الحبيب ، لقد تعب اليوم كثيراً . وبصوت خافت ، ردّ الذكر العجوز : أنت تعبت أكثر . ونظرت الأنثى الفتية إليه مستغربة ، فأضاف قائلاً " إنه صغير ، لا يدري بالضبط ما يدور حوله . وتململ الحوت الصغير مبتسماً في نومه ، فابتسم الذكر العجوز ، وقال : آه ما أسعد الصغار . فردت الأنثى الفتية قائلة : نعم ، ولكن ليس في هذه البحار والمحيطات . وتأثر الذكر العجوز لنبرة الحزن واليأس في صوتها ، فقال بصوت خافت حنون : هذه البحار والمحيطات ، يا بنيتي ، ليست كلها الحوت القاتل ، والسفن الحواتة ، والحبار العملاق . وأطرقت الأنثى الفتية رأسها ، وقالت : إنني للأسف لم أرَ فيها ، حتى الآن ، غير الحوت القاتل ، والسفن الحواتة ، والحبار العملاق ، وكذلك .. الوحدة القاتلة ،في هذه المتاهة التي لا يحدها حدّ . وتطلع الذكر العجوز إليها ، وقال : أنت متعبة الآن ، نامي يا بنيتي ، مادام صغيرك مستغرق في النوم ، وربما سترين غداً ، أنّ في البحار والمحيطات أيضاً الكثير من الحب الخير والجمال . وأطرق الذكر العجوز رأسه ، وقد لاذ بالصمت ، ثم قال بصوت هادىء حنون : لم تكن حياتي كلها شيخوخة ومصاعب ووحدة ، فقد عشت طفولة مطمئنة سعيدة ، في كنف أمي ، ضمن قطيع كبير من الإناث والصغار ، يقوده ذكر قوي ، مرهوب الجانب ، كما عشت فترة مرحة ، لاهية جميلة ، وحين شاخ الذكر ، وآثر حياة التنسك والعزلة ، حللتُ محله إلى جانب عشرات الإناث المحبة ، وعشنا حياة مطمئنة سعيدة ، حتى كان يوم .. وصمت لحظة ، ثم تابع بصوت حزين متألم : خرج عليّ من قطيعي ، ذكر فتيّ مغرور بعنفوانه وقوته ، وتصدى لي أمام إناثي ، والحق بي هزيمة مذلة ، والأنكى أنّ الإناث جميعاّ تركنني وتبعنه دون استثناء ، فمضيت مبتعداً ، مفضلاً حياة الوحدة والتنسك ، انتظاراً للحظة النهاية ، وهي على ما يبدو ليست بعيدة . وصمت الذكر العجوز ثانية ، ثم رفع رأسه ، وابتسم بحنان ، عندما تبين أنها كانت تغط في نوم عميق .
" 8 "
أفاقت الأنثى الفتية ، صباح اليوم التالي ، على كركرات صغيرها ، وشهقاته المليئة بالمرح والسعادة . وفتحت عينيها ، وإذا به يتواثب حول الذكر العجوز ، ضارباً صفحة الماء بذيله الأفقي القوي ، والذكر العجوز يقهقه قائلاً : ستكون ذكراً قوياً مقداماً ، مثلما كنت أنا في شبابي . ونسيت الأنثى الفتية ، ما قالته ليلة البارحة عن البحار والمحيطات ، ولم ترَ فيها ، هذه المرة ، سوى الشمس .. والمياه البهيجة .. وصغيرها .. الذي ينثر مع المياه .. رذاذاً ملوناً بالفرح . ولوحت لهما محيية بصوت مفعم بالبهجة والمرح : صباح الخير . وردّ الذكر العجوز ملوحاً : صباح النور ، تعالي يا عزيزتي ، وشاركينا اللعب . وتوقف الحوت الصغير عن التواثب ، وضرب صفحة المياه بذيله الأفقي القوي ، وقال مكركراً : ماما ليست صغيرة ، لتشاركنا مثل هذه اللعبة . وقهقه الذكر العجوز قائلاً : هذا حق ، يا رفيقي ، فأنا وأنت فقط .. صغيران . ولم تتمالك الأنثى الفتية نفسها ، فضجت هي الأخرى بالضحك ، ثم أشارت للحوت الصغير ، وقالت : لابد أنك جعت ، بعد كلّ هذا اللعب ، تعال ارضع . ونظر الذكر العجوز إلى الحوت الصغير ، وغمز له ، ثم قال : لم يعد صغيراً ليرضع ، بل سيأتي معنا ، ويأكل ما يشاء من القشريات . واحتجت الأنثى الفتية ، وهي تغالب ابتسامتها الفرحة : لا ، أرجوك ، إنه صغير على تناول القشريات . وضرب الحوت الصغير صفحة الماء بذيله الأفقي القوي، وصاح : كلا ، لم أعد صغيراً وسآكل القشريات معكم . واقتربت الأنثى الفتية من الذكر العجوز ، وقالت دون أن تستطيع إخفاء فرحها : أنظر فعلتك . فردّ الذكر العجوز بنبرة مازحة : هذا ليس ذنبي ، بل ذنبه ، لقد كبر وتجاوز سن الفطام ، دون أن يستأذنك . وهزت الأنثى الفتية رأسها ، وقالت : آه منك . واندفع الذكر العجوز ، يشق الماء بهمة الفتيان ، هاتفاً : هيا إذن إلى القشريات . وعلى الفور ، انطلق الحوت الصغير متواثباً إلى جانبها، صائحاً بصوته القوي : إلى القشريات . وانطلقت الأنثى الفتية ، في أثرهما فرحة مطمئنة ، فها هو صغيرها قد كبر فعلاً ، وتجاوز سن الفطام ، وسيبدأ منذ اليوم بتناول القشريات . ولاحت القشريات من بعيد ، تطفو فوق سطح الماء ، تتموج إلى ما لا نهاية ، كأنها حقل لا حدود له ، مليء بالسنابل . وما إن وصلوا مشارف القشريات ، حتى فغر الذكر العجوز فاه على سعته ، وهو يصيح : هيا ، يا بنيّ ، افتح فمك مثلي ، وعب ما تشاء من هذه القشريات اللذيذة . وفتح الحوت الصغير فاه ، وكذلك فعلت الأنثى الفتية ، وتقدموا جميعاً جنباً إلى جنب ، يعبون من حقل القشريات ، الذي لا ينتهي . ومع العبات الأولى من حقل القشريات ، شعر الحوت الصغير ، أنّ حليب أمه ألذ بما لا يقاس ، إلا أنه كتم ذلك في نفسه ، فهو قد كبر ، ولا يريد أن يستمر على الرضاعة ، كأي حوت صغير أبله . وركن الذكر العجوز والأنثى الفتية والحوت الصغير إلى الراحة ، بعد الظهر ، وقد امتلأت بطونهم بالقشريات . ونسي الحوت الصغير بأنه قد كبر ، فغاص تحت الماء ، وتشبث بأحد أثداء أمه ، وراح يعبّ من حليبها اللذيذ الدسم الدافيء .
" 9 "
مرت الأيام على الحوت الصغير، مليئة باللهو واللعب ، وعبّ القشريات ، والاستماع إلى أحاديث الذكر العجوز ، التي لا تنتهي . وكلما نادته أمه : بنيّ ، تعال ارضع . يردّ عليها بشيء من الانفعال : قلت لك ألف مرة ، لن أرضع بعد الآن ، لقد كبرت . وحين يتعب من اللهو واللعب ، وعبّ القشريات ، والاستماع إلى أحاديث الذكر العجوز ، يلجأ إلى صدر أمه ، وهو يتثاءب . وما إن يغمض عينيه ، حتى ينسى من جديد أنه كبر ، فيتسلل إلى أحد أثدائها ، فيرضع .. ويرضع .. ويرضع .. حتى يغفو .. ويستغرق في نوم عميق . وبدت الأم خلال هذه المدة ، سعيدة مطمئنة ، حتى كادت تنسى الحوت القاتل والسفن الحواتة والحبار العملاق ، بل وحتى قطيعها ، الذي لم تعد تعرف عنه أي شيء . ولعل الذكر العجوز ، عوضها بعض الشيء عن قطيعه، الذي تاهت عنه ، فقد ظل إلى جانبها ، لا يفارقها ، ولا يفارق صغيرها ، لحظة واحدة . وصاروا بمثابة أسرة واحدة ، قلما يستطيع أحدهم الابتعاد عن الآخر . وعندما تتوقف الأنثى الفتية ، وتركن للراحة ، أو تستسلم للنوم ، يبقى الذكر العجوز إلى جانب الحوت الصغير ، يلهو معه مرة ، ويحدثه مرات عن الحيتان .. والدلافين .. والدببة القطبية .. وطيور الماء ..وأسماك الأعماق ، ويحذره من الحيتان القاتلة .. والسفن الحواتة .. والحبار العملاق .. والقروش المفترسة ، كما حدثه عن مسراته .. ومكابداته .. ومشاهداته في البحار والمحيطات .. والمناطق القطبية الباردة . وطالما تمنى له ، وهو يتغامز مرحاً ، أن ينمو ، ويكبر ، حتى يغدو شاباً ، ويلتحق بأحد القطعان . وغالباً ما يقهقه ، ويقول له بنبرة ذات معنى : لا تختر قطيعاً من الذكور .. بل قطيعاً من الإناث .. كما فعلت أنا في شبابي . وتساءل الحوت الصغير : وفارقت أمك ؟ وردّ الذكر العجوز قائلاً : طبعاً ، فارقتها ، فارقتها إلى غير رجعة . وبشيء من الاستنكار ، احتج الحوت الصغير قائلاً : كلا، لست مثلك ، أنا لن أفارق أمي مهما كان الأمر . وقال الذكر العجوز مغالباً ضحكته : هذا ما قلته أنا أيضاً، يا صغيري ،عندما كنت في عمرك ، وما إن غدوت شاباً ، حتى نسيت ما قلته ، والتحقت بقطيع الإناث .
" 10 "
يوماً بعد يوم ، ازداد اعتماد الحوت الصغير في طعامه ، على القشريات منصرفاً بالتدريج عن الرضاعة، ومرت به الأيام هادئة هانئة ، حتى كان يوم . كان الوقت عصراً ، والريح تتصاعد ، وتتصاعد معها الأمواج ، وكانت الأنثى الفتية ، والذكر العجوز ، والحوت الصغير ، يسبحون وسط حقل لا نهاية له من القشريات ، وقد فتحوا أفواههم على سعتها ، وراحوا يعلون باطمئنان من طعامهم المفضل . وحانت من الأنثى الفتية التفاتة ، فلمحت من بعيد زعنفة ظهرية عالية ، تشق المياه المتوجة نحوهم ، وخفق قلبه بشدة ، إنه الحوت القاتل . ومالت على الذكر العجوز ، وقالت بصوت خافت مضطرب : لنتوقف . وتوقف الذكر العجوز متسائلاً : ما الأمر ؟ وردت الأنثى الفتية مرعوبة : الحوت القاتل . وتلفت الذكر العجوز متمتماً : يا إلهي ، الصغير . واعترضت الأنثى الفتية صغيرها ، وراحت تدفعه إلى الجهة المعاكسة ، وهي تقول : بنيّ ، فلنبتعد ، من هنا . واحتج الحوت الصغير قائلاً : دعيني ، يا ماما ، دعيني، إنني لم أشبع بعد . ودفعته الأنثى الفتية مرة أخرى ، وقالت : هيا ، سأرضعك بعد قليل . وحاول الحوت الصغير عبثاً أن يتوقف ، وهو يقول : لا أريد أن أرضع ، هناك قشريات كثيرة ، دعيني .. وقاطعته أمه قائلة : كفى ، يا بنيّ ، علينا أن نبتعد ، وبسرعة . ولحق بها الذكر العجوز على عجل ، وهمس لها بصوت يشي بالخطورة : توقفي . وأبطأت قليلاً ، لكنها لم تتوقف ، فمال عليها ، وقال : سفينة حواتة . ورفعت رأسها ، وإذا ثلاثة قوارب ، تشق الماء مبتعدة عن السفينة الحواتة ، متجهة نحوهم ، يستقلها بحارة شرسون ، مدججون بالرماح . وتوقفت حائرة مضطربة ، ما العمل ؟ الحوت القاتل من جهة ، والبحارة المدججون بالرماح من جهة أخرى . واستدارت بسرعة ، ودفعت صغيرها أمامها ، وهي تصيح : فلنهرب . وانطلق الثلاثة هاربين ، والأنثى الفتية تدفع صغيرها قائلة : أسرع يا بنيّ ، أسرع ، أسرع . لكن الحوت القاتل ، والقوارب الثلاثة ، كانوا أسرع منهم، فدفعت الأنثى الفتية صغيرها إلى الذكر العجوز ، وصاحت : خذه ، واهرب . واحتضن الذكر العجوز الحوت الصغير ، وقال : بنيتي، تعالي . وقاطعته الأنثى الفتية متوسلة : أرجوك ، خذه واهرب ، سيقتلوننا جميعاً إذا بقينا معاً . وعلى مضض ، أخذ الذكر العجوز ، الحوت الصغير ، وانطلق به بعيداً . وانقض الحوت القاتل على الأنثى الفتية ، فانهال عليه البحارة برماحهم ، مما أجبره على التراجع ، ومن ثم اللوذ باللفرار . ومن بعيد ، رأى الذكر العجوز ، الأنثى الفتية ، وقد أحاط بها بحارة القوارب الثلاثة ، ورماحهم تتلامع في أيديهم ، فدفع الحوت الصغير أمامه برفق ، وقال : هيا ، يا بنيّ ، هذا مكان خطر ، علينا أن نبتعد عنه ، هيا ، هيا.
" 11 "
مرت الأيام ، وكبر خلالها الحوت الصغير ، واشتد عوده ، وغدا حوتاً فتياً ، مليئاً بالحيوية والعنفوان . وغابت عن ذهنه بالتدريج صور كثيرة ، وأحداث عديدة، إلا أنّ صورة أمه ، وحادثة مقتلها بين فكي الحوت القاتل ، ورماح البحارة ، لم تغب مطلقاً . وطوال هذه المدة ، ظلّ الذكر العجوز يقاوم الأيام والشيخوخة ، كي لا يبقى الحوت الصغير وحيداً ، وسط هذه البحار والمحيطات ، بعد أن غابت عنه أمه إلى الأبد . وطالما شاهدا قطعان الحيتان ، تمرّ من بعيد ، ونفاثاتها تطلق نافورات من البخار إلى أعلى ، وتتساقط رذاذاً ناعما حولها . وذات يوم ، لمحا على البعد ، قطيعا يضج فوق سطح الماء، فقال الذكر العجوز: انظر ، هذا قطيع من الذكور، وأغلبهم في عمرك. وتطلع الحوت الصغير إليهم، وقال مندهشاً : ذكور ! وما أدراك ؟ وابتسم الذكر العجوز، وقال: إنهم ككل الذكور الفتيان ضاجون، مرحون، كثيرو العبث. والتفت إليه، وأضاف قائلا : لو كنت مكانك ، يا بني، لانضممت إليهم في الحال. وتطلع الحوت الصغير إليه، ثم قال : لن انضم لا إلى هذا القطيع ، ولا إلى غيره ، وأتركك. وضحك الذكر العجوز، وقال : لا تستعجل ، ستتركني يوما، وتنضم إلى احد القطعان، ولكن ليس إلى مثل هذا القطيع . واحتج الحوت الصغير متسائلا : أنا ! فرد الذكر العجوز : نعم ، أنت، وأنا شخصيا لا ألومك. وضرب الحوت الصغير صفحة الماء بذنبه، ومضى يشق الماء قدما، وهو يقول: أنت لم تعرفني بعد. وضحك الذكر العجوز، وقال : هذا ما تظنه، وستثبت لك الأيام ، أنني على حق. وتوقف الحوت الصغير ، متطلعا إلى قطيع الحيتان ، وقال بصوت مضطرب: أنظر . ونظر الذكر العجوز إلى حيث ينظر الحوت الصغير ، ورأى الحيتان يتوقفون مضطربين خائفين ، فقال : أنهم يواجهون خطرا، لعله الحوت القاتل. وصمت لحظة، ثم قال بصوت منفعل، خائف: انه هو ، انظر ، ها هو اللعين يهاجمهم. وتراجع قليلاً ، وهو يقول : بني ، لنبتعد من هنا، انه وحش كاسر. وبدل أن ينصاع الحوت الصغير للذكر العجوز، وينطلق معه مبتعدا، تسمر في مكانه، وعيناه الخائفتان تتابعان الحوت القاتل ، ينقض على أحد الحيتان الفتية ، ويفتك به بأسنانه الخناجر . ورأى الحيتان الأخرى، يلوذون بالفرار ، تاركين رفيقهم يواجه وحده مصيره المحتوم. فصاح بغضب: يا للجبناء ، فروا ، وتركوا رفيقهم. ورد الذكر العجوز قائلاً : لا عليك، هذه عادتهم. ودفع الحوت الصغير برفق، ثم قال: هيا، يا بني، هيا. ومضى الحوت الصغير ، يشق الماء صامتا، حزينا، ولحق الذكر العجوز به ، وقال : قد تستغرب إذا عرفت أن للإناث عادة تختلف عن عادة الذكور هذه ، فعندما تصاب أنثى منهن بمكروه، تلتف الأخريات حولها، ولا يتركنها أبدا ، لكن هذا يسبب لهن أذى شديدا ، وخاصة إذا كانت قربهن سفينة حواتة .
"12"
لاحظ الذكر العجوز ، أن الحوت الصغير ، بدا مؤخرا ، يميل للصمت ،لكن هذا الصمت أثار هواجسه ، فقد لمس أن أعماق الحوت الصغير تدمدم كبركان ينذر بالانفجار . ولعل قفزاته الضاجة بين حين وأخر ، وصفعه لصفحة الماء بذيله الأفقي القوي ، كانت إحدى نذر ذلك الانفجار المتوقع. وراح الذكر العجوز، يبتعد عنه بعض الأحيان، بحجة أو بأخرى ، ربما ليترك له الفرصة كاملة ، كي يفكر ، ويصل إلى قرار ، في الأمور التي تشغله. وذات صباح ، والحوت الصغير يعب القشريات، ساهيا عما حوله، مرّ به قطيع من الإناث ، يقودهن ذكر مختال ، متوجس، سريع الغضب. ورفع الحوت الصغير رأسه عرضا ، ورأى قطيع الإناث، وتراءى له ، انه قد رأى هذا القطيع أكثر من مرة ، وحين تجاوزه الذكر، التفت إليه ، وحدجه بنظرة قاسية متوعدة . وتجنباً لأي سوء فهم ، هم الحوت الصغير بالعودة إلى عب القشريات ، فتوقف الذكر مزمجرا، ثم استدار ، واندفع نحو الحوت الصغير ، وخاطبه قائلاً : أيها الفتى ماذا وراءك ؟ هذه رابع أو خامس مرة، تعترض فيها طريقنا . ورد الحوت الصغير بصوت حاول جهده أن يكون هادئا : أخشى أنك واهم ، ولعلها صدفة ، لا أكثر . وقال الذكر بحدة : مهما يكن ، فأنني لا أريد أن أراك ثانية ، وإلا.. ندمت . وصمت الحوت الصغير قليلا ، محاولا لجم غضبه ، ثم قال : ليس الخطر عليك ، أو على إناثك ، يكمن فيّ ، بل في الحوت القاتل، الذي يصول ويجول في الجوار. ورد الذكر قائلا : قلت لك ، لا أريد أن أراك ثانية في طريقي ، وكفى . وبشيء من الحدة ، قال الحوت الصغير : هذا طريقي ، وإذا أردت ألا تراني ، فأبتعد أنت وقطيعك إلى طريق أخر . واستبد الغضب بالذكر ، وهمّ أن ينقض على الحوت الصغير ، حين أقبل الذكر العجوز مسرعا، وهو يقول بصوت يشي بالخطورة : الحواتة .. الحواتة . ورفع الذكر رأسه ، وما إن لمح السفينة الحواتة في الأفق، حتى أسرع إلى إناثه المذعورات ، وانطلق بهن ، على عجل ، بعيدا عن المكان. ونظر الذكر العجوز إلى الحوت الصغير ، ثم مضى يتقدمه قائلاً : هيا ، يا بني ، إن السفينة تقترب ، وأخشي أن يرانا بحارتها. وتطلع الحوت الصغير بغضب ، ونقمة ، إلى السفينة الحواتة ، ثم استدار بعنف ، ومضى يشق الماء ، في أثر الذكر العجوز .
" 13"
لسبب لا يدريه ، ظل الحوت الصغير ، طوال أيام عديدة ، يتابع من بعيد ، قطيع الإناث ، محاولا تركيز نظره على الذكر ، وإن كانت عيناه تسترقان النظر أحيانا ً من الإناث ، وهن يسبحن بهدوء ، ورشاقة ، ورضوخ ، وراء الذكر . لم يسأل الذكر العجوز الحوت الصغير، عن دوافع هذه المتابعة المستمرة ، فهو على ما يبدو قد خمن بعض هذه الدوافع ، وكيف لا ، وهو ذكر ..عجوز .. مجرب ؟ وذات يوم ، كان الذكر العجوز ، يتشاغل بعب القشريات، ويراقب خلسة مناورات الحوت الصغير ، ومتابعته الملحة لقطيع الإناث . وحانت منه نظرة إلى الوراء ، فأنقض قلبه فزعاً ، وأسرع إلى الحوت الصغير، وقال بصوت يشي بالخطورة : بني ، لنبتعد بسرعة من هنا. وتوقف الحوت الصغير ، وقال بشيء من الحدة : ولم نبتعد ؟ هذا المكان لي ولك، كما هو للآخرين. وأدرك الذكر العجوز ما يعنيه الحوت الصغير ، فمال عليه ، وقال بصوت هادئ : بني ، هناك سفينة حواتة وراءنا ، ويبدو أن بحارتها قد اصطادوا حوتا من حيتان العنبر. ودمدم الحوت الصغير متذمرا ، غاضبا: يا للحياة ، ما أكثر منغصاتها ، الحوت القاتل من جهة ، والسفن الحواتة من جهة ، والذكر الغضوب من.. ورغم خطورة الموقف، قاطعه الذكر العجوز قائلا : آه .. الذكر لا يلام ، يا بني . وحدق الحوت الصغير فيه مستغرباً، فقال : إنه يخاف على إناثه منك ، لقد بدأ يشيخ ، ويضعف ، أما أنت ففي عنفوان شبابك وقوتك . وهمّ الحوت الصغير أن يردّ عليه ، حين رجت المياه حركة غير عادية ، فلاذ بالصمت ، وقد تملكه القلق والغضب ، فقال الذكر العجوز : لا عليك ، يا بنيّ ، إنهم القروش . ودمدم الحوت الصغير منزعجاً : القروش ؟ واستطرد الذكر العجوز قائلا : يبدو أنهم شموا رائحة دم حوت العنبر ، المربوط إلى السفينة الحواتة . وصمت لحظة ثم قال : إذا لم ينقذ البحارة هذا الحوت ، ويرفعونه قبل حلول الظلام ، إلى سطح السفينة ، فلن يجدوا صباح الغد سوى هيكله العظمي. وتطلع الحوت الصغير ، إلى قطيع الإناث مرة أخرى ثم استدار ، ومضى يشق الماء مبتعداً، وهو يقول : هيا الأفضل أن نبتعد.
"14"
ما كاد الحوت الصغير ، والذكر العجوز ،يبتعدان قليلاً ، حتى ارتفعت من قطيع الإناث صيحات استغاثة ، فتوقفا ، واستدارا بسرعة ، وإذا الحوت القاتل ، يتجه كالسهم نحو القطيع. وتوقف الذكر مرعوباً ، حائرا، لا يدري ماذا يفعل. وتصايحت الإناث طالبات النجدة . وبدل أن يندفع الذكر لاعتراض الحوت القاتل ، والتصدي له، تراجع خائفاً، وراح يبتعد عن القطيع. وعلى الفور ، انطلق الحوت الصغير ، ليقطع الطريق على الحوت القاتل، فصاح به الذكر العجوز : توقف، أيها المجنون، سيفتك بك الحوت القاتل. لكن الحوت الفتي لم يتوقف ، وقبل أن يصل الحوت القاتل قطيع الإناث لطمه الحوت الصغير بذيله الأفقي القوي . وترنح الحوت القاتل من أثر اللطمة ، وهم أن يتمالك نفسه ، ويعاود الهجوم ، فلطمه الحوت الصغير بذنبه ثانية ..وثالثة .. ورابعة .. و..و.. وتهاوى نحو الأعماق، والدماء تنزف من جراحه . وصعد بعد قليل إلى السطح ، متقطع الأنفاس، ثم تحامل على نفسه، ولاذ بالفرار . وتوقف الذكر مترددا، يتبادل نظرات قاسية مع الحوت الصغير . وهنا تقدمت الإناث، الواحدة بعد الأخر، ووقفن على جانبي الحوت الصغير . واطرق الذكر مفكرا ، ثم استدار ، ومضى يشق الماء ببطء ، مبتعدا عن القطيع . وتقدم الذكر العجوز من الحوت الصغير ، وقال مبتسما: ها أنت قد وجدت قطيعك. وتطلع الحوت الصغير إليه حائراً ، فقال : لقد قلت لك مرة ، أننا سنفترق يوما ما ، وها قد جاء هذا اليوم. وقال الحوت الصغير بشيء من الرجاء : ابق معنا. فهز الذكر العجوز رأسه، وقال : هذا مستحيل ، فليس للقطيع سوى ذكر واحد. وصمت لحظة ،ثم قال : بني ، إن القطيع في حمايتك الآن ، فأمض. وتراجع الحوت الصغير قائلاً بصوت دامع : إلى اللقاء . ودمعت عينا الذكر العجوز ، وتمتم : وداعا. واستدار الحوت الصغير ، الذي لم يعد صغيراً ، ومضى يشق الماء بعزم، وسرعان ما مضت في أثره الإناث الواحدة بعد الأخرى . وهمّ الذكر العجوز أن يستدير ، ويمضي وحده مبتعداً، حين ارتج الماء بقوة ، فقال في نفسه : أنهم القروش،يبدو أننا لن نرى مرة أخرى .. الحوت القاتل .
3/8/2002
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان قمر من سماء عالية
...
-
روايةللفتيان الزنبقة
...
-
رواية للفتيان عينان في الماء طلال
...
-
رواية للفتيان يوهيرو الأمل
...
-
رواية للفتيان التاج طلال حسن
-
رواية للفتيان شترا و ريشيا
...
-
رواية للفتيان طائر الرعد طلال حسن
-
رواية للفتيان كوجافاسوك والحوت
...
-
رواية للفتيان كهف الدب الأسود
...
-
رواية للفتيان الذئب الأحمر الصغير طلا
...
-
رواية للفتيان ابني الديسم ميشا
...
-
رواية للفتيان جبل الوعول
...
-
حكايات للفتيان حكايات عربية
-
حكايتان طلال حسن الهارب
-
رواية للفتيان ذئب الأهوار
-
رواية للأطفال هدية الإلهة بنيتين
-
رواية للفتيان خزامى الصحراء
-
رواية للفتيان الجوهرة المفقودة
-
رواية للفتيان الصحن الطائر
-
رواية للفتيان اشوميا الز
...
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|